الباحث القرآني

﴿يا أيُّها النّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ﴾ لَمّا بَيَّنَ سُبْحانَهُ فِرَقَ المُكَلَّفِينَ، وقَسَّمَهم إلى مُؤْمِنِينَ، وكُفّارٍ، ومُذَبْذَبِينَ، وقالَ في الطّائِفَةِ الأُولى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ، وفي الثّانِيَةِ: سَواءٌ عَلَيْهِمْ، وفي الثّالِثَةِ: يُخادِعُونَ اللَّهَ، وشَرَحَ ما تَرْجِعُ إلَيْهِ أحْوالُهم دُنْيا وأُخْرى، فَقالَ سُبْحانَهُ في الأُولى: ”أُولَئِكَ عَلى هُدى مِن رَبِّهِمْ وأُولَئِكَ هم المُفْلِحُونَ“ وفي الثّانِيَةِ: ”خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ ولهِمَ عَذاب عَظِيم“ وفي الثّالِثَةِ: ”في قُلُوبِهِمْ مَرَض ولِهمَ عَذاب ألِيم بِما كانُوا يَكْذِبُونَ“ أقْبَلَ عَزَّ شَأْنُهُ عَلَيْهِمْ بِالخِطابِ عَلى نَهْجِ الِالتِفاتِ هَزًّا لَهم إلى الإصْغاءِ وتَوْجِيهًا لِقُلُوبِهِمْ نَحْوَ التَّلَقِّي، وجَبْرًا لِما في العِبادَةِ مِنَ الكُلْفَةِ بِلَذِيذِ المُخاطَبَةِ، ويَكْفِي لِلنُّكْتَةِ الوُجُودُ في البَعْضِ، و(يا) حَرْفٌ لا اسْمُ فِعْلٍ عَلى الصَّحِيحِ، وُضِعَ لِنِداءِ البَعِيدِ، وقِيلَ: لِمُطْلَقِ النِّداءِ أوْ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ أقْسامِهِ، وعَلى الأوَّلِ يُنادى بِها القَرِيبُ لِتَنْزِيلِهِ مَنزِلَةَ غَيْرِهِ، إمّا لِعُلُوِّ مَرْتَبَةِ المُنادِي، أوِ المُنادى، وقَدْ يُنْزِلُ غَفْلَةَ السّامِعِ وسُوءَ فَهْمِهِ مَنزِلَةَ بُعْدِهِ، وقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ لِلِاعْتِناءِ بِأمْرِ المَدْعُوِّ لَهُ، والحَثِّ عَلَيْهِ، لِأنَّ نِداءَ البَعِيدِ وتَكْلِيفَهُ الحُضُورَ لَأمْرٌ يَقْتَضِي الِاعْتِناءَ والحَثَّ، فاسْتُعْمِلَ في لازِمِ مَعْناهُ عَلى أنَّهُ مَجازٌ مُرْسَلٌ، أوِ اسْتِعارَةٌ تَبَعِيَّةٌ في الحَرْفِ، أوْ مَكْنِيَّةٌ وتَخْيِيلِيَّةٌ، وهو مَعَ المُنادى المَنصُوبِ لَفْظًا أوْ تَقْدِيرًا بِهِ لِنِيابَتِهِ عَنْ نَحْوِ نادَيْتُ الإنْشائِيِّ أوْ بِنادَيْتُ اللّازِمِ الإضْمارِ، لِظُهُورِ مَعْناهُ مَعَ قَصْدِ الإنْشاءِ، كَلامٌ يَحْسُنُ السُّكُوتُ عَلَيْهِ، كَما يَحْسُنُ في نَحْوِ لا ونَعَمْ، وأيْ لَها مَعانٍ شَهِيرَةٌ، والواقِعَةُ في النِّداءِ نَكِرَةٌ مَوْضُوعَةٌ لِبَعْضٍ مِن كُلٍّ، ثُمَّ تَعَرَّفَتْ بِالنِّداءِ، وتُوُصِّلَ بِها لِنِداءِ ما فِيهِ ألْ، (يا) لا يَدْخُلُ عَلَيْها في غَيْرِ اللَّهِ إلّا شُذُوذًا لِتَعَذُّرِ الجَمْعِ بَيْنَ حَرْفَيِ التَّعْرِيفِ، فَإنَّهُما كَمِثْلَيْنِ، وهُما لا يَجْتَمِعانِ إلّا فِيما شَذَّ مِن نَحْوِ: ؎فَلا واللَّهِ لا يَلْفى لِما بِي ولا لِلِما بِهِمْ أبَدًا دَواءُ (p-182)وأُعْطِيَتْ حُكْمَ المُنادى، وجُعِلَ المَقْصُودُ بِالنِّداءِ وصْفًا لَها، والتُزِمَ فِيهِ هَذِهِ الحَرَكَةُ الخاصَّةُ المُسَمّاةُ بِالضَّمَّةِ خِلافًا لِلْمازِنِيِّ، فَإنَّهُ أجازَ نَصْبَهُ، ولَيْسَ لَهُ في ذَلِكَ سَلَفٌ، ولا خَلَفٌ، لِمُخالَفَتِهِ لِلْمَسْمُوعِ، وإنَّما التَزَمَ ذَلِكَ إشْعارًا بِأنَّهُ المَقْصُودُ بِالنِّداءِ، ولا يُنافِي هَذا كَوْنَ الوَصْفِ تابِعًا غَيْرَ مَقْصُودٍ بِالنِّسْبَةِ لِمَتْبُوعِهِ، لِأنَّ ذَلِكَ بِحَسَبِ الوَضْعِ الأصْلِيِّ حَيْثُ لَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهِ ما يَجْعَلُهُ مَقْصُودًا في حَدِّ ذاتِهِ، كَكَوْنِهِ مُفَسِّرًا لِمُبْهَمٍ، ومِن هُنا لَمْ يَشْتَرِطُوا في هَذا الوَصْفِ الِاشْتِقاقَ مَعَ أنَّ النَّحْوِيِّينَ إلّا النَّذْرَ كابْنِ الحاجِبِ اشْتَرَطُوا ذَلِكَ في النُّعُوتِ عَلى ما بُيِّنَ في مَحَلِّهِ، و(ها) التَّنْبِيهِيَّةُ زائِدَةٌ لازِمَةٌ لِلتَّأْكِيدِ والتَّعْوِيضِ عَمّا تَسْتَحِقُّ مِنَ المُضافِ إلَيْهِ، أوْ ما في حُكْمِهِ مِنَ التَّنْوِينِ كَما في ﴿أيًّا ما تَدْعُوا﴾ وإنْ لَمْ يُسْتَعْمَلْ هُنا مُضافًا أصْلًا، وكَثُرَ النِّداءُ في الكِتابِ المَجِيدِ عَلى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ لِما فِيها مِنَ التَّأْكِيدِ الَّذِي كَثِيرًا ما يَقْتَضِيهِ المَقامُ بِتَكَرُّرِ الذِّكْرِ، والإيضاحِ بَعْدَ الإبْهامِ، والتَّأْكِيدِ بِحَرْفِ التَّنْبِيهِ واجْتِماعِ التَّعْرِيفَيْنِ، هَذا ما ذَهَبَ إلَيْهِ الجُمْهُورُ وقَطَعَ الأخْفَشُ لِضَعْفِ نَظَرِهِ بِأنَّ أيًّا الواقِعَةَ في النِّداءِ مَوْصُولَةٌ حُذِفَ صَدْرُ صِلَتِها وُجُوبًا لِمُناسَبَةِ التَّخْفِيفِ لِلْمُنادى، وأُيِّدَ بِكَثْرَةِ وُقُوعِها في كَلامِهِمْ مَوْصُولَةً، ونُدْرَةِ وُقُوعِها مَوْصُوفَةً، واعْتَذَرَ عَنْ عَدَمِ نَصْبِها حِينَئِذٍ مَعَ أنَّها مُضارِعَةٌ لِلْمُضافِ بِأنَّهُ إذا حُذِفَ صَدْرُ صِلَتِها كانَ الأغْلَبُ فِيها البِناءُ عَلى الضَّمِّ، فَحَرْفُ النِّداءِ عَلى هَذا يَكُونُ داخِلًا عَلى مَبْنِيٍّ عَلى الضَّمِّ، ولَمْ يُغَيِّرْهُ، وإنْ كانَ مُضارِعًا لِلْمُضافِ، ويُؤَيِّدُ الأوَّلَ عَدَمُ الِاحْتِياجِ إلى الحَذْفِ، وصِدْقُ تَعْرِيفِ النَّعْتِ، والمُوافَقَةُ مَعَ هَذا، وأنَّها لَوْ كانَتْ مَوْصُولَةٌ لَجازَ أنْ تُوصَلَ بِجُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ أوْ ظَرْفِيَّةٍ إلى غَيْرِ ذَلِكَ، مِمّا يَقْطَعُ المُنْصِفُ مَعَهُ بِأرْجَحِيَّةِ مَذْهَبِ الجُمْهُورِ، نَعَمْ أُورِدَ عَلَيْهِ إشْكالٌ اسْتَصْعَبَهُ بَعْضٌ مِن سَلَفَ مِن عُلَماءِ العَرَبِيَّةِ، وقالَ: إنَّهُ لا جَوابَ لَهُ، وهو أنَّ ما ادَّعَوْا كَوْنَهُ تابِعًا مُعْرَبٌ بِالرَّفْعِ، وكُلُّ حَرَكَةٍ إعْرابِيَّةٍ إنَّما تَحْدُثُ بِعامِلٍ، ولا عامِلَ يَقْتَضِي الرَّفْعَ هُناكَ، لِأنَّ مَتْبُوعَهُ مَبْنِيٌّ لَفْظًا، ومَنصُوبٌ مَحَلًّا، فَلا وجْهَ لِرَفْعِهِ، وأقُولُ: إنَّ هَذا مِنَ الأبْحاثِ الواقِعَةِ بَيْنَ أبِي نِزارٍ وابْنِ الشَّجَرِيِّ، وذَلِكَ أنَّهُ وقَعَ سُؤالٌ عَنْ ضَمَّةِ هَذا التّابِعِ، فَكَتَبَ أبُو نِزارٍ أنَّها ضَمَّةُ بِناءٍ، ولَيْسَتْ ضَمَّةَ إعْرابٍ، لِأنَّ ضَمَّةَ الإعْرابِ لا بُدَّ لَها مِن عامِلٍ يُوجِبُها، ولا عامِلَ هُنا يُوجِبُ هَذِهِ الضَّمَّةَ، وكَتَبَ الشَّيْخُ مَنصُورٌ مَوْهُوبُ بْنُ أحْمَدَ أنَّها ضَمَّةُ إعْرابٍ ولا يَجُوزُ أنْ تَكُونَ ضَمَّةَ بِناءٍ، ومَن قالَ ذَلِكَ فَقَدْ غَفَلَ عَنِ الصَّوابِ، وذَلِكَ لِأنَّ الواقِعَ عَلَيْهِ النِّداءُ أيُّ المَبْنِيُّ عَلى الضَّمِّ، لِوُقُوعِهِ مَوْقِعَ الحَرْفِ، والِاسْمُ الواقِعُ بَعْدُ وإنْ كانَ مَقْصُودًا بِالنِّداءِ إلّا أنَّهُ صِفَةُ أيُّ، فَمُحالٌ أنْ يُبْنى أيْضًا، لِأنَّهُ مَرْفُوعٌ رَفْعًا صَحِيحًا، ولِهَذا أجازَ فِيهِ المازِنِيُّ النَّصْبَ عَلى المَوْضِعِ كَما يَجُوزُ في يا زَيْدُ الظَّرِيفَ، وعِلَّةُ الرَّفْعِ أنَّهُ لَمّا اسْتَمَرَّ الضَّمُّ في كُلِّ مُنادًى مَعْرِفَةٍ أشْبَهَ ما أُسْنِدَ إلَيْهِ الفِعْلُ، فَأُجْرِيَتْ صِفَتُهُ عَلى اللَّفْظِ، فَرُفِعَتْ، وأجابَ ابْنُ الشَّجَرِيِّ بِما أجابَ بِهِ الشَّيْخُ، وكَتَبَ أنَّها ضَمَّةُ إعْرابٍ، لِأنَّ ضَمَّةَ المُنادى المُفْرَدِ لَها بِاطِّرادِها مَنزِلَةٌ بَيْنَ مَنزِلَتَيْنِ، فَلَيْسَتْ كَضَمَّةِ حَيْثُ، لِأنَّها غَيْرُ مُطَّرِدَةٍ لِعَدَمِ اطِّرادِ العِلَّةِ الَّتِي أوْجَبَتْها، ولا كَضَمَّةِ زَيْدٍ في نَحْوِ: خَرَجَ زَيْدٌ، لِأنَّها حَدَثَتْ بِعامِلٍ لَفْظِيٍّ، ولَمّا اطَّرَدَتِ الضَّمَّةُ في نَحْوِ: يا زَيْدُ، يا عَمْرُو، وكَذَلِكَ اطَّرَدَتْ في نَحْوِ: يا رَجُلُ، يا غُلامُ، إلى ما لا يُحْصى نَزَلَ الِاطِّرادُ فِيها مَنزِلَةَ العامِلِ المَعْنَوِيِّ الواقِعِ لِلْمُبْتَدَإ مِن حَيْثُ اطَّرَدَتِ الرِّفْعَةُ في كُلِّ اسْمٍ ابْتُدِئَ بِهِ مُجَرَّدًا عَنْ عامِلٍ لَفْظِيٍّ، وجِيءَ لَهُ بِخَبَرٍ، كَـعَمْرٌو مُنْطَلِقٌ، وزَيْدٌ ذاهِبٌ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ، فَلَمّا اسْتَمَرَّتْ ضَمَّةُ المُنادى في مُعْظَمِ الأسْماءِ كَما اسْتَمَرَّتْ في الأسْماءِ المُعْرَبَةِ الضَّمَّةُ الحادِثَةُ عَنِ الِابْتِداءِ شَبَّهَتْها العَرَبُ بِضَمَّةِ المُبْتَدَإ، فَأتْبَعَتْها ضَمَّةَ الإعْرابِ في صِفَةِ المُنادى في نَحْوِ: يا زَيْدُ الطَّوِيلُ، وجَمَعَ بَيْنَهُما أيْضًا أنَّ الِاطِّرادَ مَعْنًى كَما أنَّ الِابْتِداءَ كَذَلِكَ، ومِن شَأْنِ العَرَبِ أنْ تَحْمِلَ الشَّيْءِ عَلى الشَّيْءِ مَعَ حُصُولِ أدْنى مُناسَبَةٍ بَيْنَهُما، حَتّى أنَّهم قَدْ حَمَلُوا أشْياءَ عَلى نَقائِضِها، ألا تَرى أنَّهم أتْبَعُوا حَرَكَةَ الإعْرابِ حَرَكَةَ البِناءِ في قِراءَةِ مَن قَرَأ (الحَمْدُ لُلَّهِ) بِضَمِّ اللّامِ، وكَذَلِكَ أتْبَعُوا حَرَكَةَ البِناءِ (p-183)حَرَكَةَ الإعْرابِ في نَحْوِ: يا زَيْدَ بْنَ عَمْرٍو، في قَوْلِ مَن فَتَحَ الدّالَ مِن زَيْدٍ انْتَهى مُلَخَّصًا، وقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ الشَّجَرِيِّ في أمالِيهِ، وأكْثَرَ في الحَطِّ عَلى ابْنِ نِزارٍ، وبَيَّنَ ما وقَعَ بَيْنَهُ وبَيْنَهُ مُشافَهَةً، ولَوْلا مَزِيدُ الإطالَةِ لَذَكَرْتُهُ بِعُجَرِهِ وبُجَرِهِ، وأنْتَ تَعْلَمُ ما في ذَلِكَ كُلِّهِ مِنَ الوَهَنِ، ولِهَذا قالَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ: إنَّ الحَقَّ أنَّها حَرَكَةُ إتْباعٍ ومُناسَبَةٍ لِضَمَّةِ المُنادى كَكَسْرِ المِيمِ مِن غُلامِي، وحِينَئِذٍ يَنْدَفِعُ الإشْكالُ كَما لا يَخْفى عَلى ذَوِي الكَمالِ. بَقِيَ الكَلامُ في اللّامِ الدّاخِلَةِ عَلى هَذا النَّعْتِ هَلْ هي لِلتَّعْرِيفِ أمْ لا؟ والَّذِي عَلَيْهِ الجُمْهُورُ وهو المَشْهُورُ أنَّها لِلتَّعْرِيفِ، كَما تَقَدَّمَتِ الإشارَةُ إلَيْهِ، ولَمّا سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ أبُو نِزارٍ قالَ: إنَّها هُناكَ لَيْسَتْ لِلتَّعْرِيفِ، لِأنَّ التَّعْرِيفَ لا يَكُونُ إلّا بَيْنَ اثْنَيْنِ في ثالِثٍ، واللّامُ فِيما نَحْنُ فِيهِ داخِلَةٌ في اسْمِ المُخاطَبِ، ثُمَّ قالَ: والصَّحِيحُ إنَّها دَخَلَتْ بَدَلًا مِن يا وأيُّ، وإنْ كانَ مُنادًى إلّا أنَّ نِداءَهُ لَفْظِيٌّ، والمُنادى عَلى الحَقِيقَةِ هو المَقْرُونُ بِألْ، ولَمّا قَصَدُوا تَأْكِيدَ التَّنْبِيهِ، وقَدَّرُوا تَكْرِيرَ حَرْفِ النِّداءِ، كَرِهُوا التَّكْرِيرَ، فَعَوَّضُوا عَنْ حَرْفِ النِّداءِ ثانِيًا (ها) وثالِثًا (ألْ)، وتَعَقَّبَهُ ابْنُ الشَّجَرِيِّ قائِلًا: إنَّ هَذا قَوْلٌ فاسِدٌ بَلِ اللّامُ هُناكَ لِتَعْرِيفِ الحُضُورِ، كالتَّعْرِيفِ في قَوْلِكَ: جاءَ هَذا الرَّجُلُ مَثَلًا، ولَكِنَّها لَمّا دَخَلَتْ عَلى اسْمِ المُخاطَبِ صارَ الحُكْمُ لِلْخِطابِ مِن حَيْثُ كانَ قَوْلُنا: يا أيُّها الرَّجُلُ مَعْناهُ: يا رَجُلُ، ولَمّا كانَ الرَّجُلُ هو المُخاطَبُ في المَعْنى، غَلَبَ حُكْمُ الخِطابِ، فاكْتَفى بِاثْنَيْنِ لِأنَّ أسْماءَ الخِطابِ لا تَفْتَقِرُ في تَعْرِيفِها إلى حُضُورِ ثالِثٍ، ألا تَرى أنَّ قَوْلَكَ: خَرَجْتُ يا هَذا، وانْطَلَقْتُ وأكْرَمْتُكَ، لا حاجَةَ بِهِ إلى ثالِثٍ، ولَيْسَ كُلُّ وُجُوهِ التَّعْرِيفِ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ بَيْنَ اثْنَيْنِ في ثالِثٍ، فَإنَّ ضَمِيرَ المُتَكَلِّمِ في أنا، خَرَجَتْ مُعَرَّفَةً إجْماعًا، ولا يَتَوَقَّفُ تَعْرِيفُهُ عَلى حُضُورِ ثالِثٍ، وأيْضًا ما قُصَّ مِن حَدِيثِ التَّعْوِيضِ يَسْتَدْعِي بِظاهِرِهِ أنْ يَكُونَ أصْلُ يا أيُّها الرَّجُلُ مَثَلًا، (يا أيُّ يا يا رَجُلُ)، وأنَّهم عَوَّضُوا مِن يا الثّانِيَةِ ها، ومِنَ الثّالِثَةِ الألِفَ واللّامَ، وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ هَذا مَعَ مُخالَفَتِهِ لِقَوْلِ الجَماعَةِ خُلْفٌ مِنَ القَوْلِ يَمُجُّهُ السَّمْعُ ويُنْكِرُهُ الطَّبْعُ فَلْيُفْهَمْ. (والنّاسُ) اسْمُ جَمْعٍ عَلى ما حَقَّقَهُ جَمْعٌ، والجُمُوعُ وأسْماؤُها المُحَلّاةُ بِالعُمُومِ حَيْثُ لا عَهْدٌ خارِجِيٌّ كَما يَدُلُّ عَلَيْهِ وُقُوعُ الِاسْتِثْناءِ، والأصْلُ فِيهِ الِاتِّصالُ، وهو يَقْتَضِي الدُّخُولَ يَقِينًا، ولا يُتَصَوَّرُ إلّا بِالعُمُومِ، ونَحْوُ: ضَرَبْتُ زَيْدًا إلّا رَأْسَهُ، وصُمْتُ رَمَضانَ إلّا عُشْرَهُ الأخِيرَ، عامٌّ تَأْوِيلًا، وكَذا التَّأْكِيدُ بِما يُفِيدُ العُمُومَ إذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ هُناكَ عُمُومٌ كانَ التَّأْكِيدُ تَأْسِيسًا، والِاتِّفاقُ عَلى خِلافِهِ، وشُيُوعُ اسْتِدْلالِ الصَّحابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم بِالعُمُومِ كَما في حَدِيثِ السَّقِيفَةِ، وهم أئِمَّةُ الهُدى، ثُمَّ هَذا الخِطابُ في نَحْوِ: يا أيُّها النّاسُ، يُسَمّى بِالخِطابِ الشِّفاهِيِّ عِنْدَ الأُصُولِيِّينَ، قالُوا: ولَيْسَ عامًّا لِمَن بَعْدَ المَوْجُودِينَ في زَمَنِ الوَحْيِ، أوْ لِمَن بَعْدَ الحاضِرِينَ مَهابِطَ الوَحْيِ، والأوَّلُ هو الوَجْهُ، وإنَّما يَثْبُتُ حُكْمُهُ لَهم بِدَلِيلٍ آخَرَ مِن نَصٍّ أوْ قِياسٍ أوْ إجْماعٍ، وأمّا بِمُجَرَّدِ الصِّيغَةِ فَلا، وقالَتِ الحَنابِلَةُ: بَلْ هو عامٌّ لِمَن بَعْدَهم إلى يَوْمِ القِيامَةِ، واسْتَدَلَّ الأوَّلُونَ بِأنّا نَعْلَمُ أنَّهُ لا يُقالُ لِلْمَعْدُومِينَ نَحْوُ يا أيُّها النّاسُ، قالَ العَضُدُ: وإنْكارُهُ مُكابَرَةٌ، وبِأنَّهُ امْتَنَعَ خِطابُ الصَّبِيِّ، والمَجْنُونُ بِنَحْوِهِ، وإذا لَمْ نُوَجِّهْهُ نَحْوَهم مَعَ وُجُودِهِمْ لِقُصُورِهِمْ عَنِ الخِطابِ فالمَعْدُومُ أجْدَرُ أنْ يُمْنَعَ، لِأنَّ تَناوُلَهُ أبْعَدُ، واسْتَدَلَّ الآخَرُونَ بِأنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنِ الرَّسُولُ ﷺ مُخاطِبًا بِهِ لِمَن بَعْدَهُمْ، لَمْ يَكُنْ مُرْسَلًا إلَيْهِمْ، واللّازِمُ مُنْتَفٍ، وبِأنَّهُ لَمْ يَزَلِ العُلَماءُ يَحْتَجُّونَ عَلى أهْلِ الأعْصارِ مِمَّنْ بَعْدَ الصَّحابَةِ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وهو إجْماعٌ عَلى العُمُومِ لَهم. وأُجِيبَ: أمّا عَنِ الأوَّلِ، فَبِأنَّ الرِّسالَةَ إنَّما تَسْتَدْعِي التَّبْلِيغَ في الجُمْلَةِ، وهو لا يَتَوَقَّفُ عَلى المُشافَهَةِ، بَلْ يَكْفِي فِيهِ حُصُولُهُ لِلْبَعْضِ شِفاهًا، ولِلْبَعْضِ بِنَصْبِ الدَّلائِلِ والأماراتِ، عَلى أنَّ حُكْمَهم حُكْمُ الَّذِينَ شافَهَهُمْ، وأمّا عَنِ الثّانِي فَبِأنَّهُ لا يَتَعَيَّنُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ لِتَناوُلِهِ لَهُمْ، بَلْ قَدْ يَكُونُ لِأنَّهم عَلِمُوا أنَّ حُكْمَهُ ثابِتٌ عَلَيْهِمْ بِدَلِيلٍ آخَرَ، قالَهُ غَيْرُ واحِدٍ. وفِي شَرْحِ العَلّامَةِ الثّانِي لِلشَّرْحِ العَضُدِيِّ، أنَّ القَوْلَ بِعُمُومِ الشِّفاهِيِّ وإنْ نُسِبَ إلى الحَنابِلَةِ لَيْسَ بِبَعِيدٍ، وقالَ بَعْضُ (p-184)أجِلَّةِ المُحَقِّقِينَ: إنَّهُ المَشْهُورُ، حَتّى قالُوا: إنَّ الحَقَّ أنَّ العُمُومَ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ مِنَ الدِّينِ المُحَمَّدِيِّ، وهو الأقْرَبُ، وقَوْلُ العَضُدِ: إنَّ إنْكارَهُ مُكابَرَةٌ حَقٌّ، لَوْ كانَ الخِطابُ لِلْمَعْدُومِينَ خاصَّةً، أمّا إذا كانَ لِلْمَوْجُودِينَ والمَعْدُومِينَ عَلى طَرِيقِ التَّغْلِيبِ، فَلا، ومِثْلُهُ فَصِيحٌ شائِعٌ، وكُلُّ ما اسْتَدَلَّ بِهِ عَلى خِلافِهِ ضَعِيفٌ انْتَهى، وإلى العُمُومِ ذَهَبَ كَثِيرٌ مِنَ الشّافِعِيَّةِ عَلى أنَّهُ عِنْدَهم عامٌّ، بِحاقِّ لَفْظِهِ ومَنطُوقِهِ مِن غَيْرِ احْتِياجٍ إلى دَلِيلٍ آخَرَ، وقَدْ قِيلَ: إنَّهُ مِن قَبِيلِ الخِطابِ العامِّ الَّذِي أُجْرِيَ عَلى غَيْرِ ظاهِرِهِ كَما في قَوْلِهِ: ؎إذا أنْتَ أكْرَمْتَ الكَرِيمَ مَلَكْتَهُ ∗∗∗ وإنْ أنْتَ أكْرَمْتَ اللَّئِيمَ تَمَرَّدا هَذا، وعَلى كُلِّ حالٍ ما رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وعَلْقَمَةَ مِن أنَّ كُلَّ شَيْءٍ نَزَلَ فِيهِ: يا أيُّها النّاسُ، مَكِّيٌّ، ويا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا، مَدَنِيٌّ، إنَّ صَحَّ، ولَمْ يُؤَوَّلْ، لا يُوجِبُ تَخْصِيصَ هَذا العامِّ بِوَجْهٍ بِالكُفّارِ، بَلْ هم أيْضًا داخِلُونَ فِيهِ، ومَأْمُورُونَ بِأداءِ العِبادَةِ كالِاعْتِقادِ، والأمْرُ بِالشَّيْءِ أمْرٌ بِما لا يَتِمُّ إلّا بِهِ، وكَوْنُ الإيمانِ أصْلَ العِباداتِ، ولَوْ وجَبَ بِوُجُوبِها انْقَلَبَ الأصْلُ تَبَعًا، مَرْدُودٌ بِأنَّ الأصالَةَ بِحَسَبِ الصِّحَّةِ لا تُنافِي التَّبَعِيَّةَ في الوُجُوبِ، عَلى أنَّهُ واجِبٌ اسْتِقْلالًا أيْضًا، والعَجَبُ كَيْفَ خَفِيَ عَلى مَشايِخِ سَمَرْقَنْدَ ! وهَذا ما ذَهَبَ إلَيْهِ العِراقِيُّونَ، والشّافِعِيَّةُ، ويُؤَيِّدُهُ ظَواهِرُ الآياتِ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ووَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ﴾ ﴿الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ﴾ وقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿ما سَلَكَكم في سَقَرَ﴾ ﴿قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ المُصَلِّينَ﴾ ﴿ولَمْ نَكُ نُطْعِمُ المِسْكِينَ﴾ وذَهَبَ البُخارِيُّونَ إلى أنَّهم مُكَلَّفُونَ في حَقِّ الِاعْتِقادِ فَقَطْ، وأبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ لَمْ يَنُصَّ ظاهِرًا عَلى شَيْءٍ في المَسْألَةِ، لَكِنْ في كَلامِ صاحِبِهِ الثّانِي ما يَدُلُّ عَلَيْها، ولَعَلَّ ذَلِكَ مِنَ الإمامِ، لِأنَّهُ لا ثَمَرَةَ لِلْخِلافِ في الدُّنْيا، لِلِاتِّفاقِ عَلى أنَّهم ما دامُوا كُفّارًا يَمْتَنِعُ مِنهُمُ الإقْدامُ عَلَيْها، ولا يُؤْمَرُونَ بِها، وإذا أسْلَمُوا لَمْ يَجِبْ قَضاؤُها عَلَيْهِمْ، وإنَّما ثَمَرَتُهُ في الآخِرَةِ، وهو أنَّهم يُعَذَّبُونَ عَلى تَرْكِها، كَما يُعَذَّبُونَ عَلى تَرْكِ الإيمانِ عِنْدَ مَن قالَ بِوُجُوبِها عَلَيْهِمْ، وعَلى تَرْكِ الإيمانِ فَقَطْ عِنْدَ مَن لَمْ يَقُلْ، وهَذا في غَيْرِ العُقُوباتِ والمُعامَلاتِ، أمّا هي فَمُتَّفَقٌ عَلى خِطابِهِمْ بِها، والأمْرُ بِالعِبادَةِ هُنا لِلطَّوائِفِ الثَّلاثِ بِاعْتِبارِ أنَّ المُرادَ بِها الشّامِلُ لِإيجادِ أصْلِها، والزِّيادَةُ والثَّباتُ، (فاعْبُدُوا) يَدُلُّ عَلى طَلَبٍ في الحالِ لِعِبادَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ، وهي مِنَ الكُفّارِ ابْتِداءً عِبادَةٌ، ومِن بَعْضِ المُؤْمِنِينَ زِيادَةٌ، ومِن آخَرِينَ مُواظَبَةٌ، ولَيْسَ الِابْتِداءُ والزِّيادَةُ والمُواظَبَةُ داخِلًا في المَفْهُومِ وضْعًا، فَلا مَحْذُورَ في شَيْءٍ أصْلًا خِلافًا لِمَن تَوَهَّمَهُ، فَتَكَلَّفَ في دَفْعِهِ، وذَكَرَ سُبْحانَهُ الرَّبَّ لِيُشِيرَ إلى أنَّ المُوجِبَ القَرِيبَ لِلْعِبادَةِ هي نِعْمَةُ التَّرْبِيَةِ، وإنْ كانَتْ عِبادَةُ الكامِلِينَ لِذاتِهِ تَعالى مِن غَيْرِ واسِطَةٍ أصْلًا، سِوى أنَّهُ هو هُوَ، فَسُبْحانَهُ مِن إلَهٍ، ما أعْظَمَهُ، ومِن رَبٍّ ما أكْرَمَهُ. ﴿الَّذِي خَلَقَكم والَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ﴾ المَوْصُولُ صِفَةٌ مادِحَةٌ لِلرَّبِّ، وفِيها أيْضًا تَعْلِيلُ العِبادَةِ، أوِ الرُّبُوبِيَّةِ عَلى ما قِيلَ، فَإنْ كانَ الخِطابُ في (رَبِّكُمْ) شامِلًا لِلْفِرَقِ الثَّلاثِ، فَذاكَ، وإنْ خُصَّ بِالمُشْرِكِينَ، وأُرِيدَ بِالرَّبِّ ما تُعُورِفَ بَيْنَهم مِن إطْلاقِهِ عَلى غَيْرِهِ تَعالى احْتَمَلَ أنْ تَكُونَ مُقَيِّدَةً إنْ حُمِلَتِ الإضافَةُ عَلى الجِنْسِ، ومُوَضِّحَةً إنْ حُمِلَتْ عَلى العَهْدِ، ولا يَبْعُدُ عَلى هَذا أنْ تَكُونَ مادِحَةً لِأنَّ المُطْلَقَ يَتَبادَرُ مِنهُ رَبُّ الأرْبابِ، إلّا أنَّ جَعْلَها لِلتَّقْيِيدِ والتَّوْضِيحِ أظْهَرُ بِناءً عَلى ما كانُوا فِيهِ، وتَعْرِيضًا بِما كانُوا عَلَيْهِ، ولِأنَّهُ الأصْلُ، فَلا يُتْرَكُ إلّا بِدَلِيلٍ، والخَلْقُ الِاخْتِراعُ بِلا مِثالٍ، ويَكُونُ بِمَعْنى التَّقْدِيرِ، وعَلى الأوَّلِ لا يَتَّصِفُ بِهِ سِواهُ سُبْحانَهُ، وعَلى الثّانِي قَدْ يَتَّصِفُ بِهِ غَيْرُهُ، ومِنهُ ﴿فَتَبارَكَ اللَّهُ أحْسَنُ الخالِقِينَ﴾ ﴿وإذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ﴾ وقَوْلُ زُهَيْرٍ: ؎ولَأنْتَ تَفْرِي ما خَلَقْتَ وبَعْـ ∗∗∗ ضُ القَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لا يَفْرِي ومِنَ العَجَبِ أنَّ أبا عَبْدِ اللَّهِ البَصْرِيَّ أُسْتاذَ القاضِي عَبْدِ الجَبّارِ قالَ: إطْلاقُ الخالِقِ عَلَيْهِ تَعالى مُحالٌ، لِأنَّ التَّقْدِيرَ (p-185)يَسْتَدْعِي الفِكْرَ والحُسْبانَ، وهي مَسْألَةٌ خِلافِيَّةٌ بَيْنَهُ وبَيْنَ اللَّهِ تَعالى القائِلِ: ”هو الخالِقُ البارئ“ وبِقَوْلِ اللَّهِ تَعالى أقُولُ، والمَوْصُولُ الثّانِي عَطْفٌ عَلى المَنصُوبِ في (خَلَقَكُمْ)، وقَبْلُ، ظَرْفُ زَمانٍ بِكَثْرَةٍ، ومَكانٍ بِقِلَّةٍ، ويُتَجَوَّزُ بِها عَنِ التَّقَدُّمِ بِالشَّرَفِ والرُّتْبَةِ، والخِطابُ إنْ شَمِلَ المُؤْمِنِينَ وغَيْرَهُمْ، فالمُرادُ بِالَّذِينِ قَبْلَهم مَن تَقَدَّمَهم في الوُجُودِ، ومَن هو مَوْجُودٌ، وهو أعْلى مَنزِلَةً مِنهُمْ، وفي هَذا تَذْكِيرٌ لِكَمالِ جَلالِ اللَّهِ تَعالى ورُبُوبِيَّتِهِ، وفِيهِ مِن تَأْكِيدِ أمْرِ العِبادَةِ ما لا يَخْفى، وقَدَّمَ سُبْحانَهُ التَّنْبِيهَ عَلى خَلْقِهِمْ، وإنْ كانَ مُتَأخِّرًا بِالزَّمانِ لِأنَّ عِلْمَ الإنْسانِ بِأحْوالِ نَفْسِهِ أظْهَرُ، ولِأنَّهُمُ المُواجَهُونَ بِالأمْرِ بِالعِبادَةِ، فَتَنْبِيهُهم أوَّلًا عَلى أنْفُسِهِمْ آكَدُ، وأهَمُّ، وأتى بِالخَلْقِ صِلَةً والصِّلاتُ لا بُدَّ مِن كَوْنِها مَعْلُومَةَ الِانْتِسابِ عِنْدَ المُخاطَبِ، ولِذا يُعْرَفُ المَوْصُولُ عِنْدَهُ بِما فِيها مِنَ العَهْدِ، واشْتُرِطَتْ خَبَرِيَّتُها إشارَةً إلى أنَّهُ لَيْسَ في المُخاطَبِينَ مَن يُنْكِرُ كَوْنَ الخالِقِ هو اللَّهُ تَعالى، ﴿ولَئِنْ سَألْتَهم مَن خَلَقَهُمْ﴾ أوْ ﴿مَن خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ وانْفِهامُ ذَلِكَ مِنَ الوَصْفِ بِناءً عَلى ما قالُوا، الإخْبارُ بَعْدَ العِلْمِ بِها أوْصافٌ، والأوْصافُ قَبْلَ العِلْمِ بِها إخْبارٌ مِمّا قالَهُ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ، وإنْ كانَ هُناكَ مَن لا يَعْلَمُ أنَّ اللَّهَ تَعالى خالِقُهُ وخالِقُ مَن قَبْلَهُ احْتِيجَ إلى ادِّعاءِ التَّغْلِيبِ أوْ تَنْزِيلِ غَيْرِ العالِمِ مَنزِلَةَ العالِمِ، لِوُضُوحِ البَراهِينِ، فَتَخْرُجُ الجُمْلَةُ مَخْرَجَ المَعْلُومِ عَلى خِلافِ مُقْتَضى الظّاهِرِ، وقَرَأ ابْنُ السَّمَيْقَعِ (وخَلَقَ مَن قَبْلَكُمْ) وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما (والَّذِينَ مَن قَبْلَكُمْ) بِفَتْحِ المِيمِ، واسْتُشْكِلَ لِتَوالِي مَوْصُولَيْنِ، والصِّلَةُ واحِدَةٌ، وخُرِّجَتْ عَلى جَعْلِ (مَن) تَأْكِيدًا (لِلَّذِينِ)، فَلا يَحْتاجُ إلى صِلَةٍ نَحْوَ قَوْلِهِ: ؎مَنِ النَّفَرُ اللّائِي الَّذِينَ إذا هم ∗∗∗ تَهابُ اللِّئامُ حَلْقَةَ البابِ قَعْقَعُوا واعْتُرِضَ بِأنَّ الحَرْفَ لا يُؤَكَّدُ بِدُونِ إعادَةِ ما اتَّصَلَ بِهِ، فالمَوْصُولُ أوْلى بِذَلِكَ، إذْ يَكادُ أنْ يَكُونَ تَأْكِيدُهُ كَتَأْكِيدِ بَعْضِ الِاسْمِ، فَمَن حِينَئِذٍ مَوْصُولَةٌ، أوْ مَوْصُوفَةٌ، وهي خَبَرُ مُبْتَدَإٍ مُقَدَّرٍ، وما بَعْدَها صِلَةٌ أوْ صِفَةٌ، وهي مَعَ المُقَدَّرِ صِلَةُ المَوْصُولِ الأوَّلِ، ويَكُونُ عَلى أحَدِ الِاحْتِمالَيْنِ نَظِيرُ: فَقُلْتُ وأنْكَرْتُ الوُجُوهَ هُمُ هُمُ. وتَخْرِيجُ البَيْتِ عَلى نَحْوِ هَذا وقِيلَ: (مَن)، زائِدَةٌ، وقَدْ أجازَ بَعْضُ النُّحاةِ زِيادَةَ الأسْماءِ، والكِسائِيُّ زِيادَةَ (مَنِ) المَوْصُولَةِ، وجَعَلَ مِن ذَلِكَ: ؎وكَفى بِنا فَضْلًا عَلى مَن غَيْرِنا ∗∗∗ حُبُّ النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ إيّانا وبَعْضُهُمُ اسْتَشْكَلَ القِراءَةَ المَشْهُورَةَ أيْضًا بِأنَّ الَّذِينَ أعْيانٌ، و﴿مِن قَبْلِكُمْ﴾، ناقِصٌ لَيْسَ في الإخْبارِ بِهِ عَنْها فائِدَةٌ، فَكَذَلِكَ الوَصْلُ بِهِ إلّا عَلى تَأْوِيلٍ، وتَأْوِيلُهُ أنَّ ظَرْفَ الزَّمانِ إذا وُصِفَ لَفْظًا، أوْ تَقْدِيرًا مَعَ القَرِينَةِ صَحَّ الإخْبارُ، والوَصْلُ بِهِ، تَقُولُ نَحْنُ في يَوْمٍ طَيِّبٍ، وما هُنا في تَقْدِيرِ: والَّذِينَ كانُوا مِن زَمانٍ قَبْلَ زَمانِكُمْ، وقَدَّرَ أبُو البَقاءِ: والَّذِينَ خَلَقَهم مِن قَبْلِ خَلْقِكُمْ، فَحُذِفَ الفِعْلُ الَّذِي هو صِلَةٌ، وأُقِيمَ مُتَعَلِّقُهُ مَقامَهُ فَتَدَبَّرْ، ﴿لَعَلَّكم تَتَّقُونَ﴾ لَعَلَّ في المَشْهُورِ مَوْضُوعَةٌ لِلتَّرَجِّي، وهو الطَّمَعُ في حُصُولِ أمْرٍ مَحْبُوبٍ مُمْكِنِ الوُقُوعِ، والإشْفاقُ وهو تَوَقُّعُ مَخُوفٍ مُمْكِنٍ، والظّاهِرُ التَّقابُلُ، فَتَكُونُ مُشْتَرَكَةً، وذَكَرَ الرَّضِيُّ أنَّها لِلتَّرَجِّي، وهو ارْتِقابُ شَيْءٍ لا وُثُوقَ بِحُصُولِهِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الطَّمَعُ والإشْفاقُ، والَّذِي يَمِيلُ إلَيْهِ القَلْبُ ما ذَكَرَهُ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ، إنَّها لِإنْشاءِ تَوَقُّعِ أمْرٍ مُتَرَدِّدٍ بَيْنَ الوُقُوعِ وعَدَمِهِ مَعَ رُجْحانِ الأوَّلِ، إمّا مَحْبُوبٌ فَيُسَمّى رَجاءً، أوْ مَكْرُوهٌ فَيُسَمّى إشْفاقًا، وذَلِكَ قَدْ يُعْتَبَرُ تَحَقُّقُهُ بِالفِعْلِ، إمّا مِن جِهَةِ المُتَكَلِّمِ وهو الشّائِعُ، لِأنَّ مَعانِيَ الإنْشاءاتِ قائِمَةٌ بِهِ، وإمّا مِن جِهَةِ المُخاطَبِ تَنْزِيلًا لَهُ مَنزِلَةَ المُتَكَلِّمِ في التَّلَبُّسِ التّامِّ بِالكَلامِ الجارِي بَيْنَهُما، ومِنهُ ﴿لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أوْ يَخْشى﴾ وقَدْ يُعْتَبَرُ تَحَقُّقُهُ بِالقُوَّةِ بِضَرْبٍ مِنَ التَّجَوُّزِ إيذانًا بِأنَّ ذَلِكَ الأمْرَ في نَفْسِهِ مَئِنَّةٌ لِلتَّوَقُّعِ مُتَّصِفٌ بِحَيْثِيَّةٍ مُصَحِّحَةٍ لَهُ مِن غَيْرِ أنْ يُعْتَبَرَ هُناكَ تَوَقُّعٌ بِالفِعْلِ مِن مُتَوَقِّعٍ أصْلًا، فَفي الآيَةِ الكَرِيمَةِ إنْ جَعَلْتَ الجُمْلَةَ حالًا (p-186)مِن مَفْعُولِ (خَلَقَكُمْ) وما عُطِفَ عَلَيْهِ بِطَرِيقِ تَغْلِيبِ المُخاطَبِينَ عَلى الغائِبِينَ، لِأنَّهُمُ المَأْمُورُونَ بِالعِبادَةِ امْتَنَعَ حَمْلُ لَعَلَّ عَلى حَقِيقَتِها لا بِالنَّظَرِ إلى المُتَكَلِّمِ لِاسْتِحالَةِ التَّرَجِّي عَلى عالِمِ الغَيْبِ والشَّهادَةِ الفاعِلِ لِما يَشاءُ، ولا بِالنَّظَرِ إلى المُخاطَبِينَ لِأنَّهم حِينَ الخَلْقِ لَمْ يَكُونُوا عالِمِينَ، فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ الرَّجاءُ مِنهُمْ؟! ولا يَجُوزُ جَعْلُها حالًا مُقَدَّرَةً لِأنَّ المُقَدَّرَ حالَ الخَلْقِ التَّقْوى لا رَجاؤُها، فَلا بُدَّ أنْ يُحْمَلَ عَلى المَعْنى المَجازِيِّ بِأنْ يُشَبِّهَ طَلَبَ التَّقْوى مِنهم بَعْدَ اجْتِماعِ أسْبابِهِ ودَواعِيهِ بِالتَّرَجِّي في أنَّ مُتَعَلِّقَ كُلِّ واحِدٍ مِنهُما مُخَيَّرٌ بَيْنَ أنْ يَفْعَلَ وأنْ لا يَفْعَلَ مَعَ رُجْحانِ ما بِجانِبِ الفِعْلِ، فَيَسْتَعْمِلُ كَلِمَةَ لَعَلَّ المَوْضُوعَ لَهُ فِيهِ، فَيَكُونُ اسْتِعارَةً تَبَعِيَّةً أوْ تُشَبُّهُ صُورَةٌ مُنْتَزَعَةٌ مِن حالِ خالِقِهِمْ بِالقِياسِ إلَيْهِمْ بَعْدَ أنْ مَكَّنَهم عَلى التَّقْوى، وتَرَكَها مَعَ رُجْحانِها مِنهم بِحالِ المُرْتَجِي بِالقِياسِ إلى المُرْتَجى مِنهُ القادِرِ عَلى المُرْتَجى وتَرْكِهِ مَعَ رُجْحانِ وُجُودِهِ، فَيَكُونُ اسْتِعارَةً تَمْثِيلِيَّةً، إلّا أنَّهُ ذَكَرَ مِنَ المُشَبَّهِ بِهِ ما هو العُمْدَةُ فِيهِ أعْنِي كَلِمَةَ لَعَلَّ، أوْ تُشَبَّهَ ذَواتُهم بِمَن يُرْجى مِنهُ التَّقْوى فَيُثْبِتُ لَهُ بَعْضَ لَوازِمِهِ أعْنِي الرَّجاءَ فَيَكُونُ اسْتِعارَةً بِالكِنايَةِ، وجَعْلُ المُشَبَّهِ إرادَتَهُ تَعالى في الِاسْتِعارَةِ والتَّمْثِيلِ نَزْغَةٌ اعْتِزالِيَّةٌ مُؤَسَّسَةٌ عَلى القاعِدَةِ القائِلَةِ بِجَوازِ تَخَلُّفِ المُرادِ عَنْ إرادَتِهِ تَعالى شَأْنُهُ، وبَعْضُهم قالَ بِالتَّرَجِّي هُنا إلّا أنَّهُ لَيْسَ مِنَ المُتَكَلِّمِ، ولا مِنَ المُخاطَبِ، بَلْ مِن غَيْرِهِما، كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إلَيْكَ﴾ لِأنَّهُ لَمّا وُلِدَ كُلُّ مَوْلُودٍ عَلى الفِطْرَةِ كانَ بِحَيْثُ إنَّ تَأمُّلَهُ مُتَأمَّلٌ تُوُقِّعَ مِنهُ رَجاءَ أنْ يَكُونَ مُتَّقِيًا، ولَيْسَ بِالبَعِيدِ، وإنْ جُعِلَتْ حالًا مِن فاعِلِ (خَلَقَكُمُ) امْتَنَعَتِ الحَقِيقَةُ أيْضًا، وتَعَيَّنَتْ بَعْضُ الوُجُوهِ، وإنْ جُعِلَتْ حالًا مِن ضَمِيرِ (اعْبُدُوا) جازَ إبْقاءُ التَّرَجِّي عَلى حَقِيقَتِهِ مَصْرُوفًا إلى المُخاطَبِينَ، أيْ راجِينَ التَّقْوى، والمُرادُ بِها حِينَئِذٍ مُنْتَهى دَرَجاتِ السّالِكِينَ، وهو طَرْحُ الهَوى، ونَبْذُ السِّوى، والفَوْزُ بِالمَحْبُوبِ الأعْلى، وفي ذَلِكَ غايَةُ المُبْتَغى، والعُرُوجُ فَوْقَ سِدْرَةِ المُنْتَهى، وقَدْ شاعَ ذَلِكَ عِنْدَ الأقْصى، والأدْنى، وبِذَلِكَ يَصِحُّ التَّرْغِيبُ ويَنْدَفِعُ ما قِيلَ: إنَّ اللّائِقَ بِالبَلاغَةِ القُرْآنِيَّةِ أنْ يُعْتَبَرَ مِن أوَّلِ الأمْرِ غايَةُ عِبادَتِهِمْ، وما هو لَذَّةٌ لَهم أعْنِي الثَّوابَ، لا ما يَشُقُّ عَلَيْهِمْ، وهو التَّقْوى، وإنْ كانَ مُفْضِيًا إلَيْهِ، ووَجْهُ الدَّفْعِ ظاهِرٌ، وما قالَهُ المَوْلى التَّفْتازانِيُّ مِن أنَّ تَقْيِيدَ العِبادَةِ بِتَرَجِّي التَّقْوى لَيْسَ لَهُ كَثِيرُ مَعْنًى، إنَّما المُناسِبُ تَقْيِيدُها بِالتَّقْوى، أوِ اقْتِرانُها بِرَجاءِ ثَوابِها، يَدْفَعُهُ أنَّ في التَّرَجِّي تَنْبِيهًا عَلى أنَّ العابِدَ يَنْبَغِي أنْ لا يَفْتَرِقَ في عِبادَتِهِ، ويَكُونَ ذا خَوْفٍ ورَجاءٍ، نَعَمْ قالُوا: الحالُ قَيْدٌ لِعامِلِها، وهو هُنا الأمْرُ، فَإنْ قُلْنا: إنَّهُ أعَمُّ مِنَ الوُجُوبِ، فَلا إشْكالَ، وإنْ قُلْنا: إنَّهُ حَقِيقَةٌ في الوُجُوبِ، اقْتَضى وُجُوبَ الرَّجاءِ المُقَيَّدِ بِهِ العِبادَةُ المَأْمُورُ بِها، ولَعَلَّهُ لَيْسَ بِواجِبٍ، والقَوْلُ بِأنَّهُ يَقْتَضِي وُجُوبَ المُقَيِّدِ دُونَ القَيْدِ فِيهِ كَلامٌ في الأُصُولِ لا يَخْفى عَلى ذَوِيِهِ، وما أوْرَدَ مِن أنَّهُ يَلْزَمُ عَلى هَذا الوَجْهِ التَّوَسُّطُ بَيْنَ العَصا ولِحائِها، فَإنَّ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَوْصُولٌ بِرَبِّكم صِفَةٌ لَهُ، يُجابُ عَنْهُ بِأنَّ القَطْعَ يُهَوِّنُ الفَصْلَ، وإنْ كانَ هُناكَ اتِّصالٌ مَعْنَوِيٌّ، وإنْ جَعَلَ (الَّذِي جَعَلَ) مُبْتَدَأً خَبَرُهُ (لا تَجْعَلُوا) كادَ يَزُولُ الإشْكالُ، ويَرْتَفِعُ المَقالُ، ومَعَ هَذا لا شَكَّ في مَرْجُوحِيَّةِ هَذا الوَجْهِ، وإنْ أشْعَرَ كَلامُ مَوْلانا البَيْضاوِيِّ بِأرْجَحِيَّتِهِ، ثُمَّ لا يَبْعُدُ أنْ يُقالَ: إنَّ المَعْنى في الآيَةِ عَلى التَّعْلِيلِ، إمّا لِأنَّ لَعَلَّ تَجِيءُ بِمَعْنى كَيْ، كَما ذَهَبَ إلَيْهِ ابْنُ الأنْبارِيِّ وغَيْرُهُ، واسْتَشْهَدُوا بِقَوْلِهِ: ؎فَقُلْتُمْ لَنا كُفُّوا الحُرُوبَ لَعَلَّنا ∗∗∗ نَكُفُّ ووَثَّقْتُمْ لَنا كُلَّ مَوْثِقِ أوْ لِأنَّها لِلْأطْماعِ، فَيُكَنّى بِهِ بِقَرِينَةِ المَقامِ عَنْ تَحَقُّقِ ما بَعْدَها عَلى عادَةِ الكُبَراءِ، ثُمَّ يُتَجَوَّزُ بِهِ عَنْ كُلِّ مُتَحَقِّقٍ (p-187)كَتَحَقُّقِ العِلَّةِ، سَواءٌ كانَ مَعَهُ أطْماعٌ أمْ لا، عَلى ما قِيلَ، ولا يَرِدُ أنَّ تَعْلِيلَ الخَلْقِ وهو فِعْلُهُ تَعالى مِمّا لَمْ يُجَوِّزْهُ أكْثَرُ الأشاعِرَةِ، حَيْثُ مَنَعُوا تَعْلِيلَ أفْعالِهِ سُبْحانَهُ بِالأغْراضِ، لِئَلّا يَلْزَمَ اسْتِكْمالُهُ عَزَّ شَأْنُهُ بِالغَيْرِ، وهو مُحالٌ، لِأنّا نَقُولُ: الحَقُّ الَّذِي لا مَحِيصَ عَنْهُ أنَّ أفْعالَهُ تَعالى مُعَلَّلَةٌ بِمَصالِحِ العِبادِ، مَعَ أنَّهُ سُبْحانَهُ لا يَجِبُ عَلَيْهِ الأصْلَحُ، ومَن أنْكَرَ تَعْلِيلَ بَعْضِ الأفْعالِ لا سِيَّما الأحْكامُ الشَّرْعِيَّةُ كالحُدُودِ، فَقَدْ كادَ أنْ يُنْكِرَ النُّبُوَّةَ كَما قالَهُ مَوْلانا صَدْرُ الشَّرِيعَةِ، والوُقُوفُ عَلى ذَلِكَ في كُلِّ مَحَلٍّ مِمّا لا يَلْزَمُ، عَلى أنَّ بَعْضَهم يَجْعَلُ الخِلافَ في المَسْألَةِ لَفْظِيًّا، لِأنَّ العِلَّةَ إنْ فُسِّرَتْ بِما يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ ويَسْتَكْمِلُ بِهِ الفاعِلُ امْتَنَعَ ذَلِكَ في حَقِّهِ سُبْحانَهُ، وإنْ فُسِّرَتْ بِالحِكْمَةِ المُقْتَضِيَةِ لِلْفِعْلِ ظاهِرًا مَعَ الغِنى الذّاتِيِّ فَلا شُبْهَةَ في وُقُوعِها ولا يُنْكِرُ ذَلِكَ إلّا جَهُولٌ أوْ مُعانِدٌ، وإنَّما لَمْ يَقُلْ سُبْحانَهُ في النَّظْمِ (تَعْبُدُونَ)، لِأجْلِ (اعْبُدُوا)، أوِ (اتَّقُوا) لِأجْلِ (تَتَّقُونَ)، لِيَتَجاوَبَ طَرَفاهُ مَعَ اشْتِمالِهِ عَلى صَنْعَةٍ بَدِيعَةٍ مِن رَدِّ العَجُزِ عَلى الصَّدْرِ، لِأنَّ التَّقْوى قُصارى أمْرِ العابِدِ، فَيَكُونُ الكَلامُ أبْعَثَ عَلى العِبادَةِ، وأشَدَّ إلْزامًا، كَذا قِيلَ، وفي القَلْبِ مِنهُ شَيْءٌ، وسَبَبُ حَذْفِ مَفْعُولِ (تَتَّقُونَ) مِمّا لا يَخْفى، وابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ يُقَدِّرُهُ الشِّرْكَ، والضَّحّاكُ النّارَ، وأظُنُّكَ لا تُقَدِّرُ شَيْئًا، ولَمّا أمَرَ سُبْحانَهُ المُكَلَّفِينَ بِعِبادَةِ الرَّبِّ الواجِدِ لَهُمْ، ووَصَفَهُ بِما وصَفَهُ، ومَعْلُومٌ أنَّ الصِّفَةَ آلَةٌ لِتَمْيِيزِ المَوْصُوفِ عَمّا عَداهُ، وأنَّ تَعْلِيقَ الحُكْمِ بِالوَصْفِ مُشْعِرٌ بِالعِلِّيَّةِ، أشْعَرَتِ الآيَةُ أنَّ طَرِيقَ مَعْرِفَتِهِ تَعالى والعِلْمِ بِوَحْدانِيَّتِهِ واسْتِحْقاقِهِ العِبادَةَ النَّظَرُ في صُنْعِهِ، ولَمّا كانَ التَّرْبِيَةُ والخَلْقُ اللَّذانِ نِيطَ بِهِما العِبادَةُ سابِقَيْنِ عَلى طَلَبِها، فُهِمَ أنَّ العَبْدَ لا يَسْتَحِقُّ ثَوابًا حَيْثُ أُنْعِمَ عَلَيْهِ قَبْلَ العِبادَةِ بِما لا يُحْصى، مِمّا لا تَفِي الطّاقَةُ البَشَرِيَّةُ بِشُكْرِهِ، ولا تُقاوِمُ عِبادَتُهُ عُشْرَ عُشْرِهِ، واسْتَدَلَّ بِالآيَةِ مَن زَعَمَ أنَّ التَّكْلِيفَ بِالمُحالِ واقِعٌ حَيْثُ أمَرَ سُبْحانَهُ بِعِبادَتِهِ مَن آمَنَ بِهِ ومَن كَفَرَ، بَعْدَ إخْبارِهِ عَنْهم أنَّهم لا يُؤْمِنُونَ، وأنَّهم عَنْ ضَلالَتِهِمْ لا يَرْجِعُونَ، وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ في ذَلِكَ، فارْجِعْ إلَيْهِ،
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب