الباحث القرآني

﴿ودَّ كَثِيرٌ مِن أهْلِ الكِتابِ﴾ وهم طائِفَةٌ مِن أحْبارِ اليَهُودِ قالُوا لِلْمُسْلِمِينَ بَعْدَ وقْعَةِ أُحُدٍ: ألَمْ تَرَوْا إلى ما أصابَكم ولَوْ كُنْتُمْ عَلى الحَقِّ لَما هُزِمْتُمْ، فارْجِعُوا إلى دِينِنا، فَهو خَيْرٌ لَكُمْ، رَواهُ الواحِدِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ، ورَوى أنَّ فِنْحاصَ بْنَ عازُوراءَ، وزَيْدَ بْنَ قَيْسٍ ونَفَرًا مِنَ اليَهُودِ قالُوا ذَلِكَ لِحُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ مِن حَدِيثٍ طَوِيلٍ، ذَكَرَ الحافِظُ ابْنُ حَجَرٍ أنَّهُ لَمْ يُوجَدْ في شَيْءٍ مِن كُتُبِ الحَدِيثِ، ﴿لَوْ يَرُدُّونَكُمْ﴾ حِكايَةً لِوِدادَتِهِمْ، وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى (لَوْ) هَذِهِ، فَأغْنى عَنِ الإعادَةِ ﴿مِن بَعْدِ إيمانِكم كُفّارًا﴾ أيْ مُرْتَدِّينَ وهو حالٌ مِن ضَمِيرِ (p-357)المُخاطَبِينَ، يُفِيدُ مُقارَنَةَ الكُفْرِ بِالرَّدِّ فَيُؤْذِنُ بِأنَّ الكُفْرَ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الِارْتِدادِ مَعَ قَطْعِ النَّظَرِ إلى ما يُرَدُّ إلَيْهِ، ولِذا لَمْ يَقُلْ لَوْ يَرُدُّونَكم إلى الكُفْرِ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ حالًا مِن فاعِلِ (ودَّ)، واخْتارَ بَعْضُهم أنَّهُ مَفْعُولٌ ثانٍ (لِيَرُدُّونَكُمْ) عَلى تَضْمِينِ الرَّدِّ مَعْنى التَّصْيِيرِ، إذْ مِنهم مَن لَمْ يَكْفُرْ حَتّى يُرَدَّ إلَيْهِ، فَيَحْتاجُ إلى التَّغْلِيبِ، كَما في ﴿لَتَعُودُنَّ في مِلَّتِنا﴾ عَلى أنَّ في ذَلِكَ يَكُونُ الكُفْرُ المَفْرُوضُ بِطَرِيقِ القَسْرِ، وهو أدْخَلُ في الشَّناعَةِ، وفي قَوْلِهِ تَعالى: (مِن بَعْدِ) مَعَ أنَّ الظّاهِرَ (عَنْ) لِأنَّ الرَّدَّ يُسْتَعْمَلُ بِها تَنْصِيصٌ بِحُصُولِ الإيمانِ لَهُمْ، وقِيلَ: أُورِدَ مُتَوَسِّطًا لِإظْهارِ كَمالِ فَظاعَةِ ما أرادُوهُ، وغايَةُ بُعْدِهِ عَنِ الوُقُوعِ إمّا لِزِيادَةِ قُبْحِهِ الصّادِّ لِلْعاقِلِ عَنْ مُباشَرَتِهِ، وإمّا لِمُمانَعَةِ الإيمانِ لَهُ، كَأنَّهُ قِيلَ: مِن بَعْدِ إيمانِكُمُ الرّاسِخِ، وفِيهِ مِن تَثْبِيتِ المُؤْمِنِينَ ما لا يَخْفى، ﴿حَسَدًا﴾ عِلَّةٌ (لِوَدَّ)، لا (لِيَرُدُّونَكُمْ) لِأنَّهُ يَوَدُّونَ ارْتِدادَهم مُطْلَقًا، لا ارْتِدادَهُمُ المُعَلَّلَ بِالحَسَدِ، وجَوَّزُوا أنْ يَكُونَ مَصْدَرًا مَنصُوبًا عَلى الحالِ، أيْ حاسِدِينَ، ولَمْ يُجْمَعْ لِأنَّهُ مَصْدَرٌ، وفِيهِ ضَعْفٌ، لِأنَّ جَعْلَ المَصْدَرِ حالًا كَما قالَ أبُو حَيّانَ لا يَنْقاسُ، وقِيلَ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ مَنصُوبًا عَلى المَصْدَرِ، والعامِلُ فِيهِ مَحْذُوفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ المَعْنى، أيْ حَسَدُوكم حَسَدًا، وهو كَما تَرى، ﴿مِن عِنْدِ أنْفُسِهِمْ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، وقَعَ صِفَةً، إمّا لِلْحَسَدِ أيْ حَسَدًا كائِنًا مِن أصْلِ نُفُوسِهِمْ، فَكَأنَّهُ ذاتِيٌّ لَها، وفِيهِ إشارَةٌ إلى أنَّهُ بَلَغَ مَبْلَغًا مُتَناهِيًا، وهَذا يُؤَكِّدُ أمْرَ التَّنْوِينِ إذا جُعِلَ لِلتَّكْثِيرِ، أوِ التَّعْظِيمِ، وإمّا لِلْوِدادِ المَفْهُومِ مِن (ودَّ) أيْ وِدادًا كائِنًا مِن عِنْدِ أنْفُسِهِمْ، وتَشَهِّيهِمْ لا مِن قِبَلِ التَّدَبُّرِ والمَيْلِ إلى الحَقِّ، وجَعْلُهُ ظَرْفًا لَغْوًا مَعْمُولًا (لِوَدَّ) أوْ حَسَدًا، كَما نُقِلَ عَنْ مَكِّيٍّ، يُبْعِدُهُ أنَّهُما لا يُسْتَعْمَلانِ بِكَلِمَةِ (مِن) كَما قالَهُ ابْنُ الشَّجَرِيِّ ﴿مِن بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الحَقُّ﴾ بِالنُّعُوتِ المَذْكُورَةِ في التَّوْراةِ، والمُعْجِزاتِ، وهَذا كالدَّلِيلِ عَلى تَخْصِيصِ الكَثِيرِ بِالأحْبارِ، لِأنَّ التَّبَيُّنَ بِذَلِكَ إنَّما كانَ لَهم لا لِلْجُهّالِ، ولَعَلَّ مَن قالَ: إنَّ الوِدادَةَ مِن عَوامِّهِمْ أيْضًا، لِئَلّا يَبْطُلَ دِينُهُمُ الَّذِي ورِثُوهُ، وتَبْطُلَ رِياسَةُ أحْبارِهِمُ الَّذِينَ اعْتَقَدُوهُمْ، واتَّخَذُوهم رُؤَساءَ، فالمُرادُ مِنَ الكَثِيرِ جَمِيعُهم مِن كُفّارِهِمْ ومُنافِقِيهِمْ، ويَكُونُ ذِكْرُهُ لِإخْراجِ مَن آمَنَ مِنهم سِرًّا وعَلانِيَةً يُدَّعى أنَّ التَّبْيُّنَ حَصَلَ لِلْجَمِيعِ أيْضًا إلّا أنَّ أسْبابَهُ مُخْتَلِفَةٌ مُتَفاوِتَةٌ، وهَذا هو الَّذِي يَغْلِبُ عَلى الظَّنِّ، فَإنَّ مَن شاهَدَ هاتِيكَ المُعْجِزاتِ الباهِرَةَ، والآياتِ الزّاهِرَةَ يَبْعُدُ مِنهُ كَيْفَما كانَ عَدَمُ تَبَيُّنِ الحَقِّ، ومَعْرِفَةِ مَطالِعِ الصِّدْقِ، إلّا أنَّ الحُظُوظَ النَّفْسانِيَّةَ، والشَّهَواتِ الدَّنِيَّةَ والتَّسْوِيلاتِ الشَّيْطانِيَّةَ حَجَبَتْ مَن حَجَبَتْ عَنِ الإيمانِ، وقَيَّدَتْ مَن قَيَّدَتْ في قَيْدِ الخِذْلانِ، ﴿فاعْفُوا واصْفَحُوا﴾ العَفْوُ تَرْكُ عُقُوبَةِ المُذْنِبِ، والصَّفْحُ تَرْكُ التَّثْرِيبِ والتَّأْنِيبِ، وهو أبْلَغُ مِنَ العَفْوِ، إذْ قَدْ يَعْفُو الإنْسانُ، ولا يَصْفَحُ، ولَعَلَّهُ مَأْخُوذٌ مِن تَوْلِيَةِ صَفْحَةِ الوَجْهِ إعْراضًا، أوْ مِن تَصَفَّحْتُ الوَرَقَةَ إذا تَجاوَزْتَ عَمّا فِيها، وآثَرَ العَفْوَ عَلى الصَّبْرِ عَلى أذاهم إيذانًا بِتَمْكِينِ المُؤْمِنِينَ تَرْهِيبًا لِلْكافِرِينَ. ﴿حَتّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأمْرِهِ﴾ هو واحِدُ الأوامِرِ، والمُرادُ بِهِ الأمْرُ بِالقِتالِ بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ولا بِاليَوْمِ الآخِرِ﴾ إلى ﴿وهم صاغِرُونَ﴾ أوِ الأمْرُ بِقَتْلِ قُرَيْظَةَ، وإجْلاءِ بَنِي النَّضِيرِ، وقِيلَ: واحِدُ الأُمُورِ، والمُرادُ بِهِ القِيامَةُ، أوِ المُجازاةُ يَوْمَها، أوْ قُوَّةُ الرِّسالَةِ، وكَثْرَةُ الأُمَّةِ، ومِنَ النّاسِ مَن فَسَّرَ الصَّفْحَ بِالإعْراضِ عَنْهُمْ، وتَرْكِ مُخالَطَتِهِمْ، وجَعَلَ غايَةَ العَفْوِ إتْيانَ آيَةِ القِتالِ، وغايَةَ الإعْراضِ إتْيانَ اللَّهِ تَعالى أمْرَهُ، وفَسَّرَهُ بِإسْلامِ مَن أسْلَمَ مِنهم كَما قالَهُ الكَلْبِيُّ، ولَيْسَ بِشَيْءٍ لِأنَّهُ يَسْتَلْزِمُ أنْ يُحْمَلَ الأمْرُ عَلى واحِدِ الأوامِرِ، وواحِدِ الأُمُورِ، وهو عِنْدَ المُحَقِّقِينَ جَمْعٌ بَيْنَ الحَقِيقَةِ والمَجازِ، وعَنْ قَتادَةَ، والسُّدِّيِّ، وابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُمْ: إنَّ الآيَةَ مَنسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، واسْتُشْكِلَ (p-358)ذَلِكَ بِأنَّ النَّسْخَ لِكَوْنِهِ بَيانًا لِمُدَّةِ الِانْتِهاءِ بِالنِّسْبَةِ إلى الشّارِعِ، ودَفْعًا لِلتَّأْيِيدِ الظّاهِرِيِّ مِنَ الإطْلاقِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْنا يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ الحُكْمُ المَنسُوخُ خالِيًا عَنِ التَّوْقِيتِ والتَّأْيِيدِ، فَإنَّهُ لَوْ كانَ مُؤَقَّتًا كانَ النّاسِخُ بَيانًا لَهُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْنا أيْضًا، ولَوْ كانَ مُؤَبَّدًا كانَ بَدْءًا لا بَيانًا بِالنِّسْبَةِ إلى الشّارِعِ، والأمْرُ ها هُنا مُؤَقَّتٌ بِالغايَةِ، وكَوْنُها غَيْرَ مَعْلُومَةٍ يَقْتَضِي أنْ تَكُونَ آيَةُ القِتالِ بَيانًا لِإجْمالِهِ، وبِذَلِكَ تَبَيَّنَ ضَعْفُ ما أجابَ بِهِ الإمامُ الرّازِيُّ، وتَبِعَهُ فِيهِ كَثِيرُونَ مِن أنَّ الغايَةَ الَّتِي يَتَعَلَّقُ بِها الأمْرُ إذا كانَتْ لا تُعْلَمُ إلّا شَرْعًا لَمْ يَخْرُجِ الوارِدُ مِن أنْ يَكُونَ ناسِخًا، ويَحِلَّ مَحَلَّ ﴿فاعْفُوا واصْفَحُوا﴾ إلى أنْ أنْسَخَهُ لَكُمْ، فَلَيْسَ هَذا مِثْلَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيامَ إلى اللَّيْلِ﴾ وأمّا تَأْيِيدُ الطِّيبِيِّ لَهُ بِحُكْمِ التَّوْراةِ والإنْجِيلِ، لِأنَّهُ ذَكَرَ فِيهِما انْتِهاءَ مُدَّةِ الحُكْمِ بِهِما بِإرْسالِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ بِنَحْوِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهم في التَّوْراةِ والإنْجِيلِ﴾ وكانَ ظُهُورُهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ نَسْخًا، فَيَرُدُّ عَلَيْهِ ما في التَّلْوِيحِ مِن أنَّ الواقِعَ فِيهِما البِشارَةُ بِشَرْعِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وإيجابِ الرُّجُوعِ إلَيْهِ، وذَلِكَ لا يَقْتَضِي تَوْقِيتَ الأحْكامِ لِاحْتِمالِ أنْ يَكُونَ الرُّجُوعُ إلَيْهِ بِاعْتِبارِ كَوْنِهِ مُفَسِّرًا، أوْ مُقَرِّرًا، أوْ مُبَدِّلًا لِلْبَعْضِ دُونَ البَعْضِ، فَمِن أيْنَ يَلْزَمُ التَّوْقِيتُ، بَلْ هي مُطْلَقَةٌ، يُفْهَمُ مِنها التَّأْبِيدُ، فَتَبْدِيلُها يَكُونُ نَسْخًا، وأُجِيبَ عَنِ الِاسْتِشْكالِ بِأنَّهُ لا يَبْعُدُ أنْ يُقالَ: إنَّ القائِلِينَ بِالنَّسْخِ أرادُوا بِهِ البَيانَ مَجازًا، أوْ يُقالُ: لِعِلْمِهِمْ فَسَّرُوا الغايَةَ بِإماتَتِهِمْ أوْ بِقِيامِ السّاعَةِ، والتَّأْبِيدُ إنَّما يُنافِي إطْلاقَ الحُكْمِ، إذا كانَ غايَةً لِلْوُجُوبِ، وأمّا إذا كانَ غايَةً لِلْواجِبِ فَلا، ويَجْرِي فِيهِ النَّسْخُ عِنْدَ الجُمْهُورِ، قالَهُ مَوْلانا السّالِيكُوتِيُّ، إلّا أنَّ الظّاهِرَ لا يُساعِدُهُ، فَتَدَبَّرْ. ﴿إنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ تَذْيِيلٌ مُؤَكِّدٌ لِما فُهِمَ مِن سابِقِهِ، وفِيهِ إشْعارٌ بِالِانْتِقامِ مِنَ الكُفّارِ، ووَعْدٌ لِلْمُؤْمِنِينَ بِالنُّصْرَةِ، والتَّمْكِينِ، ويَحْتَمِلُ عَلى بُعْدٍ أنْ يَكُونَ ذِكْرًا لِمُوجِبِ قَبُولِ أمْرِهِ بِالعَفْوِ والصَّفْحِ، وتَهْدِيدًا لِمَن يُخالِفُ أمْرَهُ،
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب