الباحث القرآني

﴿ولَوْ أنَّهم آمَنُوا﴾ أيْ بِالرَّسُولِ أوْ بِما أُنْزِلَ إلَيْهِ مِنَ الآياتِ، أوْ بِالتَّوْراةِ، ﴿واتَّقَوْا﴾ أيِ المَعاصِيَ الَّتِي حُكِيَتْ عَنْهم ﴿لَمَثُوبَةٌ مِن عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ﴾ جَوابُ لَوِ الشَّرْطِيَّةِ، وأصْلُهُ لَأُثِيبُوا مَثُوبَةً مِن عِنْدِ اللَّهِ خَيْرًا مِمّا شَرَوْا بِهِ أنْفُسَهُمْ، فَحُذِفَ الفِعْلُ، وغُيِّرَ السَّبْكُ إلى ما تَرى، لِيَتَوَسَّلَ بِذَلِكَ مَعَ مَعُونَةِ المَقامِ إلى الإشارَةِ إلى ثَباتِ المَثُوبَةِ، وثَباتِ نِسْبَةِ الخَيْرِيَّةِ إلَيْها، مَعَ الجَزْمِ بِخَبَرِيَّتِها، لِأنَّ الجُمْلَةَ إذا أفادَتْ ثَباتَ المَثُوبَةِ كانَ الحُكْمُ بِمَنزِلَةِ التَّعْلِيقِ بِالمُشْتَقِّ، كَأنَّهُ قِيلَ: لَمَثُوبَةٌ دائِمَةٌ خَيْرٌ لِدَوامِها، وثَباتِها، وحُذِفَ المُفَضَّلُ عَلَيْهِ إجْلالًا لِلْمُفَضَّلِ مِن أنْ يُنْسَبَ إلَيْهِ، ولَمْ يَقُلْ: لَمَثُوبَةُ اللَّهِ مَعَ أنَّهُ أخْصَرُ لِيُشْعِرَ التَّنْكِيرُ بِالتَّقْلِيلِ فَيُفِيدُ أنَّ شَيْئًا قَلِيلًا مِن ثَوابِ اللَّهِ تَعالى في الآخِرَةِ الدّائِمَةِ خَيْرٌ مِن ثَوابٍ كَثِيرٍ في الدُّنْيا الفانِيَةِ، فَكَيْفَ وثَوابُ اللَّهِ تَعالى كَثِيرٌ دائِمٌ، وفِيهِ مِنَ التَّرْغِيبِ والتَّرْهِيبِ المُناسِبَيْنِ لِلْمَقامِ ما لا يَخْفى، وبِبَيانِ الأصْلِ انْحَلَّ إشْكالانِ لَفْظِيٌّ، وهو أنَّ جَوابَ لَوْ إنَّما يَكُونُ فَعِلِيَّةٌ ماضَوِيَّةٌ، ومَعْنَوِيٌّ وهو أنَّ خَيْرِيَّةَ المَثُوبَةِ ثابِتَةٌ لا تَعَلُّقَ لَها بِإيمانِهِمْ وعَدَمِهِ، ولِهَذَيْنِ الإشْكالَيْنِ قالَ الأخْفَشُ، واخْتارَهُ جَمْعٌ: لِسَلامَتِهِ مِن وُقُوعِ الجُمْلَةِ الِابْتِدائِيَّةِ في الظّاهِرِ جَوابًا لِلَوْ، ولَمْ يُعْهَدْ ذَلِكَ في لِسانِ العَرَبِ كَما في البَحْرِ أنَّ اللّامَ جَوابُ قَسَمٍ مَحْذُوفٍ، والتَّقْدِيرُ ولَوْ أنَّهم آمَنُوا واتَّقَوْا لَكانَ خَيْرًا لَهُمْ، ولَمَثُوبَةٌ عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ، وبَعْضُهُمُ التَزَمَ التَّمَنِّيَ، ولَكِنْ مِن جِهَةِ العِبادِ، لا مِن جِهَتِهِ تَعالى خِلافًا لِمَنِ اعْتَزَلَ دَفْعًا لَهُما، إذْ لا جَوابَ لَها حِينَئِذٍ، ويَكُونُ الكَلامُ مُسْتَأْنَفًا، كَأنَّهُ لَمّا تَمَنّى لَهم ذَلِكَ قِيلَ: ما هَذا التَّحَسُّرُ والتَّمَنِّي؟ فَأُجِيبَ بِأنَّ هَؤُلاءِ المُبْتَذِلِينَ حَرَّمُوا ما شَيْءٌ قَلِيلٌ مِنهُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيا وما فِيها، وفي ذَلِكَ تَحْرِيضٌ وحَثٌّ عَلى الإيمانِ، وذَهَبَ أبُو حَيّانَ إلى أنَّ (خَيْرٌ) هُنا لِلتَّفْضِيلِ، لا لِلْأفْضَلِيَّةِ عَلى حَدِّ: فَخَيْرُكُما لِشَرِّكُما فِداءُ والمَثُوبَةُ مَفْعَلَةٌ بِضَمِّ العَيْنِ مِنَ الثَّوابِ فَنُقِلَتِ (p-348)الضَّمَّةُ إلى ما قَبْلَها، فَهو مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ، وقِيلَ: مَفْعُولَةٌ وأصْلُها مَثْوُوبَةٌ فَنُقِلَتْ ضَمَّةُ الواوِ إلى ما قَبْلَها وحُذِفَتْ لِالتِقاءِ السّاكِنَيْنِ، فَهي مِنَ المَصادِرِ الَّتِي جاءَتْ عَلى مَفْعُولَةٍ كَمَصْدُوقَةٍ كَما نَقَلَهُ الواحِدِيُّ، ويُقالُ: مَثْوَبَةٌ بِسُكُونِ الثّاءِ وفَتْحِ الواوِ، وكانَ مِن حَقِّها أنْ تُعَلَّ فَيُقالُ: مَثابَةٌ كَمُقامَةٍ، إلّا أنَّهم صَحَّحُوها، كَما صَحَّحُوا في الأعْلامِ مَكُوزَةُ، وبِها قَرَأ قَتادَةُ، وأبُو السَّمّاكِ، والمُرادُ بِها الجَزاءُ والأجْرُ وسُمِّيَ بِذَلِكَ لِأنَّ المُحْسِنَ يَثُوبُ إلَيْهِ، والقَوْلُ بِأنَّ المُرادَ بِها الرَّجْعَةُ إلَيْهِ تَعالى بَعِيدٌ، ﴿لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ﴾ المَفْعُولُ مَحْذُوفٌ بِقَرِينَةِ السّابِقِ، أيْ إنَّ ثَوابَ اللَّهِ تَعالى خَيْرٌ، وكَلِمَةُ (لَوْ) إمّا لِلشَّرْطِ، والجَزاءُ مَحْذُوفٌ، أيْ آمَنُوا، وإمّا لِلتَّمَنِّي، ولا حَذْفَ، ونَفْيُ العِلْمِ عَلى التَّقْدِيرَيْنِ بِنَفْيِ ثَمَرَتِهِ الَّذِي هو العَمَلُ، أوْ لِتَرْكِ التَّدَبُّرِ، هَذا * * * ومِن بابِ الإشارَةِ في الآياتِ: واتَّبَعُوا أيِ اليَهُودُ، وهي القُوى الرُّوحانِيَّةُ ما تَتْلُو الشَّياطِينُ وهم مِنَ الإنْسِ المُتَمَرِّدُونَ الأشْرارُ، ومِنَ الجِنِّ الأوْهامُ والتَّخَيُّلاتُ المَحْجُوبَةُ عَنْ نُورِ الرُّوحِ المُتَمَرِّدَةِ عَنْ طاعَةِ القَلْبِ العاصِيَةِ لِأمْرِ العَقْلِ والشَّرْعِ، والنُّفُوسُ الأرْضِيَّةُ المُظْلِمَةُ القَوِيَّةُ عَلى عَهْدِ مُلْكِ سُلَيْمانَ الرُّوحُ الَّذِي هو خَلِيفَةُ اللَّهِ تَعالى في أرْضِهِ، وما كَفَرَ سُلَيْمانُ بِمُلاحَظَةِ السِّوى واتِّباعِ الهَوى وإسْنادِ التَّأْثِيرِ إلى الأغْيارِ، ولَكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا وسَتَرُوا مُؤْثَرِيَّةَ اللَّهِ تَعالى وظُهُورَهُ الَّذِي مَحا ظُلْمَةَ العَدَمِ ﴿يُعَلِّمُونَ النّاسَ السِّحْرَ﴾ والشُّبَهَ الصّادَّةَ عَنِ السَّيْرِ والسُّلُوكِ إلى مَلِكِ المُلُوكِ، ﴿وما أُنْزِلَ عَلى المَلَكَيْنِ﴾ وهُما العَقْلُ النَّظَرِيُّ والعَقْلُ العَمَلِيُّ النّازِلانِ مِن سَماءِ القُدْسِ إلى أرْضِ الطَّبِيعَةِ المَنكُوسانِ في بِئْرِها لِتَوَجُّهِهِما إلَيْها بِاسْتِجْذابِ النَّفْسِ إيّاهُما بِبابِلَ الصَّدْرِ المُعَذَّبانِ بِضِيقِ المَكانِ بَيْنَ أبْخِرَةِ حُبِّ الجاهِ ومَوادِّ الغَضَبِ وأدْخِنَةِ نِيرانِ الشَّهَواتِ المُبْتَلَيانِ بِأنْواعِ المُتَخَيَّلاتِ والمَوْهُوماتِ الباطِلَةِ مِنَ الحِيَلِ والشَّعْوَذَةِ والطَّلْسَماتِ، والنَّيْرِنْجاتِ، ﴿وما يُعَلِّمانِ مِن أحَدٍ حَتّى يَقُولا﴾ لَهُ إنَّما نَحْنُ امْتِحانٌ وابْتِلاءٌ مِنَ اللَّهِ تَعالى ﴿فَلا تَكْفُرْ﴾ وذَلِكَ لِقُوَّةِ النُّورِيَّةِ وبَقِيَّةِ المَلَكُوتِيَّةِ فِيهِما، فَإنَّ العَقْلَ دائِمًا يُنَبِّهُ صاحِبَهُ إذا صَحا عَنْ سَكْرَتِهِ، وهَبَّ مِن نَوْمَتِهِ عَنِ الكُفْرِ والِاحْتِجابِ، ﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ﴾ القَلْبِ والنَّفْسِ، أوْ بَيْنَ الرُّوحِ والنَّفْسِ، بِتَكْدِيرِ القَلْبِ، ﴿ويَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ﴾ بِزِيادَةِ الِاحْتِجابِ وغَلَبَةِ هَوى النَّفْسِ، ولا يَنْفَعُهم كَسائِرِ العُلُومِ في رَفْعِ الحِجابِ، وتَخْلِيَةِ النَّفْسِ وتَزْكِيَتِها، ﴿ولَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ﴾ في مَقامِ الفَناءِ والرُّجُوعِ إلى الحَقِّ سُبْحانَهُ مِن نَصِيبٍ لِإقْبالِهِ عَلى العالَمِ السُّفْلِيِّ، وبُعْدِهِ عَنِ العالَمِ العُلْوِيِّ بِتَكَدُّرِ جَوْهَرِ قَلْبِهِ، وانْهِماكِهِ بِرُؤْيَةِ الأغْيارِ، ولَوْ أنَّهم آمَنُوا بِرُؤْيَةِ الأفْعالِ مِنَ اللَّهِ تَعالى واتَّقَوُا الشِّرْكَ بِإثْباتِ ما سِواهُ لَأُثِيبُوا بِمَثُوبَةٍ مِن عِنْدِ اللَّهِ تَعالى دائِمَةٍ، ولَرَجَعُوا إلَيْهِ، وذَلِكَ خَيْرٌ لَهم لَوْ كانُوا مِن ذَوِي العِلْمِ والعِرْفانِ والبَصِيرَةِ والإيقانِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب