الباحث القرآني

﴿قالَ كَذَلِكَ قالَ رَبُّكَ هو عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾ قَرَأ الحَسَنُ ( وهو عَلِيَّ هَيِّنٌ ) بِالواوِ، وعَنْهُ أنَّهُ كَسَرَ ياءَ المُتَكَلِّمِ كَما في قَوْلِ النّابِغَةِ: ؎عَلَيَّ لِعَمْرٍو نِعْمَةٌ بَعْدَ نِعْمَةٍ لِوالِدِهِ لَيْسَتْ بِذاتِ عَقارِبِ ونَحْوُ ذَلِكَ قِراءَةُ حَمْزَةَ (وما أنْتُمْ بِمُصْرِخِيِّ) بِكَسْرِ الياءِ، والكافُ إمّا رَفْعٌ عَلى الخَبَرِيَّةِ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أيِ الأمْرُ كَذَلِكَ، وضَمِيرُ (قالَ) لِلرَّبِّ عَزَّ وجَلَّ لا لِلْمَلَكِ المُبَشِّرِ لِئَلّا يَفُكَّ النَّظْمَ، وذَلِكَ إشارَةٌ إلى قَوْلِ زَكَرِيّا عَلَيْهِ السَّلامُ، والخِطابُ في ﴿قالَ رَبُّكَ﴾ لَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ لا لِنَبِيِّنا ﷺ بِدَلِيلِ السّابِقِ واللّاحِقِ، وجُمْلَةُ ﴿هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾ مَفْعُولُ (قالَ) الثّانِي، وجُمْلَةُ الأمْرِ كَذَلِكَ مَعَ جُمْلَةِ ﴿قالَ رَبُّكَ﴾ إلَخْ مَفْعُولُ (قالَ) الأوَّلُ وإنْ لَمْ يَتَخَلَّلْ بَيْنَ الجُمْلَتَيْنِ عاطِفٌ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها ومُرْساها إنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ وقَوْلِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى: ﴿قالُوا أإذا مِتْنا وكُنّا تُرابًا وعِظامًا أإنّا لَمَبْعُوثُونَ﴾ ﴿لَقَدْ وُعِدْنا﴾ الآيَةَ (p-68)وكَمْ وكَمْ، وجِيءَ بِالجُمْلَةِ الأُولى تَصْدِيقًا مِنهُ تَعالى لِزَكَرِيّا عَلَيْهِ السَّلامُ وبِالثّانِيَةِ جَوابًا لِما عَسى يُتَوَهَّمُ مِن أنَّهُ إذا كانَ ذَلِكَ في الِاسْتِبْعادِ بِتِلْكَ المَنزِلَةِ وقَدْ صَدَقَتْ فِيهِ فَأنّى يَتَسَنّى فَهي في نَفْسِها اسْتِئْنافِيَّةٌ لِذَلِكَ، ولا يَحْسُنُ تَخَلَّلُ العاطِفِ في مِثْلِ هاتَيْنِ الجُمْلَتَيْنِ إذا كانَ المَحْكِيُّ عَنْهُ قَدْ تَكَلَّمَ بِهِما مَعًا مِن غَيْرِ عاطِفٍ لِيَدُلَّ عَلى الصُّورَةِ الأُولى لِلْقَوْلِ بِعَيْنِها، وكَذَلِكَ لا يَحْسُنُ إضْمارُ قَوْلٍ آخَرَ لِأنَّهُ يَكُونُ اسْتِئْنافًا جَوابًا لِلْمَحْكِيِّ لَهُ فَلا يَدُلُّ عَلى أنَّهُ اسْتِئْنافٌ أيْضًا في الأوَّلِ إلّا بِمُنْفَصِلٍ، أمّا لَوْ تَكَلَّمَ بِهِما في زَمانَيْنِ أوْ بِدُونِ ذَلِكَ التَّرْتِيبِ فالظّاهِرُ العَطْفُ أوِ الِاسْتِئْنافُ بِإضْمارِ القَوْلِ. ثُمَّ لَوْ كانَ الِاقْتِصارُ في جَوابِ زَكَرِيّا عَلَيْهِ السَّلامُ عَلى ﴿هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾ مِن دُونِ إقْحامِ ﴿قالَ رَبُّكَ﴾ لَكانَ مُسْتَقِيمًا لَكِنْ إنَّما عَدَلَ إلَيْهِ لِلدَّلالَةِ عَلى تَحْقِيقِ الوَعْدِ وإزالَةِ الِاسْتِبْعادِ بِالكُلِّيَّةِ عَلى مِنوالِ ما إذا وعَدَ مَلِكٌ بَعْضَ خَواصِّهِ ما لا يَجِدُ نَفْسَهُ تَسْتَأْهِلُ ذَلِكَ فَأخَذَ يَتَعَجَّبُ مُسْتَبْعِدًا أنْ يَكُونَ مِنَ المَلِكِ بِتِلْكَ المَنزِلَةِ فَحاوَلَ أنْ يُحَقِّقَ مُرادَهُ ويُزِيلَ اسْتِبْعادَهُ، فَإمّا أنْ يَقُولَ لا تَسْتَبْعِدُ أنَّهُ أهْوَنُ شَيْءٍ عَلى الكَلامِ الظّاهِرِ وإمّا أنْ يَقُولَ لا تَسْتَبْعِدُ قَدْ قُلْتُ إنَّهُ أهْوَنُ شَيْءٍ عَلِيَّ إشارَةً مِنهُ إلى أنَّهُ وعَدٌ سَبَقَ القَوْلُ بِهِ وتَحَتَّمَ وأنَّهُ مِن جَلالَةِ القَدْرِ بِحَيْثُ لا يُرى في إنْجازِهِ لِباغِيهِ كائِنًا مَن كانَ وقْعًا، فَكَيْفَ لِمَنِ اسْتَحَقَّ مِنهُ لِصِدْقِ قَدَمِهِ في عُبُودِيَّتِهِ إجْلالًا ورَفْعًا، وهَذا قَوْلٌ بِلِسانِ الإشارَةِ يُصَدَّقُ وإنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ سِيقَ مِنهُ نَطَقَ بِهِ لِأنَّ المَقْصُودَ أنَّ عُلُوَّ المَكانَةِ وسِعَةَ القُدْرَةِ وكَمالَ الجُودِ يَقْضِي بِذَلِكَ قِيلَ: أوَّلًا ثُمَّ إذا أرادَ تَرْشِيحَ هَذا المَعْنى عَدَلَ عَنِ الحِكايَةِ قائِلًا: قَدْ قالَ مَن أنْتَ غَرْسُ نَعْمائِهِ أنَّهُ أهْوَنُ شَيْءٍ عَلَيَّ ثُمَّ إذا حَكى المَلِكُ القِصَّةَ مَعَ بَعْضِ خُلَصائِهِ كانَ لَهُ أنْ يَقُولَ: قُلْتُ لِعَبْدِي فُلانٍ كَيْتَ وكَيْتَ قالَ: إنِّي ولَيْتُ قُلْتُ قالَ: مَن أنْتَ إلَخْ وأنْ يَقُولَ بَدَلَهُ قالَ سَيِّدُ فُلانٌ لَهُ ويَسْرُدُ الحَدِيثَ، فَهَذا وِزانُ الآيَةِ فِيما جَرى لِزَكَرِيّا عَلَيْهِ السَّلامُ وحَكى لِنَبِيِّنا عَلَيْهِ أفْضَلُ الصَّلاةِ وأكْمَلُ السَّلامُ، وقَدْ لاحَ مِن هَذا التَّقْرِيرِ إنَّ فَواتَ نُكْتَةِ الإقْحامِ مانِعٌ مِن أنْ يَجْعَلَ المَرْفُوعَ مِن صِلَةِ (قالَ) الثّانِي والمَجْمُوعُ صِلَةُ الأوَّلِ، والظّاهِرُ في تَوْجِيهِ قِراءَةِ الحَسَنِ عَلى هَذا أنَّ جُمْلَةَ ﴿هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾ عَطْفٌ عَلى مَحْذُوفٍ مِن نَحْوِ أفْعَلَ وأنا فاعِلٌ، ويَجُوزُ أنْ يُقالَ ورُبَّما أشْعَرَ كَلامُ الزَّمَخْشَرِيِّ بِإيثارِهِ أنَّهُ عُطِفَ عَلى الجُمْلَةِ السّابِقَةِ نَظَرًا إلى الأصْلِ لِما مَرَّ مِن أنَّ (قالَ) مُقْحَمٌ لِنُكْتَةٍ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: الأمْرُ كَذَلِكَ وهو عَلى ذَلِكَ يَهُونُ عَلَيَّ، وأمّا نَصْبٌ بِقالَ الثّانِي وهي الكافُ الَّتِي تُسْتَعْمَلُ مُقْحَمَةً في الأمْرِ العَجِيبِ الغَرِيبِ لِتَثْبِيتِهِ وذَلِكَ إشارَةٌ إلى مُبْهَمٍ يُفَسِّرُ ما بَعْدَهُ أعْنِي ﴿هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾ وضَمِيرُ (قالَ) لِلرَّبِّ كَما تَقَدَّمَ، والخِطابُ لِنَبِيِّنا ﷺ أيْضًا أيْ قالَ رَبُّ زَكَرِيّا لَهُ قالَ رَبُّكَ مِثْلَ ذَلِكَ القَوْلِ العَجِيبِ الغَرِيبِ هو عَلَيَّ هَيِّنٌ عَلى أنْ (قالَ) الثّانِي مَعَ ما في صِلَتِهِ مَقُولُ القَوْلِ الأوَّلِ وإقْحامُ القَوْلِ الثّانِي لِما سَلَفَ ولا يُنْصَبُ الكافُ بِقالَ الأوَّلِ وإلّا لَكانَ (قالَ) ثانِيًا تَأْكِيدًا لَفْظِيًّا لِئَلّا يَقَعَ الفَصْلُ بَيْنَ المُفَسِّرِ والمُفَسَّرِ بِأجْنَبِيٍّ وهو مُمْتَنِعٌ إذْ لا يَنْتَظِمُ أنْ يُقالَ: قالَ رَبُّ زَكَرِيّا قالَ رَبُّكَ ويَكُونُ الخِطابُ لِزَكَرِيّا عَلَيْهِ السَّلامُ والمُخاطَبُ غَيْرُهُ كَيْفَ وهَذا النَّوْعُ مِنَ الكَلامِ يَقَعُ فِيهِ التَّشْبِيهُ مُقَدَّمًا لا سِيَّما في التَّنْزِيلِ الجَلِيلِ مِن نَحْوِ ﴿وكَذَلِكَ جَعَلْناكم أُمَّةً﴾ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ إلى غَيْرِ ذَلِكَ، وهَذا الوَجْهُ لا يَتَمَشّى في قِراءَةِ الحَسَنِ لِأنَّ المُفَسَّرَ لا يَدْخُلُهُ الواوُ ولا يَجُوزُ حَذْفُهُ حَتّى يُجْعَلَ عَطْفًا عَلَيْهِ لِأنَّ الحَذْفَ والتَّفْسِيرَ مُتَنافِيانِ، وجُوِّزَ عَلى احْتِمالِ النَّصْبِ أنْ تَكُونَ الإشارَةُ إلى ما تَقَدَّمَ مِن وعْدِ اللَّهِ تَعالى إيّاهُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِقَوْلِهِ: ﴿إنّا نُبَشِّرُكَ﴾ إلَخْ أيْ قالَ رَبُّهُ سُبْحانَهُ لَهُ. قالَ رَبُّكَ مِثْلَ ذَلِكَ أيْ مِثْلَ ذَلِكَ القَوْلِ العَجِيبِ الَّذِي وعَدْتُهُ وعَرَفْتُهُ وهو ﴿إنّا نُبَشِّرُكَ﴾ إلَخْ، وأداةُ التَّشْبِيهِ (p-69)مُقْحَمَةٌ كَما مَرَّ فَيَكُونُ المَعْنى وعَدَ ذَلِكَ وحَقَّقَهُ وفَرَغَ مِنهُ، فَكُنْ فارِغَ البالِ مِن تَحْصِيلِهِ عَلى أوْثَقِ بالٍ ثُمَّ قالَ: هو عَلَيَّ هَيِّنٌ أيْ قالَ رَبُّكَ هو عَلَيَّ هَيِّنٌ فَيُضْمِرُ القَوْلَ لِيَتَطابَقا في البَلاغَةِ، ولِأنَّ قَوْلَهُ مِثْلَ ذَلِكَ مُفْرَدٌ فَلا يَحْسُنُ أنْ تُقْرَنَ الجُمْلَةُ بِهِ ويَنْسَحِبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ القَوْلُ بِعَيْنِهِ بَلْ إنَّما يُضْمَرُ مِثْلُهُ اسْتِئْنافًا إيفاءًا بِحَقِّ التَّناسُبِ. وإنْ شِئْتَ لَمْ تُنَوِّهْ لِيَكُونَ مَحْكِيًّا مُنْتَظِمًا في سِلْكَ ﴿قالَ رَبُّكَ﴾ مُنْسَحِبًا عَلَيْهِ القَوْلُ الأوَّلُ أيْ قالَ رَبُّ زَكَرِيّا لَهُ هو عَلَيَّ هَيِّنُ لِأنَّ اللَّهَ تَعالى هو المُخاطِبُ لِزَكَرِيّا عَلَيْهِ السَّلامُ فَلا مَنعَ مِن جَعْلِهِ مَقُولَ القَوْلِ الأوَّلِ مِن غَيْرِ إضْمارٍ لِأنَّ القَوْلَيْنِ- أعْنِي قالَ رَبُّكَ مِثْلَ ذَلِكَ هو عَلَيَّ هَيِّنٌ- صادِرانِ مَعًا مَحْكِيّانِ عَلى حالِهِما. ولَوْ قُدِّرَ أنَّ المُخاطَبَ غَيْرُهُ تَعالى أعْنِي المِلْكَ تَعَيَّنَ إضْمارَ القَوْلِ لِامْتِناعِ أنْ يَكُونَ هو عَلَيَّ هَيِّنٌ مِن مِقْوَلِهِ فَلا يَنْسَحِبُ عَلَيْهِ الأوَّلُ. وأمّا عَلى قِراءَةِ الحَسَنِ فَإنْ جُعِلَ عَطْفًا عَلى ﴿قالَ رَبُّكَ﴾ لَمْ يَحْتَجْ إلى إضْمارٍ لِصِحَّةِ الِانْسِحابِ وإنْ أُرِيدَ تَأْكِيدُهُ أيْضًا قُدِّرَ القَوْلُ لِئَلّا تَفُوتَ البَلاغَةُ ويَكُونُ التَّناسُبُ حاصِلًا، وجَعْلُهُ عَطْفًا ما بَعْدَهُ (قالَ) الثّانِي مِن دُونِ التَّقْدِيرِ يَفُوتُ بِهِ رِعايَةَ التَّناسُبِ لَفْظًا فَإنَّ ما بَعْدَهُ مُفْرَدٌ والمُلاءَمَةُ مَعْنًى لِما عَرَفْتَ أنَّ لِأقُولَ عَلى الحَقِيقَةِ، والمَعْنى قالَ رَبُّهُ قَدْ حُقِّقَ المَوْعُودُ وفَرَغَ عَنْهُ فَلا بُدَّ مِن تَقْدِيرِهِ عَلى ﴿هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ﴾ لِيُفِيدَ تَحْقِيقَهُ أيْضًا، ولَوْ قُدِّرَ أنَّ المُخاطَبَ غَيْرُهُ تَعالى تَعَيَّنَ الإضْمارُ لِعَدَمِ الِانْسِحابِ دُونَهُ فافْهَمْ، وهَذا ما حَقَّقَهُ صاحِبُ الكَشْفِ وقَرَّرَ بِهِ عِبارَةَ الكَشّافِ بِأدْنى اخْتِصارٍ، ثُمَّ ذَكَرَ أنَّ خُلاصَةَ ما وجَدَهُ مِن قَوْلِ الأفاضِلِ أنَّ التَّقْدِيرَ عَلى احْتِمالِ أنْ تَكُونَ الإشارَةُ إلى ما تَقَدَّمَ مِنَ الوَعْدِ قالَ رَبُّ زَكَرِيّا لَهُ قالَ رَبُّكَ قَوْلًا مِثْلَ قَوْلِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى السّابِقِ عِدَّةً في الغَرابَةِ والعَجَبِ، فاتَّجَهَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ أنْ يَسْألَ ماذا قُلْتَ يا رَبِّ وهو مِثْلُهُ فَيَقُولُ: هو عَلَيَّ هَيِّنٌ أيْ قُلْتُ أوْ قالَ رَبُّكَ. والأصْلُ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ قُلْتُ قَوْلًا مِثْلَ الوَعْدِ في الغَرابَةِ فَعَدَلَ إلى الِالتِفاتِ أوِ التَّجْرِيدِ أيًّا شِئْتَ تُسَمِّيهِ لِفائِدَتِهِ المَعْلُومَةِ، ولَيْسَ في الإتْيانِ بِأصْلِ القَوْلِ خُرُوجٌ عَنْ مُقْتَضى الظّاهِرِ إذْ لا بُدَّ مِنهُ لِيَنْتَظِمَ الكَلامُ، وذَلِكَ لِأنَّ المَعْنى عَلى هَذا التَّقْدِيرِ ولا تَعْجَبْ مِن ذَلِكَ القَوْلِ وانْظُرْ إلى مِثْلِهِ واعَجَبْ فَقَدْ قُلْناهُ. وكَذَلِكَ يَتَّجِهُ لِنَبِيِّنا صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ السُّؤالُ فَيُجابُ بِأنَّهُ قالَ لَهُ رَبُّهُ هو عَلَيَّ هَيِّنٌ، وصِحَّةُ وُقُوعِهِ جَوابًا عَنْ سُؤالِ نَبِيِّنا عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وهو الأظْهَرُ عَلى هَذا الوَجْهِ لِأنَّ الكَلامَ مَعَهُ، وإذْ قَدْ صَحَّ أنْ يُجْعَلَ جَوابًا لَهُ جازَ إضْمارُ القَوْلِ لِأنَّهُ جَوابٌ لَهُ ﷺ بِما يَدُلُّ عَلى أنَّهُ خُوطِبَ بِهِ زَكَرِيّا عَلَيْهِ السَّلامُ أيْضًا وجازَ أنْ لا يُضْمَرَ لِأنَّ المُخاطَبَ لَهُما واحِدٌ والخِطابُ مَعَ نَبِيِّنا ﷺ وعُلِمَ مِن ضَرُورَةِ المُماثَلَةِ أنَّهُ قِيلَ لِزَكَرِيّا أيْضًا هَذِهِ المَقالَةُ ولَوْ كانَ الحاكِي والقائِلُ الأوَّلُ مُخْتَلِفِينَ في هَذِهِ الصُّورَةِ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِن إضْمارِهِ لِأنَّهُ إذا قالَ عَمْرُو لِبَكْرٍ ماذا قالَ زَيْدٌ لِخالِدٍ مِمّا يُماثِلُ مَقالَتَهُ السّابِقَةَ لَهُ؟ فَيَقُولُ: إنَّكَ مُحَبَّبٌ مَرَضِيٌّ وجَبَ أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ قالَ زَيْدٌ لِخالِدٍ هَذِهِ المَقالَةَ لا مَحالَةَ، ولا بُعْدَ في تَنْزِيلِ كَلامِ الزَّمَخْشَرِيِّ عَلَيْهِ، وهَذا ما لَوَّحَ إلَيْهِ صاحِبُ التَّقْرِيبِ وآثَرَهُ الإمامُ الطِّيبِيُّ وفِيهِ فَواتُ النُّكْتَةِ المَذْكُورَةِ في ﴿قالَ رَبُّكَ﴾ ثُمَّ إنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ سَبَقَ القَوْلَ كانَ كَذِبًا مِن حَيْثُ الظّاهِرُ إذْ لَيْسَ مِنَ القَوْلِ بِلِسانِ الإشارَةِ إلّا أنْ يُؤَوَّلَ بِأنَّهُ مُسْتَقْبَلٌ مَعْنًى، هَذا والكَلامُ مَسُوقٌ لِما يُزِيلُ الِاسْتِبْعادَ ويُحَقِّقُ المَوْعُودَ المُرْتادَ، وفي ذَلِكَ التَّقْدِيرِ خُرُوجٌ عَنْهُ إلى مَعْنًى آخَرَ رُبَّما يَسْتَلْزِمُ هَذا المَعْنى تَبَعًا، وما سِيقَ لَهُ الكَلامُ يَنْبَغِي أنْ يُجْعَلَ الأصْلَ. انْتَهى. وهُوَ كَلامُ تَحْقِيقٍ وتَدْقِيقٍ لا يُرْشِدُ إلَيْهِ إلّا تَوْفِيقٌ، وفي الآيَةِ وجْهٌ آخَرُ هو ما أشارَ إلَيْهِ صاحِبُ الِانْتِصافِ، (وهَيِّنٌ) فَيْعَلٌ مِن هانَ الشَّيْءُ يَهُونُ إذا لَمْ يَصْعُبْ، والمُرادُ أنِّي كامِلُ القُدْرَةِ عَلى ذَلِكَ إذا أرَدْتُهُ كانَ. (p-70)﴿وقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ ولَمْ تَكُ شَيْئًا﴾ تَقْرِيرٌ لِما قَبْلُ، والشَّيْءُ هُنا بِمَعْنى المَوْجُودِ أيْ ولَمْ تَكُ مَوْجُودًا بَلْ كُنْتَ مَعْدُومًا، والظّاهِرُ أنَّ هَذا إشارَةٌ إلى خَلْقِهِ بِطَرِيقِ التَّوالُدِ والِانْتِقالِ في الأطْوارِ كَما يُخْلَقُ سائِرُ أفْرادِ الإنْسانِ، وقالَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ: المُرادُ بِهِ ابْتِداءُ خَلْقِ البَشَرِ، إذْ هو الواقِعُ إثْرَ العَدَمِ المَحْضِ لا ما كانَ بَعْدَ ذَلِكَ بِطَرِيقِ التَّوالُدِ المُعْتادِ فَكَأنَّهُ قِيلَ: وقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ في تَضاعِيفِ خَلْقِ آدَمَ ولَمْ تَكُ إذْ ذاكَ شَيْئًا أصْلًا بَلْ كُنْتَ عَدَمًا بَحْتًا، وإنَّما لَمْ يَقُلْ: وقَدْ خَلَقْتُ أباكَ أوْ آدَمَ مِن قَبْلُ ولَمْ يَكُ شَيْئًا مَعَ كِفايَتِهِ في إزالَةِ الِاسْتِبْعادِ بِقِياسِ حالِ ما بُشِّرَ بِهِ عَلى حالِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ لِتَأْكِيدِ الِاحْتِجاجِ وتَوْضِيحِ مِنهاجِ القِياسِ مِن حَيْثُ نُبِّهَ عَلى أنَّ كُلَّ فَرْدٍ مِن أفْرادِ البَشَرِ لَهُ حَظٌّ مِن إنْشائِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ مِنَ العَدَمِ لِأنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ أبْدَعَ أنَمُوذَجًا مُنْطَوِيًا عَلى سائِرِ آحادِ الجِنْسِ فَكانَ إبْداعُهُ عَلى ذَلِكَ الوَجْهِ إبْداعًا لِكُلِّ أحَدٍ مِن فُرُوعِهِ كَذَلِكَ، ولَمّا كانَ خَلْقُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلى هَذا النَّمَطِ السّارِي إلى جَمِيعِ ذُرِّيَّتِهِ أبْدَعَ مِن أنْ يَكُونَ مَقْصُورًا عَلى نَفْسِهِ كَما هو المَفْهُومُ مِن نِسْبَةِ الخَلْقِ المَذْكُورِ إلَيْهِ، وأدُلَّ عَلى عِظَمِ قُدْرَتِهِ تَعالى وكَمالِ عِلْمِهِ وحِكْمَتِهِ، وكانَ عَدَمُ زَكَرِيّا حِينَئِذٍ أظْهَرَ عِنْدَهُ وكانَ حالُهُ أوْلى بِأنْ يَكُونَ مِعْيارًا لِحالِ ما بُشِّرَ بِهِ نَسَبُ الخَلْقِ المَذْكُورُ إلَيْهِ كَما نُسِبَ الخَلْقُ والتَّصْوِيرُ إلى المُخاطَبِينَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَقَدْ خَلَقْناكم ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ﴾ تَوْفِيَةً لِمَقامِ الِامْتِنانِ حَقَّهُ انْتَهى، ولا يَخْلُو عَنْ تَكَلُّفٍ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ الشَّيْءُ بِمَعْنى المُعْتَدِّ بِهِ وهو مَجازٌ شائِعٌ، ومِنهُ قَوْلُ المُتَنَبِّي: ؎وضاقَتِ الأرْضُ حَتّى كانَ هارِبُهم ∗∗∗ إذا رَأى غَيْرَ شَيْءٍ ظَنَّهُ رَجُلا وقَوْلُهم: عَجِبْتُ مِن لا شَيْءَ ولَيْسَ بِشَيْءٍ إذْ يَأْباهُ المَقامُ ويَرُدُّهُ نَظْمُ الكَلامِ. وقَرَأ الأعْمَشُ وطَلْحَةُ وابْنُ وثّابٍ وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ ( خَلَقْناكَ ) .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب