الباحث القرآني
﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أقْبَلَ عَلَيْهِمْ بِالخِطابِ إثْرَ بَيانِ ما بَيَّنَ بِطْرِيقِ الغَيْبَةِ البالِغَةِ في إيجابِ العَمَلِ بِمُوجِبِ النَّهْيِ ولِذَلِكَ ناداهم بِوَصْفِ الإيمانِ ﴿لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكم بِالمَنِّ والأذى﴾ أيْ بِكُلِّ واحِدٍ مِنهُما لِأنَّ النَّفْيَ أحَقُّ بِالعُمُومِ وأدَلُّ عَلَيْهِ، والمُرادُ بِالمَنِّ المَنُّ عَلى الفَقِيرِ كَما تَقَدَّمَ وهو المَشْهُورُ، وعَنِ اِبْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما المُرادُ بِهِ المَنُّ عَلى اللَّهِ تَعالى، وبِالأذى الأذى لِلْفَقِيرِ، واسْتَشْكَلَ اِبْنُ عَطِيَّةَ هَذِهِ الآيَةَ بِأنَّ ظاهِرَها يَسْتَدْعِي أنَّ أجْرَ الصَّدَقَةِ يَبْطُلُ بِأحَدِ هَذَيْنِ الأمْرَيْنِ ولا يُمْكِنُ تَوَجُّهُ الإبْطالِ بِذَلِكَ إلى نَفْسِ الصَّدَقَةِ لِأنَّها قَدْ ثَبَتَتْ في الواقِعِ فَلا يُعْقَلُ إبْطالُها؛ ومِنَ العَقِيدَةِ أنَّ السَّيِّئاتِ لا تُبْطِلُ الحَسَناتِ خِلافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ، والآيَةُ أحَدُ مُتَمَسَّكاتِهِمْ، وأُجِيبَ بِأنَّ الصَّدَقَةَ الَّتِي يَعْلَمُ اللَّهُ تَعالى مِن صاحِبُها أنَّهُ يَمُنُّ ويُؤْذِي لا تُقْبَلُ حَتّى قِيلَ: إنَّهُ سُبْحانَهُ يَجْعَلُ لِلْمَلَكِ عَلامَةً فَلا يَكْتُبُها، والإبْطالُ المُتَنازَعُ فِيهِ إنَّما هو في عَمَلٍ صَحِيحٍ وقَعَ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى في حَيِّزِ القَبُولِ وما هُنا لَيْسَ كَذَلِكَ، فَمَعْنى ﴿لا تُبْطِلُوا﴾ حِينَئِذٍ لا تَأْتُوا بِهَذا العَمَلِ باطِلًا كَذا قالُوا، ولا يَخْفى أنَّهُ خِلافُ الظّاهِرِ إلّا أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿كالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النّاسِ﴾ فِيهِ نَوْعُ تَأْيِيدٍ لَهُ بِناءً عَلى أنَّ ﴿كالَّذِي﴾ في مَحَلِّ نَصْبٍ إمّا عَلى أنَّهُ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أيْ لا تُبْطِلُوها إبْطالًا كَإبْطالِ الَّذِي الخ، وإمّا عَلى أنَّهُ حالٌ مِن فاعِلِ ﴿لا تُبْطِلُوا﴾ أيْ لا تُبْطِلُوها مُشابِهِينَ الَّذِي يُنْفِقُ أيِ الَّذِي يُبْطِلُ إنْفاقَهُ بِالرِّياءِ، ووَجْهُ التَّأْيِيدِ أنَّ المُرائِيَ بِالإجْماعِ (p-35)لَمْ يَأْتِ بِالعَمَلِ مَقْبُولًا صَحِيحًا، وإنَّما أتى بِهِ باطِلًا مَرْدُودًا، وقَدْ وقَعَ التَّشْبِيهُ في البَيِّنِ فَتَدَبَّرْ.
وانْتِصابُ (رِياءَ) إمّا عَلى أنَّهُ عِلَّةٌ لِ (يُنْفِقُ) أيْ لِأجْلِ رِيائِهِمْ؛ أوْ عَلى أنَّهُ حالٌ مِن فاعِلِهِ أيْ يُنْفِقُ مالَهُ مُرائِيًا، وجَعَلَهُ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ أيْ إنْفاقًا رِياءَ النّاسِ لَيْسَ بِشَيْءٍ، وقَرِيبٌ مِنهُ جَعْلُ الجارِّ حالًا مِن ضَمِيرِ المَصْدَرِ المُقَدَّرِ لِأنَّهُ لا يَتَمَشّى إلّا عَلى رَأْيِ سِيبَوَيْهِ، وأصْلُ رِياءٍ رِئاءٌ فالهَمْزَةُ الأُولى عَيْنُ الكَلِمَةِ والثّانِيَةُ بَدَلٌ مِن ياءٍ هي لامٌ لِأنَّها وقَعَتْ طَرَفًا بَعْدَ ألْفٍ زائِدَةٍ، ويَجُوزُ تَخْفِيفُ الهَمْزَةِ الأُولى بِأنْ تُقْلَبَ ياءً فِرارًا مِن ثِقَلِ الهَمْزَةِ بَعْدَ الكَسْرَةِ، وقَدْ قَرَأ بِهِ الخُزاعِيُّ والشُّمُونِيُّ وغَيْرُهُما، والمُفاعَلَةُ في فِعْلِهِ عِنْدَ السَّمِينِ عَلى بابِها لِأنَّ المُرائِيَ يُرِي النّاسَ أعْمالَهُ والنّاسَ يُرُونَهُ الثَّناءَ عَلَيْهِ والتَّعْظِيمَ لَهُ؛ والمُرادُ مِنَ المَوْصُولِ ما يَشْمَلُ المُؤْمِنَ والكافِرَ كَما قِيلَ، وغالِبُ المُفَسِّرِينَ عَلى أنَّ المُرادَ بِهِ المُنافِقُ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ واليَوْمِ الآخِرِ﴾ حَتّى يَرْجُوَ ثَوابًا أوْ يَخْشى عِقابًا.
﴿فَمَثَلُهُ﴾ أيِ المُرائِي في الإنْفاقِ، والفاءُ لِرَبْطِ ما بَعْدَها بِما قَبْلَها ﴿كَمَثَلِ صَفْوانٍ﴾ أيْ حَجَرٍ كَبِيرٍ أمْلَسَ وهو جَمْعُ صَفْوانَةٍ أوْ صَفاءٍ أوِ اِسْمُ جِنْسٍ ورُجِّحَ بِعَوْدِ الضَّمِيرِ إلَيْهِ مُفْرَدًا في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿عَلَيْهِ تُرابٌ﴾ أيْ شَيْءٌ يَسِيرٌ مِنهُ ﴿فَأصابَهُ وابِلٌ﴾ أيْ مَطَرٌ شَدِيدُ الوَقْعِ، والضَّمِيرُ لِلصَّفْوانِ وقِيلَ: لِلتُّرابِ.
﴿فَتَرَكَهُ صَلْدًا﴾ أيْ أمْلَسَ لَيْسَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الغُبارِ أصْلًا، وهَذا التَّشْبِيهُ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مُفَرَّقًا فالنّافِقُ المُنافِقُ كالحَجَرِ في عَدَمِ الِانْتِفاعِ ونَفَقَتِهِ كالتُّرابِ لِرَجاءِ النَّفْعِ مِنهُما بِالأجْرِ والإنْباتِ، ورِياؤُهُ كالوابِلِ المُذْهَبِ لَهُ سَرِيعًا الضّارِّ مِن حَيْثُ يُظَنُّ النَّفْعُ ولَوْ جُعِلَ مُرَكَّبًا لَصَحَّ، وقِيلَ: إنَّهُ هو الوَجْهُ، والأوَّلُ لَيْسَ بِشَيْءٍ.
﴿لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمّا كَسَبُوا﴾ أيْ لا يَجِدُونَ ثَوابَ شَيْءٍ مِمّا أنْفَقُوا رِياءً ولا يَنْتَفِعُونَ بِهِ قَطْعًا، والجُمْلَةُ مُبَيِّنَةٌ لِوَجْهِ الشَّبَهِ أوِ اِسْتِئْنافٌ مَبْنِيٌّ عَلى السُّؤالِ كَأنَّهُ قِيلَ: فَماذا يَكُونُ حالُهم حِينَئِذٍ فَقِيلَ: لا يَقْدِرُونَ، وجَعْلُها حالًا مِنَ (اَلَّذِي) كَما قالَ السَّمِينُ مَهْزُولٌ مِنَ القَوْلِ كَما لا يَخْفى، والضَّمِيرُ راجِعٌ إلى المَوْصُولِ بِاعْتِبارِ المَعْنى بَعْدَ ما رُوعِيَ لَفْظُهُ إذْ هو صِفَةٌ لِمُفْرَدٍ لَفْظًا مَجْمُوعٍ مَعْنًى كالجَمْعِ والفَرِيقِ، أوْ هو مُسْتَعْمَلٌ لِلْجَمْعِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وخُضْتُمْ كالَّذِي خاضُوا﴾ عَلى رَأْيٍ، وقَوْلِهِ:
؎إنَّ الَّذِي حانَتْ بِفَلْجِ دِماؤُهم هُمُ القَوْمُ كُلُّ القَوْمِ يا أُمَّ خالِدِ
وقِيلَ: إنَّ مَن واَلَّذِي يَتَعاقَبانِ فَعُومِلَ هُنا مُعامَلَتَهُ، ولا يَخْفى بُعْدُهُ، ورُجُوعُ الضَّمِيرِ إلى (اَلَّذِينَ آمَنُوا) مِن قِبَلِ الِالتِفاتِ مِمّا لا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ.
﴿واللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الكافِرِينَ﴾ [ 264 ] إلى ما يَنْفَعُهُمْ، والجُمْلَةُ تَذْيِيلٌ مُقَرِّرٌ لِمَضْمُونِ ما قَبْلَهُ، وفِيهِ تَعْرِيضٌ بِأنَّ كُلًّا مِنَ الرِّياءِ والمَنِّ والأذى عَلى الإنْفاقِ مِن صِفاتِ الكُفّارِ ولا بُدَّ لِلْمُؤْمِنِينَ أنْ يَجْتَنِبُوها.
{"ayah":"یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ لَا تُبۡطِلُوا۟ صَدَقَـٰتِكُم بِٱلۡمَنِّ وَٱلۡأَذَىٰ كَٱلَّذِی یُنفِقُ مَالَهُۥ رِئَاۤءَ ٱلنَّاسِ وَلَا یُؤۡمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِۖ فَمَثَلُهُۥ كَمَثَلِ صَفۡوَانٍ عَلَیۡهِ تُرَابࣱ فَأَصَابَهُۥ وَابِلࣱ فَتَرَكَهُۥ صَلۡدࣰاۖ لَّا یَقۡدِرُونَ عَلَىٰ شَیۡءࣲ مِّمَّا كَسَبُوا۟ۗ وَٱللَّهُ لَا یَهۡدِی ٱلۡقَوۡمَ ٱلۡكَـٰفِرِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق