الباحث القرآني
﴿وأمّا الجِدارُ﴾ المَعْهُودُ ﴿فَكانَ لِغُلامَيْنِ﴾ قِيلَ: إنَّهُما أصْرَمُ وصَرِيمٌ ﴿يَتِيمَيْنِ﴾ صَغِيرَيْنِ ماتَ أبُوهُما وهَذا هو الظّاهِرُ لِأنَّ يُتْمَ بَنِي آدَمَ بِمَوْتِ الأبِ، وفي الحَدِيثِ ( «لا يُتْمَ بَعْدَ بُلُوغٍ» )
وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يَحْتَمِلُ أنَّهُما كانا بِالغَيْنِ، والتَّعْبِيرُ عَنْهُما بِما ذُكِرَ بِاعْتِبارِ ما كانَ عَلى مَعْنى الشَّفَقَةِ عَلَيْهِما ولا يَخْفى أنَّهُ بَعِيدٌ جِدًّا ﴿فِي المَدِينَةِ﴾ هي القَرْيَةُ المَذْكُورَةُ فِيما سَبَقَ، ولَعَلَّ التَّعْبِيرَ عَنْها بِالمَدِينَةِ هُنا لِإظْهارِ نَوْعِ اعْتِدادٍ بِها بِاعْتِدادِ ما فِيها مِنَ اليَتِيمَيْنِ وما هو مِن أهْلِها وهو أبُوهُما الصّالِحُ. ولَمّا كانَ سَوْقُ الكَلامِ السّابِقِ عَلى غَيْرِ هَذا المَساقِ عَبَّرَ بِالقَرْيَةِ فِيهِ ﴿وكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما﴾ مالٌ مَدْفُونٌ مِن ذَهَبٍ وفِضَّةٍ كَما أخْرَجَهُ البُخارِيُّ في تارِيخِهِ والتِّرْمِذِيُّ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ مِن حَدِيثِ أبِي الدَّرْداءِ
وبِذَلِكَ قالَ عِكْرِمَةُ وقَتادَةُ، وهو في الأصْلِ مَصْدَرٌ ثُمَّ أُرِيدَ بِهِ اسْمُ المَفْعُولِ.
(p-13)قالَ الرّاغِبُ: الكَنْزُ جَعْلُ المالِ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ وحِفْظَهُ وأصْلُهُ مَن كَنَزَتِ التَّمْرِ في الوِعاءِ، واسْتَشْكَلَ تَفْسِيرُ الكَنْزِ بِما ذُكِرَ بِأنَّ الظّاهِرَ أنَّ الكانِزَ لَهُ أبُوهُما لِاقْتِضاءِ ﴿لَهُما﴾ لَهُ إذًا لا يَكُونُ لَهُما إلّا إذا كانَ إرْثًا أوْ كانا قَدِ اسْتَخْرَجاهُ والثّانِي مُنْتَفٍ فَتُعَيِّنُ الأوَّلُ وقَدْ وُصِفَ بِالصَّلاحِ، ويُعارِضُ ذَلِكَ ما جاءَ في ذَمِّ الكانِزِ. وأُجِيبُ بِأنَّ المَذْمُومَ ما لَمْ تُؤَدَّ مِنهُ الحُقُوقُ بَلْ لا يُقالُ لِما أدَّيْتَ مِنهُ كَنْزٌ شَرْعًا كَما يَدُلُّ عَلَيْهِ عِنْدَ القائِلِينَ بِالمَفْهُومِ حَدِيثُ: كُلُّ مالٍ لا تُؤَدّى زَكاتُهُ فَهو كَنْزٌ فَإنَّ النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِصَدَدِ بَيانِ الأحْكامِ الشَّرْعِيَّةِ لا المَفاهِيمِ اللُّغَوِيَّةِ لِأنَّها مَعْلُومَةٌ لِلْمُخاطَبِينَ ولا يُعْتَبَرُ في مَفْهُومِهِ اللُّغَوِيِّ المُرادِ هُنا شَيْءٌ مِنَ الإخْراجِ وعَدَمِهِ، والوَصْفُ بِالصَّلاحِ قَرِينَةٌ عَلى أنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنَ الكَنْزِ المَذْمُومِ، ومَن قالَ: إنَّ ( الكَنْزَ حَرامٌ مُطْلَقًا ادَّعى أنَّهُ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ في شَرْعِ مَن قَبْلَنا، واحْتَجَّ عَلَيْهِ بِما أخْرَجَهُ الطَّبَرانِيُّ عَنْ أبِي الدَّرْداءِ في هَذِهِ الآيَةِ قالَ: أُحِلَّتْ لَهُمُ الكُنُوزُ وحُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الغَنائِمُ وأُحِلَّتْ لَنا الغَنائِمُ وحُرِّمَتْ عَلَيْنا الكُنُوزُ.
وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ قَتادَةَ نَحْوَ ذَلِكَ وفِيهِ فَلا يَعْجَبَنَّ الرَّجُلُ فَيَقُولُ: ما شَأْنُ الكَنْزِ حَلَّ لِمَن قَبْلَنا وحُرِّمَ عَلَيْنا فَإنَّ اللَّهَ تَعالى يَحُلُّ مِن أمْرِهِ ما يَشاءُ ويُحَرِّمُ ما يَشاءُ وهي السُّنَنُ والفَرائِضُ تَحِلُّ لِأُمَّةٍ وتَحْرُمُ عَلى أُخْرى، وأخْرَجَ الحاكِمُ وصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: ما كانَ ذَهَبًا ولا فِضَّةً ولَكِنْ كانَ صُحُفَ عِلْمٍ، ورُوِيَ ذَلِكَ أيْضًا عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ، وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدُوَيْهِ مِن حَدِيثِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ مَرْفُوعًا والبَزّارُ عَنْ أبِي ذَرٍّ كَذَلِكَ، والخَرائِطِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ مَوْقُوفًا أنَّهُ كانَ لَوْحًا مِن ذَهَبٍ مَكْتُوبًا فِيهِ عَجِبْتُ لِمَن يُؤْمِنُ بِالقَدَرِ كَيْفَ يَحْزَنُ وعَجِبْتُ لِمَن يُؤْمِنُ بِالرِّزْقِ كَيْفَ يَتْعَبُ وعَجِبْتُ لِمَن يُؤْمِنُ بِالمَوْتِ كَيْفَ يَفْرَحُ وعَجِبْتُ لِمَن يُؤْمِنُ بِالحِسابِ كَيْفَ يَغْفُلُ وعَجِبْتُ لِمَن يَعْرِفُ الدُّنْيا وتَقَلُّبَها بِأهْلِها كَيْفَ يَطْمَئِنُّ إلَيْها لا إلَهَ إلّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ .
وفِي رِوايَةِ عَطاءٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ مَكْتُوبٌ في أحَدِ شِقَّيْهِ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ عَجِبْتُ إلَخْ، في الشِّقِّ الآخَرِ: أنا اللَّهُ لا إلَهَ إلّا أنا وحْدِي لا شَرِيكَ لِي خَلَقْتُ الخَيْرَ والشَّرَّ فَطُوبى لِمَن خَلَقْتُهُ لِلْخَيْرِ وأجْرَيْتُهُ عَلى يَدَيْهِ، والوَيْلُ لِمَن خَلَقْتُهُ لِلشَّرِّ وأجْرَيْتُهُ عَلى يَدَيْهِ.
وجَمَعَ بَعْضُهم بِأنَّ المُرادَ بِالكَنْزِ ما يَشْمَلُ جَمِيعَ ذَلِكَ بِناءً عَلى أنَّهُ المالُ المَدْفُونُ مُطْلَقًا، وكُلٌّ مِنَ المَذْكُوراتِ مالٌ كانَ مَدْفُونًا إلّا أنَّهُ اقْتَصَرَ في كُلٍّ مِنَ الرِّواياتِ عَلى واحِدٍ مِنها، وفِيهِ أنَّهُ عَلى بُعْدِهِ يَأْباهُ ظاهِرُ قَوْلِابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما ما كانَ ذَهَبًا ولا فِضَّةً ﴿وكانَ أبُوهُما صالِحًا﴾ الظّاهِرُ أنَّهُ الأبُ الأقْرَبُ الَّذِي ولَدَهُما، وذَكَرَ أنَّ اسْمَهُ كاشِحٌ وأنَّ اسْمَ أُمِّهِما دُهْنا، وقِيلَ: كانَ الأبَ العاشِرَ، وعَنْ جَعْفَرٍ الصّادِقِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ أنَّهُ كانَ الأبَ السّابِعَ.
وأيًّا ما كانَ فَفي الآيَةِ دَلالَةٌ عَلى أنَّ صَلاحَ الآباءِ يُفِيدُ العِنايَةَ بِالأبْناءِ، وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ وأحْمَدُ في الزُّهْدِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ خَيْثَمَةَ قالَ: قالَ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ طُوبى لِذُرِّيَّةِ المُؤْمِنِ ثُمَّ طُوبى لَهم كَيْفَ يُحْفَظُونَ مِن بَعْدِهِ وتَلا خَيْثَمَةُ هَذِهِ الآيَةَ.
وأخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ المُنْذِرِ عَنْ وهْبٍ قالَ: إنَّ اللَّهَ تَعالى لَيَحْفَظُ بِالعَبْدِ الصّالِحِ القَبِيلَ مِنَ النّاسِ، وعَنِ الحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما أنَّهُ قالَ لِبَعْضِ الخَوارِجِ في كَلامٍ جَرى بَيْنَهُما: بِمَ حَفِظَ اللَّهُ تَعالى مالَ الغُلامَيْنِ؟
قالَ: بِصَلاحِ أبِيهِما. قالَ: فَأبِي وجَدِّي خَيْرٌ مِنهُ، فَقالَ الخارِجِيُّ أنْبَأنا اللَّهُ تَعالى: أنَّكم قَوْمٌ خَصِمُونَ، وذَكَرَ مِن صَلاحِ هَذا الرَّجُلِ أنَّ النّاسَ كانُوا يَضَعُونَ عِنْدَهُ الوَدائِعَ فَيَرُدُّها إلَيْهِمْ كَما وضَعُوها.
ويُرْوى أنَّهُ كانَ سَبّاحًا ﴿فَأرادَ رَبُّكَ﴾ مالِكُكَ ومُدَبِّرُ أُمُورِكَ، فَفي إضافَةِ الرَّبِّ إلى ضَمِيرِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ دُونَ (p-14)ضَمِيرِهِما تَنْبِيهٌ لَهُ عَلى تَحَتُّمِ كَمالِ الِانْقِيادِ والِاسْتِسْلامِ لِإرادَتِهِ سُبْحانَهُ ووُجُوبِ الِاحْتِرازِ عَنِ المُناقَشَةِ فِيما وقَعَ بِحَسْبِهِما الَّتِي يُشَمُّ مِنها طَلَبُ ما يَحْصُلُ بِهِ تَرْبِيَةُ البَدَنِ وتَدْبِيرُهُ ﴿أنْ يَبْلُغا أشُدَّهُما﴾ قِيلَ أيِ الحُلُمَ وكَمالَ الرَّأْيِ، وفي الصِّحاحِ القُوَّةُ وهو ما بَيْنَ ثَمانِيَ عَشَرَ إلى ثَلاثِينَ وهو واحِدٌ جاءَ عَلى بِناءِ الجَمْعِ مِثْلَ آنَّكَ ولا نَظِيرَ لَهُما، ويُقالُ: هو جَمْعٌ لا واحِدَ لَهُ مِن لَفْظِهِ مِثْلُ آسالَ وأبابِيلَ وعَبادِيدَ ومَذاكِيرَ، وكانَسِيبَوَيْهِ يَقُولُ: واحِدُهُ شُدُّهُ وهو حَسَنٌ في المَعْنى لِأنَّهُ يُقالُ بَلَغَ الغُلامُ شِدَّتَهُ ولَكِنْ لا يُجْمَعُ فَعْلَةٌ عَلى أفْعَلَ، وأمّا أنْعُمٌ فَإنَّما هو جَمْعُ نَعَمٍ مِن قَوْلِهِمْ: يَوْمُ بُؤْسٍ ويَوْمُ نَعَمْ، وأمّا قَوْلُ مَن قالَ: واحِدُهُ شَدٌّ مِثْلُ كَلْبٍ وأكْلُبٍ أوْ شِدٌّ مِثْلُ ذِئْبٍ وأذْؤُبٍ فَإنَّما هو قِياسٌ كَما يَقُولُونَ في واحِدِ الأبابِيلِ أبُّولُ قِياسًا عَلى عُجُولٍ ولَيْسَ هو شَيْءٌ يُسْمَعُ مِنَ العَرَبِ.
﴿ويَسْتَخْرِجا كَنْزَهُما﴾ مِن تَحْتِ الجِدارِ ولَوْلا أنِّي أقَمْتُهُ لانْقَضَّ وخَرَجَ الكَنْزُ مِن تَحْتِهِ قَبْلَ اقْتِدارِهِما عَلى حِفْظِهِ والِانْتِفاعِ بِهِ وذَكَرُوا أنَّ اليَتِيمَيْنِ كانا غَيْرَ عالِمَيْنِ بِالكَنْزِ ولَهُما وصِيٌّ يَعْلَمُ بِهِ لَكِنَّهُ كانَ غائِبًا والجِدارُ قَدْ شارَفَ فَلَوْ سَقَطَ لَضاعَ، فَلِذا أقامَهُ ﴿رَحْمَةً مِن رَبِّكَ﴾ مَفْعُولٌ لَهُ لِأرادَ وأُقِيمَ الظّاهِرُ مَقامَ الضَّمِيرِ، ولَيْسَ مَفْعُولًا لَهُ لِيَسْتَخْرِجا لِاخْتِلافِ الفاعِلِ، وبَعْضُهم أجازَ ذَلِكَ لِعَدَمِ اشْتِراطِهِ الِاتِّحادَ أوْ جَعْلِ المَصْدَرِ مِنَ المَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ وأجازَ أنْ يَكُونَ النَّصْبُ عَلى الحالِ وهو مِن ضَمِيرِ (يَسْتَخْرِجا) بِتَأْوِيلِ مَرْحُومِينَ، والزَّمَخْشَرِيُّ النَّصْبُ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِأرادَ فَإنَّ إرادَةَ ذَلِكَ رَحْمَةٌ مِنهُ تَعالى.
واعْتُرِضَ بِأنَّهُ إذا كانَ أرادَ رَبُّكَ بِمَعْنى رَحِمَ كانَتِ الرَّحْمَةُ مِنَ الرَّبِّ لا مَحالَةَ فَأيُّ فائِدَةٍ في ذِكْرِ قَوْلِهِ تَعالى ﴿مِن رَبِّكَ﴾ وكَذا إذا كانَ مَفْعُولًا لَهُ وقِيلَ: في الكَلامِ حَذْفٌ والتَّقْدِيرُ فَعَلْتُ ما فَعَلْتُ رَحْمَةً مِن رَبِّكَ فَهو حِينَئِذٍ مَفْعُولٌ لَهُ بِتَقْدِيرِ إرادَةِ أوْ رَجاءِ رَحْمَةِ رَبِّكَ أوْ مَنصُوبٌ بِنَزْعِ الخافِضِ، والرَّحْمَةُ بِمَعْنى الوَحْيِ أيْ بِرَحْمَةِ رَبِّكَ ووَحْيِهِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ ﴿وما فَعَلْتُهُ عَنْ أمْرِي﴾ أيْ: عَنْ رَأْيِي واجْتِهادِي تَأْكِيدًا لِذَلِكَ (ذَلِكَ) إشارَةٌ إلى ما ذَكَرَ مِنَ العَواقِبِ المَنظُومَةِ في سِلْكِ البَيانِ، وما فِيهِ مِن مَعْنى البُعْدِ لِلْإيذانِ بِبُعْدِ دَرَجَتِهِ في الفَخامَةِ ﴿تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ﴾ أيْ تَسْتَطِعْ وهو مُضارِعُ اسْطاعَ بِهَمْزِ الوَصْلِ وأصْلُهُ اسْتَطاعَ عَلى وزْنِ اسْتَفْعَلَ ثُمَّ حَذَفَ تاءَ الِافْتِعالِ تَخْفِيفًا وبَقِيَتِ الطّاءُ الَّتِي هي أصْلٌ. وزَعَمَ بَعْضُهم أنَّ السِّينَ عِوَضُ قَلْبِ الواوِ ألِفًا والأصْلُ أطاعَ ولا حاجَةَ تَدْعُو إلى أنَّ المَحْذُوفَ هي الطّاءُ الَّتِي هي فاءُ الفِعْلِ ثُمَّ دَعْوى أنَّهم أبْدَلُوا مِن تاءِ الِافْتِعالِ طاءً لِوُقُوعِها بَعْدَ السِّينِ، ويُقالُ تَسْتَتِيعُ بِإبْدالِ الطّاءِ تاءً وتَسْتِيعُ بِحَذْفِ تاءِ الِافْتِعالِ فاللُّغاتُ أرْبَعٌ كَما قالَ ابْنُ السِّكِّيتِ، وما ألْطَفَ حَذْفَ أحَدِ المُتَقارِبَيْنِ وبَقاءِ الآخَرِ في آخِرِ هَذا الكَلامِ الَّذِي وقَعَ عِنْدَهُ ذَهابُ الخَضِرِ عَنْ مُوسى عَلَيْهِما السَّلامُ.
وقالَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ: إنَّما خَصَّ هَذا بِالتَّخْفِيفِ لِأنَّهُ لَمّا تَكَرَّرَ في القِصَّةِ ناسَبَ تَخْفِيفَ الأخِيرِ، وتُعُقِّبَ بِأنَّ ذَلِكَ مُكَرَّرٌ أيْضًا وذاكَ أخَفُّ مِنهُ فَلِمَ لَمْ يُؤْتَ بِهِ ؟ وفِيهِ أنَّ الفَرْقَ ظاهِرٌ بَيْنَ هَذا وذَلِكَ، وقِيلَ: إنَّما خُصَّ بِالتَّخْفِيفِ لِلْإشارَةِ إلى أنَّهُ خَفَّ عَلى مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ ما لَقِيَهُ بِبَيانِ سَبَبِهِ، وتُعُقِّبَ بِأنَّهُ يُبْعِدُهُ أنَّهُ في الحِكايَةِ لا المَحْكِيِّ وأنْتَ تَعْلَمُ هَذا وكَذا ما ذَكَرْناهُ زَهْرَةٌ لا تَتَحَمَّلُ الفَرْكَ والتَّأْوِيلَ بِالمَعْنى السّابِقِ الَّذِي ذَكَرَ أنَّهُ المُرادُ أيْ ذَلِكَ مَآلُ وعاقِبَةُ الَّذِي لَمْ تَسْتَطِعْ ﴿عَلَيْهِ صَبْرًا﴾ مِنَ الأُمُورِ الَّتِي رَأيْتُ فَيَكُونُ إنْجازًا لِلتَّنْبِئَةِ المَوْعُودَةِ، وجَوَّزَ أنْ تَكُونَ الإشارَةُ إلى البَيانِ نَفْسِهِ فَيَكُونُ التَّأْوِيلُ بِمَعْناهُ المَشْهُورِ، وعَلى كُلِّ حالٍ فَهو فَذْلَكَةٌ لِما تَقَدَّمَ، وفي جَعْلِ (p-15)الصِّلَةِ غَيْرَ ما مَرَّ تَكْرِيرٌ لِلتَّنْكِيرِ وتَشْدِيدٌ لِلْعِتابِ، قِيلَ: ولَعَلَّ إسْنادَ الإرادَةِ أوَّلًا إلى ضَمِيرِ المُتَكَلِّمِ وحْدَهُ أنَّهُ الفاعِلُ المُباشِرُ لِلتَّعْيِيبِ، وثانِيًا إلى ضَمِيرِ المُتَكَلِّمِ ومَعَهُ غَيْرُهُ لِأنَّ إهْلاكَ الغُلامِ بِمُباشَرَتِهِ وفِعْلِهِ وتَبْدِيلِ غَيْرِهِ مَوْقُوفٌ عَلَيْهِ وهو بِمَحْضِ فِعْلِ اللَّهِ تَعالى وقُدْرَتِهِ فَضَمِيرُ- نا- مُشْتَرِكٌ بَيْنَ اللَّهِ تَعالى والخَضِرِ عَلَيْهِ السَّلامُ، وثالِثًا إلى اللَّهِ تَعالى وحْدَهُ لِأنَّهُ لا مَدْخَلَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ في بُلُوغِ الغُلامَيْنِ. واعْتُرِضَ تَوْجِيهُ ضَمِيرِ الجَمْعِ بِأنَّ اجْتِماعَ المَخْلُوقِ مَعَ اللَّهِ تَعالى في ضَمِيرٍ واحِدٍ لا سِيَّما ضَمِيرُ المُتَكَلِّمِ فِيهِ مِن تَرْكِ الأدَبِ ما فِيهِ. ويَدُلُّ عَلى ذَلِكَ ما جاءَ مِن «أنَّ ثابِتَ بْنَ قَيْسِ بْنِ شَمّاسٍ كانَ يَخْطُبُ في مَجْلِسِهِ ﷺ إذا ورَدَتْ وُفُودُ العَرَبِ فاتَّفَقَ إنْ قَدِمَ وفْدُ تَمِيمٍ فَقامَ خَطِيبُهم وذَكَرَ مَفاخِرَهم ومَآثِرَهم فَلَمّا أتَمَّ خُطْبَتَهُ قامَ ثابِتٌ وخَطَبَ خُطْبَةً قالَ فِيها: مَن يُطِعِ اللَّهَ عَزَّ وجَلَّ ورَسُولَهُ ﷺ فَقَدْ رَشَدَ ومَن يَعْصِهِما فَقَدْ غَوى، فَقالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: بِئْسَ خَطِيبَ القَوْمِ أنْتَ» .، وصَرَّحَ الخَطّابِيُّ أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كَرِهَ مِنهُ ما فِيهِ مِنَ التَّسْوِيَةِ، وأُجِيبُ بِأنَّهُ قَدْ وقَعَ نَحْوُ ذَلِكَ في الآياتِ والأحادِيثِ، فَمِن ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ ومَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلى النَّبِيِّ﴾ فَإنَّ الظّاهِرَ أنَّ ضَمِيرَ ﴿يُصَلُّونَ عَلى﴾ راجِعٌ إلى اللَّهِ تَعالى وإلى المَلائِكَةِ.
وقَوْلُهُ ﷺ في حَدِيثِ الإيمانِ: ( «أنْ يَكُونَ اللَّهُ ورَسُولُهُ أحَبَّ إلَيْهِ مِمّا سِواهُما» )
ولَعَلَّ ما كَرِهَهُ ﷺ مِن ثابِتٍ أنَّهُ وقَفَ عَلى قَوْلِهِ: يَعْصِهِما لا التَّسْوِيَةِ في الضَّمِيرِ، وظاهِرُ هَذا أنَّهُ لا كَراهَةَ مُطْلَقًا في هَذِهِ التَّسْوِيَةِ وهو أحَدُ الأقْوالِ في المَسْألَةِ. وثانِيها ما ذَهَبَ إلَيْهِ الخَطّابِيُّ أنَّها تُكْرَهُ تَنْزِيهًا، وثالِثُها ما يُفْهِمُهُ كَلامُ الغَزالِيِّ أنَّها تُكْرَهُ تَحْرِيمًا، وعَلى القَوْلِ بِالكَراهَةِ التَّنْزِيهِيَّةِ اسْتَظْهَرَ بَعْضُهم أنَّها غَيْرُ مُطَّرِدَةٍ فَقَدْ تُكْرَهُ في مَقامٍ دُونَ مَقامٍ. وبُنِيَ الجَوابُ عَمّا نَحْنُ فِيهِ عَلى ذَلِكَ فَقالَ: لَمّا كانَ المَقامُ الَّذِي قامَ فِيهِ ثابِتٌ مَقامَ خَطابَةٍ وإطْنابٍ وهو بِحَضْرَةِ قَوْمٍ مُشْرِكِينَ والإسْلامِ غَضٌّ طَرِيٌّ كَرِهَ ﷺ التَّسْوِيَةَ مِنهُ فِيهِ، وأمّا مِثْلُ هَذا المَقامِ الَّذِي القائِلُ فِيهِ والمُخاطَبُ مَن عَرَفَتْ وقُصِدَ فِيهِ نُكْتَةٌ وهو عَدَمُ اسْتِقْلالِهِ فَلا كَراهَةَ لِلتَّسْوِيَةِ فِيهِ. وخَصَّ بَعْضَ الكَراهَةِ بِغَيْرِ النَّبِيِّ ﷺ وحِينَئِذٍ يَقْوى الجَوابُ عَمّا ذَكَرَ لِأنَّهُ إذا جازَتْ لِلنَّبِيِّ ﷺ فَهو في كَلامِ اللَّهِ تَعالى وما حَكاهُ سُبْحانَهُ بِالطَّرِيقِ الأُولى.
وخُلاصَةُ ما قَرَّرَ في المَسْألَةِ أنَّ الحَقَّ أنَّهُ لا كَراهَةَ في ذَلِكَ في كَلامِ اللَّهِ تَعالى ورَسُولِهِ ﷺ كَما أُشِيرَ إلَيْهِ في شُرُوحِ البُخارِيِّ، وأمّا في حَقِّ البَشَرِ فَلَعَلَّ المُخْتارَ أنَّهُ مَكْرُوهٌ تَنْزِيهًا في مَقامٍ دُونَ مَقامٍ، هَذا وأنا لا أقُولُ بِاشْتِراكِ هَذا الضَّمِيرِ بَيْنَ اللَّهِ تَعالى والخَضِرِ عَلَيْهِ السَّلامُ لا لِأنَّ فِيهِ تَرْكَ الأدَبِ بَلْ لِأنَّ الظّاهِرَ أنَّهُ كَضَمِيرِ (خَشِينا) والظّاهِرُ في ذاكَ عَدَمُ الِاشْتِراكِ لِأنَّهُ مُحْوِجٌ لِارْتِكابِ المَجازِ عَلى أنَّ النُّكْتَةَ الَّتِي ذَكَرُوها في اخْتِيارِ التَّشْرِيكِ في ضَمِيرِ أرَدْنا لا تَظْهَرُ في اخْتِيارِهِ في ضَمِيرِ ﴿فَخَشِينا﴾ لِأنَّهُ لَمْ يَتَضَمَّنِ الكَلامُ الأوَّلُ فِعْلَيْنَ عَلى نَحْوِ ما تَضَمَّنَهُما الكَلامُ الثّانِي فَتَدَبَّرْ، وقِيلَ في وجْهِ تَغايُرِ الأُسْلُوبِ: إنَّ الأوَّلَ شَرٌّ فَلا يَلِيقُ إسْنادُهُ إلَيْهِ سُبْحانَهُ وإنْ كانَ هو الفاعِلَ جَلَّ وعَلا، والثّالِثُ خَيْرٌ فَأفْرَدَ إسْنادَهُ إلى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ. والثّانِي مُمْتَزِجٌ خَيْرُهُ وهو تَبْدِيلُهُ بِخَيْرٍ مِنهُ وشَرِّهِ وهو القَتْلُ، فَأُسْنِدَ إلى اللَّهِ تَعالى وإلى نَفْسِهِ نَظَرًا لَهُما. وفِيهِ أنَّ هَذا الإسْنادَ في (فَخَشِينا) أيْضًا وأيْنَ امْتِزاجُ الخَيْرِ والشَّرِّ فِيهِ، وجَعْلُ النُّكْتَةِ في التَّعْبِيرِ يُنافِيهِ مُجَرَّدُ المُوافِقَةِ لِتالِيهِ لَيْسَ بِشَيْءٍ كَما لا يَخْفى، وقِيلَ: الظّاهِرُ أنَّهُ أسْنَدَ الإرادَةَ في الأوَّلِينَ إلى نَفْسِهِ لَكِنَّهُ تَفَنَّنَ في التَّعْبِيرِ فَعَبَّرَ عَنْها بِضَمِيرِ المُتَكَلِّمِ مَعَ الغَيْرِ بَعْدَ ما عَبَّرَ بِضَمِيرِ المُتَكَلِّمِ الواحِدِ لِأنَّ مَرْتَبَةَ الِانْضِمامِ مُؤَخَّرَةٌ عَنْ مَرْتَبَةِ الِانْفِرادِ مَعَ أنَّ فِيهِ تَنْبِيهًا عَلى أنَّهُ مِنَ العُظَماءِ في عُلُومِ الحِكْمَةِ فَلَمْ يُقْدِمْ عَلى هَذا القَتْلِ إلّا لِحِكْمَةٍ عالِيَةٍ بِخِلافِ التَّعْيِيبِ، وأُسْنِدَ فِعْلُ الإبْدالِ إلى اللَّهِ (p-16)تَعالى إشارَةً إلى اسْتِقْلالِهِ سُبْحانَهُ بِالفِعْلِ وأنَّ الحاصِلَ لِلْعَبْدِ مُجَرَّدُ مُقارِنَةِ إرادَةِ الفِعْلِ دُونَ تَأْثِيرٍ فِيهِ كَما هو المَذْهَبُ الحَقُّ انْتَهى، وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ الإبْدالَ نَفْسَهُ مِمّا لَيْسَ لِإرادَةِ العَبْدِ مُقارَنَةٌ لَهُ أصْلًا وإنَّما لَها مُقارَنَةٌ لِلْقَتْلِ المَوْقُوفِ هو عَلَيْهِ عَلى أنَّ في هَذا التَّوْجِيهِ بَعْدُ ما فِيهِ. وفي الِانْتِصافِ لَعَلَّ إسْنادَ الأوَّلِ إلى نَفْسِهِ خاصَّةٌ مِن بابِ الأدَبِ مَعَ اللَّهِ تَعالى لِأنَّ المُرادَ ثَمَّ عَيْبٌ فَتَأدَّبَ عَلَيْهِ السَّلامُ بِأنْ نَسَبَ الإعابَةَ إلى نَفْسِهِ، وأمّا إسْنادُ الثّانِي إلى- نا- فالظّاهِرُ أنَّهُ مِن بابِ قَوْلِ خَواصِّ المَلِكِ أمَرْنا بِكَذا ودَبَّرْنا كَذا وإنَّما يَعْنُونَ أمْرَ المَلِكِ العَظِيمِ. ودَبَّرَ ويَدُلُّ عَلى ذَلِكَ قَوْلُهُ في الثّالِثِ: ﴿فَأرادَ رَبُّكَ أنْ يَبْلُغا أشُدَّهُما﴾ وهو كَما تَرى، وقِيلَ: اخْتِلافُ الأُسْلُوبِ لِاخْتِلافِ حالِ العارِفِ بِاللَّهِ سُبْحانَهُ فَإنَّهُ في ابْتِداءِ أمْرِهِ يَرى نَفْسَهُ مُؤَثِّرَةً فَلِذا أسْنَدَ الإرادَةَ أوَّلًا إلى نَفْسِهِ ثُمَّ يَتَنَبَّهُ إلى أنَّهُ لا يَسْتَقِلُّ بِالفِعْلِ بِدُونِ اللَّهِ تَعالى، فَلِذا أُسْنِدَ إلى ذَلِكَ الضَّمِيرِ ثُمَّ يَرى أنَّهُ لا دَخْلَ لَهُ وأنَّ المُؤَثِّرَ والمُرِيدَ إنَّما هو اللَّهُ تَعالى فَلِذا أسْنَدَهُ إلَيْهِ سُبْحانَهُ فَقَطْ وهَذا مَقامُ الفَناءِ ومَقامٌ كانَ اللَّهُ ولا شَيْءَ مَعَهُ وهو الآنُ كَما كانَ، وتُعَقِّبُ بِأنَّهُ إنْ أُرِيدَ أنَّ هَذِهِ الأحْوالَ مَرَّتْ عَلى الخَضِرِ عَلَيْهِ السَّلامُ واتَّصَفَ بِكُلٍّ مِنها أثْناءَ المُحاوَرَةِ فَهو باطِلٌ وكَيْفَ يَلِيقُ أنْ يَكُونَ إذْ ذاكَ مِمَّنْ يَتَّصِفُ بِالمَرْتَبَةِ الثّانِيَةِ فَضْلًا عَنِ المَرْتَبَةِ الأُولى وهو الَّذِي قَدْ أُوتِيَ مِن قِبَلِ العِلْمِ اللَّدُنْيِّ. وإنْ أُرِيدَ أنَّهُ عَبَّرَ تَعْبِيرَ مَنِ اتَّصَفَ بِكُلِّ مَرْتَبَةٍ مِن تِلْكَ المَراتِبِ وإنْ كانَ هو عَلَيْهِ السَّلامُ في أعْلاها فَإنْ كانَ ذَلِكَ تَعْلِيمًا لِمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ فَمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ أجَلُّ مِن أنْ يُعَلِّمَهُ الخَضِرُ عَلَيْهِ السَّلامُ مَسْألَةِ خَلْقِ الأعْمالِ، وإنْ كانَ تَعْلِيمًا لِغَيْرِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ فَلَيْسَ المَقامُ ذَلِكَ المَقامَ عَلى تَقْدِيرِ أنْ يَكُونَ هُناكَ غَيْرٌ يُسْمَعُ مِنهُ هَذا الكَلامُ وإنْ أُرِيدَ أنَّهُ عَبَّرَ في المَواضِعِ الثَّلاثَةِ بِأُسْلُوبٍ مَخْصُوصٍ مِن هاتِيكَ الأسالِيبِ إلّا أنَّهُ سُبْحانَهُ عَبَّرَ في كُلِّ مَوْضِعٍ بِأُسْلُوبٍ فَتَعَدَّدَتِ الأسالِيبُ في حِكايَتِهِ تَعالى القِصَّةَ لَنا تَعْلِيمًا وإشارَةً إلى هاتِيكَ المَراتِبِ وإنْ لَمْ يَكُنْ كَلامُ الخَضِرِ عَلَيْهِ السَّلامُ كَذَلِكَ فاللَّهُ تَعالى أجَلُّ وأعْظَمُ مِن أنْ يَنْقُلَ عَنْ أحَدٍ كَلامًا لَمْ يَقُلْهُ أوْ لَمْ يَقُلْ ما بِمَعْناهُ فالقَوْلُ بِذَلِكَ نَوْعُ افْتِراءٍ عَلَيْهِ سُبْحانَهُ. والَّذِي يَخْطُرُ بِبالِ العَبْدِ الفَقِيرِ أنَّهُ رُوعِيَ في الجَوابِ حالُ الِاعْتِراضِ وما تَضَمَّنَهُ وأشارَ إلَيْهِ فَلَمّا كانَ الِاعْتِراضُ الأوَّلُ بِناءً عَلى أنَّ لامَ (لِتُغْرِقَ) لِلتَّعْلِيلِ مُتَضَمِّنًا إسْنادَ إرادَةِ الإغْراقِ إلى الخَضِرِ عَلَيْهِ السَّلامُ وكانَ الإنْكارُ فِيهِ دُونَ الإنْكارِ فِيما يَلِيهِ بِناءً عَلى ما اخْتارَهُ المُحَقِّقُونَ مِن أنَّ (نُكْرًا) أبْلَغُ مِن (إمْرًا) ناسَبَ أنْ يَشْرَحَ بِإسْنادِ إرادَةِ التَّعْيِيبِ إلى نَفْسِهِ المُشِيرِ إلى نَفْيِ إرادَةِ الإغْراقِ عَنْها الَّتِي يُشِيرُ كَلامُ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ إلَيْها. وأنْ لا يَأْتِيَ بِما يَدُلُّ عَلى التَّعْظِيمِ أوْ ضَمِّ أحَدٍ مَعَهُ في الإرادَةِ لِعَدَمِ تَعْظِيمِ أمْرِ الإنْكارِ المُحْوِجِ لِأنْ يُقابَلَ بِما يَدُلُّ عَلى تَعْظِيمِ إرادَةِ خِلافِ ما حَسِبَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ وأنْكَرَهُ.
ولَمّا كانَ الِاعْتِراضُ الثّانِي في غايَةِ المُبالَغَةِ والإنْكارِ هُناكَ في نِهايَةِ الإنْكارِ ناسَبَ أنْ يُشِيرَ إلى أنَّ ما اعْتُرِضَ عَلَيْهِ وبُولِغَ في إنْكارِهِ قَدْ أُرِيدَ بِهِ أمْرٌ عَظِيمٌ ولَوْ لَمْ يَقَعْ لَمْ يُؤْمَن مِن وُقُوعِ خَطْبٍ جَسِيمٍ؛ فَلِذا أسْنَدَ الخَشْيَةَ والإرادَةَ إلى ضَمِيرِ المُعَظِّمِ نَفْسَهُ أوِ المُتَكَلِّمِ ومَعَهُ غَيْرُهُ فَإنَّ في إسْنادِ الإرادَةِ إلى ذَلِكَ تَعْظِيمًا لِأمْرِها وفي تَعْظِيمِهِ تَعْظِيمَ أمْرِ المُرادِ وكَذا في إسْنادِ الخَشْيَةِ إلى ذَلِكَ تَعْظِيمُ أمْرِها، وفي تَعْظِيمِهِ تَعْظِيمُ أمْرِ المَخْشِيِّ. ورُبَّما يُقالُ بِناءً عَلى إرادَةِ الضَّمِّ مِنّا: إنَّ في ذَلِكَ الإسْنادِ إشارَةً إلى أنَّ ما يُخْشى وما يُرادُ قَدْ بَلَغَ في العِظَمِ إلى أنْ يُشارِكَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ في الخَشْيَةِ مِنهُ، وفي إرادَتِهِ الخَضِرَ لا أنْ يَسْتَقِلَّ بِإنْكارِ (p-17)ما هو مِن مَبادِئِ ذَلِكَ المُرادِ وبِهِ يَنْقَطِعُ عَنِ الأصْلَيْنِ عِرْقُ الفَسادِ، ولَمّا كانَ الِاعْتِراضُ الثّالِثُ هَيِّنًا جِدًّا حَيْثُ كانَ بِلَفْظٍ لا تَصَلُّبَ فِيهِ ولا إزْعاجَ في ظاهِرِهِ وخافِيهِ، ومَعَ هَذا لَمْ يَكُنْ عَلى نَفْسِ الفِعْلِ بَلْ عَلى عَدَمِ أخْذِ الأُجْرَةِ عَلَيْهِ لِيُسْتَعانَ بِها عَلى إقامَةِ جِدارِ البَدَنِ وإزالَةِ ما أصابَهُ مِنَ الوَهَنِ فَناسَبَ أنْ يَلِينَ في جَوابِهِ المُقامِ ولا يَنْسُبَ لِنَفْسِهِ اسْتِقْلالًا أوْ مُشارِكَةً شَيْئًا ما مِنَ الأفْعالِ فَلِذا أسْنَدَ الإرادَةَ إلى الرَّبِّ سُبْحانَهُ وتَعالى ولَمْ يَكْتَفِ بِذَلِكَ حَتّى أضافَهُ إلى ضَمِيرِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ، ولا يُنافِي ذَلِكَ تَكْرِيرَ النَّكِيرِ والعِتابِ لِأنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَجْمُوعِ ما كانَ أوَّلًا مِن ذَلِكَ الجَنابِ، هَذا واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ بِحَقِيقَةِ أسْرارِ الكِتابِ وهو سُبْحانَهُ المُوَفِّقُ لِلصَّوابِ، واسْتَدَلَّ بِقَوْلِهِ: ﴿وما فَعَلْتُهُ عَنْ أمْرِي﴾ القائِلُونَ بِنُبُوَّتِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ وهو ظاهِرٌ في ذَلِكَ، واحْتِمالُ أنْ يَكُونَ هُناكَ نَبِيٌّ أمَرَهُ بِذَلِكَ عَنْ وحْيٍ كَما زَعَمَهُ القائِلُونَ بِوِلايَتِهِ احْتِمالٌ بَعِيدٌ عَلى أنَّهُ لَيْسَ في وصْفِهِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿آتَيْناهُ رَحْمَةً مِن عِنْدِنا وعَلَّمْناهُ مِن لَدُنّا عِلْمًا﴾ عَلى هَذا كَثِيرُ فائِدَةٍ بَلْ قَدْ يُقالُ: أيُّ فائِدَةٍ في هَذا العِلْمِ اللَّدُنِّيِّ إذا احْتاجَ في إظْهارِ العَجائِبِ لِمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ إلى تَوْسِيطِ نَبِيٍّ مِثْلِهِ، وقالَ بَعْضُهم: كانَ ذَلِكَ عَنْ إلْهامٍ ويَلْزَمُهُ القَوْلُ بِأنَّ الإلْهامَ كانَ حُجَّةً في بَعْضِ الشَّرائِعِ وأنَّ الخَضِرَ مِنَ المُكَلَّفِينَ بِتِلْكَ الشَّرِيعَةِ وإلّا فالظّاهِرُ أنَّ حُجِّيَّتَهُ لَيْسَتْ في شَرِيعَةِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ وكَذا هو لَيْسَ بِحُجَّةٍ في شَرِيعَتِنا عَلى الصَّحِيحِ، ومَن شَذَّ وقالَ بِحُجِّيَّتِهِ اشْتَرَطَ لِذَلِكَ أنْ لا يُعارِضَهُ نَصٌّ شَرْعِيٌّ فَلَوْ أطْلَعَ اللَّهُ تَعالى بِالإلْهامِ بَعْضَ عِبادِهِ عَلى نَحْوِ ما أطْلَعَ عَلَيْهِ الخَضِرَ عَلَيْهِ السَّلامُ مِن حالِ الغُلامِ لَمْ يَحِلَّ لَهُ قَتْلُهُ، وما أخْرَجَهُ الإمامُ أحْمَدُ عَنْ عَطاءٍ أنَّهُ قالَ: كَتَبَ نَجْدَةُ الحَرُورِيُّ إلى ابْنِ عَبّاسٍ يَسْألُهُ عَنْ قَتْلِ الصِّبْيانِ، فَكَتَبَ إلَيْهِ إنْ كَنْتَ الخَضِرَ تَعْرِفُ الكافِرَ مِنَ المُؤْمِنِ فاقْتُلْهم إنَّما قَصَدَ بِهِ ابْنُ عَبّاسٍ كَما قالَ السُّبْكِيُّ المَحاجَّةَ والإحالَةَ عَلى ما لَمْ يُمْكِنْ قَطْعًا لِطَمَعِهِ في الِاحْتِجاجِ بِقِصَّةِ الخَضِرِ ولَيْسَ مَقْصُودُهُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ أنَّهُ إنْ حَصَلَ ذَلِكَ يَجُوزُ القَتْلُ فَما قالَهُ اليافِعِيُّ في رَوْضِهِ مِن أنَّهُ لَوْ أذِنَ اللَّهُ تَعالى لِبَعْضِ عِبادِهِ أنْ يَلْبَسَ ثَوْبَ حَرِيرٍ مَثَلًا وعَلِمَ الإذْنُ يَقِينًا فَلَبِسَهُ لَمْ يَكُنْ مُنْتَهِكًا لِلشَّرْعِ وحُصُولُ اليَقِينِ لَهُ مِن حَيْثُ حُصُولُهُ لِلْخَضِرِ بِقَتْلِهِ لِلْغُلامِ إذْ هو ولِيٌّ لا نَبِيٌّ عَلى الصَّحِيحِ انْتَهى عَثْرَةً يَكادُ أنْ لا يُقالَ لِصاحِبِها لَعًا لِأنَّ مَظِنَّةَ حُصُولِ اليَقِينِ اليَوْمَ الإلْهامُ وهو لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَ الأئِمَّةِ ومَن شَذَّ اشْتَرَطَ ما اشْتَرَطَ، وحُصُولُهُ بِخَبَرِ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ إذا نَزَلَ مُتَعَذِّرٌ لِأنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ يَنْزِلُ بِشَرِيعَةِ نَبِيِّنا ﷺ ومِن شَرِيعَتِهِ تَحْرِيمُ لُبْسِ الحَرِيرِ عَلى الرِّجالِ إلّا لِلتَّداوِي وما ذَكَرَهُ مِن نَفْيِ نُبُوَّةِ الخَضِرِ لا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ ولا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ، ومِمَّنْ صَرَّحَ بِأنَّ الإلْهامَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ مِنَ الصُّوفِيَّةِ الإمامُ الشَّعَرانِيُّ وقالَ: قَدْ زَلَّ في هَذا البابِ خَلْقٌ كَثِيرٌ فَضَلُّوا وأضَلُّوا، ولَنا في ذَلِكَ مُؤَلَّفٌ سَمَّيْتُهُ ”حَدَّ الحُسامِ في عُنُقِ مَن أطْلَقَ إيجابَ العَمَلِ بِالإلْهامِ“ وهو مُجَلَّدٌ لَطِيفٌ انْتَهى، وقالَ أيْضًا في كِتابِهِ المُسَمّى بِالجَواهِرِ والدُّرَرِ: قَدْ رَأيْتُ مِن كَلامِ الشَّيْخِ مُحْيِي الدِّينِ قُدِّسَ سِرُّهُ ما نَصُّهُ: اعْلَمْ أنّا لا نَعْنِي بِمَلَكِ الإلْهامِ حَيْثُ أطْلَقْناهُ إلّا الدَّقائِقَ المُمْتَدَّةَ مِنَ الأرْواحِ المَلَكِيَّةِ لا نَفْسِ المَلائِكَةِ فَإنَّ المَلَكَ لا يَنْزِلُ بِوَحْيٍ عَلى غَيْرِ قَلْبِ نَبِيٍّ أصْلًا ولا يَأْمُرُ بِأمْرٍ إلَهِيٍّ جُمْلَةً واحِدَةً فَإنَّ الشَّرِيعَةَ قَدِ اسْتَقَرَّتْ وتَبَيَّنَ الفَرْضُ والواجِبُ وغَيْرُهُما فانْقَطَعَ الأمْرُ الإلَهِيُّ بِانْقِطاعِ النُّبُوَّةِ والرِّسالَةِ وما بَقِيَ أحَدٌ يَأْمُرُهُ اللَّهُ تَعالى بِأمْرٍ يَكُونُ شَرْعًا مُسْتَقِلًّا يُتَعَبَّدُ بِهِ أبَدًا؛ لِأنَّهُ إنْ أمَرَهُ بِفَرْضٍ كانَ الشّارِعُ قَدْ أمَرَ بِهِ وإنْ أمَرَهُ بِمُباحٍ فَلا يَخْلُو إمّا أنْ يَكُونَ ذَلِكَ المُباحُ المَأْمُورُ بِهِ صارَ واجِبًا أوْ مَندُوبًا في حَقِّهِ فَهَذا عَيْنُ نَسْخِ الشَّرْعِ الَّذِي هو عَلَيْهِ حَيْثُ صَيَّرَ المُباحَ الشَّرْعِيَّ واجِبًا أوْ مَندُوبًا وإنْ أبْقاهُ مُباحًا كَما كانَ (p-18)فَأيُّ فائِدَةٍ لِلْأمْرِ الَّذِي جاءَ بِهِ مَلَكُ الإلْهامِ لِهَذا المُدَّعِي فَإنْ قالَ: لَمْ يَجِئْنِي مَلَكُ الإلْهامِ بِذَلِكَ وإنَّما أمَرَنِي اللَّهُ تَعالى بِلا واسِطَةٍ قُلْنا: لا يُصَدَّقُ في مِثْلِ ذَلِكَ وهو تَلْبِيسٌ مِنَ النَّفْسِ، فَإنِ ادَّعى أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ كَلَّمَهُ كَما كَلَّمَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ فَلا قائِلَ بِهِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى لَوْ كَلَّمَهُ ما كانَ يُلْقِي إلَيْهِ في كَلامِهِ إلّا عُلُومًا وأخْبارًا لا أحْكامًا وشَرْعًا ولا يَأْمُرُهُ أصْلًا انْتَهى.
وقَدْ صَرَّحَ الإمامُ الرَّبّانِيُّ مُجَدِّدُ الألْفِ الثّانِي قُدِّسَ سِرُّهُ العَزِيزُ في المَكْتُوباتِ في مَواضِعَ عَدِيدَةٍ بِأنَّ الإلْهامَ لا يُحِلُّ حَرامًا ولا يُحَرِّمُ حَلالًا ويُعْلَمُ مِن ذَلِكَ أنَّهُ لا مُخالَفَةَ بَيْنَ الشَّرِيعَةِ والحَقِيقَةِ والظّاهِرِ والباطِنِ وكَلامُهُ قُدِّسَ سِرُّهُ في المَكْتُوباتِ طافِحٌ بِذَلِكَ، فَفي المَكْتُوبِ الثّالِثِ والأرْبَعِينَ مِنَ الجِلْدِ الأوَّلِ: إنَّ قَوْمًا مالُوا إلى الإلْحادِ والزَّنْدَقَةِ يَتَخَيَّلُونَ أنَّ المَقْصُودَ الأصْلِيَّ وراءَ الشَّرِيعَةِ حاشا وكَلّا ثُمَّ حاشا وكَلّا نَعُوذُ بِاللَّهِ سُبْحانَهُ مِن هَذا الِاعْتِقادِ السُّوءِ فَكُلٌّ مِنَ الطَّرِيقَةِ والشَّرِيعَةِ عَيْنُ الآخَرِ لا مُخالَفَةَ بَيْنَهُما بِقَدْرِ رَأْسِ الشُّعَيْرَةِ وكُلُّ ما خالَفَ الشَّرِيعَةَ مَرْدُودٌ، وكُلُّ حَقِيقَةٍ رَدَّتْها الشَّرِيعَةُ فَهي زَنْدَقَةٌ، وقالَ في أثْناءِ المَكْتُوبِ الحادِي والأرْبَعِينَ مِنَ الجِلْدِ الأوَّلِ أيْضًا في مَبْحَثِ الشَّرِيعَةِ والطَّرِيقَةِ والحَقِيقَةِ: مَثَلًا عَدَمُ نُطْقِ اللِّسانِ بِالكَذِبِ شَرِيعَةٌ ونَفْيُ خاطِرِ الكَذِبِ عَنِ القَلْبِ إنْ كانَ بِالتَّكَلُّفِ والتَّعَمُّلِ فَهو طَرِيقَةٌ وإنْ تَيَسَّرَ بِلا تَكَلُّفٍ فَهو حَقِيقَةٌ فَفي الجُمْلَةِ الباطِنُ الَّذِي هو الطَّرِيقَةُ والحَقِيقَةُ مُكَمِّلُ الظّاهِرِ الَّذِي هو الشَّرِيعَةُ فالسّالِكُونَ سَبِيلَ الطَّرِيقَةِ والحَقِيقَةِ إنْ ظَهَرَ مِنهم في أثْناءِ الطَّرِيقِ أُمُورٌ ظاهِرُها مُخالِفٌ لِلشَّرِيعَةِ ومُنافٍ لَها فَهو مِن سُكْرِ الوَقْتِ وغَلَبَةِ الحالِ فَإذا تَجاوَزُوا ذَلِكَ المَقامَ ورَجَعُوا إلى الصَّحْوِ ارْتَفَعَتْ تِلْكَ المُنافاةُ بِالكُلِّيَّةِ وصارَتْ تِلْكَ العُلُومُ المُضادَّةُ بِتَمامِها هَباءً مَنثُورًا.
وقالَ نَفَعَنا اللَّهُ تَعالى بِعُلُومِهِ في أثْناءِ المَكْتُوبِ السّادِسِ والثَّلاثِينَ مِنَ الجِلْدِ الأوَّلِ أيْضًا: لِلشَّرِيعَةِ ثَلاثَةُ أجْزاءٍ عِلْمٌ وعَمَلٌ وإخْلاصٌ، فَما لَمْ تَتَحَقَّقْ هَذِهِ الأجْزاءُ لَمْ تَتَحَقَّقِ الشَّرِيعَةُ، وإذا تَحَقَّقَتِ الشَّرِيعَةُ حَصَلَ رِضا الحَقِّ سُبْحانَهُ وتَعالى وهو فَوْقَ جَمِيعِ السَّعاداتِ الدُّنْيَوِيَّةِ والأُخْرَوِيَّةِ، ورِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أكْبَرُ، فالشَّرِيعَةُ مُتَكَفِّلَةٌ بِجَمِيعِ السَّعاداتِ ولَمْ يَبْقَ مَطْلَبٌ وراءَ الشَّرِيعَةِ فالطَّرِيقَةُ والحَقِيقَةُ اللَّتانِ امْتازَ بِهِما الصُّوفِيَّةُ كِلْتاهُما خادِمَتانِ لِلشَّرِيعَةِ في تَكْمِيلِ الجُزْءِ الثّالِثِ الَّذِي هو الإخْلاصُ، فالمَقْصُودُ مِنهُما تَكْمِيلُ الشَّرِيعَةِ لا أمْرٌ آخَرُ وراءَ ذَلِكَ.. إلى آخِرِ ما قالَ، وقالَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ في أثْناءِ المَكْتُوبِ التّاسِعِ والعِشْرِينَ مِنَ الجِلْدِ المَذْكُورِ بَعْدَ تَحْقِيقٍ كَثِيرٍ: فَتَقَرَّرَ أنَّ طَرِيقَ الوُصُولِ إلى دَرَجاتِ القُرْبِ الإلَهِيِّ جَلَّ شَأْنُهُ سَواءٌ كانَ قُرْبَ النُّبُوَّةِ أوْ قُرْبَ الوِلايَةِ مُنْحَصِرٌ في طَرِيقِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي دَعا إلَيْها رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ وصارَ مَأْمُورًا بِها في آيَةِ ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أدْعُو إلى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أنا ومَنِ اتَّبَعَنِي﴾ وآيَةِ ﴿قُلْ إنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهَ﴾ تَدُلُّ عَلى ذَلِكَ أيْضًا وكُلُّ طَرِيقٍ سِوى هَذا الطَّرِيقِ ضَلالٌ ومُنْحَرَفٌ عَنِ المَطْلُوبِ الحَقِيقِيِّ، وكُلُّ طَرِيقَةٍ رَدَّتْها الشَّرِيعَةُ فَهي زَنْدَقَةٌ، وشاهِدُ ذَلِكَ آيَةُ ﴿وأنَّ هَذا صِراطِي مُسْتَقِيمًا﴾ وآيَةُ ﴿فَماذا بَعْدَ الحَقِّ إلا الضَّلالُ﴾ وآيَةُ ﴿ومَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسْلامِ دِينًا﴾ وحَدِيثُ ( «خَطَّ لَنا النَّبِيُّ ﷺ» ) الخَبَرَ. وحَدِيثُ ( «كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلالَةٌ» )
وأحادِيثُ أُخَرُ إلى آخِرِ ما قالَ عَلَيْهِ رَحْمَةُ المَلِكِ المُتَعالِ، وقالَ قُدِّسَ سِرُّهُ في مَعارِفِ الصُّوفِيَّةِ: اعْلَمْ أنَّ مَعارِفَ الصُّوفِيَّةِ وعُلُومَهم في نِهايَةِ سِيَرِهِمْ وسُلُوكِهِمْ إنَّما هي عُلُومُ الشَّرِيعَةِ لا أنَّها عُلُومٌ أُخَرُ غَيْرُ عُلُومِ الشَّرِيعَةِ، نَعَمْ يَظْهَرُ في أثْناءِ الطَّرِيقِ عُلُومٌ ومَعارِفُ كَثِيرَةٌ ولَكِنْ لا بُدَّ مِنَ العُبُورِ عَنْها، فَفي نِهايَةِ النِّهاياتِ عُلُومُهم عُلُومُ العُلَماءِ وهي عُلُومُ الشَّرِيعَةِ، والفَرْقُ (p-19)بَيْنَهم وبَيْنَ العُلَماءِ أنَّ تِلْكَ العُلُومَ بِالنِّسْبَةِ إلى العُلَماءِ نَظَرِيَّةٌ واسْتِدْلالِيَّةٌ وبِالنِّسْبَةِ إلَيْهِمْ تَصِيرُ كَشْفِيَّةٌ وضَرُورِيَّةٌ.
وقالَ أيْضًا: اعْلَمْ أنَّ الشَّرِيعَةَ والحَقِيقَةَ مُتَّحِدانِ في الحَقِيقَةِ ولا فَرْقَ بَيْنَهُما إلّا بِالإجْمالِ والتَّفْصِيلِ وبِالِاسْتِدْلالِ والكَشْفِ بِالغَيْبِ والشَّهادَةِ، وبِالتَّعَمُّلِ وعَدَمِ التَّعَمُّلِ، ولِلشَّرِيعَةِ مِن ذَلِكَ الأوَّلُ ولِلْحَقِيقَةِ الثّانِي، وعَلامَةُ الوُصُولِ إلى حَقِيقَةِ حَقِّ اليَقِينِ مُطابَقَةُ عُلُومِهِ ومَعارِفِهِ لِعُلُومِ الشَّرِيعَةِ ومَعارِفِها وما دامَتِ المُخالَفَةُ مَوْجُودَةٌ ولَوْ أدْنى شَعْرَةٍ فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلى عَدَمِ الوُصُولِ، وما وقَعَ في عِبارَةِ بَعْضِ المَشايِخِ مِن أنَّ الشَّرِيعَةَ قِشْرٌ والحَقِيقَةَ لُبٌّ فَهو وإنْ كانَ مُشْعِرًا بِعَدَمِ اسْتِقامَةِ قائِلِهِ ولَكِنْ يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ مُرادُهُ أنَّ المُجْمَلَ بِالنِّسْبَةِ إلى المَفْصَّلِ حُكْمُهُ حُكْمُ القِشْرِ بِالنِّسْبَةِ إلى اللُّبِّ، وأنَّ الِاسْتِدْلالَ بِالنِّسْبَةِ إلى الكَشْفِ كَذَلِكَ، والأكابِرُ المُسْتَقِيمَةُ أحْوالُهم لا يُجَوِّزُونَ الإتْيانَ بِمِثْلِ هَذِهِ العِباراتِ المُوهَمَةِ إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِن عِباراتِهِ الشَّرِيفَةِ الَّتِي لا تَكادُ تُحْصى.
وقالَ سَيِّدِي القُطْبُ الرَّبّانِيُّ الشَّيْخُ عَبْدُ القادِرِ الكِيلانِيُّ قُدِّسَ سِرُّهُ: جَمِيعُ الأوْلِياءِ لا يَسْتَمِدُّونَ إلّا مِن كَلامِ اللَّهِ تَعالى ورَسُولِهِ ﷺ ولا يَعْمَلُونَ إلّا بِظاهِرِهِما، وقالَ سَيِّدُ الطّائِفَةِ الجُنَيْدُ قُدِّسَ سِرُّهُ: الطُّرُقُ كُلُّها مَسْدُودَةٌ إلّا عَلى مَنِ اقْتَفى أثَرَ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ. وقالَ أيْضًا: مَن لَمْ يَحْفَظِ القُرْآنَ ولَمْ يَكْتُبِ الحَدِيثَ لا يُقْتَدى بِهِ في هَذا العِلْمِ لِأنَّ عِلْمَنا مُقَيَّدٌ بِالكِتابِ والسُّنَّةِ، وقالَ السَّرِيُّ السَّقَطِيُّ: التَّصَوُّفُ اسْمٌ لِثَلاثَةِ مَعانٍ وهو لا يُطْفِئُ نُورُ مَعْرِفَتِهِ نُورَ ورَعِهِ ولا يَتَكَلَّمُ بِسِرٍّ باطِنٍ في عِلْمٍ يَنْقُضُهُ عَلَيْهِ ظاهِرُ الكِتابِ ولا تَحْمِلُهُ الكَراماتُ عَلى هَتْكِ مَحارِمِ اللَّهِ، وقالَ أيْضًا قُدِّسَ سِرُّهُ: مَنِ ادَّعى باطِنَ عِلْمٍ يَنْقُضُهُ ظاهِرُ حُكْمٍ فَهو غالِطٌ.
وقالَ أبُو الحُسَيْنِ النُّورِيُّ: مَن رَأيْتَهُ يَدَّعِي مَعَ اللَّهِ تَعالى حالَةَ تَخَرُّجِهِ عَنْ جَدِّ العِلْمِ الشَّرْعِيِّ فَلا تَقْرَبْهُ، ومَن رَأيْتَهُ يَدَّعِي حالَةً لا يَشْهَدُ لَها حِفْظٌ ظاهِرٌ فاتَّهَمَهُ عَلى دِينِهِ، وقالَ أبُو سَعِيدٍ الخَرّازُ: كُلُّ فَيْضٍ باطِنٍ يُخالِفُهُ ظاهِرٌ فَهو باطِلٌ.
وقالَ أبُو العَبّاسِ أحْمَدُ الدَّيْنُورِيُّ: لِسانُ الظّاهِرِ لا يُغَيِّرُ حُكْمَ الباطِنِ، وفي التُّحْفَةِ لِابْنِ حَجَرٍ قالَ الغَزالِيُّ: مَن زَعَمَ أنَّ لَهُ مَعَ اللَّهِ تَعالى حالًا أسْقَطَ عَنْهُ نَحْوَ الصَّلاةِ أوْ تَحْرِيمِ شُرْبِ الخَمْرِ وجَبَ قَتَلُهُ وإنْ كانَ في الحُكْمِ بِخُلُودِهِ في النّارِ نَظَرٌ، وقَتْلُ مِثْلِهِ أفْضَلُ مِن قَتْلِ مِائَةِ كافِرٍ لِأنَّ ضَرَرَهُ أكْثَرُ انْتَهى، ولا نَظَرَ في خُلُودِهِ لِأنَّهُ مُرْتَدٍ لِاسْتِحْلالِهِ ما عُلِمَتْ حُرْمَتُهُ أوْ نَفْيُهُ وُجُوبَ ما عُلِمَ وُجُوبُهُ ضَرُورَةً فِيهِما، ومِن ثَمَّ جَزَمَ في الأنْوارِ بِخُلُودِهِ انْتَهى.
وقالَ في الأحْياءِ: مَن قالَ إنَّ الباطِنَ يُخالِفُ الظّاهِرَ فَهو إلى الكُفْرِ أقْرَبُ مِنهُ إلى الإيمانِ.. إلى غَيْرِ ذَلِكَ.
وفِي رِسالَةِ القُشَيْرِيِّ طَرَفٌ مِنهُ، والَّذِي يَنْبَغِي أنْ يُعْلَمَ أنَّ كَلامَ العارِفِينَ المُحَقِّقِينَ وإنْ دَلَّ عَلى أنَّهُ لا مُخالَفَةَ بَيْنَ الشَّرِيعَةِ والطَّرِيقَةِ والحَقِيقَةِ في الحَقِيقَةِ لَكِنَّهُ يَدُلُّ أيْضًا عَلى أنَّ في الحَقِيقَةِ كُشُوفًا وعُلُومًا غَيْبِيَّةً، ولِذا تَراهم يَقُولُونَ: عِلْمُ الحَقِيقَةِ هو العِلْمُ اللَّدُنِّيُّ، وعِلْمُ المُكاشَفَةِ، وعِلْمُ المَوْهِبَةِ، وعِلْمُ الأسْرارِ، والعِلْمُ المَكْنُونُ وعِلْمُ الوِراثَةِ إلّا أنَّ هَذا لا يَدُلُّ عَلى المُخالَفَةِ فَإنَّ الكُشُوفَ والعُلُومَ الغَيْبِيَّةَ ثَمَرَةُ الإخْلاصِ الَّذِي هو الجُزْءُ الثّالِثُ مِن أجْزاءِ الشَّرِيعَةِ فَهي بِالحَقِيقَةِ مُتَرَتِّبَةٌ عَلى الشَّرِيعَةِ ونَتِيجَةٌ لَها، ومَعَ هَذا لا تُغَيِّرُ تِلْكَ الكُشُوفُ والعُلُومُ الغَيْبِيَّةُ حُكْمًا شَرْعِيًّا ولا تُقَيِّدُ مُطْلَقًا ولا تُطْلِقُ مُقَيَّدًا خِلافًا لِما تَوَهَّمَهُ ساجِقْلِيٌّ زادَهُ حَيْثُ قالَ في شَرْحِ عِبارَةِ الأحْياءِ السّابِقَةِ آنِفًا: يُرِيدُ الغَزالِيُّ مِنَ الباطِنِ ما يَنْكَشِفُ لِعُلَماءِ الباطِنِ مِن حِلِّ بَعْضِ الأشْياءِ لَهم مَعَ أنَّ الشّارِعَ حَرَّمَهُ عَلى عِبادِهِ مُطْلَقًا فَيَجِبُ أنْ يُقالَ: إنَّما انْكَشَفَ حِلُّهُ لَهم لِما انْكَشَفَ لَهم مِن سَبَبٍ خَفِيٍّ يُحَلِّلُهُ لَهُمْ، وتَحْرِيمُ الشّارِعِ تَعالى ذَلِكَ عَلى عِبادِهِ مُقَيَّدٌ بِانْتِقاءِ انْكِشافِ السَّبَبِ المُحَلَّلِ لَهم فَمَنِ انْكَشَفَ لَهُ ذَلِكَ السَّبَبُ حَلَّ لَهُ ومَن لا فَلا لَكِنَّ الشّارِعَ سُبْحانَهُ حَرَّمَهُ عَلى عِبادِهِ عَلى الإطْلاقِ وتَرَكَ ذَلِكَ القَيْدَ لِنُدْرَةِ وُقُوعِهِ إذْ مَن يَنْكَشِفُ (p-20)لَهُ قَلِيلٌ جِدًّا مِثالُهُ انْكِشافُ مَحَلِّ خَرْقِ السَّفِينَةِ وقَتْلِ الغُلامِ لِلْخَضِرِ عَلَيْهِ السَّلامُ فَحَلَّ لَهُ بِذَلِكَ الِانْكِشافِ الخَرْقُ والقَتْلُ وحِلُّهُما لَهُ مُخالِفٌ لِإطْلاقِ نَهْيِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ أُمَّتَهُ عَنِ الضَّرَرِ وعَنْ قَتْلِ الصَّبِيِّ، لَكِنَّهُما مُقَيَّدانِ فالأوَّلُ مُقَيَّدٌ بِما إذا لَمْ يُعْلَمْ هُناكَ غاصِبٌ مَثَلًا، والثّانِي بِما إذا لَمْ يُعْلَمْ أنَّ الصَّبِيَّ سَيَصِيرُ ضالًّا مُضِلًّا، لَكِنَّ الشّارِعَ تَرَكَ القَيْدَيْنِ لِنُدْرَةِ وُقُوعِهِما واعْتِمادًا عَلى فَهْمِ الرّاسِخِينَ في العِلْمِ إيّاهُما إلى آخِرِ ما قالَ، فَإنَّ النُّصُوصَ السّابِقَةَ تُنادِي بِخِلافِهِ كَما سَمِعَتْ، ثُمَّ إنَّ تِلْكَ الغُيُوبَ والمُكاشَفاتِ بَلْ سائِرَ ما يَحْصُلُ لِلصُّوفِيَّةِ مِنَ التَّجَلِّياتِ لَيْسَتْ مِنَ المَقاصِدِ بِالذّاتِ ولا يَقِفُ عِنْدَها الكامِلُ ولا يَلْتَفِتُ إلَيْها، وقَدْ ذَكَرَ الإمامُ الرَّبّانِيُّ قُدِّسَ سِرُّهُ في المَكْتُوبِ السّادِسِ والثَّلاثِينَ المُتَقَدِّمِ نُقِلَ بَعْضُهُ أنَّها تُرَبّى بِها أطْفالُ الطَّرِيقِ وأنَّهُ يَنْبَغِي مُجاوَزَتُها والوُصُولُ إلى مَقامِ الرِّضا الَّذِي هو نِهايَةُ مَقاماتِ السُّلُوكِ والجَذْبَةِ وهو عَزِيزٌ لا يَصِلُ إلَيْهِ إلّا واحِدٌ مِن أُلُوفٍ، ثُمَّ قالَ: إنَّ الَّذِينَ هم قَلِيلُو النَّظَرِ يَعُدُّونَ الأحْوالَ والمَواجِيدَ مِنَ المَقاماتِ والمُشاهَداتِ والتَّجَلِّياتِ مِنَ المَطالِبِ، فَلا جَرَمَ بَقُوا في قَيْدِ الوَهْمِ والخَيالِ وصارُوا مَحْرُومِينَ مِن كَمالاتِ الشَّرِيعَةِ ﴿كَبُرَ عَلى المُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهم إلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إلَيْهِ مَن يَشاءُ ويَهْدِي إلَيْهِ مَن يُنِيبُ﴾ انْتَهى، ويَعْلَمُ مِنهُ أنَّ الكامِلِينَ في الشَّرِيعَةِ يُعَبِّرُونَ عَلى ذَلِكَ ولا يَلْتَفِتُونَ إلَيْهِ ولا يُعِدُّونَهُ مَقْصِدًا وجُلُّ مَقْصِدِهِمْ تَحْصِيلُ مَقامِ الرِّضا، وعَلى هَذا يَخْرُجُ بَيْتُ المَثْنَوِيِّ حَيْثُ يَقُولُ:
؎زانٍ طَرَفَ كَهْ عِشْقٌ مِنِ افزود دُرْد أبُو حَنِيفَة شافِعِيٌّ دَرْسِي نَكْرَدِ
وقَدْ يُحْجَبُ الكامِلُ عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ ويَلْحَقُ مِن هَذِهِ الحَيْثِيَّةِ بِعَوامِّ النّاسِ، ويُعْلَمُ مِمّا ذُكِرَ أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ أكْمَلُ مِنَ الخَضِرِ وأعْلَمِيَّةُ الخَضِرِ عَلَيْهِ السَّلامُ بِعِلْمِ الحَقِيقَةِ كانَتْ بِالنِّسْبَةِ إلى الحالَةِ الحاضِرَةِ فَإنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ عَبَّرَ عَلى ذَلِكَ ولَمْ يَقِفْ عِنْدَهُ لِأنَّهُ في مَقامِ التَّشْرِيعِ، ولَعَلَّ طَلَبَهُ التَّعْلِيمَ كانَ بِالأمْرِ ابْتِلاءً لَهُ بِسَبَبِ تِلْكَ الفَلْتَةِ، وقَدْ ذَكَرُوا أنَّ الكامِلَ كُلَّما كانَ صُعُودُهُ أعْلا كانَ هُبُوطُهُ أنْزَلَ وكُلَّما كانَ هُبُوطُهُ أنْزَلَ كانَ في الإرْشادِ أكْمَلَ في الإفاضَةِ أتَمَّ لِمَزِيدِ المُناسَبَةِ حِينَئِذٍ بَيْنَ المُرْشِدِ والمُسْتَرْشِدِ، ولِهَذا قالُوا فِيما يُحْكى: إنَّ الحَسَنَ البَصْرِيَّ وقَفَ عَلى شَطِّ نَهْرٍ يَنْتَظِرُ سَفِينَةً فَجاءَ حَبِيبٌ العَجَمِيُّ فَقالَ لَهُ: ما تَنْتَظِرُ؟ فَقالَ: سَفِينَةً فَقالَ: أيُّ حاجَةٍ إلى السَّفِينَةِ أما لَكَ يَقِينٌ؟ فَقالَ الحَسَنُ: أما لَكَ عِلْمٌ؟ ثُمَّ عَبَرَ حَبِيبٌ عَلى الماءِ بِلا سَفِينَةٍ ووَقَّفَ الحَسَنُ أنَّ الفَضْلَ لِلْحَسَنِ فَإنَّهُ كانَ جامِعًا بَيْنَ عِلْمِ اليَقِينِ وعَيْنِ اليَقِينِ وعَرَفَ الأشْياءَ كَما هي وفي نَفْسِ الأمْرِ جُعِلَتِ القُدْرَةُ مَسْتُورَةً خَلْفَ الحِكْمَةِ والحِكْمَةُ في الأسْبابِ، وحَبِيبٌ صاحِبُ سُكْرٍ لَمْ يَرَ الأسْبابَ فَعُومِلَ بِرَفْعِها، ومِن هُنا يَظْهَرُ سِرُّ قِلَّةِ الخَوارِقِ في الصَّحابَةِ مَعَ قَوْلِ الإمامِ الرَّبّانِيِّ: إنَّ نِهايَةَ أُوَيْسٍ سَيِّدِ التّابِعِينَ بِدايَةُ وحْشِيٍّ قاتِلِ حَمْزَةَ يَوْمَ أسْلَمَ، فَما الظَّنُّ بِغَيْرِ أُوَيْسٍ مَعَ غَيْرِ وحْشِيٍّ، وأنا أقُولُ: إنَّ الكامِلَ وإنْ كانَ مَن عَلِمْتَ إلّا أنَّ فَوْقَهُ الأكْمَلُ وهو مَن لَمْ يَزَلْ صاعِدًا في نُزُولِهِ ونازِلًا في صُعُودِهِ، ولَيْسَ ذَلِكَ إلّا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، ولَوْلا ذَلِكَ ما أُمِدَّ العالَمُ العُلْوِيُّ والسُّفْلِيُّ، وهَذا مَرْجِعُ الحَقِيقَةِ والشَّرِيعَةِ لَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عَلى الوَجْهِ الأتَمِّ كَما أشَرْنا إلَيْهِ سابِقًا والحَمْدُ لِلَّهِ تَعالى عَلى أنْ جَعَلَنا مِن أُمَّتِهِ وذُرِّيَّتِهِ، ولا يُعَكِّرُ عَلى ما ذَكَرْنا ما قالَهُ الإمامُ الغَزالِيُّ في الأحْياءِ وهو أنَّ عِلْمَ الآخِرَةِ قِسْمانِ عِلْمُ مُكاشَفَةٍ وعِلْمُ مُعامَلَةٍ، أمّا عِلْمُ المُكاشَفَةِ فَهو عِلْمُ الباطِنِ وهو غايَةُ العُلُومِ وهو عِلْمُ الصِّدِّيقِينَ والمُقَرَّبِينَ، وهو عِبارَةٌ عَنْ نُورٍ يَظْهَرُ في القَلْبِ عِنْدَ تَطْهِيرِهِ وتَزْكِيَتِهِ مِنَ الصِّفاتِ المَذْمُومَةِ ويَنْكَشِفُ بِذَلِكَ ما كانَ يُسْمَعُ مِن قَبْلِ أسْمائِها ويُتَوَهَّمُ لَها مَعانٍ مُجْمَلَةٌ غَيْرُ مُتَّضِحَةٍ، فَتَتَّضِحُ (p-21)إذْ ذاكَ حَتّى تَحْصُلَ المَعْرِفَةُ بِذاتِ اللَّهِ تَعالى وبِصِفاتِهِ التّامّاتِ وبِأفْعالِهِ وبِحِكْمَتِهِ في خَلْقِ الدُّنْيا والآخِرَةِ. انْتَهى.
لِأنَّ المُرادَ أنَّ ذَلِكَ مِن عِلْمِ الباطِنِ الَّذِي هو عِلْمُ الحَقِيقَةِ وهَذا البَعْضُ لا يُمْكِنُ أنْ يَخْلُوَ مِنهُ نَبِيٌّ كَيْفَ ورُتْبَةُ الصِّدِّيقِينَ دُونَ رُتْبَةِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ كَما قَرَّرُوهُ في آيَةِ ﴿فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ والصِّدِّيقِينَ والشُّهَداءِ والصّالِحِينَ﴾ ومِمّا ذَكَرْنا مِن عَدَمِ المُخالَفَةِ بَيْنَ الشَّرِيعَةِ والحَقِيقَةِ يُعْلَمُ ما في كَلامِ البَلْقِينِيِّ في دَفْعِ ما اسْتَشْكَلَهُ مِن قَوْلِ الخَضِرِ لِمُوسى عَلَيْهِما السَّلامُ: ( إنِّي عَلى عِلْمٍ ) الحَدِيثَ السّابِقَ حَيْثُ زَعَمَ أنَّهُ يَدُلُّ بِظاهِرِهِ عَلى امْتِناعِ تَعْلِيمِ العِلْمَيْنِ مَعًا مَعَ أنَّهُ لا يَمْتَنِعُ، وأجابَ بِأنَّ عِلْمَ الكُشُوفِ والحَقائِقِ يُنافِي عِلْمَ الظّاهِرِ فَلا يَنْبَغِي لِلْعالِمِ الحاكِمِ بِالظّاهِرِ أنْ يَعْلَمَ الحَقائِقَ لِلتَّنافِي، وكَذا لا يَنْبَغِي لِلْعالِمِ بِالحَقِيقَةِ أنْ يَعْلَمَ العِلْمَ الظّاهِرَ الَّذِي لَيْسَ مُكَلَّفًا بِهِ، ويُنافِي ما عِنْدَهُ عَنِ الحَقِيقَةِ، ولَعَمْرِي لَقَدْ أخْطَأ فِيما قالَ وبِالحَقِّ تُعْرَفُ الرِّجالُ وكَأنَّهُ لَمْ يَعْتَمِدْ عَلَيْهِ فَأرْدَفَهُ بِجَوابٍ آخَرَ هو خِلافُ الظّاهِرِ.
وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّهُ لا حاجَةَ إلى شَيْءٍ مِن ذَلِكَ والِاسْتِشْكالُ مِن ضَعْفِ النَّظَرِ، ثُمَّ إنَّ قِصَّةَ الخَضِرِ عَلَيْهِ السَّلامُ لا تَصْلُحُ حُجَّةً لِمَن يَزْعُمُ المُخالَفَةَ بَيْنَ العِلْمَيْنِ فَإنَّ أعْظَمَ ما يَشْكُلُ فِيها قَتْلُ الغُلامِ لِكَوْنِهِ طُبِعَ كافِرًا وخُشِيَ مِن بَقائِهِ حَيًّا ارْتِدادُ أبَوَيْهِ وذَلِكَ أيْضًا شَرِيعَةٌ لَكِنَّها مَخْصُوصَةٌ بِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ لِأنَّهُ كَما قالَ العَلّامَةُ السُّبْكِيُّ: أُوحِيَ إلَيْهِ أنْ يَعْمَلَ بِالباطِنِ وخِلافِ الظّاهِرِ المُوافِقِ لِلْحِكْمَةِ، فَلا إشْكالَ فِيهِ وإنْ عُلِمَ مِن شَرِيعَتِنا أنَّهُ لا يَجُوزُ لِأحَدٍ كائِنًا مَن كانَ قَتْلُ صَغِيرٍ لا سِيَّما بَيْنَ أبَوَيْنِ مُؤْمِنَيْنِ وكَيْفَ يَجُوزُ قَتْلُهُ بِسَبَبٍ لَمْ يَحْصُلْ والمَوْلُودُ لا يُوصَفُ بِكُفْرٍ حَقِيقِيٍّ ولا إيمانٍ حَقِيقِيٍّ، واتِّفاقُ الشَّرائِعِ في الأحْكامِ مِمّا لَمْ يَذْهَبْ إلَيْهِ أحَدٌ مِنَ الأنامِ فَضْلًا عَنِ العُلَماءِ الأعْلامِ وهَذا ظاهِرٌ عَلى القَوْلِ بِنُبُوَّتِهِ، وأمّا عَلى القَوْلِ بِوِلايَتِهِ فَيُقالُ: إنَّ عَمَلَ الوَلِيِّ بِالإلْهامِ كانَ إذْ ذاكَ شَرْعًا أوْ كَما قِيلَ إنَّهُ أمَرَ بِذَلِكَ عَلى يَدِ نَبِيٍّ غَيْرِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، وأمّا إقامَةُ الجِدارِ بِلا أجْرٍ فَلا إشْكالَ فِيها لِأنَّها إحْسانٌ، وغايَةُ ما يُتَخَيَّلُ أنَّهُ لِلْمُسِيءِ فَلْيَكُنْ كَذَلِكَ ولا ضَيْرَ فَإنَّهُ مِن مَكارِمِ الأخْلاقِ، وأمّا خَرْقُ السَّفِينَةِ لِتَسْلَمَ مِن غَصْبِ الظّالِمِ فَقَدْ قالُوا: إنَّهُ مِمّا لا بَأْسَ بِهِ حَتّى قالَ العِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلامِ: إنَّهُ إذا كانَ تَحْتَ يَدِ الإنْسانِ مالُ يَتِيمٍ أوْ سَفِيهٍ أوْ مَجْنُونٍ وخافَ عَلَيْهِ أنْ يَأْخُذَهُ ظالِمٌ يَجِبُ عَلَيْهِ تَعْيِيبُهُ لِأجْلِ حِفْظِهِ، وكانَ القَوْلُ قَوْلَ مَن عَيَّبَ مالَ اليَتِيمِ ونَحْوِهِ إذْ نازَعَهُ اليَتِيمُ ونَحْوُهُ بَعْدَ الرُّشْدِ ونَحْوِهِ في أنَّهُ فَعَلَهُ لِحِفْظِهِ عَلى الأوْجُهِ كَما قالَهُ القاضِي زَكَرِيّا في شَرْحِ الرَّوْضِ قُبَيْلَ بابِ الوَدِيعَةِ.
ونَظِيرُ ذَلِكَ ما لَوْ كانَ تَحْتَ يَدِهِ مالُ يَتِيمٍ مَثَلًا وعَلِمَ أنَّهُ لَوْ لَمْ يَبْذُلْ مِنهُ شَيْئًا لِقاضٍ سُوءٍ لانْتَزَعَهُ مِنهُ وسَلَّمَهُ لِبَعْضِ الخَوَنَةِ وأدّى ذَلِكَ إلى ذَهابِهِ فَإنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أنْ يَدْفَعَ إلَيْهِ شَيْئًا ويَتَحَرّى في أقَلِّ ما يُمْكِنُ إرْضاؤُهُ بِهِ، ويَكُونُ القَوْلُ قَوْلَهُ أيْضًا، وقالَ بَعْضُهم: قُصارى ما تَدُلُّ عَلَيْهِ القِصَّةُ ثُبُوتُ العِلْمِ الباطِنِ وهو مُسَلَّمٌ لَكِنَّ إطْلاقَ الباطِنِ عَلَيْهِ إضافِيٌّ كَما تَقَدَّمَ، وكانَ في قَوْلِهِ ﷺ ( «إنَّ مِنَ العِلْمِ كَهَيْئَةِ المَكْنُونِ لا يَعْرِفُهُ إلّا العُلَماءُ بِاللَّهِ تَعالى فَإذا قالُوهُ لا يُنْكِرُهُ إلّا أهْلُ الغِرَّةِ بِاللَّهِ تَعالى» ).
إشارَةً إلى ذَلِكَ، والمُرادُ بِأهْلِ الغِرَّةِ عُلَماءُ الظّاهِرِ الَّذِينَ لَمْ يُؤْتُوا ذَلِكَ، وبَعْضُ مُثَبِّتِيهِ يَسْتَدِلُّونَ بِقَوْلِ أبِي هُرَيْرَةَ: حَفِظْتُ مِن رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وِعاءَيْنِ مِنَ العِلْمِ فَأمّا أحَدُهُما فَبَثَثْتُهُ وأمّا الآخَرُ فَلَوْ بَثَثْتُهُ لَقُطِعَ مِنِّي هَذا البُلْعُومُ، واسْتُدِلَّ بِهِ أيْضًا عَلى المُخالَفَةِ بَيْنَ العِلْمَيْنِ.
وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّهُ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ أرادَ بِالآخَرِ الَّذِي لَوْ بَثَّهُ لَقُتِلَ عِلْمُ الفِتَنِ وما وقَعَ مِن بَنِي أُمَيَّةَ وذَمِّ النَّبِيِّ ﷺ لِأُناسٍ مُعَيَّنِينَ مِنهم ولا شَكَّ أنَّ بَثَّ ذَلِكَ في تِلْكَ الأعْصارِ يَجُرُّ إلى القَتْلِ، وعَلى تَسْلِيمِ أنَّهُ أرادَ بِهِ العِلْمَ الباطِنَ المُسَمّى بِعِلْمِ الحَقِيقَةِ لا نُسَلِّمُ أنَّ قَطْعَ البُلْعُومِ مِنهُ عَلى بَثِّهِ لِمُخالَفَتِهِ لِلْعِلْمِ الظّاهِرِ في نَفْسِ الأمْرِ بَلْ لِتَوَهُّمِ (p-22)مَن بِيَدِهِ الحَلُّ والعَقْدُ والأمْرُ والنَّهْيُ مِن أُمَراءِ ذَلِكَ الزَّمانِ المُخالَفَةَ فافْهَمْ، واسْتَدَلَّ العُلَماءُ بِما في القِصَّةِ حَسْبَما ذَكَرَهُ شُرّاحُ الحَدِيثِ وغَيْرُهم عَلى اسْتِحْبابِ الرِّحْلَةِ لِلْعِلْمِ وفَضْلِ طَلَبِهِ واسْتِحْبابِ اسْتِعْمالِ الأدَبِ مَعَ العالَمِ واحْتِرامِ المَشايِخِ وتَرْكِ الِاعْتِراضِ عَلَيْهِمْ وتَأْوِيلِ ما لا يُفْهَمُ ظاهِرُهُ مِن أفْعالِهِمْ وحَرَكاتِهِمْ وأقْوالِهِمْ والوَفاءِ بِعُهُودِهِمْ والِاعْتِذارِ عِنْدَ مُخالَفَتِهِمْ، وعَلى جَوازِ اتِّخاذِ الخادِمِ في السَّفَرِ وحَمْلِ الزّادِ فِيهِ، وأنَّهُ لا يُنافِي التَّوَكُّلَ ونِسْبَةَ النِّسْيانِ ونَحْوَهُ مِنَ الأُمُورِ المَكْرُوهَةِ إلى الشَّيْطانِ مَجازًا وتَأدُّبًا عَنْ نِسْبَتِها إلى اللَّهِ تَعالى واعْتِذارِ العالِمِ إلى مَن يُرِيدُ الأخْذَ عَنْهُ في عَدَمِ تَعْلِيمِهِ مِمّا لا يَحْتَمِلُهُ طَبْعُهُ، وتَقْدِيمِ المَشِيئَةِ في الأمْرِ واشْتِراطِ المَتْبُوعِ عَلى التّابِعِ، وعَلى أنَّ النِّسْيانَ غَيْرُ مُؤاخَذٍ بِهِ وأنَّ لِلثَّلاثِ اعْتِبارًا في التَّكْرارِ ونَحْوِهِ عَلى جَوازِ رُكُوبِ السَّفِينَةِ وفِيهِ الحُكْمُ بِالظّاهِرِ حَتّى يَتَبَيَّنَ خِلافُهُ لِإنْكارِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، وعَلى جَوازِ أنْ يَطْلُبَ الإنْسانُ الطَّعامَ عِنْدَ احْتِياجِهِ إلَيْهِ، وعَلى أنَّ صُنْعَ الجَمِيلِ لا يُتْرَكُ ولَوْ مَعَ اللِّئامِ وجَوازُ أخْذِ الأجْرِ عَلى الأعْمالِ وأنَّ المِسْكِينَ لا يَخْرُجُ عَنِ المَسْكَنَةِ بِمِلْكِ آلَةٍ يَكْتَسِبُ بِها أوْ بِشَيْءٍ لا يَكْفِيهِ وأنَّ الغَصْبَ حَرامٌ وأنَّهُ يَجُوزُ دَفْنُ المالِ في الأرْضِ وفِيهِ إثْباتُ كَراماتِ الأوْلِياءِ عَلى قَوْلِ مَن يَقُولُ: الخَضِرُ ولِيٌّ إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِمّا يَظْهَرُ لِلْمُتَتَبِّعِ أوْ لِلْمُتَأمِّلِ، وبِالجُمْلَةِ قَدْ تَضَمَّنَتْ هَذِهِ القِصَّةُ فَوائِدَ كَثِيرَةً ومَطالِبَ عالِيَةً خَطِيرَةً فَأمْعَنَ النَّظَرَ في ذاكَ واللَّهُ سُبْحانَهُ يَتَوَلّى هُداكَ.
* * *
( ومِن بابِ الإشارَةِ في الآياتِ ) عَلى ما ذَكَرَهُ بَعْضُ أهْلِ الإشارَةِ ﴿فَوَجَدا عَبْدًا مِن عِبادِنا﴾ فِيهِ إشارَةٌ إلى أنَّ لِلَّهِ تَعالى خَواصَّ أضافَهم سُبْحانَهُ إلَيْهِ وقَطَعَهم عَنْ غَيْرِهِ، وأخَصُّ خَواصِّهِ عَزَّ وجَلَّ مَن أضافَهُ إلى الِاسْمِ الجَلِيلِ وهو اسْمُ الذّاتِ الجامِعُ لِجَمِيعِ الصِّفاتِ أوْ إلى ضَمِيرِ الغَيْبَةِ الرّاجِعِ إلَيْهِ تَعالى، ولَيْسَ ذاكَ إلّا حَبِيبَهُ الأكْرَمَ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ ﴿آتَيْناهُ رَحْمَةً مِن عِنْدِنا﴾ وهي مَرْتَبَةُ القُرْبِ مِنهُ عَزَّ وجَلَّ ﴿وعَلَّمْناهُ مِن لَدُنّا عِلْمًا﴾ وهو العِلْمُ الخاصُّ الَّذِي لا يُعْلَمُ إلّا مِن جِهَتِهِ تَعالى، وقالَ ذُو النُّونِ: العِلْمُ اللَّدُنِّيُّ هو الَّذِي يَحْكُمُ عَلى الخَلْقِ بِمَواقِعِ التَّوْفِيقِ والخِذْلانِ.
وقالَ الجُنَيْدُ قُدِّسَ سِرُّهُ: هو الِاطِّلاعُ عَلى الأسْرارِ مِن غَيْرِ ظَنٍّ فِيهِ ولا خِلافٍ واقِعٍ لَكِنَّهُ مُكاشَفاتُ الأنْوارِ عَنْ مَكْنُونِ المُغَيَّباتِ ويَحْصُلُ لِلْعَبْدِ إذا حَفِظَ جَوارِحَهُ عَنْ جَمِيعِ المُخالَفاتِ وأفْنى حَرَكاتَهُ عَنْ كُلِّ الإراداتِ وكانَ شَبَحًا بَيْنَ يَدَيِ الحَقِّ بِلا تَمَنِّي ولا مُرادٍ، وقِيلَ: هو عِلْمٌ يُعَرِّفُ بِهِ الحَقُّ سُبْحانَهُ أوْلِياءَهُ ما فِيهِ صَلاحُ عِبادِهِ. وقالَ بَعْضُهم: هو عِلْمٌ غَيْبِيٌّ يَتَعَلَّقُ بِعالَمِ الأفْعالِ، وأخَصُّ مِنهُ الوُقُوفُ عَلى بَعْضِ سِرِّ القَدَرِ قَبْلَ وُقُوعِ واقِعَتِهِ وأخَصُّ مِن ذَلِكَ عِلْمُ الأسْماءِ والنُّعُوتِ الخاصَّةِ، وأخَصُّ مِنهُ عِلْمُ الذّاتِ.
وذَكَرَ بَعْضُ العارِفِينَ أنَّ مِنَ العُلُومِ ما لا يُعْلِمُهُ إلّا النَّبِيُّ، واسْتَدَلَّ لَهُ بِقَوْلِهِ ﷺ في حَدِيثِ المِعْراجِ كَما ذَكَرَهُ القَسْطَلانِيُّ في مَواهِبِهِ وغَيْرُهُ ( «وسَألَنِي رَبِّي فَلَمْ أسْتَطِعْ أنْ أُجِيبَهُ فَوَضَعَ يَدَهُ بَيْنَ كَتِفَيَّ فَوَجَدْتُ بَرْدَها فَأوْرَثَنِي عِلْمَ الأوَّلِينَ والآخِرِينَ وعَلَّمَنِي عُلُومًا شَتّى، ثُمَّ أخَذَ عَلَيَّ كِتْمانَهُ إذْ عَلِمَ أنَّهُ لا يَقْدِرُ عَلى حَمْلِهِ أحَدٌ غَيْرِي، وعِلْمٌ خَيَّرَنِي فِيهِ وعَلَّمَنِي القُرْآنَ فَكانَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ يُذَكِّرُنِي بِهِ، وعِلْمٌ أمَرَنِي بِتَبْلِيغِهِ إلى العامِّ والخاصِّ مِن أُمَّتِي» ) . انْتَهى، ولِلَّهِ تَعالى عِلْمٌ اسْتَأْثَرَ بِهِ عَزَّ وجَلَّ لَمْ يُطْلِعْ عَلَيْهِ أحَدًا مِن خَلْقِهِ ﴿قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أتَّبِعُكَ عَلى أنْ تُعَلِّمَنِي مِمّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾ قالَهُ عَنِ ابْتِلاءٍ إلَهِيٍّ كَما قَدَّمْنا، وقالَ فارِسٌ كَما في أسْرارِ القُرْآنِ: إنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ أعْلَمَ مِنَ الخَضِرِ فِيما أخَذَ عَنِ اللَّهِ تَعالى، والخَضِرُ كانَ أعْلَمَ مِن مُوسى فِيما وقَعَ إلى مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، وقالَ أيْضًا: إنَّ مُوسى كانَ باقِيًا بِالحَقِّ والخَضِرُ كانَ فانِيًا بِالحَقِّ ﴿قالَ إنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾ ﴿وكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا﴾ (p-23)قِيلَ: عَلِمَ الخَضِرُ أنَّ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ أكْرَمُ الخَلْقِ عَلى اللَّهِ تَعالى في زَمانِهِ وأنَّهُ ذُو حِدَّةٍ عَظِيمَةٍ فَفَزِعَ مِن صُحْبَتِهِ لِئَلّا يَقَعَ مِنهُ مَعَهُ ما لا يَلِيقُ بِشَأْنِهِ.
وقالَ بَعْضُهم: آيَسَهُ مِن نَفْسِهِ لِئَلّا يَشْغَلَهُ صُحْبَتُهُ عَنْ صُحْبَةِ الحَقِّ قالَ: ﴿سَتَجِدُنِي إنْ شاءَ اللَّهُ صابِرًا ولا أعْصِي لَكَ أمْرًا﴾ قالَ بَعْضُهم: لَوْ قالَ كَما قالَ الذَّبِيحُ عَلَيْهِ السَّلامُ: ﴿سَتَجِدُنِي إنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصّابِرِينَ﴾ لِوَفْقٍ لِلصَّبْرِ كَما وُفِّقَ الذَّبِيحُ، والفَرْقُ أنَّ كَلامَ الذَّبِيحِ أظْهَرُ في الِالتِجاءِ وكَسْرِ النَّفْسِ حَيْثُ عَلَّقَ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ تَعالى وِجْدانَهُ واحِدًا مِن جَماعَةِ مُتَّصِفِينَ بِالصَّبْرِ ولا كَذَلِكَ كَلامُ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ ﴿فانْطَلَقا حَتّى إذا أتَيا أهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أهْلَها﴾ سَلَكا طَرِيقَ السُّؤالِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بَذْلَ النَّفْسِ في الطَّرِيقَةِ وهو لا يُنافِي التَّوَكُّلَ وكَذا الكَسْبُ ﴿قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أجْرًا﴾ كَأنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ أرادَ دَفْعَ ما أحْوَجَهُما إلى السُّؤالِ مِن أُولَئِكَ اللِّئامِ وفِيهِ نَظَرٌ إلى الأسْبابِ وهو مِن أحْوالِ الكامِلِينَ كَما مَرَّ في حِكايَةِ الحَسَنِ البَصْرِيِّ وحَبِيبٍ، فَفي هَذا إشارَةٌ إلى أنَّهُ أكْمَلُ مِنَ الخَضِرِ عَلَيْهِما السَّلامُ قالَ ﴿هَذا فِراقُ بَيْنِي وبَيْنِكَ﴾ أيْ: حَسْبَما أرَدْتُ، وقالَ النَّصْرابادِيُّ: لَمّا عَلِمَ الخَضِرُ بُلُوغَ مُوسى إلى مُنْتَهى التَّأْدِيبِ وقُصُورِ عَلَمِهِ عَنْ عِلْمِهِ قالَ ذَلِكَ لِئَلّا يَسْألَهُ مُوسى بَعْدُ عَنْ عِلْمٍ أوْ حالٍ فَيُفْتَضِحُ.
وقِيلَ: خافَ أنْ يَسْألَهُ عَنْ أسْرارِ العُلُومِ الرَّبّانِيَّةِ الصِّفاتِيَّةِ الذّاتِيَّةِ فَيَعْجِزُ عَنْ جَوابِهِ فَقالَ ما قالَ ﴿وأمّا الغُلامُ فَكانَ أبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أنْ يُرْهِقَهُما طُغْيانًا وكُفْرًا﴾ قِيلَ: كانَ حَسَنَ الوَجْهِ جِدًّا وكانَ مَحْبُوبًا في الغايَةِ لِوالِدَيْهِ فَخَشِيَ فِتْنَتَهُما بِهِ، والآيَةُ مِنَ المُشْكِلِ ظاهِرًا لِأنَّهُ إنْ كانَ قَدْ قَدَّرَ اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِما الكَفْرَ فَلا يَنْفَعُهُما قَتْلُ الوَلَدِ وإنْ لَمْ يَكُنْ قَدَّرَ سُبْحانَهُ ذَلِكَ فَلا يَضُرُّهُما بَقاؤُهُ، وأُجِيبُ بِأنَّ المُقَدَّرَ بَقاؤُهُما عَلى الإيمانِ إنْ قُتِلَ وقَتْلُهُ لِيَبْقَيا عَلى ذَلِكَ.
وقِيلَ: إنَّ المُقَدَّرَ قَدْ يُغَيَّرُ ولا يَلْزَمُ مِن ذَلِكَ سِوى التَّغَيُّرِ في تَعَلُّقِ صِفَتِهِ تَعالى لا في الصِّفَةِ نَفْسِها لِيَلْزَمَ التَّغَيُّرُ فِيهِ عَزَّ وجَلَّ، وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ في ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿يَمْحُو اللَّهُ ما يَشاءُ ويُثْبِتُ وعِنْدَهُ أُمُّ الكِتابِ﴾ .
واسْتَشْكَلَ أيْضًا بِأنَّ المَحْذُورَ يَزُولُ بِتَوْفِيقِهِ لِلْإيمانِ فَما الحاجَةُ إلى القَتْلِ، وأُجِيبُ بِأنَّ الظّاهِرَ أنَّهُ غَيْرُ مُسْتَعِدٍّ لِذَلِكَ فَهو مُنافٍ لِلْحِكْمَةِ وكَأنَّ الخَضِرَ عَلَيْهِ السَّلامُ رَأى فِيما قالَ نَوْعَ مُناقَشَةٍ فَتَخَلَّصَ مِن ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿وما فَعَلْتُهُ عَنْ أمْرِي﴾ أيْ: بَلْ فَعَلْتُهُ بِأمْرِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ ولا يَسْألُ سُبْحانَهُ عَمّا أمَرَ وفَعَلَ، ولَعَلَّ قَوْلَهُ لِمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ ما قالَ حِينَ نَقَرَ العُصْفُورَ في البَحْرِ سَدٌّ لِبابِ المُناقَشَةِ فِيما أمَرَ اللَّهُ تَعالى شَأْنُهُ، ولَعَلَّ عِلْمَ مِثْلَ هَذِهِ المَسائِلِ مِنَ العِلْمِ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ سُبْحانَهُ بِهِ ﴿ولا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِن عِلْمِهِ إلا بِما شاءَ﴾ وأوَّلَ بَعْضُهم مَجْمَعَ البَحْرَيْنِ بِمَجْمَعِ وِلايَةِ الشَّيْخِ ووِلايَةِ المُرِيدِ، والصَّخْرَةَ بِالنَّفْسِ، والحُوتَ بِالقَلْبِ المُمَلَّحِ بِمِلْحِ حُبِّ الدُّنْيا وزِينَتِها، والسَّفِينَةَ بِالشَّرِيعَةِ، وخَرْقَها بِهَدْمِ النّامُوسِ في الظّاهِرِ مَعَ الصَّلاحِ في الباطِنِ، وإغْراقَ أهْلِها بِإيقاعِهِمْ في بِحارِ الضَّلالِ، والغُلامَ بِالنَّفْسِ الأمّارَةِ، وقَتْلَهُ بِذَبْحِهِ بِسَيْفِ الرِّياضَةِ، والقَرْيَةَ بِالجَسَدِ، وأهْلَها بِالقُوى الإنْسانِيَّةِ مِنَ الحَواسِّ، واسْتِطْعامَهم بِطَلَبِ أفاعِيلِها الَّتِي تَخْتَصُّ بِها، وإباءَ الضِّيافَةِ بِمَنعِها إعْطاءَ خَواصِّها كَما يَنْبَغِي لِكَلالِها وضَعْفِها، والجِدارَ بِالتَّعَلُّقِ الحائِلِ بَيْنَ النَّفْسِ النّاطِقَةِ وعالَمِ المُجَرَّداتِ وإرادَةِ الِانْقِضاضِ بِمُشارَفَةِ قَطْعِ العَلائِقِ وإقامَتِهِ بِتَقْوِيَةِ البَدَنِ والرِّفْقِ بِالقُوى والحَواسِّ، ومَشِيئَةَ اتِّخاذِ الأجْرِ بِمَشِيئَةِ الصَّبْرِ عَلى شِدَّةِ الرِّياضَةِ لِنَيْلِ الكُشُوفِ وإفاضَةِ الأنْوارِ، والمَساكِينَ بِالعَوامِّ، والبَحْرَ الَّذِي يَعْمَلُونَ فِيهِ بِبَحْرِ الدُّنْيا، والمُلْكَ بِالشَّيْطانِ، والسُّفُنَ الَّتِي يَغْصِبُها العِباداتِ الخالِيَةَ عَنِ الِانْكِسارِ والذُّلِّ والخُشُوعِ، والأبَوَيْنِ المُؤْمِنَيْنِ بِالقَلْبِ، والرُّوحِ، والبَدَلَ الخَيْرُ بِالنَّفْسِ المُطْمَئِنَّةِ والمُلْهَمَةِ، والكَنْزَ (p-24)بِالكِمالاتِ النَّظَرِيَّةِ والعِلْمِيَّةِ، والأبُ الصّالِحُ بِالعَقْلِ المُفارِقِ الَّذِي كِمالاتُهُ بِالفِعْلِ، وبُلُوغَ الأشَدِّ بِوُصُولِهِما بِتَرْبِيَةِ الشَّيْخِ وإرْشادِهِ إلى المَرْتَبَةِ الكامِلَةِ، وهَذا ما اخْتارَهُ النَّيْسابُورِيُّ، واخْتارَ غَيْرُهُ تَأْوِيلًا آخَرَ هو أدْهى مِنهُ، هَذا واللَّهُ تَعالى المُوَفِّقُ لِلصَّوابِ وإلَيْهِ المَرْجِعُ والمَآبُ
{"ayah":"وَأَمَّا ٱلۡجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَـٰمَیۡنِ یَتِیمَیۡنِ فِی ٱلۡمَدِینَةِ وَكَانَ تَحۡتَهُۥ كَنزࣱ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَـٰلِحࣰا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن یَبۡلُغَاۤ أَشُدَّهُمَا وَیَسۡتَخۡرِجَا كَنزَهُمَا رَحۡمَةࣰ مِّن رَّبِّكَۚ وَمَا فَعَلۡتُهُۥ عَنۡ أَمۡرِیۚ ذَ ٰلِكَ تَأۡوِیلُ مَا لَمۡ تَسۡطِع عَّلَیۡهِ صَبۡرࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











