الباحث القرآني

﴿إنَّما يَأْمُرُكم بِالسُّوءِ والفَحْشاءِ﴾ اسْتِئْنافٌ لِبَيانِ كَيْفِيَّةِ عَداوَتِهِ وتَفْصِيلٌ لِفُنُونِ شَرِّهِ وإفْسادِهِ وانْحِصارِ مُعامَلَتِهِ مَعَهم في ذَلِكَ، أوْ عِلَّةٌ لِلْعِلَّةِ بِضَمٍّ، وكُلُّ مَن هَذا شَأْنُهُ فَهو عَدُوٌّ مُبِينٌ، أوْ عِلَّةٌ لِلْأصْلِ بِضَمٍّ، وكُلُّ مَن هَذا شَأْنُهُ لا يُتَّبَعُ فَيَكُونُ الحُكْمُ مُعَلَّلًا بِعِلَّتَيْنِ ( العَداوَةِ ) والأمْرِ بِما ذُكِرَ، ولَيْسَ الأمْرُ عَلى حَقِيقَتِهِ لا؛ لِأنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿إنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ﴾ يُنافِي ذَلِكَ لِكَوْنِهِ مَبْنِيًّا عَلى أنَّ المُعْتَبَرَ في الأمْرِ العُلُوُّ كَما هو مَذْهَبُ المُعْتَزِلَةِ، وإلّا فَمُجَرَّدُ الِاسْتِعْلاءِ لا يُنافِي أنْ يَكُونَ لَهُ سُلْطانٌ، وعَلى أنْ يَكُونَ ( عِبادِي ) لِعُمُومِ الكُلِّ بِدَلِيلِ الِاسْتِثْناءِ، وعَلى أنَّ الخِطابَ في (يَأْمُرُكُمْ) لِجَمِيعِ النّاسِ لا لِلْمُتَّبِعِينَ فَقَطْ، ولا مُنافاةَ أيْضًا، بَلْ لِأنّا نَجِدُ مِن أنْفُسِنا أنَّهُ لا طَلَبَ مِنهُ لِلْفِعْلِ مِنّا، ولَيْسَ إلّا التَّزْيِينَ والبَعْثَ، فَهو اسْتِعارَةٌ تَبَعِيَّةٌ لِذَلِكَ، ويَتْبَعُها الرَّمْزُ إلى أنَّ المُخاطَبِينَ بِمَنزِلَةِ المَأْمُورِينَ المُنْقادِينَ لَهُ، وفِيهِ تَسْفِيهُ رَأْيِهِمْ وتَحْقِيرُ شَأْنِهِمْ، ولا يُرَدُّ أنَّهُ إذا كانَ الأمْرُ بِمَعْنى التَّزْيِينِ، فَلا بُدَّ أنْ يُقالَ: يَأْمُرُ لَكُمْ، وإنْ كانَ بِمَعْنى البَعْثِ، فَلا بُدَّ أنْ يُقالَ: يَأْمُرُكم عَلى السُّوءِ أوْ لِلسُّوءِ؛ إذِ المَذْكُورُ لَفْظُ الأمْرِ، فَلا بُدَّ مِن رِعايَةِ طَرِيقِ اسْتِعْمالِهِ، و(السُّوءِ) في الأصْلِ مَصْدَرُ ساءَهُ يَسُوءُهُ سُوءًا أوْ مُساءَةً إذا أحْزَنَهُ، ثُمَّ أُطْلِقَ عَلى جَمِيعِ المَعاصِي، سَواءٌ كانَتْ قَوْلًا أوْ فِعْلًا أوْ عَقْدًا لِاشْتِراكِ كُلِّها في أنَّها تَسُوءُ صاحِبَها، ﴿والفَحْشاءِ﴾ أقْبَحُ أنْواعِها وأعْظَمُها مُساءَةً، ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما - أنَّ (السُّوءَ) ما لا حَدَّ فِيهِ، و(الفَحْشاء) ما فِيهِ حَدٌّ، وقِيلَ: هُما بِمَعْنًى، وهو ما أنْكَرَهُ العَقْلُ، وحُكِمَ بِأنَّهُ لَيْسَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ وعاقِبَةٌ حَمِيدَةٌ واسْتَقْبَحَهُ الشَّرْعُ، والعَطْفُ حِينَئِذٍ لِتَنْزِيلِ تَغايُرِ الوَصْفَيْنِ مَنزِلَةَ تَغايُرِ الحَقِيقَتَيْنِ، فَإنَّ ذَلِكَ سُوءٌ لِاغْتِمامِ العاقِلِ، وفَحْشاءٌ بِاسْتِقْباحِهِ إيّاهُ، ولَعَلَّ الدّاعِيَ إلى هَذا القَوْلِ، أنَّهُ - سُبْحانَهُ - سَمّى جَمِيعَ المَعاصِيَ والفَواحِشَ سَيِّئَةً في قَوْلِهِ - جَلَّ شَأْنُهُ -: ﴿مَن كَسَبَ سَيِّئَةً﴾ و﴿إنَّ الحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ﴾ و﴿وجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٍ مِثْلُها﴾ وسَمّى جَمِيعَ المَعاصِيَ بِالفَواحِشِ، فَقالَ تَعالى: ﴿قُلْ إنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنها وما بَطَنَ﴾ ويُمْكِنُ أنْ يُقالَ: سَلَّمْنا، ولَكِنَّ السَّيِّئَةَ والفاحِشَةَ إذا اجْتَمَعا افْتَرَقا، وإذا افْتَرَقا اجْتَمَعا، فَلا يَتِمُّ الِاسْتِدْلالُ ﴿وأنْ تَقُولُوا عَلى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ 169﴾ عَطْفٌ عَلى سابِقِهِ؛ أيْ: ويَأْمُرُكُمُ الشَّيْطانُ بِأنْ تَفْتَرُوا عَلى اللَّهِ الكَذِبَ بِأنَّهُ حَرَّمَ هَذا وأحَلَّ هَذا أوْ بِذَلِكَ، وبِأنَّهُ أمَرَ بِاتِّخاذِ الأنْدادِ ورَضِيَ بِما أنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ الإفْسادِ، (p-40)والتَّنْصِيصُ عَلى الأمْرِ بِالتَّقَوُّلِ مَعَ دُخُولِهِ فِيما سَبَقَ لِلِاهْتِمامِ بِشَأْنِهِ، ومَفْعُولُ العِلْمِ مَحْذُوفٌ أيْ: ما لا تَعْلَمُونَ، الإذْنُ فِيهِ مِنهُ - تَعالى -، والتَّحْذِيرُ عَنْ ذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِلتَّحْذِيرِ عَنِ التَّقَوُّلِ عَلَيْهِ - سُبْحانَهُ - بِما يَعْلَمُونَ عَدَمَ الإذْنِ فِيهِ، كَما هو حالُ كَثِيرٍ مِنَ المُشْرِكِينَ اسْتِلْزامًا ظاهِرًا، وظاهِرُ الآيَةِ المَنعُ مِنَ اتِّباعِ الظَّنِّ رَأْسًا؛ لِأنَّ الظَّنَّ مُقابِلٌ لِلْعِلْمِ لُغَةً وعُرْفًا، ويُشْكِلُ عَلَيْهِ أنَّ المُجْتَهِدَ يَعْمَلُ بِمُقْتَضى ظَنِّهِ الحاصِلِ عِنْدَهُ مِنَ النُّصُوصِ، فَكَيْفَ يُسَوَّغُ اتِّباعُهُ لِلْمُقَلِّدِ؟! وأُجِيبَ بِأنَّ الحُكْمَ المَظْنُونَ لِلْمُجْتَهِدِ يَجِبُ العَمَلُ بِهِ الدَّلِيلُ القاطِعُ، وهو الإجْماعُ، وكُلُّ حُكْمٍ يَجِبُ العَمَلُ بِهِ قَطْعًا عُلِمَ قَطْعًا بِأنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ تَعالى: وإلّا لَمْ يَجِبِ العَمَلُ بِهِ قَطْعًا، وكُلُّ ما عُلِمَ قَطْعًا أنَّهُ حُكْمُ اللَّهِ - تَعالى - فَهو مَعْلُومٌ قَطْعًا، فالحُكْمُ المَظْنُونُ لِلْمُجْتَهِدِ مَعْلُومٌ قَطْعًا، وخُلاصَتُهُ أنَّ الظَّنَّ كافٍ في طَرِيقِ تَحْصِيلِهِ ثُمَّ بِواسِطَةِ الإجْماعِ عَلى وُجُوبِ العَمَلِ صارَ المَظْنُونُ مَعْلُومًا، وانْقَلَبَ الظَّنُّ عِلْمًا، فَتَقْلِيدُ المُجْتَهِدِ لَيْسَ مِنَ اتِّباعِ الظَّنِّ في شَيْءٍ، وزَعْمُ ذَلِكَ مِنَ اتِّباعِ الظَّنِّ وتَحْقِيقِهِ في الأُصُولِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب