الباحث القرآني

﴿واقْتُلُوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ أيْ: وجَدْتُمُوهم كَما قالَ ابْنُ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما - حِينَ سَألَهُ نافِعُ بْنُ الأزْرَقِ، وأنْشَدَ عَلَيْهِ قَوْلَ حَسّانَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ -: ؎فَإمّا يَثْقَفَنَّ بَنِي لُوَيٍّ جَذِيمَةُ إنَّ قَتْلَهُمُ دَواءُ وأصْلُ الثَّقَفِ الحَذَقُ في إدْراكِ الشَّيْءِ، عَمَلًا كانَ أوْ عِلْمًا، ويُسْتَعْمَلُ كَثِيرًا في مُطْلَقِ الإدْراكِ، والفِعْلُ مِنهُ ثَقَفَ كَكَرَمَ وفَرِحَ، ﴿وأخْرِجُوهم مِن حَيْثُ أخْرَجُوكُمْ﴾ أيْ: مَكَّةَ، وقَدْ فُعِلَ بِهِمْ ذَلِكَ عامَ الفَتْحِ، وهَذا الأمْرُ مَعْطُوفٌ عَلى سابِقِهِ، والمُرادُ: افْعَلُوا كُلَّ ما يَتَيَسَّرُ لَكم مِن هَذَيْنَ الأمْرَيْنِ في حَقِّ المُشْرِكِينَ، فانْدَفَعَ ما قِيلَ: إنَّ الأمْرَ بِالإخْراجِ لا يُجامِعُ الأمْرَ بِالقَتْلِ، فَإنَّ القَتْلَ والإخْراجَ لا يَجْتَمِعانِ، ولا حاجَةَ إلى ما تُكُلِّفَ مِن أنَّ المُرادَ إخْراجُ مَن دَخَلَ في الأمانِ أوْ وجَدُوهُ بِالأمانِ، كَما لا يَخْفى، ﴿والفِتْنَةُ أشَدُّ مِنَ القَتْلِ﴾ أيْ: شِرْكُهم في الحَرَمِ أشَدُّ قُبْحًا، فَلا تُبالُوا بِقِتالِهِمْ فِيهِ؛ لِأنَّهُ ارْتِكابُ القَبِيحِ لِدَفْعِ الأقْبَحِ، فَهو مُرَخَّصٌ لَكم ويُكَفَّرُ عَنْكُمْ، أوِ المِحْنَةُ الَّتِي يَفْتَتِنُ بِها الإنْسانُ كالإخْراجِ مِنَ الوَطَنِ المُحَبَّبِ لِلطِّباعِ السَّلِيمَةِ أصْعَبُ مِنَ القَتْلِ؛ لِدَوامِ تَعَبِها وتَألُّمِ النَّفْسِ بِها، ومِن هُنا قِيلَ: لَقَتْلٌ بِحَدِّ سَيْفٍ أهْوَنُ مَوْقِعًا عَلى النَّفْسِ مِن قَتْلٍ بِحَدِّ فِراقِوا لْجُمْلَةُ عَلى الأوَّلِ مِن بابِ التَّكَمُّلِ والِاحْتِراسِ لِقَوْلِهِ تَعالى: ( واقْتِلُوهم ) إلَخْ عَنْ تَوَهُّمِ أنَّ القِتالَ في الحَرَمِ قَبِيحٌ، فَكَيْفَ يُؤْمَرُ بِهِ، وعَلى الثّانِي تَذْيِيلٌ لِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿وأخْرِجُوهُمْ﴾ إلَخْ لِبَيانِ حالِ الإخْراجِ والتَّرْغِيبِ فِيهِ، وأصْلُ الفِتْنَةِ عَرْضُ الذَّهَبِ عَلى النّارِ لِاسْتِخْلاصِهِ مِنَ الغِشِّ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَ في الِابْتِلاءِ والعَذابِ والصَّدِّ عَنْ دِينِ اللَّهِ والشِّرْكِ بِهِ، وبِالأخِيرِ فَسَّرَها أبُو العالِيَةِ في الآيَةِ. ﴿ولا تُقاتِلُوهم عِنْدَ المَسْجِدِ الحَرامِ حَتّى يُقاتِلُوكم فِيهِ﴾ نَهْيٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أنْ يَبْدَءُوا القِتالَ في ذَلِكَ المَوْطِنِ الشَّرِيفِ حَتّى يَكُونَ هُمُ الَّذِينَ يُبْدَءُونَ، فالنَّهْيُ عَنِ المُقاتَلَةِ الَّتِي هي فِعْلُ اثْنَيْنَ بِاعْتِبارِ نَهْيِهِمْ عَنْ الِابْتِداءِ بِها الَّذِي يَكُونُ سَبَبًا لِحُصُولِها، وكَذا كَوْنُها غايَةً بِاعْتِبارِ المُفاتَحَةِ؛ لِئَلّا يَلْزَمَ كَوْنُ الشَّيْءِ غايَةً لِنَفْسِهِ. ﴿فَإنْ قاتَلُوكم فاقْتُلُوهُمْ﴾ نَفْيٌ لِلْحَرَجِ عَنِ القِتالِ في الحَرَمِ الَّذِي خافَ مِنهُ المُسْلِمُونَ وكَرِهُوهُ؛ أيْ: إنْ قاتَلُوكم هُناكَ فَلا تُبالُوا بِقِتالِهِمْ؛ لِأنَّهُمُ الَّذِينَ هَتَكُوا الحُرْمَةَ، وأنْتُمْ في قِتالِهِمْ دافِعُونَ القَتْلَ عَنْ أنْفُسِكُمْ، وكانَ الظّاهِرُ الإتْيانُ بِأمْرِ المُفاعَلَةِ، إلّا أنَّهُ عَدَلَ عَنْهُ إلى أمْرِ فِعْلِ بِشارَةٍ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالغَلَبَةِ عَلَيْهِمْ؛ أيْ: هم مِنَ الخِذْلانِ وعَدَمِ النَّصْرِ بِحَيْثُ (p-76)أُمِرْتُمْ بِقَتْلِهِمْ، وقَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ: ( ولا تَقْتُلُوهم حَتّى يَقْتُلُوكم فَإنْ قَتَلُوكم فاقْتُلُوهم ) واعْتَرَضَ الأعْمَشُ عَلى حَمْزَةَ في هَذِهِ القِراءَةِ، فَقالَ لَهُ: أرَأيْتَ قِراءَتَكَ إذا صارَ الرَّجُلُ مَقْتُولًا، فَبَعْدَ ذَلِكَ كَيْفَ يَصِيرُ قاتِلًا لِغَيْرِهِ؟ فَقالَ حَمْزَةُ: إنَّ العَرَبَ إذا قَتَلَ مِنهم رَجُلٌ قالُوا: قَتَلْنا، وإذا ضَرَبَ مِنهُمُ الرَّجُلُ، قالُوا: ضَرَبْنا، وحاصِلُهُ أنَّ الكَلامَ عَلى حَذْفِ المُضافِ إلى المَفْعُولِ، وهو لَفْظُ بَعْضٍ، فَلا يَلْزَمُ كَوْنَ المَقْتُولِ قاتِلًا، وأمّا إسْنادُ الفِعْلِ إلى الضَّمِيرِ فَمَبْنِيٌّ عَلى أنَّ الفِعْلَ الواقِعَ مِنَ البَعْضِ بِرِضا البَعْضِ الآخَرِ يُسْنَدُ إلى الكُلِّ عَلى التَّجَوُّزِ في الإسْنادِ، فَلا حاجَةَ فِيهِ إلى التَّقْدِيرِ، ولِذا اكْتَفى الأعْمَشُ في السُّؤالِ بِجانِبِ المَفْعُولِ، وكَذا قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ( ولا تَقْتُلُوهم ) جازَ عَلى حَقِيقَةٍ مِن غَيْرِ تَأْوِيلٍ؛ لِأنَّ المَعْنى عَلى السَّلْبِ الكُلِّيِّ؛ أيْ: لا يَقْتُلُ واحِدٌ مِنكم واحِدًا مِنهم حَتّى يَقَعَ مِنهم قَتْلُ بَعْضِهِمْ، ثُمَّ إنَّ هَذا التَّأْوِيلَ مُخْتَصٌّ بِهَذِهِ القِراءَةِ، ولا حاجَةَ إلَيْهِ في ( لا تُقاتِلُوهم )؛ لِأنَّ المَعْنى: لا تُفاتِحُوهُمْ، والمُفاتَحَةُ لا تَكُونُ إلّا بِشُرُوعِ البَعْضِ بِقِتالِ البَعْضِ، قالَهُ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ، وقَدْ خَفِيَ عَلى بَعْضِ النّاظِرِينَ فَتَدَبَّرْ. ﴿كَذَلِكَ جَزاءُ الكافِرِينَ 191﴾ تَذْيِيلٌ لِما قَبْلَهُ؛ أيْ: يُفْعَلُ بِهِمْ مِثْلَ ما فَعَلُوا، و( الكافِرِينَ ) إمّا مِن وضْعِ المُظْهَرِ مَوْضِعَ المُضْمَرِ نَعْيًا عَلَيْهِمْ بِالكُفْرِ، أوِ المُرادُ مِنهُ الجِنْسُ، ويَدْخُلُ المَذْكُورُونَ فِيهِ دُخُولًا أوَّلِيًّا، والجارُّ في المَشْهُورِ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ وما بَعْدَهُ مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ، واخْتارَ أبُو البَقاءِ أنَّ الكافَ بِمَعْنى مِثْلَ مُبْتَدَأٍ وجَزاءٌ خَبَرُهُ؛ إذْ لا وجْهَ لِلتَّقْدِيمِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب