الباحث القرآني
﴿قالَ رَبِّ﴾ والجُمْلَةُ تَفْسِيرٌ لِلنِّداءِ وبَيانٌ لِكَيْفِيَّتِهِ فَلا مَحَلَّ لَها مِنَ الإعْرابِ ﴿إنِّي وهَنَ العَظْمُ مِنِّي﴾ أيْ: ضَعُفَ، وإسْنادُ ذَلِكَ إلى العَظْمِ لِما أنَّهُ عِمادُ البَدَنِ ودِعامُ الجَسَدِ فَإذا أصابَهُ الضَّعْفُ والرَّخاوَةُ تَداعى ما وراءَهُ وتَساقَطَتْ قُوَّتُهُ، فَفي الكَلامِ كِنايَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلى تَشْبِيهٍ مُضْمَرٍ في النَّفْسِ أوْ لِأنَّهُ أشَدُّ أجْزائِهِ صَلابَةً وقِوامًا وأقَلُّها تَأثُّرًا مِنَ العِلَلِ فَإذا وهَنَ كانَ ما وراءَهُ أوْهَنَ، فَفي الكَلامِ كِنايَةٌ بِلا تَشْبِيهٍ، وأفْرَدَ- عَلى ما قالَهُ العَلّامَةُ الزَّمَخْشَرِيُّ وارْتَضاهُ (p-60)كَثِيرٌ مِنَ المُحَقِّقِينَ- لِأنَّ المُفْرَدَ هو الدّالُّ عَلى مَعْنى الجِنْسِيَّةِ، والقَصْدُ إلى أنَّ هَذا الجِنْسَ الَّذِي هو العَمُودُ والقِوامُ، وأشَدُّ ما تَرَكَّبَ مِنهُ الجَسَدُ قَدْ أصابَهُ الوَهَنُ ولَوْ جُمِعَ لَكانَ القَصْدُ إلى مَعْنًى آخَرَ وهو أنَّهُ لَمْ يَهِنْ مِنهُ بَعْضُ عِظامِهِ ولَكِنْ كُلُّها حَتّى كَأنَّهُ وقَعَ مِن سامِعٍ شَكَّ في الشُّمُولِ والإحاطَةِ لِأنَّ القَيْدَ في الكَلامِ ناظِرٌ إلى نَفْيِ ما يُقابِلُهُ، وهَذا غَيْرُ مُناسِبٍ لِلْمَقامِ، وقالَ السَّكّاكِيُّ: إنَّهُ تَرَكَ جَمْعَ (العَظْمُ) إلى الإفْرادِ لِطَلَبِ شُمُولِ الوَهْنِ العِظامَ فَرْدًا فَرْدًا ولَوْ جَمْعٌ لَمْ يَتَعَيَّنْ ذَلِكَ لِصِحَّةِ وهَنَتِ العِظامُ عِنْدَ حُصُولِ الوَهَنِ لِبَعْضٍ مِنها دُونَ كُلِّ فَرْدٍ وهو مَسْلَكٌ آخَرُ مَرْجُوحٌ عِنْدَ الكَثِيرِ وتَحْقِيقُ ذَلِكَ في مَوْضِعِهِ، وعَنْ قَتادَةَ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ اشْتَكى سُقُوطَ الأضْراسِ ولا يَخْفى أنَّ هَذا يَحْتاجُ إلى خَبَرٍ يَدُلُّ عَلَيْهِ فَإنَّ انْفِهامَهُ مِنَ الآيَةِ مِمّا لا يَكادُ يُسَلَّمُ، و(مِنِّي) مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ هو حالٌ مِنَ العَظْمِ، ولَمْ يَقُلْ- عَظْمِي- مَعَ أنَّهُ أخْصَرُ لِما في ذَلِكَ مِنَ التَّفْصِيلِ بَعْدَ الإجْمالِ ولِأنَّهُ أصْرَحُ في الدَّلالَةِ عَلى الجِنْسِيَّةِ المَقْصُودَةِ هُنا، وتَأْكِيدُ الجُمْلَةِ لِإبْرازِ كَمالِ الِاعْتِناءِ بِتَحْقِيقِ مَضْمُونِها.
وقَرَأ الأعْمَشُ ( وهِنَ ) بِكَسْرِ الهاءِ، وقُرِئَ بِضَمِّها أيْضًا ﴿واشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا﴾ شَبَّهَ الشَّيْبَ في البَياضِ والإنارَةِ بِشُواظِ النّارِ وانْتِشارَهُ في الشِّعْرِ وفُشُوَّهُ فِيهِ وأخْذَهُ مِنهُ كُلَّ مَأْخَذٍ بِاشْتِعالِها، ثُمَّ أخْرَجَهُ مَخْرَجَ الِاسْتِعارَةِ، فَفي الكَلامِ اسْتِعارَتانِ تَصْرِيحِيَّةٌ تَبَعِيَّةٌ في (اشْتَعَلَ) ومَكْنِيَّةٌ في الشَّيْبِ، وانْفِكاكُها عَنِ التَّخْيِيلِيَّةِ مِمّا عَلَيْهِ المُحَقِّقُونَ مِن أهْلِ المَعانِي عَلى أنَّهُ يُمْكِنُ عَلى بُعْدِ القَوْلِ بِوُجُودِ التَّخْيِيلِيَّةِ هُنا أيْضًا. وتَكَلَّفَ بَعْضُهم لِزَعْمِهِ عَدَمَ جَوازِ الِانْفِكاكِ وعَدَمَ ظُهُورِ وُجُودِ التَّخْيِيلِيَّةِ إخْراجَ ما في الآيَةِ مَخْرَجَ الِاسْتِعارَةِ التَّمْثِيلِيَّةِ ولَيْسَ بِذاكَ، وأسْنَدَ الِاشْتِعالَ إلى مَحَلِّ الشَّعْرِ ومَنبَتِهِ وأخْرَجَ مَخْرَجَ التَّمْيِيزِ لِلْمُبالَغَةِ وإفادَةِ الشُّمُولِ، فَإنَّ إسْنادَ مَعْنًى إلى ظَرْفٍ ما اتَّصَفَ بِهِ زَمانِيًّا أوْ مَكانِيًّا يُفِيدُ عُمُومَ مَعْناهُ لِكُلِّ ما فِيهِ في عُرْفِ التَّخاطُبِ فَقَوْلُكَ: اشْتَعَلَ بَيْتُهُ نارًا يُفِيدُ احْتِراقَ جَمِيعِ ما فِيهِ دُونَ اشْتَعَلَ نارُ بَيْتِهِ.
وزَعَمَ بَعْضُهم أنَّ (شَيْبًا) نُصِبَ عَلى المَصْدَرِيَّةِ لِأنَّ مَعْنى (اشْتَعَلَ الرَّأْسُ) شابَ، وقِيلَ هو حالٌ أيْ شائِبًا وكِلا القَوْلَيْنِ لا يَرْتَضِيهِما كامِلٌ كَما لا يَخْفى، واكْتَفى بِاللّامِ عَنِ الإضافَةِ لِأنَّ تَعْرِيفَ العَهْدِ المَقْصُودِ هُنا يُفِيدُ ما تُفِيدُهُ، ولِمّا كانَ تَعْرِيفُ (العَظْمُ) السّابِقِ لِلْجِنْسِ كَما عَلِمْتَ لَمْ يَكْتَفِ بِهِ وزادَ قَوْلَهُ (مِنِّي) وبِالجُمْلَةِ ما أفْصَحَ هَذِهِ الجُمْلَةَ وأبْلَغَها، ومِنها أخَذَ ابْنُ دُرَيْدٍ قَوْلَهُ:
؎واشْتَعَلَ المَبِيضُ في مُسَوَّدِهِ مِثْلَ اشْتِعالِ النّارِ في جَزْلِ الغَضاءِ
وعَنْ أبِي عَمْرٍو أنَّهُ أدْغَمَ السِّينَ في الشِّينِ ﴿ولَمْ أكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا﴾ أيْ: لَمْ أكُنْ بِدُعائِي إيّاكَ خائِبًا في وقْتٍ مِن أوْقاتِ هَذا العُمْرِ الطَّوِيلِ بَلْ كُلَّما دَعَوْتُكَ اسْتَجَبْتَ لِي، والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلى ما قَبْلَها، وقِيلَ حالٌ مِن ياءِ المُتَكَلِّمِ إذِ المَعْنى واشْتَعَلَ رَأْسِي وهو غَرِيبٌ، وهَذا تَوَسُّلٌ مِنهُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِما سَلَفَ مِنهُ تَعالى مِنَ الِاسْتِجابَةِ عِنْدَ كُلِّ دَعْوَةٍ إثْرِ تَمْهِيدِ ما يَسْتَدْعِي الرَّحْمَةَ مِن كِبَرِ السِّنِّ وضَعْفِ الحالِ فَإنَّهُ تَعالى بَعْدَ ما عَوَّدَ عَبْدَهُ الإجابَةَ دَهْرًا طَوِيلًا لا يَكادُ يُخَيِّبُهُ أبَدًا لا سِيَّما عِنْدَ اضْطِرارِهِ وشَدَّةِ افْتِقارِهِ، وفي هَذا التَّوَسُّلِ مِنَ الإشارَةِ إلى عِظَمِ كَرَمِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ ما فِيهِ.
وقَدْ حُكِيَ أنَّ حاتِمًا الطّائِيَّ، وقِيلَ مَعْنُ بْنُ زائِدَةَ أتاهُ مُحْتاجٌ فَسَألَهُ وقالَ: أنا الَّذِي أحْسَنْتَ إلَيْهِ وقْتَ كَذا فَقالَ: مَرْحَبًا بِمَن تَوَسَّلَ بِنا إلَيْنا وقَضى حاجَتَهُ، وقِيلَ المَعْنى ولَمْ أكُنْ بِدُعائِكَ إيّايَ إلى الطّاعَةِ شَقِيًّا بَلْ (p-61)كُنْتُ مِمَّنْ أطاعَكَ وعَبَدَكَ مُخْتَصًّا فالكافُ عَلى هَذا فاعِلٌ والأوَّلُ أظْهَرُ وأوْلى ورُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما، والتَّعَرُّضُ في المَوْضِعَيْنِ لِوَصْفِ الرُّبُوبِيَّةِ المُنْبِئَةِ عَنْ إفاضَةِ ما فِيهِ صَلاحُ المَرْبُوبِ مَعَ الإضافَةِ إلى ضَمِيرِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ لا سِيَّما تَوْسِيطُهُ بَيْنَ كانَ وخَبَرَها لِتَحْرِيكِ سِلْسِلَةِ الإجابَةِ بِالمُبالَغَةِ في التَّضَرُّعِ.
وقَدْ جاءَ في بَعْضِ الآثارِ أنَّ العَبْدَ إذا قالَ في دُعائِهِ: يا رَبِّ قالَ اللَّهُ تَعالى لَهُ: لَبَّيْكَ عَبْدِي.
ورُوِيَ أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ قالَ يَوْمًا في دُعائِهِ: يا رَبِّ فَقالَ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى لَهُ: لَبَّيْكَ يا مُوسى، فَقالَ مُوسى: أهَذا لِي خاصَّةً فَقالَ اللَّهُ تَبارَكَ وتَعالى: لا ولَكِنْ لِكُلِّ مَن يَدْعُونِي بِالرُّبُوبِيَّةِ.، وقِيلَ: إذا أرادَ العَبْدُ أنْ يُسْتَجابَ لَهُ دُعاؤُهُ فَلْيَدْعُ اللَّهَ تَعالى بِما يُناسِبُهُ مِن أسْمائِهِ وصِفاتِهِ عَزَّ وجَلَّ
{"ayah":"قَالَ رَبِّ إِنِّی وَهَنَ ٱلۡعَظۡمُ مِنِّی وَٱشۡتَعَلَ ٱلرَّأۡسُ شَیۡبࣰا وَلَمۡ أَكُنۢ بِدُعَاۤىِٕكَ رَبِّ شَقِیࣰّا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











