الباحث القرآني

﴿فَمَن خافَ مِن مُوصٍ جَنَفًا أوْ إثْمًا﴾ الجَنَفُ مَصْدَرُ جَنِفَ كَفَرِحَ مُطْلَقُ المَيْلِ والجَوْرِ، والمُرادُ بِهِ المَيْلُ في الوَصِيَّةِ مِن غَيْرِ قَصْدٍ بِقَرِينَةِ مُقابَلَتِهِ بِالإثْمِ، فَإنَّهُ إنَّما يَكُونُ بِالقَصْدِ، ومَعْنى خافَ تَوَقَّعَ وعَلِمَ، ومِنهُ قَوْلُهُ: إذا مِتُّ فادْفِنِّي إلى جَنْبِ كَرْمَةٍ تَرْوِي عِظامِي بَعْدَ مَوْتِي عُرُوقُها ولا تَدْفِنَنِّي بِالفَلاةِ فَإنَّنِي أخافُ إذا ما مِتُّ أنْ لا أذُوقَها وتَحْقِيقُ ذَلِكَ أنَّ الخَوْفَ حالَةٌ تَعْتَرِي عِنْدَ انْقِباضٍ مِن شَرٍّ مُتَوَقَّعٍ، فَلِتِلْكَ المُلابَسَةِ اسْتُعْمِلَ في التَّوَقُّعِ، وهو قَدْ يَكُونُ مَظْنُونَ الوُقُوعِ، وقَدْ يَكُونُ مَعْلُومُهُ، فاسْتُعْمِلَ فِيهِما بِمَرْتَبَةٍ ثانِيَةٍ، ولِأنَّ الأوَّلَ أكْثَرُ كانَ اسْتِعْمالُهُ فِيهِ أظْهَرَ، ثُمَّ أصْلُهُ أنْ يُسْتَعْمَلَ في الظَّنِّ والعِلْمِ بِالمَحْذُورِ، وقَدْ يَتَّسِعُ في إطْلاقِهِ عَلى المُطْلَقِ، وإنَّما حُمِلَ عَلى المَجازِ هُنا؛ لِأنَّهُ لا مَعْنًى لِلْخَوْفِ مِنَ المَيْلِ والإثْمِ بَعْدَ وُقُوعِ الإيصاءِ، وقَرَأ أهْلُ الكُوفَةِ غَيْرُ حَفْصٍ ويَعْقُوبَ: ( مِن مُوَصٍّ ) بِالتَّشْدِيدِ والباقُونَ بِالتَّخْفِيفِ، ﴿فَأصْلَحَ بَيْنَهُمْ﴾ أيْ: بَيْنَ المُوصى لَهم مِنَ الوالِدَيْنِ والأقْرَبِينَ بِإجْرائِهِمْ عَلى نَهْجِ الشَّرْعِ، وقِيلَ: المُرادُ فِعْلُ ما فِيهِ الصَّلاحُ بَيْنَ المُوصِي والمُوصى لَهُ، بِأنْ يَأْمُرَ بِالعَدْلِ والرُّجُوعِ عَنِ الزِّيادَةِ، وكَوْنِها لِلْأغْنِياءِ (p-56)وعَلَيْهِ لا يُرادُ الصُّلْحُ المُرَتَّبُ عَلى الشِّقاقِ، فَإنَّ المُوصِي والمُوصى لَهُ لَمْ يَقَعْ بَيْنَهُما شِقاقٌ ﴿فَلا إثْمَ عَلَيْهِ﴾ في ذَلِكَ التَّبْدِيلِ؛ لِأنَّهُ تَبْدِيلٌ باطِلٌ إلى حَقٍّ بِخِلافِ السّابِقِ، واسْتُدِلَّ بِالآيَةِ عَلى أنَّهُ إذا أوْصى بِأكْثَرَ مِنَ الثُّلُثِ لا تَبْطُلُ الوَصِيَّةُ كُلُّها خِلافًا لِزاعِمِهِ، وإنَّما يَبْطُلُ مِنها ما زادَ عَلَيْهِ؛ لِأنَّ اللَّهَ - تَعالى - لَمْ يُبْطِلِ الوَصِيَّةَ جُمْلَةً بِالجَوْرِ فِيها، بَلْ جَعَلَ فِيها الوَجْهَ الأصْلَحَ، ﴿إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ 182﴾ تَذْيِيلٌ أتى بِهِ لِلْوَعْدِ بِالثَّوابِ لِلْمُصْلِحِ عَلى إصْلاحِهِ وذِكْرِ المَغْفِرَةِ، مَعَ أنَّ الإصْلاحَ مِنَ الطّاعاتِ، وهي إنَّما تَلِيقُ مِن فِعْلِ ما لا يَجُوزُ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِ الإثْمِ الَّذِي تَتَعَلَّقُ بِهِ المَغْفِرَةُ، ولِذَلِكَ حَسُنَ ذِكْرُها، وفائِدَتُها التَّنْبِيهُ عَلى الأعْلى بِما دُونَهُ، يَعْنِي أنَّهُ - تَعالى - غَفُورٌ لِلْآثامِ، فَلِأنْ يَكُونَ رَحِيمًا مَن أطاعَهُ مِن بابِ الأوْلى، ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ ذِكْرُها وعْدًا لِلْمُصْلِحِ بِمَغْفِرَةِ ما يَفْرُطُ مِنهُ في الإصْلاحِ؛ إذْ رُبَّما يَحْتاجُ فِيهِ إلى أقْوالٍ كاذِبَةٍ وأفْعالٍ تَرْكُها أوْلى، وقِيلَ: المُرادُ غَفُورٌ لِلْجَنَفِ والإثْمِ الَّذِي وقَعَ مِنَ المُوصِي بِواسِطَةِ إصْلاحِ الوَصِيِّ وصِيَّتَهُ، أوْ غَفُورٌ لِلْمُوصِي بِما حَدَّثَ بِهِ نَفْسَهُ مِنَ الخَطَأِ والعَمَلِ إذْ رَجَعَ إلى الحَقِّ، أوْ غَفُورٌ لِلْمُصْلِحِ بِواسِطَةِ إصْلاحِهِ بِأنْ يَكُونَ الإصْلاحُ مُكَفِّرًا لِسَيِّئاتِهِ والكُلُّ بَعِيدٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب