الباحث القرآني
﴿إنّا جَعَلْنا ما عَلى الأرْضِ﴾ الظّاهِرُ عُمُومُ «ما» جَمِيعَ ما لا يَعْقِلُ أيْ سَواءٌ كانَ حَيَوانًا أوْ نَباتًا أوْ مَعْدِنًا أيْ جَعَلْنا جَمِيعَ ما عَلَيْها مِن غَيْرِ ذَوِي العُقُولِ ﴿زِينَةً لَها﴾ تَتَزَيَّنُ بِهِ وتَتَحَلّى وهو شامِلٌ لِزِينَةِ أهْلِها أيْضًا وزِينَةِ كُلِّ شَيْءٍ يَحْسَبُهُ بِالحَقِيقَةِ، وإنَّما هو زِينَةٌ لِأهْلِها، وقِيلَ: لا يَدْخُلُ في ذَلِكَ ما فِيهِ إيذاءٌ مِن حَيَوانٍ ونَباتٍ، ومَن قالَ بِالعُمُومِ قالَ: لا شَيْءَ مِمّا عَلى الأرْضِ إلّا وفِيهِ جِهَةُ انْتِفاعٍ ولا أقَلُّ مِنَ الِاسْتِدْلالِ بِهِ عَلى الصّانِعِ ووَحْدَتِهِ، وخَصَّ بَعْضُهم «ما» بِالأشْجارِ والأنْهارِ، وآخَرُ بِالنَّباتِ لِما فِيهِ مِنَ الأزْهارِ المُخْتَلِفَةِ الألْوانِ والمَنافِعِ، وآخَرُ بِالحَيَوانِ المُخْتَلِفِ الأشْكالِ والمَنافِعِ والأفْعالِ، وآخَرُ بِالذَّهَبِ والفِضَّةِ والرَّصاصِ والنُّحاسِ والياقُوتِ والزَّبَرْجَدِ واللُّؤْلُؤِ والمَرْجانِ والألْماسِ وما يَجْرِي مَجْرى ذَلِكَ مِن نَفائِسِ الأحْجارِ.
وقالَتْ فِرْقَةٌ: أُرِيدَ بِها الخُضْرَةُ والمِياهُ والنِّعَمُ والمَلابِسُ والثِّمارُ، ولَعَمْرِي إنَّهُ تَخْصِيصٌ لا يَقْبَلُهُ الخَواصُّ عَلى العُمُومِ، وقِيلَ: إنَّ «ما» هُنا لِمَن يَعْقِلُ، والمُرادُ بِذَلِكَ عَلى ما أخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ والحَسَنِ وجاءَ في رِوايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ الرِّجالُ، وعَلى ما أخْرَجَ أبُو نَصْرٍ السِّجْزِيُّ في الإبانَةِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: العُلَماءُ، وعَلى ما رَوى عِكْرِمَةُ الخُلَفاءُ والعُلَماءُ والأُمَراءُ، وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ جَعْلَ «ما» لِمَن يَعْقِلُ مَعَ إرادَةِ ما ذُكِرَ بَعِيدٌ جِدًّا، ولَعَلَّ أُولَئِكَ الأجِلَّةَ أرادُوا مِن «ما» العُقَلاءَ وغَيْرَهم تَغْلِيبًا لِلْأكْثَرِ عَلى غَيْرِهِ وما عَلى الأرْضِ بِهَذا المَعْنى لَيْسَ إلّا بَعْضَ العَناصِرِ الأرْبَعَةِ والمَوالِيدِ الثَّلاثَةِ، وأشْرَفُ ذَلِكَ المَوالِيدُ وأشْرَفُها نَوْعُ الإنْسانِ، وهو مُتَفاوِتُ الشَّرَفِ بِحَسْبِ الأصْنافِ، فَيُمْكِنُ أنْ يَكُونَ ما ذَكَرُوهُ مِن بابِ الِاقْتِصارِ عَلى بَعْضِ أصْنافِ هَذا الأشْرَفِ لِداعٍ لِذَلِكَ أصْنافٌ، وقَدْ يُقالُ: المُرادُ بِما عُمُومُ ما لا يَعْقِلُ ومَن يَعْقِلُ فَيَدْخُلُ مَن تَوَجَّهَ إلَيْهِ التَّكْلِيفُ وغَيْرُهُ ولا ضَيْرَ في ذَلِكَ؛ فَإنَّ لِلْمُكَلَّفِ جِهَتَيْنِ: جِهَةً يَدْخُلُ بِها تَحْتَ الزِّينَةِ وجِهَةً يَدْخُلُ بِها تَحْتَ الِابْتِلاءِ المُشارِ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لِنَبْلُوَهُمْ﴾ وقَدْ نَصَّ سُبْحانَهُ عَلى بَعْضِ المُكَلَّفِينَ بِأنَّهم زِينَةٌ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿المالُ والبَنُونَ زِينَةُ الحَياةِ الدُّنْيا﴾ ومِن هُنا يُعْلَمُ ما في قَوْلِ القاضِي: الأوْلى أنْ لا يَدْخُلَ المُكَلَّفُ لِأنَّ ما عَلى الأرْضِ لَيْسَ زِينَةً لَها بِالحَقِيقَةِ، وإنَّما هو زِينَةٌ لِأهْلِها لِغَرَضِ الِابْتِلاءِ فالَّذِي لَهُ الزِّينَةُ (p-207)يَكُونُ خارِجًا عَنِ الزِّينَةِ، ونُصِبَ ( زِينَةً ) عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ ثانٍ لِلْجَعْلِ، إنْ حُمِلَ عَلى مَعْنى التَّصْيِيرِ أوْ عَلى أنَّهُ حالٌ أوْ مَفْعُولٌ لَهُ كَما قالَ أبُو البَقاءِ وأبُو حَيّانَ إنَّ حُمِلَ عَلى مَعْنى الإبْداعِ، واللّامُ الأُولى إمّا مُتَعَلِّقَةٌ بِهِ أوْ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ وقَعَ صِفَةً لَهُ؛ أيْ: زِينَةً كائِنَةً لَها، واللّامُ الثّانِيَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِجَعَلْنا والكَلامُ عَلى هَذا، وجَعَلَ زِينَةً مَفْعُولًا لَهُ نَحْوَ: قُمْتُ إجْلالًا لَكَ لِتُقابِلَنِي بِمِثْلِ ذَلِكَ، وضَمِيرُ الجَمْعِ عائِدٌ عَلى سُكّانِ الأرْضِ مِنَ المُكَلَّفِينَ المَفْهُومِ مِنَ السِّياقِ.
وجُوِّزَ أنْ يَعُودَ عَلى «ما»؛ عَلى تَقْدِيرِ أنْ تَكُونَ لِلْعُقَلاءِ، والِابْتِلاءُ في الأصْلِ الِاخْتِبارُ، وجَوَّزَ ذَلِكَ عَلى اللَّهِ سُبْحانَهُ هِشامُ بْنُ الحَكَمِ بِناءً عَلى جَهْلِهِ وزَعْمِهِ أنَّهُ عَزَّ وجَلَّ لا يَعْلَمُ الحَوادِثَ إلّا بَعْدَ وُجُودِها؛ لِئَلّا يَلْزَمَ نَفْيُ قُدْرَتِهِ تَعالى عَلى الفِعْلِ أوِ التَّرْكِ، ورَدَّهُ أهْلُ السُّنَّةِ في مَحَلِّهِ وقالُوا: إنَّهُ تَعالى يَعْلَمُ الكُلِّيّاتِ والجُزْئِيّاتِ في الأزَلِ، وأوَّلُوا هَذِهِ الآيَةَ أنَّ المُرادَ لِيُعامِلَهم مُعامَلَةَ مَن يَخْتَبِرُهم ﴿أيُّهم أحْسَنُ عَمَلا﴾ فَنُجازِي كُلًّا بِما يَلِيقُ بِهِ وتَقْتَضِيهِ الحِكْمَةُ وحُسْنُ العَمَلِ والزُّهْدُ في زِينَةِ الدُّنْيا وعَدَمُ الِاغْتِرارِ بِها وصَرْفُها عَلى ما يَنْبَغِي والتَّأمُّلُ في شَأْنِها وجَعْلُها ذَرِيعَةً إلى مَعْرِفَةِ خالِقِها والتَّمَتُّعُ بِها حَسْبَما أذِنَ الشَّرْعُ وأداءُ حُقُوقِها والشُّكْرُ عَلى ما أُوتِيَ مِنها لا اتِّخاذُها وسِيلَةً إلى الشَّهَواتِ والأغْراضِ الفاسِدَةِ كَما تَفْعَلُهُ الكَفَرَةُ وأصْحابُ الأهْواءِ، ومَراتِبُ الحَسَنِ مُتَفاوِتَةٌ وكُلَّما قَوِيَ الزُّهْدُ مَثَلًا كانَ أحْسَنَ، وسَألَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما النَّبِيَّ ﷺ عَنِ الأحْسَنِ عَمَلًا كَما أخْرَجَ ذَلِكَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ أبِي حاتِمٍ والحاكِمُ في التّارِيخِ فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ««أحْسَنُكم عَقْلًا، وأوْرَعُ عَنْ مَحارِمِ اللَّهِ تَعالى، وأسْرَعُكم في طاعَتِهِ سُبْحانَهُ»».
وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ الحَسَنِ أنَّهُ قالَ: أحْسَنُهم عَمَلًا أشَدُّهم لِلدُّنْيا تَرْكًا، وأخْرَجَ نَحْوَهُ عَنْ سُفْيانَ الثَّوْرِيِّ، وذَكَرَ بَعْضُهم أنَّ الأحْسَنَ مَن زَهِدَ وقَنِعَ مِنَ الدُّنْيا بِزادِ المُسافِرِ ووَراءَهُ حَسَنٌ وهو مَنِ اسْتَكْثَرَ مِن حَلالِها وصَرَفَهُ في وُجُوهِهِ، وقَبِيحٌ مَنِ احْتَطَبَ حَلالَها وحَرامَها وأنْفَقَهُ في شَهَواتِهِ، وكَلامُ النَّبِيِّ ﷺ في بَيانِ الأحْسَنِ أحْسَنُ، ﴿وما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ﴾ وإيرادُ صِيغَةِ التَّفْضِيلِ مَعَ أنَّ الِابْتِلاءَ شامِلٌ لِلْفَرِيقَيْنِ بِاعْتِبارِ أعْمالِهِمُ المُنْقَسِمَةِ إلى الحَسَنِ والقَبِيحِ أيْضًا لا إلى الحَسَنِ والأحْسَنِ فَقَطْ لِلْإشْعارِ بِأنَّ الغايَةَ الأصْلِيَّةَ لِلْجَعْلِ المَذْكُورِ إنَّما هو ظُهُورُ كَمالِ إحْسانِ المُحْسِنِينَ، وأيُّ إمّا اسْتِفْهامِيَّةٌ فَهي مَرْفُوعَةٌ بِالِابْتِداءِ، وأحْسَنُ خَبَرُها، والجُمْلَةُ في مَحَلِّ نَصْبٍ بِفِعْلِ الِابْتِلاءِ ولِما فِيهِ مِن مَعْنى العِلْمِ بِاعْتِبارِ عاقِبَتِهِ كالسُّؤالِ والنَّظَرِ، ومَكانُ الِاسْتِفْهامِ عُلِّقَ عَنِ العَمَلِ، وإمّا مَوْصُولَةٌ بِمَعْنى الَّذِي فَهي مَبْنِيَّةٌ عَلى الضَّمِّ مَحَلُّها النَّصْبُ عَلى أنَّها بَدَلٌ مِن ضَمِيرِ النَّصْبِ في ﴿لِنَبْلُوَهُمْ﴾ وأحْسَنُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ والجُمْلَةُ صِلَةٌ لَها، والتَّقْدِيرُ: لِنَبْلُوَ الَّذِي هو أحْسَنُ عَمَلًا. ويُفْهَمُ مِنَ البَحْرِ أنَّ مَذْهَبَ سِيبَوَيْهِ في «أيُّ» إذا أُضِيفَتْ وحُذِفَ صَدْرُ صِلَتِها كَما هُنا جَوازُ البِناءِ لا وُجُوبُهُ، وتَحْقِيقُ الكَلامِ في مَذْهَبِهِ لا يَخْلُو عَنْ إشْكالٍ، وأفْعَلُ التَّفْضِيلِ باقٍ عَلى الصَّحِيحِ عَلى حَقِيقَتِهِ كَما أشَرْنا إلَيْهِ، والمُفَضَّلُ عَلَيْهِ مَحْذُوفٌ، والتَّقْدِيرُ كَما قالَأبُو حَيّانَ: لِنَبْلُوَهم أيُّهم أحْسَنُ عَمَلًا مِمَّنْ لَيْسَ أحْسَنَ عَمَلًا
{"ayah":"إِنَّا جَعَلۡنَا مَا عَلَى ٱلۡأَرۡضِ زِینَةࣰ لَّهَا لِنَبۡلُوَهُمۡ أَیُّهُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق