الباحث القرآني

وقَدْ قابَلَ سُبْحانَهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ جَلَّ وعَلا: ﴿ونَسُوقُ المُجْرِمِينَ﴾ كَما تُساقُ البَهائِمُ ﴿إلى جَهَنَّمَ وِرْدًا﴾ أيْ عِطاشًا كَما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وأبِي هُرَيْرَةَ والحَسَنِ وقَتادَةَ ومُجاهِدٍ، وأصْلُهُ مَصْدَرُ ورَدَ أيْ سارَ إلى الماءِ، قالَ الرّاجِزُ: ؎رِدِي رِدِي وِرْدَ قَطاةٍ صَمّا كُدْرِيَّةٍ أعْجَبَها بَرْدَ الما وإطْلاقُهُ عَلى العِطاشِ مَجازٌ لِعَلاقَةِ اللُّزُومِ لِأنَّ مَن يَرِدُ الماءَ لا يَرِدُهُ إلّا لِعَطَشٍ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ الوِرْدِ الدَّوابَّ الَّتِي تَرِدُ الماءَ، والكَلامُ عَلى التَّشْبِيهِ أيْ نَسُوقُهم كالدَّوابِّ الَّتِي تَرِدُ الماءَ، وفي الكَشْفِ في لَفْظِ الوِرْدِ تَهَكُّمٌ واسْتِخْفافٌ عَظِيمٌ لا سِيَّما وقَدْ جَعَلَ المَوْرِدَ جَهَنَّمَ أعاذَنا اللَّهُ تَعالى مِنها بِرَحْمَتِهِ، فَلْيَنْظُرْ ما بَيْنَ الجُمْلَتَيْنِ مِنَ الفَرْقِ العَظِيمِ وقَرَأ الحَسَنُ والجَحْدَرِيُّ ( يُحْشَرُ المُتَّقُونَ ويُساقُ المُجْرِمُونَ ) بِبِناءِ الفِعْلَيْنِ لِلْمَفْعُولِ. واسْتُدِلَّ بِالآيَةِ عَلى أنَّ أهْوالَ القِيامَةِ تَخْتَصُّ بِالمُجْرِمِينَ لِأنَّ المُتَّقِينَ مِنَ الِابْتِداءِ يُحْشَرُونَ مُكَرَّمِينَ فَكَيْفَ يَنالُهم بَعْدَ ذَلِكَ شِدَّةٌ، وفي البَحْرِ الظّاهِرِ أنَّ حَشْرَ المُتَّقِينَ إلى الرَّحْمَنِ وفْدًا أبْعَدَ انْقِضاءَ الحِسابِ وامْتِيازَ الفَرِيقَيْنِ، وحَكاهُ ابْنُ الجَوْزِيِّ عَنْ أبِي سُلَيْمانَ الدِّمَشْقِيِّ، وذَكَرَ ذَلِكَ النَّيْسابُورِيُّ احْتِمالًا بَحْثًا في الِاسْتِدْلالِ السّابِقِ. وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ ذَلِكَ لا يَتَأتّى عَلى ما سَمِعْتَ في الخَبَرِ المَرْوِيِّ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ فَإنَّهُ صَرِيحٌ في أنَّهم يَرْكَبُونَ عِنْدَ خُرُوجِهِمْ مِنَ القُبُورِ ويَنْتَهُونَ إلى بابِ الجَنَّةِ وهو ظاهِرٌ في أنَّهم لا يُحاسَبُونَ. وقالَ بَعْضُهم: إنَّ المُرادَ بِالمُتَّقِينَ المَوْصُوفُونَ بِالتَّقْوى الكامِلَةِ ولا يَبْعُدُ أنْ يَدْخُلُوا الجَنَّةَ بِلا حِسابٍ فَقَدْ صَحَّتِ الأخْبارُ بِدُخُولِ طائِفَةٍ مِن هَذِهِ الأُمَّةِ الجَنَّةَ كَذَلِكَ، فَفي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما قالَ: خَرَجَ إلَيْنا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ذاتَ يَوْمٍ فَقالَ: ( عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ يَمُرُّ النَّبِيُّ مَعَهُ الرَّجُلُ والنَّبِيُّ مَعَهُ الرَّجُلانِ والنَّبِيُّ لَيْسَ مَعَهُ أحَدٌ والنَّبِيُّ مَعَهُ الرَّهْطُ، فَرَأيْتُ سَوادًا كَثِيرًا فَرَجَوْتُ أنْ يَكُونَ أُمَّتِي فَقِيلَ: هَذا مُوسى وقَوْمُهُ ثُمَّ قِيلَ: انْظُرْ فَرَأيْتُ سَوادًا كَثِيرًا فَقِيلَ: هَؤُلاءِ أمَتُّكَ ومَعَ هَؤُلاءِ سَبْعُونَ ألْفًا يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسابٍ، فَتَفَرَّقَ النّاسُ ولَمْ يُبَيِّنْ لَهم رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ فَتَذاكَرَ أصْحابُهُ فَقالُوا: أمّا نَحْنُ فَوُلِدْنا في الشِّرْكِ ولَكِنْ قَدْ آمَنّا بِاللَّهِ تَعالى ورَسُولِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ هَؤُلاءِ أبْناؤُنا (p-137)فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ( هُمُ الَّذِينَ لا يَسْتَرْقُونَ ولا يَكْتَوُونَ ولا يَتَطَيَّرُونَ وعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ) الحَدِيثَ. وأخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وحَسَّنَهُ «عَنْ أبِي أُمامَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ قالَ: ( سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: وعَدَنِي رَبِّي أنْ يُدْخِلَ الجَنَّةَ مِن أُمَّتِي سَبْعِينَ ألْفًا لا حِسابَ عَلَيْهِمْ ولا عَذابَ مَعَ كُلِّ ألْفٍ سَبْعِينَ ألْفًا وثَلاثَ حَثَياتٍ مِن حَثَياتِ رَبِّي» ). وأخْرَجَ الإمامُ أحْمَدُ والبَزّارُ والطَّبَرانِيُّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: ( «إنَّ رَبِّي أعْطانِي سَبْعِينَ ألْفًا مِن أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسابٍ، فَقالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ: هَلّا اسْتَزَدْتَهُ؟ قالَ: قَدِ اسْتَزَدْتُهُ فَأعْطانِي هَكَذا، وفَرَّجَ بَيْنَ يَدَيْهِ وبَسَطَ باعَيْهِ وجَثى» ). قالَ هِشامٌ: هَذا مِنَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ لا يُدْرى ما عَدَدُهُ. وأخْرَجَ الطَّبَرانِيُّ والبَيْهَقِيُّ «عَنْ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ الأنْصارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ قالَ: ( احْتَبَسَ عَنّا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ثَلاثًا لا ) يَخْرُجُ إلّا إلى صَلاةٍ مَكْتُوبَةٍ ثُمَّ يَرْجِعُ، فَلَمّا كانَ اليَوْمُ الرّابِعُ خَرَجَ إلَيْنا ﷺ فَقُلْنا: يا رَسُولَ اللَّهِ احْتَبَسْتَ عَنّا حَتّى ظَنَنّا أنَّهُ حَدَثَ حَدَثٌ قالَ: لَمْ يَحْدُثِ الأخِيرَ إنَّ رَبِّي وعَدَنِي أنْ يُدْخِلَ مِن أُمَّتِي الجَنَّةَ سَبْعِينَ ألْفًا بِلا حِسابٍ، وإنِّي سَألْتُ رَبِّي في هَذِهِ الثَّلاثِ أيّامٍ المَزِيدَ فَوَجَدْتُ رَبِّي ماجِدًا كَرِيمًا فَأعْطانِي مَعَ كُلِّ واحِدٍ سَبْعِينَ ألْفًا» ) الخَبَرَ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأخْبارِ وفي بَعْضِها ذُكِرَ مَن يَدْخُلُ الجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسابٍ بِوَصْفِهِ كالحامِدِينَ اللَّهَ تَعالى شَأْنُهُ في السَّرّاءِ والضَّرّاءِ، وكالَّذِينِ تَتَجافى جُنُوبُهم عَنِ المَضاجِعِ وكالَّذِينِ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ ولا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعالى، وكالَّذِي يَمُوتُ في طَرِيقِ مَكَّةَ ذاهِبًا أوْ راجِعًا، وكَطالِبِ العِلْمِ والمَرْأةِ المُطِيعَةِ لِزَوْجِها والوَلَدِ البارِّ بِوالِدَيْهِ، وكالرَّحِيمِ الصَّبُورِ وغَيْرِ ذَلِكَ، ووَجْهُ الجَمْعِ بَيْنَ الأخْبارِ ظاهِرٌ ويَلْزَمُ عَلى تَخْصِيصِ المُتَّقِينَ بِالمَوْصُوفِينَ بِالتَّقْوى الكامِلَةِ دُخُولُ عُصاةِ المُؤْمِنِينَ في المُجْرِمِينَ أوْ عَدَمُ احْتِمالِ الآيَةِ عَلى بَيانِ حالِهِمْ، واسْتَدَلَّ بَعْضُهم بِالآيَةِ عَلى ما رُوِيَ مِنَ الخَبَرِ عَلى عَدَمِ إحْضارِ المُتَّقِينَ جِثِيًّا حَوْلَ جَهَنَّمَ، فَما يَدُلُّ عَلى العُمُومِ مُخَصَّصٌ بِمِثْلِ ذَلِكَ فَتَأمَّلْ، واللَّهُ تَعالى المُوَفِّقُ. ونُصِبَ (يَوْمَ) عَلى الظَّرْفِيَّةِ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ مُؤَخَّرٍ أيْ يَوْمَ نَحْشُرُ ونَسُوقُ نَفْعَلُ بِالفَرِيقَيْنِ مِنَ الأفْعالِ ما لا يُحِيطُ بِبَيانُهُ نِطاقَ المَقالِ، وقِيلَ: عَلى المَفْعُولِيَّةِ بِمَحْذُوفٍ مُقَدَّمٍ خُوطِبَ بِهِ سَيِّدُ المُخاطَبِينَ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ أيِ اذْكُرْ لَهم بِطَرِيقِ التَّرْغِيبِ والتَّرْهِيبِ يَوْمَ نَحْشُرُ إلَخْ، وقِيلَ: عَلى الظَّرْفِيَّةِ بِنَعُدُّ بِاعْتِبارِ مَعْنى المُجازاةِ، وقِيلَ: بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى ﴿سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ﴾ . وقِيلَ بِقَوْلِهِ جَلَّ وعَلا ﴿ويَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا﴾، وقِيلَ: بِقَوْلِهِ تَعالى شَأْنُهُ:
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب