الباحث القرآني

﴿قُولُوا آمَنّا بِاللَّهِ﴾ خِطابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ لا لِلْكافِرِينَ، كَما قِيلَ، لِما فِيهِ مِنَ الكَلَفِ والتَّكَلُّفِ، وبَيانٌ لِاتِّباعِ المَأْمُورِ بِهِ، فَهو بِمَنزِلَةِ بَدَلِ البَعْضِ مِن قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿بَلْ مِلَّةَ إبْراهِيمَ﴾ لِأنَّ الِاتِّباعَ يَشْمَلُ الِاعْتِقادَ والعَمَلَ، وهَذا بَيانُ الِاعْتِقادِ، أوْ بَدَلُ الِاشْتِمالِ لِما فِيهِ مِنَ التَّفْصِيلِ الَّذِي لَيْسَ في الأوَّلِ، وقِيلَ: اسْتِئْنافٌ، كَأنَّهم سَألُوا كَيْفَ الِاتِّباعُ؟ فَأُجِيبُوا بِذَلِكَ، وأُمِرَ أوَّلًا بِصِيغَةِ الإفْرادِ، وثانِيًا بِصِيغَةِ الجَمْعِ إشارَةً إلى أنَّهُ يَكْفِي في الجَوابِ قَوْلُ الرَّسُولِ ﷺ مِن جانِبِ كُلِّ المُؤْمِنِينَ بِخِلافِ الِاتِّباعِ، فَإنَّهُ لا بُدَّ فِيهِ مِن قَوْلِ كُلِّ واحِدٍ، لِأنَّهُ شَرْطُ الإيمانِ، أوْ شَطْرُهُ، قالَهُ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ، والقَوْلُ بِأنَّهُ بِمَنزِلَةِ البَيانِ، والتَّأْكِيدِ لِلْقَوْلِ الأوَّلِ، ولِذا تُرِكَ العَطْفُ، لا يَخْلُو عَنْ شَيْءٍ، وقُدِّمَ الإيمانُ بِاللَّهِ سُبْحانَهُ، لِأنَّهُ أوَّلُ الواجِباتِ، ولِأنَّهُ بِتَقَدُّمِ مَعْرِفَتِهِ تَصِحُّ مَعْرِفَةُ النُّبُوّاتِ والشَّرْعِيّاتِ. ﴿وما أُنْزِلَ إلَيْنا﴾ أيِ القُرْآنُ، وهو وإنْ كانَ في التَّرْتِيبِ النُّزُولِيِّ مُؤَخَّرًا عَنْ غَيْرِهِ، لَكِنَّهُ في التَّرْتِيبِ الإيمانِيِّ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ، لِأنَّهُ سَبَبُ الإيمانِ بِغَيْرِهِ، لِكَوْنِهِ مُصَدِّقًا لَهُ، ولِذا قَدَّمَهُ. ﴿وما أُنْزِلَ إلى إبْراهِيمَ وإسْماعِيلَ وإسْحاقَ ويَعْقُوبَ والأسْباطِ﴾ يَعْنِي الصُّحُفَ، وهي وإنْ نَزَلَتْ عَلى إبْراهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لَكِنْ لَمّا كانَ ما عُطِفَ عَلَيْهِ مُتَعَبَّدِينَ بِتَفاصِيلِها داخِلِينَ تَحْتَ أحْكامِها صَحَّ نِسْبَةُ (p-395)نُزُولِها إلَيْهِمْ أيْضًا، كَما صَحَّحَ تَعَبُّدَنا بِتَفاصِيلِ القُرْآنِ ودُخُولَنا تَحْتَ أحْكامِهِ نِسْبَةُ نُزُولِهِ إلَيْنا، والأسْباطُ جَمْعُ سِبْطٍ كَأحْمالٍ وحِمْلٍ، وهم أوْلادُ إسْرائِيلَ، وقِيلَ: هم في أوْلادِ إسْحاقَ كالقَبائِلِ في أوْلادِ إسْماعِيلَ، مَأْخُوذٌ مِنَ السِّبْطِ وهو شَجَرَةٌ كَثِيرَةُ الأغْصانِ، فَكَأنَّهم سُمُّوا بِذَلِكَ لِكَثْرَتِهِمْ، وقِيلَ: مِنَ السُّبُوطَةِ، وهي الِاسْتِرْسالُ، وقِيلَ: إنَّهُ مَقْلُوبُ البَسْطِ، وقِيلَ: لِلْحَسَنَيْنِ سِبْطا رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لِانْتِشارِ ذُرِّيَّتِهِمْ، ثُمَّ قِيلَ لِكُلِّ ابْنِ بِنْتٍ: سِبْطٌ، وكَذا قِيلَ لَهُ: حَفِيدٌ أيْضًا، واخْتَلَفَ النّاسُ في الأسْباطِ أوْلادِ يَعْقُوبَ، هَلْ كانُوا كُلُّهم أنْبِياءَ، أمْ لا؟ والَّذِي صَحَّ عِنْدِي الثّانِي، وهو المَرْوِيُّ عَنْ جَعْفَرٍ الصّادِقِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ، وإلَيْهِ ذَهَبَ الإمامُ السُّيُوطِيُّ، وألَّفَ فِيهِ، لِأنَّ ما وقَعَ مِنهم مَعَ يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ يُنافِي النُّبُوَّةَ قَطْعًا، وكَوْنُهُ قَبْلَ البُلُوغِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، لِأنَّ فِيهِ أفْعالًا لا يَقْدِرُ عَلَيْها إلّا البالِغُونَ، وعَلى تَقْدِيرِ التَّسْلِيمِ لا يُجْدِي نَفْعًا عَلى ما هو القَوْلُ الصَّحِيحُ في شَأْنِ الأنْبِياءِ، وكَمْ كَبِيرَةً تَضَمَّنَ ذَلِكَ الفِعْلُ، ولَيْسَ في القُرْآنِ ما يَدُلُّ عَلى نُبُوَّتِهِمْ، والآيَةُ قَدْ عَلِمْتَ ما ذَكَرْنا فِيها، فاحْفَظْ ذَلِكَ هُدِيتَ. ﴿وما أُوتِيَ مُوسى وعِيسى﴾ أيِ التَّوْراةُ والإنْجِيلُ، ولِكَوْنِ أهْلِ الكِتابِ زادُوا ونَقَصُوا وحَرَّفُوا فِيهِما، وادَّعَوْا أنَّهُما أُنْزِلا كَذَلِكَ، والمُؤْمِنُونَ يُنْكِرُونَهُ، اهْتَمَّ بِشَأْنِهِما، فَأفْرَدَهُما بِالذِّكْرِ، وبَيَّنَ طَرِيقَ الإيمانِ بِهِما، ولَمْ يُدْرِجْهُما في المَوْصُولِ السّابِقِ، ولِأنَّ أمْرَهُما أيْضًا بِالنِّسْبَةِ إلى مُوسى وعِيسى أنَّهُما مُنَزَّلانِ عَلَيْهِما حَقِيقَةً لا بِاعْتِبارِ التَّعَبُّدِ فَقَطْ، كَما في المُنَزَّلِ عَلى إسْحاقَ ويَعْقُوبَ والأسْباطِ، ولَمْ يُعِدِ المَوْصُولَ لِذَلِكَ في عِيسى لِعَدَمِ مُخالَفَةِ شَرِيعَتِهِ لِشَرِيعَةِ مُوسى، إلّا في النَّزْرِ، ولِذَلِكَ الِاهْتِمامِ عَبَّرَ بِالإيتاءِ دُونَ الإنْزالِ لِأنَّهُ أبْلَغُ لِكَوْنِهِ المَقْصُودَ مِنهُ، ولِما فِيهِ مِنَ الدِّلالَةِ عَلى الإعْطاءِ الَّذِي فِيهِ شِبْهُ التَّمْلِيكِ والتَّفْوِيضِ، ولِهَذا يُقالُ: أنْزَلْتُ الدَّلْوَ في البِئْرِ، ولا تَقُولُ: آتَيْتُها إيّاها، ولَكَ أنْ تَقُولَ: المُرادُ بِالمَوْصُولِ هُنا ما هو أعَمُّ مِنَ التَّوْراةِ والإنْجِيلِ وسائِرِ المُعْجِزاتِ الظّاهِرَةِ بِأيْدِي هَذَيْنِ النَّبِيَّيْنِ الجَلِيلَيْنِ، حَسْبَما فُصِّلَ في التَّنْزِيلِ الجَلِيلِ، وإيثارُ الإيتاءِ لَهُ التَّعْمِيمُ، وتَخْصِيصُ النَّبِيَّيْنِ بِالذِّكْرِ لِما أنَّ الكَلامَ مَعَ اليَهُودِ والنَّصارى. ﴿وما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ﴾ وهي الكُتُبُ الَّتِي خَصَّتْ مَن خَصَّتْهُ مِنهُمْ، أوْ ما يَشْمَلُ ذَلِكَ، والمُعْجِزاتُ، وهو تَعْمِيمٌ بَعْدَ التَّخْصِيصِ، كَيْلا يَخْرُجَ مِنَ الإيمانِ أحَدٌ مِنَ الأنْبِياءِ، ﴿مِن رَبِّهِمْ﴾ مُتَعَلِّقٌ (بِأُوتِيَ) قَبْلَهُ، والضَّمِيرُ لِلنَّبِيِّينَ خاصَّةً، وقِيلَ: لِمُوسى وعِيسى أيْضًا، ويَكُونُ ”ما أُوتِيَ“ تَكْرِيرًا لِلْأُولى، والجارُّ مُتَعَلِّقًا بِها، وهو عَلى التَّقْدِيرَيْنِ ظَرْفُ لَغْوٍ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ في مَوْضِعِ الحالِ مِنَ العائِدِ المَحْذُوفِ، واحْتِمالُ أنْ يَكُونَ (ما) مُبْتَدَأً والجارُّ خَبَرَهُ، بَعِيدٌ، ﴿لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أحَدٍ مِنهُمْ﴾ أيْ كَما فَرَّقَ أهْلُ الكِتابِ فَآمَنُوا بِبَعْضٍ وكَفَرُوا بِبَعْضٍ، بَلْ نُؤْمِنُ بِهِمْ جَمِيعًا، وإنَّما اعْتَبَرَ عَدَمَ التَّفْرِيقِ بَيْنَهُمْ، مَعَ أنَّ الكَلامَ فِيما أُوتُوهُ لِاسْتِلْزامِ ذَلِكَ عَدَمَ التَّفْرِيقِ فِيهِ بَيْنَ ما أُتُوهُ، (وأحَدٌ) أصْلُهُ وحَدٌ بِمَعْنى واحِدٍ وحَيْثُ وقَعَ في سِياقِ النَّفْيِ عَمَّ واسْتَوى فِيهِ الواحِدُ والكَثِيرُ، وصَحَّ إرادَةُ كُلٍّ مِنهُما، وقَدْ أُرِيدَ بِهِ هُنا الجَماعَةُ، ولِهَذا ساغَ أنْ يُضافَ إلَيْهِ (بَيْنَ)، ويُفِيدُ عُمُومَ الجَماعاتِ، كَذا قالَهُ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ، وهو مُخالِفٌ لِما هو المَشْهُورُ عِنْدَ أرْبابِ العَرَبِيَّةِ مِن أنَّ المَوْضُوعَ في النَّفْيِ العامِّ أوِ المُسْتَعْمَلِ مَعَ كُلٍّ في الإثْباتِ هَمْزَتُهُ أصْلِيَّةٌ بِخِلافِ ما اسْتُعْمِلَ في الإثْباتِ بِدُونِ كُلٍّ، فَإنَّ هَمْزَتَهُ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ واوٍ، ومِن هُنا قالَ العَلّامَةُ التَّفْتازانِيُّ: إنَّ (أحَدٍ) في مَعْنى الجَماعَةِ بِحَسَبِ الوَضْعِ لِأنَّهُ اسْمٌ لِمَن يَصْلُحُ أنْ يُخاطَبَ يَسْتَوِي فِيهِ المُذَكَّرُ، والمُؤَنَّثُ، والمُفْرَدُ، والمُثَنّى، والمَجْمُوعُ، ويُشْتَرَطُ أنْ يَكُونَ اسْتِعْمالُهُ مَعَ (p-396)كَلِمَةِ كُلٍّ، أوْ مَعَ النَّفْيِ نَصَّ عَلى ذَلِكَ أبُو عَلِيٍّ وغَيْرُهُ مِن أئِمَّةِ العَرَبِيَّةِ، وهَذا غَيْرُ الأحَدِ الَّذِي هو أوَّلُ العَدَدِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلْ هو اللَّهُ أحَدٌ﴾ ولَيْسَ كَوْنُهُ في مَعْنى الجَماعَةِ مِن جِهَةِ كَوْنِهِ نَكِرَةً في سِياقِ النَّفْيِ عَلى ما سَبَقَ، إلى كَثِيرٍ مِنَ الأوْهامِ، ألا تَرى أنَّهُ لا يَسْتَقِيمُ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ رَسُولٍ مِنَ الرُّسُلِ إلّا بِتَقْدِيرِ عَطْفِ أيْ رَسُولٍ ورَسُولٍ، ولَسْتُنَّ كَأحَدٍ مِنَ النِّساءِ، لَيْسَ في مَعْنى كامْرَأةٍ مِنهُنَّ انْتَهى، وأنْتَ بَعْدَ التَّأمُّلِ تَعْلَمُ أنَّ ما ذَكَرَهُ العَلّامَةُ لا يَرُدُّ عَلى ذَلِكَ البَعْضِ، وإنَّما تَرُدُّ عَلَيْهِ المُخالَفَةُ في الأصالَةِ وعَدَمِها فَقَطْ، ولَعَلَّ الأمْرَ فِيها سَهْلٌ، عَلى أنَّ دَعْوى عَدَمِ تِلْكِ الِاسْتِقامَةِ إلّا بِذَلِكَ التَّقْدِيرِ غَيْرُ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ، فَقَدْ ذُكِرَ في الِانْتِصافِ أنَّ النَّكِرَةَ الواقِعَةَ في سِياقِ النَّفْيِ تُفِيدُ العُمُومَ لَفْظًا عُمُومًا شُمُولِيًّا حَتّى يُنْزَلَ المُفْرَدُ فِيها مَنزِلَةَ الجَمْعِ في تَناوُلِهِ الآحادَ مُطابِقَةً، لا كَما ظَنَّهُ بَعْضُ الأُصُولِيِّينَ مِن أنَّ مَدْلُولَها بِطَرِيقِ المُطابَقَةِ في النَّفْيِ كَمَدْلُولِها في الإثْباتِ، وجُعِلَ هَذا التَّعَدُّدُ والعُمُومُ وضْعًا هو المُسَوِّغُ لِدُخُولِ بَيْنَ عَلَيْها هُنا، ومِنَ النّاسِ مَن جَوَّزَ كَوْنَ (أحَدٍ) في الآيَةِ بِمَعْنى واحِدٍ، وعُمُومُهُ بَدَلِيٌّ، وصِحَّةُ دُخُولِ (بَيْنَ) عَلَيْهِ بِاعْتِبارِ مَعْطُوفِ قَدْ، حُذِفَ لِظُهُورِهِ بَيْنَ أحَدٍ مِنهم وغَيْرِهِ، وفِيهِ مِنَ الدِّلالَةِ عَلى تَحَقُّقِ التَّفْرِيقِ بَيْنَ كُلِّ فَرْدٍ فَرْدٍ مِنهُمْ، وبَيْنَ مَن عَداهُ كائِنًا مَن كانَ، ما لَيْسَ في أنْ يُقالَ: لا نُفَرِّقُ بَيْنَهُمْ، ولا يَخْفى ما فِيهِ، والجُمْلَةُ حالٌ مِنَ الضَّمِيرِ في (آمَنّا)، ﴿ونَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ أيْ خاضِعُونَ لِلَّهِ تَعالى بِالطّاعَةِ مُذْعِنُونَ بِالعُبُودِيَّةِ، وقِيلَ: مُنْقادُونَ لِأمْرِهِ ونَهْيِهِ، ومَن جَعَلَ الضَّمِيرَ المَجْرُورَ لِما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الأنْبِياءِ فَقَدْ أبْعَدَ، والجُمْلَةُ حالٌ أُخْرى، أوْ عَطْفٌ عَلى آمَنّا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب