الباحث القرآني
﴿أوْ كالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ﴾ عَطْفٌ عَلى سابِقِهِ والكافُ إمّا اِسْمِيَّةٌ بِمَعْنى مِثْلَ مَعْمُولَةٌ لِ أرَأيْتَ مَحْذُوفًا أيْ أوْ أرَأيْتَ مِثْلَ الَّذِي مَرَّ وإلى ذَلِكَ ذَهَبَ الكِسائِيُّ والفَرّاءُ وأبُو عَلِيٍّ وأكْثَرُ (p-20)النَّحْوِيِّينَ وحُذِفَ لِدَلالَةِ ﴿ألَمْ تَرَ﴾ عَلَيْهِ عَلى أنَّهُ قَدْ قِيلَ: إنَّ مِثالَ هَذا النَّظْمِ كَثِيرًا ما يُحْذَفُ مِنهُ فِعْلُ الرُّؤْيَةِ كَقَوْلِهِ:
؎قالَ لَها كِلابُها أسْرِعِي كاليَوْمِ (مَطْلُوبًا ولا طالِبا)
وجِيءَ بِهَذِهِ الكافِ لِلتَّنْبِيهِ عَلى تَعَدُّدِ الشَّواهِدِ وعَدَمِ اِنْحِصارِها فِيما ذُكِرَ كَما في قَوْلِكَ الفِعْلِ الماضِي مِثْلَ: نَصَرَ، وتَخْصِيصُ هَذا بِذَلِكَ عَلى ما قِيلَ: لِأنَّ مُنْكِرَ الإحْياءِ كَثِيرٌ، والجاهِلَ بِكَيْفِيَّتِهِ أكْثَرُ مِن أنْ يُحْصى بِخِلافِ مُدَّعِي الرُّبُوبِيَّةِ، وقِيلَ: إنَّها زائِدَةٌ وإلى ذَلِكَ ذَهَبَ الأخْفَشُ أيْ: ألَمْ تَرَ إلى الَّذِي حاجَّ إبْراهِيمَ أوِ الَّذِي مَرَّ الخ، وقِيلَ: إنَّهُ عَطْفٌ مَحْمُولٌ عَلى المَعْنى كَأنَّهُ قِيلَ: ألَمْ تَرَ كاَلَّذِي حاجَّ أوْ كاَلَّذِي مَرَّ وقِيلَ: إنَّهُ مِن كَلامِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ ذَكَرَهُ جَوابًا لِمُعارَضَةِ ذَلِكَ الكافِرِ، وتَقْدِيرُهُ وإنْ كُنْتَ تُحْيِي فَأحْيِ كَإحْياءِ الَّذِي مَرَّ، ولا يَخْفى ضَعْفُهُ لِلْفَصْلِ وكَثْرَةِ التَّقْدِيرِ، وإنَّما لَمْ تُجْعَلِ الكافُ أصْلِيَّةً والعَطْفُ عَلى ”الَّذِي“ نَفْسُهُ في الآيَةِ السّابِقَةِ لِاسْتِلْزامِهِ دُخُولَ (إلى) عَلى الكافِ، وفِيهِ إشْكالٌ لِأنَّها إنْ كانَتْ حَرْفِيَّةً فَظاهِرٌ وإنْ كانَتِ اِسْمِيَّةً فَلِأنَّها مُشَبَّهَةٌ بِالحَرْفِ في عَدَمِ التَّصَرُّفِ لا يَدْخُلُ عَلَيْها مِنَ الحُرُوفِ إلّا ما ثَبَتَ في كَلامِهِمْ، وهو عَنْ وذَلِكَ عَلى قِلَّةٍ أيْضًا، وقالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ كُلًّا مِن لَفْظِ (ألَمْ تَرَ) و(أرَأيْتَ) مُسْتَعْمِلٌ لِقَصْدِ التَّعَجُّبِ إلّا أنَّ الأوَّلَ: تَعَلَّقَ بِالمُتَعَجَّبِ مِنهُ فَيُقالُ: ألَمْ تَرَ إلى الَّذِي صَنَعَ كَذا بِمَعْنى اُنْظُرْ إلَيْهِ فَتَعَجَّبْ مِن حالِهِ، والثّانِي: بِمِثْلِ المُتَعَجَّبِ مِنهُ فَيُقالُ أرَأيْتَ مِثْلَ الَّذِي صَنَعَ كَذا بِمَعْنى أنَّهُ مِنَ الغَرابَةِ بِحَيْثُ لا يُرى لَهُ مِثْلٌ ولا يَصِحُّ ألَمْ تَرَ إلى مَثَلِهِ إذْ يَكُونُ المَعْنى اُنْظُرْ إلى المِثْلِ وتَعَجَّبْ مِنَ الَّذِي صَنَعَ، ولِذا لَمْ يَسْتَقِمْ عَطْفُكَ ”الَّذِي مَرَّ“ عَلى ﴿الَّذِي حاجَّ﴾ ويُحْتاجُ إلى التَّأْوِيلِ في المَعْطُوفِ بِجَعْلِهِ مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ أيْ أرَأيْتَ كاَلَّذِي مَرَّ فَيَكُونُ مِن عَطْفِ الجُمْلَةِ أوْ في المَعْطُوفِ عَلَيْهِ نَظَرًا إلى أنَّهُ في مَعْنى أرَأيْتَ كاَلَّذِي حاجَّ فَيَصِحُّ العَطْفُ عَلَيْهِ؛ ومِن هَذا يُعْلَمُ أنَّ عَدَمَ الِاسْتِقامَةِ لَيْسَ لِمُجَرَّدِ اِمْتِناعِ دُخُولِ (إلى) عَلى الكافِ بَلْ لَوْ قُلْتَ: ألَمْ تَرَ إلى الَّذِي حاجَّ أوْ مِثْلِ الَّذِي مَرَّ فَعَدَمُ الِاسْتِقامَةِ بِحالِهِ عِنْدَ مَن لَهُ مَعْرِفَةٌ بِأسالِيبِ الكَلامِ، وإنَّ هَذا لَيْسَ مِن زِيادَةِ الكافِ في شَيْءٍ بَلْ لا بُدَّ في التَّعَجُّبِ بِكَلِمَةِ (أرَأيْتَ) مِن إثْباتٍ كافٍ، أوْ ما في مَعْناهُ، ولا يَخْفى أنَّ هَذا مِنَ الغَرابَةِ بِمَكانٍ فَإنَّ (ألَمْ تَرَ) يُسْتَعْمَلُ لِلتَّعَجُّبِ مَعَ التَّشْبِيهِ في كَلامِ العَرَبِ كَما يُشِيرُ إلَيْهِ كَلامُ سِيبَوَيْهِ، و(أرَأيْتَ) كَثِيرًا ما يُسْتَعْمَلُ بِدُونِ الكافِ أوْ ما في مَعْناهُ، وهو في القُرْآنِ كَثِيرٌ وكَيْفَ يُفَرَّقُ بَيْنَهُما بِأنَّ الأوَّلَ تَعَلَّقَ بِالمُتَعَجَّبِ مِنهُ، وفي الثّانِي بِمِثْلِهِ، والمِثْلِيَّةُ إنَّما جاءَتْ مِن ذِكْرِ الكافِ ولَوْ ذُكِرَتْ في الأوَّلِ لَكانَ مِثْلَهُ بِلا فَرْقٍ، فَهَذا مُصادَرَةٌ عَلى المَطْلُوبِ فَلَيْسَ إلّا ما ذُكِرَ أوَّلًا سِوى أنَّ تَقْدِيرَ (أرَأيْتَ) مَعَ الكافِ أوْلى لِأنَّ اِسْتِعْمالَهُ مَعَها أكْثَرُ فَتَدَبَّرْ.
و(أوْ) لِلتَّخْيِيرِ أوْ لِلتَّفْصِيلِ والمارُّ هو عَزِيزُ بْنُ شَرْخِيا، كَما أخْرَجَهُ الحاكِمُ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ وإسْحاقَ بْنِ بِشْرٍ عَنِ اِبْنِ عَبّاسٍ وعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ، وإلَيْهِ ذَهَبَ قَتادَةُ وعِكْرِمَةُ والرَّبِيعُ والضَّحّاكُ والسُّدِّيُّ وخَلْقٌ كَثِيرٌ، وقِيلَ: هو أرْمِيا بْنُ خَلْقِيا مِن سِبْطِ هارُونَ عَلَيْهِ السَّلامُ وهو المَرْوِيُّ عَنْ أبِي جَعْفَرٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ وإلَيْهِ ذَهَبَ وهْبٌ، وقِيلَ: هو الخَضِرُ عَلَيْهِ السَّلامُ وحُكِيَ ذَلِكَ عَنِ اِبْنِ إسْحاقَ وزَعَمَ بَعْضُهم أنَّ هَذَيْنَ القَوْلَيْنِ واحِدٌ، وأنَّ أرْمِيا هو الخَضِرُ بِعَيْنِهِ، وقِيلَ: شِعْيا، وقِيلَ: غُلامُ لُوطٍ عَلَيْهِ السَّلامُ، وقالَ مُجاهِدٌ: كانَ المارُّ رَجُلًا كافِرًا بِالبَعْثِ وأُيِّدَ بِنَظْمِهِ مَعَ نَمْرُوذَ في سِلْكٍ واحِدٍ حَيْثُ سِيقَ الكَلامُ لِلتَّعْجِيبِ مِن حالِهِما، وبِأنَّ كَلِمَةَ الِاسْتِبْعادِ في هَذا المَقامِ تُشْعِرُ بِالإنْكارِ ظاهِرًا ولَيْسَتْ هي فِيهِ مِثْلَها في ﴿أنّى يَكُونُ لِي غُلامٌ﴾ و﴿أنّى يَكُونُ لِي ولَدٌ﴾ وعُورِضَ بِما بَيْنَ قِصَّتِهِ وقِصَّةِ إبْراهِيمَ الآتِيَةِ بُعْدٌ مِنَ التَّناسُبِ المَعْنَوِيِّ فَإنَّ كِلَيْهِما طَلَبا (p-21)مُعايَنَةَ الإحْياءِ مَعَ أنَّ ما جَرى لَهُ في القِصَّةِ مِمّا يَبْعُدُ أنْ يَجْرِيَ مَعَ كافِرٍ - وإذا اِنْضَمَّ إلى ذَلِكَ تَحَرِّيهِ الظّاهِرُ في الِاحْتِرازِ عَنِ الكَذِبِ في القَوْلِ الصّادِرِ قَبْلَ التَّبْيِينِ المُوجِبِ لِإيمانِهِ عَلى زَعْمِ مَن يَدَّعِي كُفْرَهُ - قَوّى المُعارِضَ جِدًّا، وإنْ قُلْنا: بِأنَّ دَلالَةَ الِانْتِظامِ في سِلْكِ نَمْرُوذَ عَلى الإيمانِ أحَقُّ لِيَنْطَبِقَ عَلى التَّفْصِيلِ المُقَدَّمِ في ﴿اللَّهُ ولِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ الخ حَسَبَ ما أشَرْنا إلَيْهِ في القِيلِ قَبْلُ، لَمْ يَكَدْ يُتَوَهَّمُ القَوْلُ بِالكَفْرِ كَما لا يَخْفى، والقَرْيَةُ قالَ اِبْنُ زَيْدٍ: هي الَّتِي خَرَجَ مِنها الأُلُوفُ، وقالَ الكَلْبِيُّ: دَيْرُ سابِرابادَ، وقالَ السُّدِّيُّ: دَيْرُ سَلْما باذَ، وقِيلَ: دَيْرُ هِرَقْلَ، وقِيلَ: المُؤْتَفِكَةُ، وقِيلَ: قَرْيَةُ العِنَبِ عَلى فَرْسَخَيْنِ مِن بَيْتِ المَقْدِسِ، وقالَ عِكْرِمَةُ والرَّبِيعُ ووَهْبٌ: هي بَيْتُ المَقْدِسِ، وكانَ قَدْ خَرَّبَها بُخْتَنَصَّرُ وهَذا هو الأشْهَرُ، واشْتِقاقُها مِنَ القُرى وهو الجَمْعُ.
﴿وهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها﴾ أيْ ساقِطَةٌ عَلى سُقُوفِها بِأنْ سَقَطَ السَّقْفُ أوَّلًا ثُمَّ تَهَدَّمَتِ الجُدْرانُ عَلَيْهِ، وقِيلَ: المَعْنى خالِيَةٌ عَنْ أهْلِها ثابِتَةٌ عَلى عُرُوشِها أيْ إنَّ بُيُوتَها قائِمَةٌ والجارُّ والمَجْرُورُ عَلى الأوَّلِ مُتَعَلِّقٌ بِخاوِيَةٍ، وعَلى الثّانِي بِمَحْذُوفٍ وقَعَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرِ لَهِيَ، والجُمْلَةُ قِيلَ: في مَوْضِعِ الحالِ مِنَ الضَّمِيرِ المُسْتَتِرِ في (مَرَّ) وقِيلَ: مِن (قَرْيَةٍ) ويَجِيءُ الحالُ مِنَ النَّكِرَةِ عَلى القِلَّةِ، وقِيلَ: في مَوْضِعِ الصِّفَةِ لَها، ويُبْعِدُهُ تَوَسُّطُ الواوِ، ومِنَ النّاسِ مَن جَوَّزَ كَوْنَ ﴿عَلى عُرُوشِها﴾ بَدَلًا مِن ﴿قَرْيَةٍ﴾ بِإعادَةِ الجارِّ وكَوْنِهِ صِفَةً لَها، وجُمْلَةُ ﴿وهِيَ خاوِيَةٌ﴾ إمّا حالٌ مِنَ العُرُوشِ أوْ مِنَ القَرْيَةِ أوْ مِن ها والعامِلُ مَعْنى الإضافَةِ والكُلُّ مِمّا لا يَنْبَغِي حَمْلُ التَّنْزِيلِ عَلَيْهِ.
(قالَ) في نَفْسِهِ أوْ بِلِسانِهِ ﴿أنّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها﴾ المُشارُ إلَيْهِ إمّا نَفْسُ القَرْيَةِ بِدُونِ تَقْدِيرٍ كَما هو الظّاهِرُ، فالإحْياءُ والإماتَةُ مَجازانِ عَنِ العِمارَةِ والخَرابِ، أوْ بِتَقْدِيرِ مُضافٍ أيْ أصْحابِ هَذِهِ القَرْيَةِ فالإحْياءُ والإماتَةُ عَلى حَقِيقَتِها، وإمّا عِظامُ القَرْيَةِ البالِيَةُ وجُثَثُهُمُ المُتَفَرِّقَةُ، والسِّياقُ دالٌّ عَلى ذَلِكَ، والإحْياءُ والإماتَةُ عَلى حالِهِما أيْضًا، فَعَلى القَوْلِ بِالمَجازِ يَكُونُ هَذا القَوْلُ عَلى سَبِيلِ التَّلَهُّفِ والتَّشَوُّقِ إلى عِمارَةِ تِلْكَ القَرْيَةِ لَكِنْ مَعَ اِسْتِشْعارِ اليَأْسِ عَنْها عَلى أبْلَغِ وجْهٍ وأوْكَدِهِ ولِذا أراهُ اللَّهُ تَعالى أبْعَدَ الأمْرَيْنِ في نَفْسِهِ ثُمَّ في غَيْرِهِ، ثُمَّ أراهُ ما اِسْتَبْعَدَهُ صَرِيحًا مُبالَغَةً في إزاحَةِ ما عَسى يَخْتَلِجُ في خُلْدِهِ، وعَلى القَوْلِ الثّانِي يَكُونُ اِعْتِرافًا بِالعَجْزِ عَنْ مَعْرِفَةِ طَرِيقِ الإحْياءِ، واسْتِعْظامًا لِقُدْرَةِ المُحْيِي إذا قُلْنا: إنَّ القائِلَ كانَ مُؤْمِنًا، وإنْكارًا لِلْقُدْرَةِ عَلى ذَلِكَ إنْ كانَ كافِرًا، ورُجِّحَ أوَّلُ الِاحْتِمالاتِ الثَّلاثَةِ في المُشارِ إلَيْهِ بِأنَّ إرادَةَ إحْياءٍ لِأهْلٍ أوْ عِظامِهِمْ يَأْباهُ التَّعَرُّضُ لِحالِ القَرْيَةِ دُونَ حالٍ مِن ذِكْرٍ والِاقْتِصارِ عَلى ذِكْرِ مَوْتِهِمْ دُونَ كَوْنِهِمْ تُرابًا أوْ عِظامًا نَخِرَةً مَعَ كَوْنِهِ أدْخَلَ في الِاسْتِبْعادِ لِشَدَّةِ مُبايَنَتِهِ لِلْحَياةِ، وغايَةُ بُعْدِهِ عَنْ قَبُولِها عَلى أنَّهُ لَمْ تَتَعَلَّقْ إرادَتُهُ تَعالى بِإحْيائِهِمْ كَما تَعَلَّقَتْ إرادَتُهُ تَعالى بِعِمارَتِها ومُعايَنَةِ المارِّ لَها كَما سَتَسْمَعُهُ، وتَقْدِيمُ المَفْعُولِ عَلى الفاعِلِ لِلِاعْتِناءِ بِهِ مِن حَيْثُ إنَّ الِاسْتِبْعادَ ناشِئٌ مِن جِهَتِهِ لا مِن جِهَةِ الفاعِلِ، و﴿أنّى﴾ نُصِبَ عَلى الظَّرْفِيَّةِ إنْ كانَتْ بِمَعْنى مَتى، وعَلى الحالِيَّةِ مِن هَذِهِ إنْ كانَتْ بِمَعْنى كَيْفَ، والعامِلُ فِيهِ عَلى أيِّ حالٍ ﴿يُحْيِي﴾ .
﴿فَأماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ﴾ أيْ فَألْبَثَهُ مَيِّتًا مِائَةَ عامٍ ولا بُدَّ مِنَ اِعْتِبارِ هَذا التَّضْمِينِ لِأنَّ الإماتَةَ بِمَعْنى إخْراجِ الرُّوحِ وسَلْبِ الحَياةِ مِمّا لا تَمْتَدُّ، والعامُ السَّنَةُ مِنَ العَوْمِ وهو السِّباحَةُ، وسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأنَّ الشَّمْسَ تَعُومُ في جَمِيعِ بُرُوجِها ﴿ثُمَّ بَعَثَهُ﴾ أيْ أحْياهُ مِن بَعَثْتُ النّاقَةَ إذا أقَمْتُها مِن مَكانِها، ولَعَلَّ إيثارَهُ عَلى أحْياهُ لِلدَّلالَةِ عَلى سُرْعَتِهِ وسُهُولَةِ (p-22)تَأتِّيهِ عَلى البارِي عَزَّ اِسْمُهُ، ولِلْإيذانِ بِأنَّهُ قامَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ ماتَ عاقِلًا فاهِمًا مُسْتَعِدًّا لِلنَّظَرِ والِاسْتِدْلالِ وكانَ ذَلِكَ بَعْدَ عِمارَةِ القَرْيَةِ، فَفي «اَلْبَحْرِ» أنَّهُ لَمّا مَرَّ لَهُ سَبْعُونَ سَنَةً مِن مَوْتِهِ وقَدْ مَنَعَهُ اللَّهُ تَعالى مِنَ السِّباعِ والطَّيْرِ ومَنَعَ العُيُونَ أنْ تَراهُ أرْسَلَ مَلَكًا إلى مَلِكٍ عَظِيمٍ مِن مُلُوكِ فارِسٍ يُقالُ لَهُ: كَوْسَكُ فَقالَ: إنَّ اللَّهَ تَعالى يَأْمُرُكَ أنْ تَنْفِرَ بِقَوْمِكَ فَتُعَمِّرَ بَيْتَ المَقْدِسِ وإيلِيّا وأرْضِها حَتّى تَعُودَ أحْسَنَ مِمّا كانَتْ فانْتَدَبَ المَلِكُ في ثَلاثَةِ آلافِ قَهْرَمانٍ مَعَ كُلِّ قَهْرَمانٍ ألْفُ عامِلٍ وجَعَلُوا يُعَمِّرُونَها وأهْلَكَ اللَّهُ تَعالى بُخْتَنَصَّرَ بِبَعُوضَةٍ دَخَلَتْ دِماغَهُ ونَجّى اللَّهُ تَعالى مَن بَقِيَ مِن بَنِي إسْرائِيلَ ورَدَّهم إلى بَيْتِ المَقْدِسِ فَعَمَّرُوها ثَلاثِينَ سَنَةً وكَثَرُوا حَتّى كانُوا كَأحْسَنِ ما كانُوا عَلَيْهِ فَعِنْدَ ذَلِكَ أحْياهُ اللَّهُ تَعالى.
(قالَ) اِسْتِئْنافٌ مَبْنِيٌّ عَلى السُّؤالِ كَأنَّهُ قِيلَ: فَماذا قالَ لَهُ؟ فَقِيلَ قالَ: ﴿كَمْ لَبِثْتَ﴾ لِيَظْهَرَ لَهُ العَجْزُ عَنِ الإحاطَةِ بِشُؤُونِ اللَّهِ تَعالى عَلى أتَمِّ وجْهٍ وتَنْحَسِمُ مادَّةُ اِسْتِبْعادِهِ بِالمَرَّةِ و(كَمْ) نُصِبَ عَلى الظَّرْفِيَّةِ ومُمَيِّزُها مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ: كَمْ وقْتًا والنّاصِبُ لَهُ ﴿لَبِثْتَ﴾ والظّاهِرُ أنَّ القائِلَ هو اللَّهُ تَعالى، وقِيلَ: هاتِفٌ مِنَ السَّماءِ، وقِيلَ: جِبْرِيلُ، وقِيلَ: نَبِيٌّ، وقِيلَ: رَجُلٌ مُؤْمِنٌ شاهَدَهُ يَوْمَ ماتَ وعَمَّرَ إلى حِينِ إحْيائِهِ فَيَكُونُ الإسْنادُ إلَيْهِ تَعالى مَجازًا ﴿قالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ قالَهُ بِناءً عَلى التَّقْرِيبِ والتَّخْمِينِ أوِ اِسْتِقْصارًا لِمُدَّةِ لُبْثِهِ، وقِيلَ: إنَّهُ ماتَ ضُحًى وبُعِثَ بَعْدَ المِائَةِ قَبْلِ الغُرُوبِ فَقالَ قَبْلَ النَّظَرِ إلى الشَّمْسِ: ﴿يَوْمًا﴾ ثُمَّ اِلْتَفَّتْ فَرَأى بَقِيَّةً مِنها فَقالَ: ﴿أوْ بَعْضَ يَوْمٍ﴾ عَلى الإضْرابِ، واعْتُرِضَ بِأنَّهُ لا وجْهَ لِلْجَزْمِ بِتَمامِ اليَوْمِ ولَوْ بِناءً عَلى حُسْبانِ الغُرُوبِ لِتَحَقُّقِ النُّقْصانِ مِن أوَّلِهِ.
﴿قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ﴾ عَطْفٌ عَلى مُقَدَّرٍ، أيْ ما لَبِثْتَ ذَلِكَ القَدْرَ بَلْ هَذا المِقْدارَ ﴿فانْظُرْ إلى طَعامِكَ وشَرابِكَ﴾ قِيلَ: كانَ طَعامُهُ عِنَبًا أوْ تِينًا وشَرابُهُ عَصِيرًا أوْ لَبَنًا ﴿لَمْ يَتَسَنَّهْ﴾ أيْ لَمْ يَتَغَيَّرْ في هَذِهِ المُدَّةِ المُتَطاوِلَةِ، واشْتِقاقُهُ مِنَ السَّنَةِ وفي لامِها اِخْتِلافٌ، فَقِيلَ: هاءٌ بِدَلِيلِ سانَهْتُ فُلانًا فَهو مَجْزُومٌ بِسُكُونِ الهاءِ، وقِيلَ: واوٌ بِدَلِيلِ الجَمْعِ عَلى سَنَواتٍ فَهو مَجْزُومٌ بِحَذْفِ الآخِرِ، والهاءُ هاءُ سَكْتٍ ثَبَتَتْ في الوَقْفِ وفي الوَصْلِ لِإجْرائِهِ مَجْراهُ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ التَّسَنُّهُ عِبارَةً عَنْ مُضِيِّ السِّنِينَ كَما هو الأصْلُ ويَكُونُ عَدَمُ التَّسَنُّهِ كِنايَةً عَنْ بَقائِهِ عَلى حالِهِ غَضًّا طَرِيًّا غَيْرَ مُتَكَرِّجٍ، وقِيلَ: أصْلُهُ لَمْ يَتَسَنَّنْ ومِنهُ الحَمَأُ المَسْنُونُ أيِ الطِّينُ المُتَغَيِّرُ، ومَتى اِجْتَمَعَتْ ثَلاثَةُ حُرُوفٍ مُتَجانِسَةٍ يُقْلَبُ أحَدُها حَرْفَ عِلَّةٍ كَما قالُوا في تَظَنَّنْتُ: تَظَنَّيْتُ، وفي تَقَضَّضْتُ: تَقَضَّيْتُ، وقَدْ أُبْدِلَتْ هُنا النُّونُ الأخِيرَةُ في رَأْيٍ ياءً، ثُمَّ أُبْدِلَتِ الياءُ ألِفًا، ثُمَّ حُذِفَتْ لِلْجازِمِ، والجُمْلَةُ المَنفِيَّةُ حالٌ، وقَدْ جاءَ مِثْلُها بِغَيْرِ واوٍ خِلافًا لِمَن تَرَدَّدَ فِيهِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لَمْ يَمْسَسْهم سُوءٌ﴾ و﴿أوْ قالَ أُوحِيَ إلَيَّ ولَمْ يُوحَ إلَيْهِ شَيْءٌ﴾ وصاحِبُها إمّا الطَّعامُ والشَّرابُ، وإفْرادُ الضَّمِيرِ لِإجْرائِهِما مَجْرى الواحِدِ كالغِذاءِ، وإمّا الأخِيرُ واكْتُفِيَ بِدَلالَةِ حالِهِ عَلى حالِ الأوَّلِ، ويُؤَيِّدُهُ قِراءَةُ عَبْدِ اللَّهِ (وهَذا شُرْبُكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ) وقَرَأ أُبَيٌّ لَمْ يَسَّنَّهْ بِإدْغامِ التّاءِ في السِّينِ واسْتُشْكِلَ تَفَرُّعِ ﴿فانْظُرْ﴾ عَلى لُبْثِ المِائَةِ بِالفاءِ وهو يَقْتَضِي التَّغَيُّرَ، وأُجِيبَ بِأنَّ المُفَرَّعَ عَلَيْهِ لَيْسَ لُبْثَ المِائَةِ بَلْ لُبْثَ المِائَةِ مِن غَيْرِ تَغَيُّرٍ في جِسْمِهِ حَتّى ظَنَّهُ زَمانًا قَلِيلًا فَفُرِّعَ عَلَيْهِ ما هو أظْهَرُ مِنهُ وهو عَدَمُ تَغَيُّرِ الطَّعامِ والشَّرابِ وبَقاءُ الحَيَوانِ حَيًّا مِن غَيْرِ غِذاءٍ، وقِيلَ: إنَّ التَّقْدِيرَ إنْ حَصَلَ لَكَ عَدَمُ طُمَأْنِينَةٍ في أمْرِ البَعْثِ فانْظُرْ إلى طَعامِكَ وشَرابِكَ السَّرِيعِ التَّغَيُّرُ حَتّى تَعْرِفَ أنَّ مَن لَمْ يُغَيِّرْهُ يَقْدِرُ عَلى البَعْثِ.
وفِيهِ نَظَرٌ لِأنَّهُ مَعَ كَوْنِهِ خِلافَ الظّاهِرِ يُعَكِّرُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وانْظُرْ إلى حِمارِكَ﴾ كَيْفَ نَخَرَتْ عِظامُهُ وتَفَرَّقَتْ أوْصالُهُ وهَذا (p-23)هُوَ الظّاهِرُ لِأنَّهُ أدَلُّ عَلى الحالِ وأوْفَقُ بِما بَعْدَهُ، وكَوْنُ المُرادِ اُنْظُرْ إلَيْهِ سالِمًا في مَكانِهِ كَما رَبَطْتَهُ حَفِظْناهُ بِلا ماءٍ وعَلَفٍ كَما حَفِظْنا الطَّعامَ والشَّرابَ لَيْسَ بِشَيْءٍ ولا يُساعِدُهُ المَأْثُورُ، ﴿ولِنَجْعَلَكَ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِمُقَدَّرٍ أيْ وفَعَلْنا ذَلِكَ لِنَجْعَلَكَ، ومِنهم مَن قَدَّرَهُ مُتَأخِّرًا، وقِيلَ: إنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِما قَبْلَهُ والواوُ زائِدَةٌ وعَلى تَقْدِيرِهِ فَهو مَعْطُوفٌ عَلى ﴿لَبِثْتَ﴾ أوْ عَلى مُقَدَّرٍ بِطَرِيقِ الِاسْتِئْنافِ، أيْ فَعَلْنا ذَلِكَ لِتُعايِنَ ما اَسْتَبْعَدْتَ أوْ لِتُهْدى ولِنَجْعَلَكَ، وقِيلَ: إنَّهُ عَطْفٌ عَلى (قالَ) فَفِيهِ اِلْتِفاتٌ، (آيَةً) أيْ عِبْرَةً أوْ مُرْشِدًا ﴿لِلنّاسِ﴾ أيْ جِنْسِهِمْ أوْ مَن بَقِيَ مِن قَوْمِهِ أوْ لِلْمَوْجُودِينَ في هَذا القَرْنِ بِأنْ يُشاهِدُوكَ وأنْتَ مِن أهْلِ القُرُونِ الخالِيَةِ ويَأْخُذُوا عَنْكَ ما اِنْطَوى عَنْهم مُنْذُ أحْقابٍ مِن عِلْمِ التَّوْراةِ، وفِيهِ دَلِيلٌ عَلى ما ذُكِرَ مِنَ اللُّبْثِ المَدِيدِ ولِذَلِكَ قُرِنَ بَيْنَهُ وبَيْنَ الأمْرِ بِالنَّظَرِ إلى حِمارِهِ.
﴿وانْظُرْ إلى العِظامِ﴾ أيْ عِظامِ الحِمارِ كَما قالَهُ السُّدِّيُّ وكَرَّرَ الأمْرَ لِما أنَّ المَأْمُورَ بِهِ أوَّلًا هو النَّظَرُ إلَيْها مِن حَيْثُ الدَّلالَةُ عَلى المُكْثِ المَدِيدِ، وثانِيًا: هو النَّظَرُ إلَيْها مِن حَيْثُ تَعْتَرِيها الحَياةُ ومَبادِيها، وقِيلَ: عِظامُ أمْواتِ أهْلِ القَرْيَةِ، وعَنْ قَتادَةَ والضَّحّاكِ والرَّبِيعِ: عِظامُ نَفْسِهِ قالُوا: أوَّلُ ما أحْيا اللَّهُ تَعالى مِنهُ عَيْناهُ وسائِرُ جَسَدِهِ مَيِّتٌ وعِظامُهُ نَخِرَةٌ فَأمَرَ بِالنَّظَرِ إلَيْها، وقِيلَ: عِظامُهُ وعِظامُ حِمارِهِ والكُلُّ لا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ.
﴿كَيْفَ نُنْشِزُها﴾ بِالزّايِ المُعْجَمَةِ مِنَ الإنْشازِ وهو الرَّفْعُ أيْ كَيْفَ نَرْفَعُها مِنَ الأرْضِ فَنَرُدُّها إلى أماكِنِها مِنَ الجَسَدِ، وقالَ الكِسائِيُّ: نُلَيِّنُها ونُعَظِّمُها، وقَرَأ أُبِيٌّ (نُنْشِيها)، وابْنُ كَثِيرٍ ونافِعٌ وأبُو عَمْرٍو ويَعْقُوبُ (نُنْشِرُها) مَن أنْشَرَ اللَّهُ تَعالى المَوْتى أحْياها ولَعَلَّ المُرادَ بِالإحْياءِ ما تَقَدَّمَ لا مَعْناهُ الحَقِيقِيُّ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ثُمَّ نَكْسُوها لَحْمًا﴾ أيْ نَسْتُرُها بِهِ كَما نَسْتُرُ الجَسَدَ بِاللِّباسِ، وقَرَأ أبانُ عَنْ عاصِمٍ (نَنْشُرُها) بِفَتْحِ النُّونِ وضَمِّ الشِّينِ والرّاءِ وهو حِينَئِذٍ مِنَ النَّشْرِ ضِدُّ الطَّيِّ كَما قالَ الفَرّاءُ فالمَعْنى كَيْفَ نُبَسِّطُها، والجُمْلَةُ قِيلَ: إمّا حالٌ مِنَ العِظامِ، أيْ وانْظُرْ إلَيْها مُرَكَّبَةً مَكْسُوَّةً لَحْمًا، أوْ بَدَلُ اِشْتِمالٍ، أيْ وانْظُرْ إلى العِظامِ كَيْفِيَّةَ إنْشازِها وبَسْطِ اللَّحْمِ عَلَيْها، واعْتُرِضَتِ الحالِيَّةُ بِأنَّ الجُمْلَةَ اِسْتِفْهامِيَّةٌ وهي لا تَقَعُ حالًا، وأُجِيبَ بِأنَّ الِاسْتِفْهامَ لَيْسَ حَقِيقَتَهُ فَما المانِعُ مِنَ الحالِيَّةِ، ولَعَلَّ عَدَمَ التَّعَرُّضِ لِكَيْفِيَّةِ نَفْخِ الرُّوحِ كَما قِيلَ لِما أنَّها مِمّا لا تَقْتَضِي الحِكْمَةُ بَيانَها، وفي بَعْضِ الآثارِ إنَّ مَلَكًا نادى العِظامَ فَأجابَتْ وأقْبَلَتْ مِن كُلِّ ناحِيَةٍ ثُمَّ ألْبَسَها العُرُوقَ والعَصَبَ ثُمَّ كَساها اللَّحْمَ ثُمَّ أنْبَتَ عَلَيْها الجِلْدَ والشَّعْرَ ثُمَّ نَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ فَقامَ الحِمارُ رافِعًا رَأْسَهُ وأُذُنَيْهِ إلى السَّماءِ ناهِقًا.
﴿فَلَمّا تَبَيَّنَ لَهُ﴾ أيِ اِتَّضَحَ اِتِّضاحًا تامًّا لَهُ ما دَلَّ عَلَيْهِ الأمْرُ مِن كَيْفِيَّةِ الإحْياءِ بِمَبادِيهِ، والفاءُ لِلْعَطْفِ عَلى مُقَدَّرٍ يَسْتَدْعِيهِ الأمْرُ المَذْكُورُ وإنَّما حُذِفَ لِلْإيذانِ بِظُهُورِ تَحَقُّقِهِ واسْتِغْنائِهِ عَنِ الذِّكْرِ ولِلْإشْعارِ بِسُرْعَةِ وُقُوعِهِ كَأنَّهُ قِيلَ: فَأنْشَرَها اللَّهُ تَعالى وكَساها لَحْمًا فَنَظَرَ إلَيْها فَتَبَيَّنَ لَهُ كَيْفِيَّتُهُ، فَلَمّا تَبَيَّنَ ذَلِكَ ﴿قالَ أعْلَمُ أنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ﴾ ومِن جُمْلَتِهِ ما شُوهِدَ ﴿قَدِيرٌ﴾ [ 259 ] وقِيلَ: فاعِلُ (تَبَيَّنَ) مُضْمَرٌ يُفَسِّرُهُ مَفْعُولُ (أعْلَمُ) فالكَلامُ مِن بابِ التَّنازُعِ عَلى مَذْهَبِ البَصْرِيِّينَ، وأُورِدُ عَلَيْهِ أنَّ شَرْطَ التَّنازُعِ كَما نَصَّ عَلَيْهِ النُّحاةُ اِشْتِراكُ العامِلَيْنِ بِعَطْفٍ ونَحْوِهِ بِحَيْثُ يَرْتَبِطانِ فَلا يَجُوزُ ضَرَبَنِي أهَنْتُ زَيْدًا قِيلَ: ولَيْسَ بِشَيْءٍ لِأنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْهُ إلّا اِبْنُ عُصْفُورٍ، وقَدْ صَرَّحَ بِذاتِ الفَنِّ بِخِلافِهِ كَأبِي عَلِيٍّ وغَيْرِهِ مَعَ أنَّهُ لَمْ يُخَصَّ بِالعَطْفِ إذْ هو جارٍ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿هاؤُمُ اقْرَءُوا كِتابِيَهْ﴾ و(لَمّا) رابِطَةٌ لِلْجُمْلَتَيْنِ فَيَكْفِي مِثْلُهُ في (p-24)الرَّبْطِ وإنْ لَمْ يُصَرِّحُوا بِهِ، ومِنَ النّاسِ مَنِ اِسْتَحْسَنَ أنْ يَجْعَلَ مِن بابِ ما يَكُونُ المُرادُ بِالفِعْلِ نَفْسَ وُقُوعِهِ لا التَّلَبُّسَ بِالفاعِلِ فَكانَ مَعْناهُ فَلَمّا حَصَلَ لَهُ التَّبَيُّنُ قالَ أعْلَمُ الخ، ويُساعِدُهُ قِراءَةُ اِبْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما ﴿فَلَمّا تَبَيَّنَ لَهُ﴾ عَلى البِناءِ لِلْمَفْعُولِ، وإيثارُ صِيغَةِ المُضارِعِ لِلدَّلالَةِ عَلى أنَّ عِلْمَهُ بِذَلِكَ مُسْتَمِرٌّ نَظَرًا إلى أنَّ أصْلَهُ لَمْ يَتَغَيَّرْ بَلْ إنَّما تَبَدَّلَ بِالعِيانِ وصْفُهُ، وفِيهِ إشْعارٌ بِأنَّهُ إنَّما قالَ ما قالَ بِناءً عَلى الِاسْتِبْعادِ العادِيِّ واسْتِعْظامًا لِلْأمْرِ، وقَرَأ اِبْنُ مَسْعُودٍ (قِيلَ اِعْلَمْ) عَلى وجْهِ الأمْرِ، وأخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنصُورٍ وابْنُ المُنْذِرِ عَنِ اِبْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ كانَ يَقْرَأُ ﴿قالَ أعْلَمُ﴾ ويَقُولُ: لَمْ يَكُنْ بِأفْضَلَ مِن إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ قالَ اللَّهُ تَعالى لَهُ: ﴿واعْلَمْ أنَّ اللَّهَ﴾ وبِذَلِكَ قَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ، والآمِرُ هو اللَّهُ تَعالى أوِ النَّبِيُّ أوِ المَلَكُ، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ المُخاطَبُ هو نَفْسُهُ عَلى سَبِيلِ التَّجْرِيدِ مُبَكِّتًا لَها مُوَبِّخًا عَلى ما اِعْتَراها مِن ذَلِكَ الِاسْتِبْعادِ.
يُرْوى أنَّهُ بَعْدَ هَذا القَوْلِ قامَ فَرَكِبَ حِمارَهُ حَتّى أتى مَحَلَّتَهُ فَأنْكَرَهُ النّاسُ وأنْكَرَهم وأنْكَرَ مَنازِلَهم فانْطَلَقَ عَلى وهْمٍ مِنهم حَتّى أتى مَنزِلَهُ فَإذا هو بِعَجُوزٍ عَمْياءَ مُقْعَدَةٍ قَدْ أتى عَلَيْها مِائَةٌ وعِشْرُونَ سَنَةً كانَتْ أمَةً لَهُ وكانَ قَدْ خَرَجَ عُزَيْرٌ وهي بِنْتُ عِشْرِينَ سَنَةً فَقالَ لَها: يا هَذِهِ أهَذا مَنزِلُ عُزَيْرٍ؟ قالَتْ: نَعَمْ وبَكَتْ وقالَتْ: ما رَأيْتُ أحَدًا مُنْذُ كَذا وكَذا سَنَةٍ يَذْكُرُ عُزَيْرًا وقَدْ نَسِيَهُ النّاسُ، قالَ: فَإنِّي أنا عُزَيْرٌ، قالَتْ: سُبْحانَ اللَّهُ فَإنَّ عُزَيْرًا قَدْ فَقَدْناهُ مُنْذُ مِائَةٍ سَنَةٍ فَلَمْ يُسْمَعْ لَهُ بِذِكْرٍ قالَ: فَإنِّي عُزَيْرٌ كانَ اللَّهُ تَعالى أماتَنِي مِائَةَ سَنَةٍ ثُمَّ بَعَثَنِي قالَتْ: فَإنَّ عُزَيْرًا كانَ رَجُلًا مُسْتَجابَ الدَّعْوَةِ يَدْعُو لِلْمَرِيضِ ولِصاحِبِ البَلاءِ بِالعافِيَةِ والشِّفاءِ فادْعُ اللَّهَ تَعالى أنْ يَرُدَّ عَلَيَّ بَصَرِي حَتّى أراكَ فَإنْ كُنْتَ عُزَيْرًا عَرَفْتُكَ فَدَعا رَبَّهَ ومَسَحَ يَدَهُ عَلى عَيْنَيْها فَصَحَّتا وأخَذَ بِيَدِها فَقالَ: قُومِي بِإذْنِ اللَّهِ تَعالى فَأطْلَقَ اللَّهُ تَعالى رِجْلَيْها فَقامَتْ صَحِيحَةً كَأنَّما نَشِطَتْ مِن عِقالٍ فَنَظَرَتْ فَقالَتْ: أشْهَدُ أنَّكَ عُزَيْرٌ فانْطَلَقَتْ إلى مَحَلَّةِ بَنِي إسْرائِيلَ وأنْدِيَتِهِمْ ومَجالِسِهِمْ، وابْنُ العُزَيْرِ شَيْخٌ اِبْنُ مِائَةِ سَنَةٍ وثَمانِيَ عَشَرَةَ سَنَةً وبَنُو بَنِيهِ شُيُوخٌ في المَجْلِسِ فَنادَتْهم فَقالَتْ: هَذا عُزَيْرٌ قَدْ جاءَكم فَكَذَّبُوها فَقالَتْ: أنا فُلانَةٌ مَوْلاتُكم دَعا إلى رَبِّهِ فَرَدَّ عَلَيَّ بَصَرِي وأطْلَقَ رِجْلَيَّ، وزَعَمَ أنَّ اللَّهَ تَعالى كانَ أماتَهُ مِائَةَ سَنَةٍ ثُمَّ بَعَثَهُ فَنَهَضَ النّاسُ فَأقْبَلُوا عَلَيْهِ فَنَظَرُوا إلَيْهِ فَقالَ اِبْنُهُ: كانَتْ لِأبِي شامَةٌ سَوْداءُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ فَكَشَفَ عَنْ كَتِفَيْهِ فَإذا هو عُزَيْرٌ فَقالَتْ بَنُو إسْرائِيلَ: فَإنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِينا أحَدٌ حَفِظَ التَّوْراةَ فِيما حَدَّثَنا غَيْرُ عُزَيْرٍ وقَدْ حَرَقَ بُخْتَنَصَّرُ التَّوْراةَ ولَمْ يَبْقَ مِنها شَيْءٌ إلّا ما حَفِظَتِ الرِّجالُ فاكْتُبْها لَنا وكانَ أبُوهُ قَدْ دَفَنَ التَّوْراةَ أيّامَ بُخْتَنَصَّرَ في مَوْضِعٍ لَمْ يَعْرِفْهُ غَيْرُ عُزَيْرٍ فانْطَلَقَ بِهِمْ إلى ذَلِكَ المَوْضِعِ فَحَفَرَهُ فاسْتَخْرَجَ التَّوْراةَ وكانَ قَدْ عَفِنَ الوَرَقُ ودَرَسَ الكِتابُ فَجَلَسَ في ظِلِّ شَجَرَةٍ وبَنُو إسْرائِيلَ حَوْلَهُ فَنَزَلَ مِنَ السَّماءِ شِهابانِ حَتّى دَخَلا جَوْفَهُ فَتَذَّكَّرُ التَّوْراةَ فَجَدَّدَها لِبَنِي إسْرائِيلَ، وفي رِوايَةٍ أنَّهُ قَرَأها عَلَيْهِمْ حِينَ طَلَبُوا مِنهُ ذَلِكَ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ مِن غَيْرِ أنْ يَخْرِمَ مِنها حَرْفًا، فَقالَ رَجُلٌ مِن أوْلادِ المَسْبِيِّينَ مِمّا ورَدَ بَيْتُ المَقْدِسِ بَعْدَ مَهْلِكِ بُخْتَنَصَّرَ: حَدَّثَنِي أبِي عَنْ جَدِّي أنَّهُ دُفِنَ التَّوْراةُ يَوْمَ سَبْيِنا في خابِيَةٍ في كَرْمٍ فَإنْ أرَيْتُمُونِي كَرْمَ جَدِّي أخْرَجْتُها لَكم فَذَهَبُوا إلى كَرْمِ جَدِّهِ فَفَتَّشُوها فَوَجَدُوها فَعارَضُوها بِما أمْلى عَلَيْهِمْ عُزَيْرٌ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ فَما اِخْتَلَفا في حَرْفٍ واحِدٍ فَعِنْدَ ذَلِكَ قالُوا: ﴿عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ﴾ تَعالى عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا.
* * *
ومِن بابِ الإشارَةِ والتَّأْوِيلِ في الآياتِ: ﴿لا إكْراهَ في الدِّينِ﴾ لِأنَّهُ في الحَقِيقَةِ هو الهُدى المُسْتَفادُ مِنَ النُّورِ القَلْبِيِّ اللّازِمِ لِلْفِطْرَةِ وهو لا مَدْخَلَ لِلْإكْراهِ فِيهِ ﴿قَدْ تَبَيَّنَ﴾ ووَضَحَ ﴿الرُّشْدُ﴾ الَّذِي هو طَرِيقُ الوَحْدَةِ وتَمَيَّزَ ﴿مِنَ الغَيِّ﴾ الَّذِي هو النَّظَرُ إلى الأغْيارِ ﴿فَمَن يَكْفُرْ بِالطّاغُوتِ﴾ وهو ما سِوى اللَّهِ تَعالى ﴿ويُؤْمِن بِاللَّهِ﴾ إيمانًا حَقِيقِيًّا شُهُودِيًّا ﴿فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقى﴾ الَّتِي هي الوَحْدَةُ الذّاتِيَّةُ ﴿لا انْفِصامَ لَها﴾ في نَفْسِها (p-25)لِأنَّها المُوافِقَةُ لِما في نَفْسِ الأمْرِ، والمُمْكِناتُ والشُّؤُونُ داخِلَةٌ في دائِرَتِها غَيْرُ مُنْقَطِعَةٍ عَنْها ﴿واللَّهُ سَمِيعٌ﴾ يَسْمَعُ قَوْلَ كُلِّ ذِي دِينٍ، ﴿عَلِيمٌ﴾ بِنِيَّتِهِ ﴿اللَّهُ ولِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ولَيْسَ ولِيٌّ سِواهُ ولا ناصِرٌ ولا مُعِينٌ لَهم غَيْرُهُ ﴿يُخْرِجُهم مِنَ﴾ ظُلُماتِ النَّفْسِ وشُبَهِ الخَيالِ والوَهْمِ إلى نُورِ اليَقِينِ والهِدايَةِ وفَضاءِ عالَمِ الأرْواحِ ﴿والَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بِالمَيْلِ إلى الأغْيارِ ﴿أوْلِياؤُهُمُ الطّاغُوتُ﴾ الَّذِي حالَ بَيْنَهم وبَيْنَ اللَّهِ تَعالى فَلَمْ يَلْتَفِتُوا إلَيْهِ ﴿يُخْرِجُونَهم مِنَ﴾ نُورِ الِاسْتِعْدادِ والهِدايَةِ الفِطْرِيَّةِ إلى ظُلُماتِ صِفاتِ النَّفْسِ والشُّكُوكِ والشُّبَهاتِ ﴿أُولَئِكَ﴾ المُبْعِدُونَ عَنِ الحَضْرَةِ ﴿أصْحابُ النّارِ﴾ الطَّبِيعِيَّةِ ﴿هم فِيها خالِدُونَ﴾، ﴿ألَمْ تَرَ إلى الَّذِي حاجَّ إبْراهِيمَ في رَبِّهِ﴾ وهو نَمْرُوذُ النَّفْسُ الأمّارَةُ المُجادِلَةُ لِإبْراهِيمَ الرُّوحِ القُدْسِيَّةِ الَّتِي أُلْقِيَتْ في نارِ الطَّبِيعَةِ فَعادَتْ عَلَيْها بَرْدًا وسَلامًا، أوْ نَمْرُوذُ الجَبّارُ وإبْراهِيمُ الخَلِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ ﴿أنْ آتاهُ اللَّهُ المُلْكَ﴾ الَّذِي هو عالَمُ القُوى البَدَنِيَّةِ ومُلْكُ هَذِهِ الدُّنْيا الدَّنِيَّةِ ﴿إذْ قالَ إبْراهِيمُ﴾ الرُّوحُ أوْ إبْراهِيمُ الخَلِيلُ ﴿رَبِّيَ﴾ أيْ مَن غُذِّيتُ بِبَيانِ أنْوارِهِ أوْ إيجادِهِ وهِدايَتِهِ ﴿الَّذِي يُحْيِي﴾ مَن تَوَجَّهَ إلَيْهِ ﴿ويُمِيتُ﴾ مَن أعْرَضَ عَنْهُ، أوْ يَحْيى ويُمِيتُ الإحْياءَ والإماتَةَ المَعْهُودَتَيْنِ (قالَ) نَمْرُوذُ النَّفْسُ الأمّارَةُ أوِ الجَبّارُ ﴿أنا أُحْيِي﴾ بَعْضَ القُوى بِصَرْفِها في مَيادِينِ اللَّذّاتِ واسْتِنْشاقِ رِيحِ الشَّهَواتِ ﴿وأُمِيتُ﴾ بَعْضَها بِتَعْطِيلِهِ عَنْ ذَلِكَ بُرْهَةً، أوْ أُحْيِيَ بِالعَفْوِ وأُمِيتُ بِالقَتْلِ، ﴿قالَ إبْراهِيمُ﴾ الرُّوحُ أوِ الخَلِيلُ ﴿فَإنَّ اللَّهَ يَأْتِي﴾ بِشَمْسِ العِرْفانِ مِن مَشْرِقِها وهو جانِبُ المَبْدَأِ الفَيّاضِ ﴿فَأْتِ بِها مِنَ المَغْرِبِ﴾ أيْ أظْهِرْها بَعْدَ غُرُوبِها وحَيْلُولَةِ أرْضِ الوُجُودِ بَيْنَكَ وبَيْنَها، أوْ أنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِشَمْسِ الرُّوحِ مِن مَشْرِقِها وهو مَبْدَأُها الأصْلِيُّ فَتُشْرِقُ أنْوارُها عَلى صَفَحاتِ البَدَنِ فَأْتِ بِها بَعْدَما غَرَبَتْ أيْ فَأرْجِعْها إلى مَن قَتَلْتَهُ وأُمَّتَهُ، وعَلى هَذا يَكُونُ مِن تَتِمَّةِ الأوَّلِ ﴿فَبُهِتَ﴾ وغُلِبَ ﴿الَّذِي كَفَرَ﴾ وهو النَّفْسُ الأمّارَةُ المُدَّعِيَةُ لِلرُّبُوبِيَّةِ عَلى عَرْشِ البَدَنِ أوْ نَمْرُوذُ اللَّعِينُ ﴿أوْ كالَّذِي مَرَّ﴾ وهو العَقْلُ الإنْسانِيُّ ﴿عَلى قَرْيَةٍ﴾ القَلْبُ الَّذِي هو البَيْتُ المُقَدَّسُ، أوْ هو عُزَيْرٌ النَّبِيُّ وكانَ قَدِمَ عَلى بَيْتِ المَقْدِسِ قَبْلَ التَّجَلِّي بِاسْمِهِ تَعالى المُحْيِي ﴿وهِيَ خاوِيَةٌ﴾ خالِيَةٌ مِنَ التَّجَلِّياتِ النّافِعَةِ، ثابِتَةٌ ﴿عَلى عُرُوشِها﴾ صُوَرِها أوْ ساقِطَةٌ مُنْهَدِمَةٌ لِضَعْفِ أُسِّ الِاسْتِعْدادِ عَلى عُرُوشِ العَزائِمِ (قالَ) لِذُهُولِهِ عَنِ النَّظَرِ إلى الحَقائِقِ (أنّى) مَتى أوْ كَيْفَ ﴿يُحْيِي هَذِهِ﴾ القَرْيَةَ ﴿اللَّهُ﴾ الجامِعُ لِصِفاتِ الجَمالِ والجَلالِ ﴿بَعْدَ مَوْتِها﴾ بِداءِ الجَهْلِ والِالتِفاتِ إلى السِّوى ﴿فَأماتَهُ اللَّهُ﴾ أبْقاهُ جاهِلًا ﴿مِائَةَ عامٍ﴾ أيْ مُدَّةً طَوِيلَةً، وقِيلَ: هي عِبارَةٌ في الأصْلِ عَنْ ثَمانِيَةِ أعْوامٍ وأرْبَعَةِ أشْهُرٍ أوْ خَمْسٍ وعِشْرِينَ سَنَةً ﴿ثُمَّ بَعَثَهُ﴾ بِالحَياةِ الحَقِيقِيَّةِ وطَلَبَ مِنهُ الوُقُوفَ عَلى مُدَّةِ اللُّبْثِ فَما ظَنَّها إلّا يَوْمًا أوْ بَعْضَ يَوْمٍ اِسْتِصْغارًا لِمُدَّةِ اللُّبْثِ في مَوْتِ الجَهْلِ المُنْقَضِيَةِ بِالنِّسْبَةِ إلى الحَياةِ الأبَدِيَّةِ، أوْ أماتَهُ بِالمَوْتِ الإرادِيِّ في إحْدى المُدَدِ المَذْكُورَةِ فَتَكُونُ المُدَّةُ زَمانَ رِياضَتِهِ وسُلُوكِهِ ومُجاهَدَتِهِ في سَبِيلِ اللَّهِ تَعالى، أوْ أماتَهُ حَتْفَ أنْفِهِ بِالمَوْتِ الطَّبِيعِيِّ ثُمَّ بَعَثَهُ بِالإحْياءِ، قالَ: بَلْ لَبِثْتَ في الحَقِيقَةِ مِائَةَ عامٍ.
﴿فانْظُرْ إلى طَعامِكَ﴾ وكانَ التِّينَ أوِ العِنَبَ، والأوَّلُ: إشارَةٌ إلى المُدْرَكاتِ الكُلِّيَّةِ لِكَوْنِهِ لُبًّا كُلِّهِ وكَوْنِ الجُزْئِيّاتِ فِيهِ بِالقُوَّةِ كالحَبّاتِ الَّتِي في التِّينِ، والثّانِي: إشارَةٌ إلى الجُزْئِيّاتِ لِبَقاءِ اللَّواحِقِ المادِّيَّةِ مَعَها في الإدْراكِ كالقِشْرِ والعَجَمِ ﴿وشَرابِكَ﴾ وكانَ عَصِيرَ العِنَبِ أوِ اللَّبَنِ، والأوَّلُ: إشارَةٌ إلى العِشْقِ والإرادَةِ وعُلُومِ المَعارِفِ والحَقائِقِ، والثّانِي: إشارَةٌ إلى العِلْمِ النّافِعِ كالشَّرائِعِ ﴿لَمْ يَتَسَنَّهْ﴾ أيْ لَمْ يَتَغَيَّرْ عَمّا كانَ في الأوَّلِ بِحَسَبِ الفِطْرِ مُودَعًا فِيكَ، فَإنَّ العُلُومَ مَخْزُونَةٌ في كُلِّ نَفْسٍ بِحَسَبِ اِسْتِعْدادِهِ والنّاسُ مَعادِنُ كَمَعادِنِ الذَّهَبِ والفِضَّةِ وإنْ حُجِبَتْ بِالمَوادِّ وخَفِيَتْ مُدَّةً بِالتَّقَلُّبِ في البَرازِخِ وظُلُماتِها لَمْ تَبْطُلْ ولَمْ تَتَغَيَّرْ عَنْ حالِها حَتّى إذا رُفِعَ الحِجابُ ظَهَرَتْ كَما كانَتْ ﴿وانْظُرْ إلى حِمارِكَ﴾ وهو القالَبُ الحامِلُ لِلْقَلْبِ أوْ (p-26)المَعْنى الظّاهِرُ ﴿ولِنَجْعَلَكَ آيَةً﴾ أيْ دَلِيلًا ﴿لِلنّاسِ﴾ بَعَثْناكَ ﴿وانْظُرْ إلى العِظامِ﴾ مِنَ القُوى ﴿كَيْفَ نُنْشِزُها﴾ ونَرْفَعُها عَنْ أرْضِ الطَّبِيعَةِ ﴿ثُمَّ نَكْسُوها لَحْمًا﴾ وهو العِرْفانُ الَّذِي يَكُونُ لِباسًا لَها، وعَبَّرَ عَنْهُ بِاللَّحْمِ لِنُمُوِّهِ وزِيادَتِهِ كُلَّما تَغَذَّتِ الرُّوحُ بِأطْعِمَةِ الشُّهُودِ وأشْرِبَةِ الوِصالِ، والمَعْنى الظّاهِرُ ظاهِرٌ ﴿فَلَمّا تَبَيَّنَ﴾ ووَضَحَ (لَهُ) ذَلِكَ ﴿قالَ أعْلَمُ﴾ عِلْمًا مُسْتَمِرًّا ﴿أنّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ﴾ ومِن جُمْلَتِهِ ما كانَ ﴿قَدِيرٌ﴾ لا يَسْتَعْصِي عَلَيْهِ ولا يُعْجِزُهُ.
{"ayah":"أَوۡ كَٱلَّذِی مَرَّ عَلَىٰ قَرۡیَةࣲ وَهِیَ خَاوِیَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ یُحۡیِۦ هَـٰذِهِ ٱللَّهُ بَعۡدَ مَوۡتِهَاۖ فَأَمَاتَهُ ٱللَّهُ مِا۟ئَةَ عَامࣲ ثُمَّ بَعَثَهُۥۖ قَالَ كَمۡ لَبِثۡتَۖ قَالَ لَبِثۡتُ یَوۡمًا أَوۡ بَعۡضَ یَوۡمࣲۖ قَالَ بَل لَّبِثۡتَ مِا۟ئَةَ عَامࣲ فَٱنظُرۡ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمۡ یَتَسَنَّهۡۖ وَٱنظُرۡ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجۡعَلَكَ ءَایَةࣰ لِّلنَّاسِۖ وَٱنظُرۡ إِلَى ٱلۡعِظَامِ كَیۡفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكۡسُوهَا لَحۡمࣰاۚ فَلَمَّا تَبَیَّنَ لَهُۥ قَالَ أَعۡلَمُ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءࣲ قَدِیرࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











