الباحث القرآني

﴿قالَ﴾ أيْ ذُو القَرْنَيْنِ لِمَن عِنْدَهُ مِن أهْلِ تِلْكَ الدِّيارِ وغَيْرِهِمْ هَذا إشارَةً إلى السَّدِّ، وقِيلَ: إلى تَمَكُّنِهِ مِن بِنائِهِ والفَضْلُ لِلْمُتَقَدِّمِ لِيَتَّحِدَ مَرْجِعُ الضَّمِيرِ المُتَأخِّرِ أيْ هَذا الَّذِي ظَهَرَ عَلى يَدَيَّ وحَصَلَ بِمُباشَرَتِي مِنَ السَّدِّ الَّذِي شَأْنُهُ ما ذُكِرَ مِنَ المَتانَةِ وصُعُوبَةِ المَنالِ ﴿رَحْمَةٌ﴾ أيْ: إثْرَ رَحْمَةٍ عَظِيمَةٍ وعَبَّرَ عَنْهُ بِها لِلْمُبالَغَةِ ﴿مِن رَبِّي﴾ عَلى كافَّةِ العِبادِ لا سِيَّما عَلى مُجاوَرِيهِ، وكَوْنُ السَّدِّ رَحْمَةً عَلى العِبادِ ظاهِرٌ، وإذا جَعَلْتَ الإشارَةَ إلى التَّمَكُّنِ فَكَوْنُهُ رَحْمَةً عَلَيْهِمْ أنَّهُ سَبَبٌ لِذَلِكَ، ورُبَّما يُرَجَّحُ المُتَقَدِّمُ أيْضًا بِاحْتِياجِ المُتَأخِّرِ إلى هَذا التَّأْوِيلِ، وإنْ كانَ الأمْرُ فِيهِ سَهْلًا، وفي الأخْبارِ عَنْهُ بِما ذُكِرَ إيذانٌ عَلى ما قِيلَ بِأنَّهُ لَيْسَ مِن قَبِيلِ الآثارِ الحاصِلَةِ بِمُباشَرَةِ الخَلْقِ عادَةً بَلْ هو إحْسانٌ إلَهِيٌّ مَحْضٌ وإنْ ظَهَرَ بِالمُباشَرَةِ، وفي التَّعَرُّضِ لِوَصْفِ الرُّبُوبِيَّةِ تَرْبِيَةُ مَعْنى الرَّحْمَةِ، وقَرَأ ابْنُ أبِي عَبْلَةَ ( هَذِهِ رَحْمَةٌ ) بِتَأْنِيثِ اسْمِ الإشارَةِ وخَرَجَ عَلى أنَّهُ رِعايَةٌ لِلْخَبَرِ أوْ جَعْلُ المُشارِ إلَيْهِ القُدْرَةَ والقُوَّةَ عَلى ذَلِكَ ﴿فَإذا جاءَ وعْدُ رَبِّي﴾ أيْ: وقْتُ وعْدِهِ تَعالى فالكَلامُ عَلى حَذْفِ مُضافٍ والإسْنادُ إلى الوَعْدِ مَجازٌ وهو لِوَقْتِهِ حَقِيقَةٌ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الوَعْدُ بِمَعْنى المَوْعُودِ وهو وقْتُهُ أوْ وُقُوعُهُ فَلا حَذْفَ ولا مَجازَ في الإسْنادِ بَلْ هُناكَ مَجازٌ في الطَّرَفِ، والمُرادُ مِن وقْتِ ذَلِكَ يَوْمُ القِيامَةِ، وقِيلَ: وقْتُ خُرُوجِ يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ. وتُعُقِّبَ بِأنَّهُ لا يُساعِدُهُ النَّظْمُ الكَرِيمُ والمُرادُ بِمَجِيئِهِ ما يَنْتَظِمُ مَجِيئُهُ ومَجِيءُ مَبادِيهِ مِن خُرُوجِهِمْ وخُرُوجِ الدَّجّالِ ونُزُولِ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ ونَحْوِ ذَلِكَ، لا دُنُوُّ وُقُوعِهِ فَقَطْ كَما قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ وغَيْرُهُ، فَإنَّ بَعْضَ الأُمُورِ الَّتِي سَتُحْكى تَقَعُ بَعْدَ مَجِيئِهِ حَتْمًا (جَعَلَهُ) أيِ: السَّدَّ المُشارَ إلَيْهِ مَعَ مَتانَتِهِ ورَصانَتِهِ (دَكّاءَ) بِألِفِ التَّأْنِيثِ المَمْدُودَةِ والمَوْصُوفُ مُؤَنَّثٌ مُقَدَّرٌ أيْ أرْضًا مُسْتَوِيَةً، وقالَ بَعْضُهم: الكَلامُ عَلى تَقْدِيرِ مُضافٍ أيْ مِثْلَ دَكّاءَ وهي ناقَةٌ لا سَنامَ لَها ولا بُدَّ مِنَ التَّقْدِيرِ لِأنَّ السَّدَّ مُذَكَّرٌ لا يُوصَفُ بِمُؤَنَّثٌ، وقَرَأ غَيْرُ الكُوفِيِّينَ دَكًّا عَلى أنَّهُ مَصْدَرٌ دَكَكْتُهُ وهو بِمَعْنى المَفْعُولِ أيْ مَدْكُوكًا مُسَوًّى بِالأرْضِ أوْ عَلى ظاهِرِهِ والوَصْفُ بِهِ لِلْمُبالَغَةِ، والنَّصْبُ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ ثانٍ لِجَعَلَ وهي بِمَعْنى صَيَّرَ، وزَعَمَ ابْنُ عَطِيَّةَ أنَّها بِمَعْنى خَلَقَ ولَيْسَ بِشَيْءٍ. وهَذا الجَعْلُ وقْتَ مَجِيءِ الوَعْدِ بِمَجِيءِ بَعْضِ مَبادِيهِ، وفِيهِ بَيانٌ لِعِظَمِ قَدَّرْتِهِ تَعالى شَأْنُهُ بَعْدَ بَيانِ سِعَةِ رَحْمَتِهِ عَزَّ وجَلَّ، وكانَ عِلْمُهُ بِهَذا الجَعْلِ عَلى ما قِيلَ مِن تَوابِعِ عِلْمِهِ بِمَجِيءِ السّاعَةِ إذْ مِن مَبادِئِها دَكُّ الجِبالِ الشّامِخَةِ الرّاسِخَةِ ضَرُورَةَ أنَّهُ لا يَتِمُّ بِدُونِها واسْتِفادَتُهُ العِلْمَ بِمَجِيئِها مِمَّنْ كانَ في عَصْرِهِ مِنَ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ (p-43)العِلْمُ بِجَمِيعِ ذَلِكَ بِالسَّماعِ مِنَ النَّبِيِّ وكَذا العِلْمُ بِمَجِيءِ وقْتِ خُرُوجِهِمْ عَلى تَقْدِيرِ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ مُرادًا مِنَ الوَعْدِ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ عَنِ اجْتِهادٍ ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ عَنْ سَماعٍ. وفِي كِتابِ حَزْقِيالَ عَلَيْهِ السَّلامُ الإخْبارُ بِمَجِيئِهِمْ في آخِرِ الزَّمانِ مِن آخِرِ الجَرِّ بِياءٍ في أُمَمٍ كَثِيرَةٍ لا يُحْصِيهِمْ إلّا اللَّهُ تَعالى وإفْسادُهم في الأرْضِ وقَصْدُهم بَيْتَ المَقْدِسِ وهَلاكُهم عَنْ آخِرِهِمْ في بَرِّيَّتِهِ بِأنْواعٍ مِنَ العَذابِ وهو عَلَيْهِ السَّلامُ قَبْلَ إسْكَنْدَرَ غالِبِ دارا فَإذا كانَ هو ذا القَرْنَيْنِ فَيُمْكِنُ أنْ يَكُونَ وقَفَ عَلى ذَلِكَ فَأفادَهُ عِلْمًا بِما ذُكِرَ واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ، ثُمَّ إنَّ في الكَلامِ حَذْفًا أيْ وهو يَسْتَمِرُّ إلى آخِرِ الزَّمانِ فَإذا جاءَ وعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكّاءَ ﴿وكانَ وعْدُ رَبِّي﴾ أيْ: وعْدُهُ سُبْحانَهُ المَعْهُودُ أوْ كُلُّ ما وعَدَ عَزَّ وجَلَّ بِهِ فَيَدْخُلُ فِيهِ ذَلِكَ دُخُولًا أوَّلِيًّا (حَقًّا) ثابِتًا لا مَحالَةَ واقِعًا البَتَّةَ وهَذِهِ الجُمْلَةُ تَذْيِيلٌ مِن ذِي القَرْنَيْنِ لِما ذَكَرَهُ مِنَ الجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّةِ وتَأْكِيدٌ لِمَضْمُونِها وهو آخِرُ ما حُكِيَ مِن قِصَّتِهِ،
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب