الباحث القرآني

﴿والَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكم ويَذَرُونَ أزْواجًا﴾ عَوْدٌ إلى بَيانِ بَقِيَّةِ الأحْكامِ المُفَصَّلَةِ فِيما سَبَقَ، وفي يُتَوَفَّوْنَ مَجازُ المَشارِقَةِ ﴿وصِيَّةً لأزْواجِهِمْ﴾ قَرَأ أبُو عَمْرٍو، وابْنُ عامِرٍ، وحَمْزَةُ، عَنْ عاصِمٍ: بِنَصْبِ وصِيَّةٍ عَلى المَصْدَرِيَّةِ، أوْ عَلى أنَّها مَفْعُولٌ بِهِ، والتَّقْدِيرُ: لِيُوصُوا أوْ يُوصُونَ وصِيَّةً، أوْ كَتَبَ اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِمْ، أوْ (p-159)أُلْزِمُوا وصِيَّةً، ويُؤَيِّدُ ذَلِكَ قِراءَةُ عَبْدِ اللَّهِ: كَتَبَ عَلَيْكُمُ الوَصِيَّةَ لِأزْواجِكم ﴿مَتاعًا إلى الحَوْلِ﴾ مَكانٌ ( والَّذِينَ ) إلَخْ، وقَرَأ الباقُونَ بِالرَّفْعِ عَلى أنَّهُ خَبَرٌ بِتَقْدِيرِ: لِيَصِحَّ الحَمْلُ؛ أيْ: ووَصِيَّةُ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ، أوْ حُكْمُهم وصِيَّةٌ، أوْ والَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ أهْلُ وصِيَّةٍ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ نائِبَ فاعِلِ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أوْ مُبْتَدَأً لِخَبَرٍ مَحْذُوفٍ مُقَدَّمٍ عَلَيْهِ؛ أيْ: كُتِبَ عَلَيْهِمْ، أوْ عَلَيْهِمْ وصِيَّةٌ، وقَرَأ أُبَيٌّ: مَتاعٌ لِأزْواجِهِمْ، ورُوِيَ عَنْهُ: فَمَتاعٌ بِالفاءِ ﴿مَتاعًا إلى الحَوْلِ﴾ نُصِبَ بِـ ( يُوصُونَ ) إنْ أضْمَرْتَهُ، ويَكُونُ مِن بابِ الحَذْفِ والإيصالِ، وإلّا فَـ ( بِالوَصِيَّةِ )؛ لِأنَّها بِمَعْنى التَّوْصِيَةِ، وبِـ ( مَتاعٍ ) عَلى قِراءَةِ أُبَيٌّ؛ لِأنَّهُ بِمَعْنى التَّمَتُّعِ ﴿غَيْرَ إخْراجٍ﴾ بَدَلٌ مِنهُ؛ بَدَلُ اشْتِمالٍ إنِ اعْتُبِرَ اللُّزُومُ بَيْنَ التَّمَتُّعِ إلى الحَوْلِ وبَيْنَ غَيْرِ الإخْراجِ، وبَدَلُ الكُلِّ بِحَسَبِ الذّاتِ، فَإنَّهُما مُتَّحِدانِ بِالذّاتِ ومُتَغايِرانِ بِالوَصْفِ، وذَكَرَ بَعْضُهم أنَّهُ عَلى تَقْدِيرِ البَدَلِ لا بُدَّ مِن تَقْدِيرِ مُضافٍ إلى غَيْرِ تَقْدِيرِهِ ﴿مَتاعًا إلى الحَوْلِ﴾ مَتاعٌ ﴿غَيْرَ إخْراجٍ﴾ وإلّا لَمْ يَصِحَّ؛ لِأنَّ ( مَتاعًا ) مُفَسَّرٌ بِالإنْفاقِ، وغَيْرَ إخْراجٍ عِبارَةٌ عَنِ الإسْكانِ، ولَيْسَ مَدْلُولُهُ مَدْلُولَ الأوَّلِ، ولا جُزْأهُ، ولا مُلابِسًا لَهُ، فَيَكُونُ بَدَلَ غَلَطٍ، وهو لا يَصِحُّ في الكَلامِ المَجِيدِ، فَيَتَعَيَّنُ التَّقْدِيرُ، وحِينَئِذٍ يَكُونُ إبْدالَ الخاصِّ مِنَ العامِّ، وهو مِن قَبِيلِ إبْدالِ الكُلِّ مِنَ الجُزْءِ؛ نَحْوَ: رَأيْتُ القَمَرَ فَلَكَهُ، وهو بَدَلُ الِاشْتِمالِ، كَما صَرَّحَ بِهِ صاحِبُ المِفْتاحِ، وأُجِيبُ بِأنّا لا نُسَلِّمُ أنَّ ( مَتاعًا ) مُفَسَّرٌ بِالإنْفاقِ فَقَطْ، بَلِ المَتاعُ عامٌّ شامِلٌ لِلْإنْفاقِ والإسْكانِ جَمِيعًا، فَيَكُونُ ﴿غَيْرَ إخْراجٍ﴾ عِبارَةً عَنِ الإسْكانِ الَّذِي هو بَعْضٌ مِن ( مَتاعًا ) فَيَكُونُ بَدَلَ البَعْضِ مِنَ الكُلِّ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ مَصْدَرًا مُؤَكَّدًا؛ لِأنَّ الوَصِيَّةَ بِأنْ يُمَتَّعْنَ حَوْلًا يَدُلُّ عَلى أنَّهُنَّ لا يَخْرُجْنَ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: لا يَخْرُجْنَ ( غَيْرَ إخْراجٍ)، ويَكُونُ تَأْكِيدًا لِنَفْيِ الإخْراجِ الدّالِّ عَلَيْهِ ( لا يَخْرُجْنَ )، فَيُؤَوَّلُ إلى قَوْلِكَ: لا يَخْرُجْنَ لا يَخْرُجْنَ، وأنْ يَكُونَ حالًا مِن ( أزْواجِهِمْ )، والأكْثَرُونَ عَلى أنَّها حالٌ مُؤَكَّدَةٌ؛ إذْ لا مَعْنى لِتَقْيِيدِ الإيصاءِ بِمَفْهُومِ هَذِهِ الحالَةِ، وأنَّها مُقَدَّرَةٌ؛ لِأنَّ مَعْنى نَفْيِ الإخْراجِ إلى الحَوْلِ لَيْسَ مُقارِنًا لِلْإيصاءِ، وفِيهِ تَأمُّلٌ، وأنْ يَكُونَ صِفَةَ مَتاعٍ، أوْ مَنصُوبًا بِنَزْعِ الخافِضِ، والمَعْنى: يَجِبُ عَلى الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ أنْ يُوصُوا قَبْلَ أنْ يَحْتَضِرُوا لِأزْواجِهِمْ؛ بِأنْ يُمَتَّعْنَ بَعْدَهم حَوْلًا بِالنَّفَقَةِ والسُّكْنى، وكانَ ذَلِكَ عَلى الصَّحِيحِ في أوَّلِ الإسْلامِ، ثُمَّ نُسِخَتِ المُدَّةُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أرْبَعَةَ أشْهُرٍ وعَشْرًا﴾ وهو وإنْ كانَ مُتَقَدِّمًا في التِّلاوَةِ؛ فَهو مُتَأخِّرٌ في النُّزُولِ، وكَذا النَّفَقَةُ بِتَوْرِيثِهِنَّ الرُّبُعَ أوِ الثُّمُنَ، واخْتُلِفَ في سُقُوطِ السُّكْنى وعَدَمِهِ، والَّذِي عَلَيْهِ ساداتُنا الحَنَفِيَّةُ الأُوَلُ، وحُجَّتُهم أنَّ مالَ الزَّوْجِ صارَ مِيراثًا لِلْوارِثِ وانْقَطَعَ مُلْكُهُ بِالمَوْتِ، وذَهَبَ الشّافِعِيَّةُ إلى الثّانِي؛ لِقَوْلِهِ _ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ _: ”امْكُثِي في بَيْتِكِ حَتّى يَبْلُغَ الكِتابُ أجْلَهُ“ واعْتُرِضَ بِأنَّهُ لَيْسَ فِيهِ دَلالَةٌ عَلى أنَّ لَها السُّكْنى في مالِ الزَّوْجِ، والكَلامُ فِيهِ ﴿فَإنْ خَرَجْنَ﴾ بَعْدَ الحَوْلِ ومُضِيِّ العِدَّةِ، وقِيلَ: في الأثْناءِ بِاخْتِيارِهِنَّ ﴿فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ﴾ يا أوْلِياءَ المَيِّتِ، أوْ أيُّها الأئِمَّةُ ﴿فِي ما فَعَلْنَ في أنْفُسِهِنَّ مِن مَعْرُوفٍ﴾ لا يُنْكِرُهُ الشَّرْعُ؛ كالتَّطَيُّبِ، والتَّزَيُّنِ، وتَرْكِ الحِدادِ، والتَّعَرُّضِ لِلْخُطّابِ، أوْ في تَرْكِ مَنعِهِنَّ مِنَ الخُرُوجِ، أوْ قَطْعِ النَّفَقَةِ عَنْهُنَّ، فَلا نَصَّ في الآيَةِ عَلى أنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَجِبُ عَلَيْهِنَّ مُلازَمَةُ مَسْكَنِ الزَّوْجِ والحِدادِ عَلَيْهِ، وإنَّما كُنَّ مُخَيَّراتٍ بَيْنَ المُلازَمَةِ وأخْذِ النَّفَقَةِ، وبَيْنَ الخُرُوجِ وتَرْكِها ﴿واللَّهُ عَزِيزٌ﴾ غالِبٌ عَلى أمْرِهِ، يَنْتَقِمُ مِمَّنْ خالَفَ أمْرَهُ في الإيصاءِ وإنْفاذِ الوَصِيَّةِ وغَيْرِ ذَلِكَ ﴿حَكِيمٌ﴾ يُراعِي (p-160)فِي أحْكامِهِ مَصالِحَ عِبادِهِ، فَيَنْبَغِي أنْ يُمْتَثَلَ أمْرُهُ ونَهْيُهُ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب