الباحث القرآني

﴿الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الفَقْرَ﴾ اِسْتِئْنافٌ لِبَيانِ سَبَبِ تَيَمُّمِ الخَبِيثِ في الإنْفاقِ وتَوْهِينِ شَأْنِهِ، والوَعْدُ في أصْلِ وضْعِهِ لُغَةٌ شائِعٌ في الخَيْرِ والشَّرِّ، وأمّا في الِاسْتِعْمالِ الشّائِعِ فالوَعْدُ في الخَيْرِ والإيعادُ في الشَّرِّ حَتّى يَحْمِلُوا خِلافَهُ عَلى المَجازِ والتَّهَكُّمِ، وقَدِ اُسْتُعْمِلَ هُنا في الشَّرِّ نَظَرًا إلى أصْلِ الوَضْعِ لِأنَّ الفَقْرَ مِمّا يَراهُ الإنْسانُ شَرًّا، ولِهَذا يُخَوِّفُ الشَّيْطانُ بِهِ المُتَصَدِّقِينَ فَيَقُولُ لَهُمْ: لا تُنْفِقُوا الجَيِّدَ مِن أمْوالِكم وأنَّ عاقِبَةَ إنْفاقِكم أنْ تَفْتَقِرُوا، وتَسْمِيَةُ ذَلِكَ وعْدًا مَعَ أنَّهُ اُعْتُبِرَ فِيهِ الإخْبارُ بِما سَيَكُونُ مِن جِهَةِ المُخْبِرِ والشَّيْطانِ لَمْ يُضِفْ مَجِيءَ الفَقْرِ إلى جِهَتِهِ لِلْإيذانِ بِمُبالَغَةِ اللَّعِينِ في الإخْبارِ بِتَحَقُّقِ مَجِيئِهِ كَأنَّهُ نَزَّلَهُ في تَقَرُّرِ الوُقُوعِ مَنزِلَةَ أفْعالِهِ الواقِعَةِ حَسَبَ إرادَتِهِ، أوْ لِوُقُوعِهِ في مُقابَلَةِ وعْدِهِ تَعالى عَلى طَرِيقِ المُشاكَلَةِ، ومِنَ النّاسِ مَن زَعَمَ أنَّ اِسْتِعْمالَ الوَعْدِ هُنا في الخَيْرِ حَسَبَ الِاسْتِعْمالِ الشّائِعِ، والمُرادُ أنَّ ما يُخَوِّفُكم بِهِ هو وعْدُ الخَيْرِ لِأنَّ الفَقْرَ لِلْإنْفاقِ أجَلُّ خَيْرٍ، ولا يَخْفى أنَّهُ بِمَراحِلَ عَنْ مَذاقِ التَّنْزِيلِ، وقُرِئَ الفَقْرُ بِالضَّمِّ والسُّكُونِ وبِفَتْحَتَيْنِ وضَمَّتَيْنِ وكُلُّها لُغاتٌ في الفَقْرِ وأصْلُهُ كَسْرُ فَقارِ الظَّهْرِ. ﴿ويَأْمُرُكم بِالفَحْشاءِ﴾ أيِ الخَصْلَةِ الفَحْشاءِ وهي البُخْلُ وتَرْكُ الصَّدَقاتِ والعَرَبُ تُسَمِّي البَخِيلَ فاحِشًا قالَ كَعْبٌ: ؎أخِي يا أخِي (لا فاحِشًا) عِنْدَ بَيْتِهِ ولا ورِعٌ عِنْدَ اللِّقاءِ هَيُوبُ والمُرادُ بِالأمْرِ بِذَلِكَ الإغْراءُ والحَثُّ عَلَيْهِ فَفي الكَلامِ اِسْتِعارَةٌ مُصَرَّحَةٌ تَبَعِيَّةٌ، وقِيلَ: المُرادُ بِالفَحْشاءِ سائِرُ المَعاصِي وحَمْلُها عَلى الزِّنا نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنهُ؛ وجُوِّزَ أنَّ تَكُونَ بِمَعْنى الكَلِمَةِ السَّيِّئَةِ فَتَكُونُ هَذِهِ الجُمْلَةُ كالتَّأْكِيدِ لِلْأُولى وقُدِّمَ وعْدُ الشَّيْطانِ عَلى أمْرِهِ لِأنَّهُ بِالوَعْدِ يَحْصُلُ الِاطْمِئْنانُ إلَيْهِ فَإذا اِطْمَأنَّ إلَيْهِ وخافَ الفَقْرَ تَسَلَّطَ عَلَيْهِ بِالأمْرِ إذْ فِيهِ اِسْتِعْلاءٌ عَلى المَأْمُورِ. ﴿واللَّهُ يَعِدُكُمْ﴾ في الإنْفاقِ عَلى لِسانِ نَبِيِّكم ﷺ ﴿مَغْفِرَةً﴾ لِذُنُوبِكُمْ، وعَنْ قَتادَةَ لِفَحْشائِكُمْ، والتَّنْوِينُ فِيها لِلتَّفْخِيمِ وكَذا وصْفُها بِقَوْلِهِ تَعالى: (مِنهُ) فَهو مُؤَكِّدٌ لِفَخامَتِها، وفِيهِ تَصْرِيحٌ بِما عُلِمَ ضِمْنًا مِنَ الوَعْدِ كَما عَلِمْتَ مُبالَغَةً في تَوْهِينِ أمْرِ الشَّيْطانِ ﴿وفَضْلا﴾ أيْ رِزْقًا وخَلَفًا وهو المَرْوِيُّ عَنِ اِبْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما فَتَكُونُ المَغْفِرَةُ إشارَةً إلى مَنافِعِ الآخِرَةِ، وهَذا إشارَةٌ إلى مَنافِعِ الدُّنْيا. وفي الحَدِيثِ:«ما مِن يَوْمٍ يُصْبِحُ فِيهِ العِبادُ إلّا مَلِكانِ يَنْزِلانِ يَقُولُ أحَدَهُما: اللَّهُمَّ أعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا ويَقُولُ الآخَرُ: اللَّهُمَّ أعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا» وقَدَّمَ مَنافِعَ الآخِرَةِ لِأنَّها أهَمُّ عِنْدَ المُصَدِّقِ بِها، وقِيلَ: المَغْفِرَةُ والفَضْلُ كِلاهُما في الآخِرَةِ وتَقْدِيمُ الأوَّلِ حِينَئِذٍ لِتَقَدُّمِ التَّخْلِيَةِ عَلى التَّحْلِيَةِ ولِكَوْنِ رَفْعِ المَفاسِدِ أوْلى مِن جَلْبِ المَصالِحِ، وفي الآيَةِ ﴿فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النّارِ وأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فازَ﴾ وحَذَفَ صِفَةَ الثّانِي لِدَلالَةِ المَذْكُورِ عَلَيْها. ﴿واللَّهُ واسِعٌ﴾ بِالرَّحْمَةِ والفَضْلِ ﴿عَلِيمٌ﴾ [ 268 ] بِما تُنْفِقُونَهُ فَيُجازِيكم عَلَيْهِ، والجُمْلَةُ تَذْيِيلٌ مُقَرِّرٌ لِمَضْمُونِ ما قَبْلَهُ ومِثْلُها في قَوْلِهِ تَعالى:
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب