الباحث القرآني

﴿وقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ ولَدًا﴾ نَزَلَتْ في اليَهُودِ، حَيْثُ قالُوا: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ، وفي نَصارى نَجْرانَ حِينَ قالُوا: المَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، وفي مُشْرِكِي العَرَبِ، حَيْثُ قالُوا: المَلائِكَةُ بَناتُ اللَّهِ، فالضَّمِيرُ لِما سَبَقَ ذِكْرُهُ مِنَ النَّصارى واليَهُودِ والمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ، وعَطَفَهُ عَلى ”قالَتْ اليَهُود“ وقالَ أبُو البَقاءِ: عَلى ﴿وقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الجَنَّةَ﴾ وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ عَطْفًا عَلى (مَنَعَ) أوْ عَلى مَفْهُومِ ”مَن أظلم“ دُونَ لَفْظِهِ لِلِاخْتِلافِ إنْشائِيَّةً وخَبَرِيَّةً، والتَّقْدِيرُ: ظَلَمُوا ظُلْمًا شَدِيدًا بِالمَنعِ، وقالُوا: وإنْ جُعِلَ مِن عَطْفِ القِصَّةِ عَلى القِصَّةِ لَمْ يُحْتَجْ إلى تَأْوِيلٍ، والِاسْتِئْنافُ حِينَئِذٍ بَيانِيٌّ، كَأنَّهُ قِيلَ بَعْدَ ما عَدَّدَ مِن قَبائِحِهِمْ: هَلِ انْقَطَعَ خَيْطُ إسْهابِهِمْ في الِافْتِراءِ عَلى اللَّهِ تَعالى، أمِ امْتَدَّ؟ فَقِيلَ: بَلِ امْتَدَّ، فَإنَّهم قالُوا ما هو أشْنَعُ وأفْظَعُ، والِاتِّخاذُ إمّا بِمَعْنى الصُّنْعِ، والعَمَلِ، فَلا يَتَعَدّى إلّا إلى واحِدٍ، وإمّا بِمَعْنى التَّصْيِيرِ، والمَفْعُولُ الأوَّلُ مَحْذُوفٌ أيْ صَيَّرَ بَعْضَ مَخْلُوقاتِهِ ولَدًا، وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ وابْنُ عامِرٍ وغَيْرُهُما (قالُوا) بِغَيْرِ واوٍ عَلى الِاسْتِئْنافِ، أوْ مَلْحُوظًا فِيهِ مَعْنى العَطْفِ، واكْتَفى بِالضَّمِيرِ والرَّبْطِ بِهِ عَنِ الواوِ كَما في البَحْرِ، ﴿سُبْحانَهُ﴾ تَنْزِيهٌ وتَبْرِئَةٌ لَهُ تَعالى عَمّا قالُوا بِأبْلَغِ صِيغَةٍ، ومُتَعَلِّقُ سُبْحانَ مَحْذُوفٌ كَما تَرى لِدِلالَةِ الكَلامِ عَلَيْهِ. ﴿بَلْ لَهُ ما في السَّماواتِ والأرْضِ﴾ إبْطالٌ لِما زَعَمُوهُ، وإضْرابٌ عَمّا تَقْتَضِيهِ مَقالَتُهُمُ الباطِلَةُ مِنَ التَّشْبِيهِ بِالمُحْدَثاتِ في التَّناسُلِ والتَّوالُدِ، والحاجَةِ إلى الوَلَدِ في القِيامِ بِما يَحْتاجُ الوالِدُ إلَيْهِ، وسُرْعَةِ الفَناءِ، لِأنَّهُ لازِمٌ لِلتَّرْكِيبِ اللّازِمِ لِلْحاجَةِ، وكُلُّ مُحَقَّقٍ قَرِيبٌ سَرِيعٌ، ولِأنَّ الحِكْمَةَ في التَّوالُدِ هو أنْ يَبْقى النَّوْعُ مَحْفُوظًا بِتَوارُدِ الأمْثالِ فِيما لا سَبِيلَ إلى بَقاءِ الشَّخْصِ بِعَيْنِهِ مُدَّةَ بَقاءِ الدَّهْرِ، وكُلُّ ذَلِكَ يَمْتَنِعُ عَلى اللَّهِ تَعالى، فَإنَّهُ الأبَدِيُّ الدّائِمُ والغَنِيُّ المُطْلَقُ المُنَزَّهُ عَنْ مُشابَهَةِ المَخْلُوقاتِ، واللّامُ في (لَهُ) قِيلَ لِلْمِلْكِ، وقِيلَ: إنَّها كالَّتِي في قَوْلِكَ: لِزَيْدٍ ضَرْبٌ، تُفِيدُ نِسْبَةَ الأثَرِ إلى المُؤَثِّرِ، وقِيلَ: لِلِاخْتِصاصِ بِأيِّ وجْهٍ كانَ، وهو الأظْهَرُ، والمَعْنى لَيْسَ الأمْرُ كَما افْتَرَوْا، بَلْ هو خالِقُ جَمِيعِ المَوْجُوداتِ الَّتِي مِن جُمْلَتِها ما زَعَمُوهُ ولَدًا، والخالِقُ لِكُلِّ مَوْجُودٍ لا حاجَةَ لَهُ إلى الوَلَدِ، إذْ هو يُوجِدُ ما يَشاءُ مُنَزَّهًا عَنِ الِاحْتِياجِ إلى التَّوالُدِ، ﴿كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ﴾ أيْ كُلُّ ما فِيهِما كائِنًا ما كانَ جَمِيعًا (p-367)مُنْقادُونَ لَهُ، لا يَسْتَعْصِي شَيْءٌ مِنهم عَلى مَشِيئَتِهِ، وتَكْوِينِهِ إيجادًا وإعْدامًا وتَغَيُّرًا مِن حالٍ إلى حالٍ، وهَذا يَسْتَلْزِمُ الحُدُوثَ والإمْكانَ المُنافِيَ لِلْوُجُوبِ الذّاتِيِّ، فَكُلُّ مَن كانَ مُتَّصِفًا بِهَذِهِ الصِّفَةِ، لا يَكُونُ والِدًا، لِأنَّ مِن حَقِّ الوَلَدِ أنْ يُشارِكَ والِدَهُ في الجِنْسِ لِكَوْنِهِ بَعْضًا مِنهُ، وإنْ لَمْ يُماثِلْهُ، وكانَ الظّاهِرُ كَلِمَةَ مِن مَعَ قانِتُونَ، كَيْلا يَلْزَمَ اعْتِبارُ التَّغْلِيبِ فِيهِ، ويَكُونُ مُوافِقًا لِسَوْقِ الكَلامِ، فَإنَّ الكَلامَ في العُزَيْرِ والمَسِيحِ والمَلائِكَةِ، وهم عُقَلاءُ، إلّا أنَّهُ جاءَ بِكَلِمَةِ (ما) المُخْتَصَّةِ بِغَيْرِ أُولِي العِلْمِ كَما قالَهُ بَعْضُهم: مُحْتَجًّا بِقِصَّةِ الزِّبَعْرى مُخالِفًا لِما عَلَيْهِ الرَّضِيُّ مِن أنَّها في الغالِبِ لِما لا يُعْلَمُ، ولِما عَلَيْهِ الأكْثَرُونَ مِن عُمُومِها، كَما في التَّلْوِيحِ، واعْتُبِرَ التَّغْلِيبُ في قانِتُونَ إشارَةً إلى أنَّ هَؤُلاءِ الَّذِينَ جَعَلُوهم ولَدَ اللَّهِ تَعالى سُبْحانَهُ وتَعالى في جَنْبِ عَظَمَتِهِ جَماداتٌ مُسْتَوِيَةُ الأقْدامِ مَعَها في عَدَمِ الصَّلاحِيَةِ لِاتِّخاذِ الوَلَدِ، وقِيلَ: أتى بِما في الأوَّلِ، لِأنَّهُ إشارَةٌ إلى مَقامِ الأُلُوهِيَّةِ، والعُقَلاءُ فِيهِ بِمَنزِلَةِ الجَماداتِ، ويُجْمَعُ العُقَلاءُ في الثّانِي لِأنَّهُ إشارَةٌ إلى مَقامِ العُبُودِيَّةِ، والجَماداتُ فِيهِ بِمَنزِلَةِ العُقَلاءِ. ويُحْتَمَلُ أنْ يُقَدَّرَ المُضافُ إلَيْهِ كُلُّ ما جَعَلُوهُ ولَدًا لِدِلالَةِ المَقُولِ لا عامًّا لِدِلالَةِ مُبْطِلِهِ، ويُرادُ بِالقُنُوتِ الِانْقِيادُ لِأمْرِ التَّكْلِيفِ، كَما أنَّهُ عَلى العُمُومِ الِانْقِيادُ لِأمْرِ التَّكْوِينِ، وحِينَئِذٍ لا تَغْلِيبَ في (قانِتُونَ)، وتَكُونُ الجُمْلَةُ إلْزامًا بِأنَّ ما زَعَمُوهُ ولَدًا مُطِيعٌ لِلَّهِ تَعالى مُقِرٌّ بِعُبُودِيَّتِهِ بَعْدَ إقامَةِ الحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِما سَبَقَ، وتُرِكَ العَطْفُ لِلتَّنْبِيهِ عَلى اسْتِقْلالِ كُلٍّ مِنهُما في الدِّلالَةِ عَلى الفَسادِ، واخْتِلافِهِما في كَوْنِ أحَدِهِما حُجَّةً، والآخَرِ إلْزامًا، وعَلى الأوَّلِ يَكُونُ الأخِيرُ مُقَرِّرًا لِما قَبْلَهُ، وذَكَرَ الجَصّاصُ إنَّ في هَذِهِ الآيَةِ دِلالَةً عَلى أنَّ مِلْكَ الإنْسانِ لا يَبْقى عَلى ولَدِهِ، لِأنَّهُ نَفى الوَلَدَ بِإثْباتِ المِلْكِ بِاعْتِبارِ أنَّ اللّامَ لَهُ، فَمَتى مَلَكَ ولَدَهُ عَتَقَ عَلَيْهِ، وقَدْ حَكَمَ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِمِثْلِ ذَلِكَ في الوالِدِ إذا مَلَكَهُ ولَدُهُ، ولا يَخْفى أنَّ هَذا بَعِيدٌ عَمّا قُصِدَ بِالآيَةِ، لا سِيَّما إذا كانَ الأظْهَرُ الِاخْتِصاصَ كَما عَلِمْتَ،
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب