الباحث القرآني

﴿وأُحِيطَ بِثَمَرِهِ﴾ أُهْلِكَ أمْوالُهُ المَعْهُودَةُ مِن جَنَّتَيْهِ وما فِيهِما، وهو مَأْخُوذٌ مِن إحاطَةِ العَدُوِّ وهي اسْتِدارَتُهُ بِهِ مِن جَمِيعِ جَوانِبِهِ، اسْتُعْمِلَتْ في الِاسْتِيلاءِ والغَلَبَةِ ثُمَّ اسْتُعْمِلَتْ في كُلِّ هَلاكٍ، وذَكَرَ الخَفاجِيُّ أنَّ في الكَلامِ اسْتِعارَةً تَمْثِيلِيَّةً؛ شَبَّهَ إهْلاكَ جَنَّتَيْهِ بِما فِيهِما بِإهْلاكِ قَوْمٍ حاطَ بِهِمْ عَدُوٌّ وأوْقَعَ بِهِمْ بِحَيْثُ لَمْ يَنْجُ أحَدٌ مِنهُمْ، ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ الِاسْتِعارَةُ تَبَعِيَّةً، وبَعْضٌ يُجَوِّزُ كَوْنَها تَمْثِيلِيَّةً تَبَعِيَّةً انْتَهى. وجَعْلُ ذَلِكَ مِن بابِ الكِنايَةِ أظْهَرُ والعَطْفُ عَلى مُقَدَّرٍ كَأنَّهُ قِيلَ: فَوَقَعَ بَعْضُ ما تَرَجّى وأُحِيطَ إلَخْ. وحُذِفَ لِدَلالَةِ السِّباقِ والسِّياقِ عَلَيْهِ، واسْتُظْهِرَ أنَّ الإهْلاكَ كانَ لَيْلًا لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَأصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ﴾ ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ أصْبَحَ بِمَعْنى صارَ فَلا تَدُلُّ عَلى تَقْيِيدِ الخَبَرِ بِالصَّباحِ، ويَجْرِي هَذانِ الأمْرانِ في «تُصْبِحَ» و«يُصْبِحَ» السّابِقَيْنِ، ومَعْنى تَقْلِيبِ الكَفَّيْنِ عَلى ما اسْتَظْهَرَهُ أبُو حَيّانَ أنْ يُبْدِيَ بَطْنَ كُلٍّ مِنهُما ثُمَّ يُعَوِّجُّ يَدَهُ حَتّى يَبْدُوَ ظَهْرُ كَلٍّ، يَفْعَلُ ذَلِكَ مِرارًا، وقالَ غَيْرُ واحِدٍ: هو أنْ يَضَعَ باطِنَ إحْداهُما عَلى ظَهْرِ الأُخْرى ثُمَّ يَعْكِسَ الأمْرَ ويُكَرِّرَ ذَلِكَ، وأيًّا ما كانَ فَهو كِنايَةٌ عَنِ النَّدَمِ والتَّحَسُّرِ ولَيْسَ ذَلِكَ مِن قَوْلِهِمْ: قَلَّبْتُ الأمْرَ ظَهْرًا لِبَطْنٍ، كَما في قَوْلِ عَمْرِو بْنِ رَبِيعَةَ:(p-283) ؎وضَرَبْنا الحَدِيثَ ظَهْرًا لِبَطْنٍ وأتَيْنا مِن أمْرِنا ما اشْتَهَيْنا فَإنَّ ذَلِكَ مَجازٌ عَنِ الِانْتِقالِ مِن بَعْضِ الأحادِيثِ إلى بَعْضٍ، ولِكَوْنِهِ كِنايَةً عَنِ النَّدَمِ عُدِّيَ بِعَلى في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿عَلى ما أنْفَقَ فِيها﴾ فالجارُّ والمَجْرُورُ ظَرْفٌ لَغْوٌ مُتَعَلِّقٌ بِ «يُقَلِّبُ» كَأنَّهُ قِيلَ: فَأصْبَحَ يَنْدَمُ عَلى ما أنْفَقَ، ومِنهُ يُعْلَمُ أنَّهُ يَجُوزُ في الكِنايَةِ أنْ تُعَدّى بِصِلَةِ المَعْنى الحَقِيقِيِّ كَما في قَوْلِهِمْ: بَنى عَلَيْها وبِصِلَةِ المَعْنى الكِنائِيِّ كَما هُنا فَيَجُوزُ: بَنى بِها ويَكُونُ القَوْلُ بِأنَّهُ غَلَطٌ غَلَطٌ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ الجارُّ والمَجْرُورُ ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا مُتَعَلِّقُهُ خاصٌّ وهو حالٌ مِن ضَمِيرِ «يُقَلِّبُ» أيْ: مُتَحَسِّرًا عَلى ما أنْفَقَ وهو نَظَرًا إلى المَعْنى الكِنائِيِّ حالٌ مُؤَكِّدَةٌ عَلى ما قِيلَ لِأنَّ التَّحَسُّرَ والنَّدَمَ بِمَعْنًى، وقالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ التَّحَسُّرَ الحُزْنُ وهو أخَصُّ مِنَ النَّدَمِ فَلْيُراجَعْ، وأيًّا ما كانَ فَلا تَضْمِينَ في الآيَةِ كَما تُوُهِّمَ. وقُرِئَ: «تَقَلَّبُ كَفّاهُ» أيْ: تَتَقَلَّبُ، ولا يَخْفى عَلَيْكَ أمْرُ الجارِّ والمَجْرُورِ عَلى هَذا، وما إمّا مَصْدَرِيَّةٌ؛ أيْ: عَلى إنْفاقِهِ في عِمارَتِها، وإمّا مَوْصُولَةٌ؛ أيْ: عَلى الَّذِي أنْفَقَهُ في عِمارَتِها مِنَ المالِ، ويُقَدَّرُ عَلى هَذا مُضافٌ إلى المَوْصُولِ مِنَ الأفْعالِ الِاخْتِيارِيَّةِ إذا كانَ مُتَعَلِّقُ الجارِّ ( يُقَلِّبُ ) مُرادًا مِنهُ يَنْدَمُ لِأنَّ النَّدَمَ إنَّما يَكُونُ عَلى الأفْعالِ الِاخْتِيارِيَّةِ، ويُعْلَمُ مِن هَذا وجْهُ تَخْصِيصِ النَّدَمِ عَلى ما أنْفَقَ بِالذِّكْرِ دُونَ هَلاكِ الجَنَّةِ، وقِيلَ: لَعَلَّ التَّخْصِيصَ لِذَلِكَ ولِأنَّ ما أنْفَقَ في عِمارَتِها كانَ ما يُمْكِنُ صِيانَتُهُ عَنْ طَوارِقِ الحَدَثانِ وقَدْ صَرَفَهُ إلى مَصالِحِها رَجاءَ أنْ يَتَمَتَّعَ بِها أكْثَرَ مِمّا يَتَمَتَّعُ بِهِ، وكانَ يَرى أنَّهُ لا تَنالُها أيْدِي الرَّدى ولِذَلِكَ قالَ ﴿ما أظُنُّ أنْ تَبِيدَ هَذِهِ أبَدًا﴾ فَلَمّا ظَهَرَ لَهُ أنَّها مِمّا يَعْتَرِيهِ الهَلاكُ نَدِمَ عَلى ما صَنَعَ بِناءً عَلى الزَّعْمِ الفاسِدِ مِن إنْفاقِ ما يُمْكِنُ ادِّخارُهُ في مِثْلِ هَذا الشَّيْءِ السَّرِيعِ الزَّوالِ انْتَهى، والظّاهِرُ أنَّ إهْلاكَها واسْتِئْصالَ نَباتِها وأشْجارِها كانَ دَفْعِيًّا بِآفَةٍ سَماوِيَّةٍ ولَمْ يَكُنْ تَدْرِيجِيًّا بِإذْهابِ ما بِهِ النَّماءُ وهو الماءُ، فَقَدْ قالَ الخَفاجِيُّ: إنَّ الآيَةَ تَدُلُّ عَلى وُقُوعِ اسْتِئْصالِ نَباتِها وأشْجارِها عاجِلًا بِآفَةٍ سَماوِيَّةٍ صَرِيحًا لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَأصْبَحَ﴾ بِالفاءِ التَّعْقِيبِيَّةِ والتَّحَسُّرِ إنَّما يَكُونُ لِما وقَعَ بَغْتَةً فَتَأمَّلْ. ﴿وهِيَ﴾ أيِ الجَنَّةُ مِنَ الأعْنابِ المَحْفُوفَةِ بِنَخْلٍ ﴿خاوِيَةٌ﴾ أيْ ساقِطَةٌ، وأصْلُ الخَواءِ كَما قِيلَ: الخَلاءُ، يُقالُ خَوى بَطْنُهُ مِنَ الطَّعامِ يَخْوِي خَوًى وخَواءً إذا خَلا. وفي القامُوسِ: خَوَتِ الدّارُ تَهَدَّمَتْ، وخَوَتْ وخَوِيَتْ خَيًّا وخُوِيًّا وخَواءً وخَوايَةً خَلَتْ مِن أهْلِها، وأُرِيدُ السُّقُوطُ هُنا لِتَعَلُّقِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿عَلى عُرُوشِها﴾ بِذَلِكَ، والعُرُوشُ جَمْعُ عَرْشٍ وهو هُنا ما يُصْنَعُ مِنَ الأعْمِدَةِ لِتُوضَعَ عَلَيْهِ الكُرُومُ، وسُقُوطُ الجَنَّةِ عَلى العُرُوشِ لِسُقُوطِها قَبْلَها، ولَعَلَّ ذَلِكَ لِأنَّهُ قَدْ أصابَ الجَنَّةَ مِنَ العَذابِ ما جَعَلَها صَعِيدًا زَلَقًا لا يَثْبُتُ فِيها قائِمٌ، ولَعَلَّ تَخْصِيصَ حالِ الكُرُومِ بِالذِّكْرِ دُونَ النَّخْلِ والزَّرْعِ إمّا لِأنَّها العُمْدَةُ وهُما مِن مُتَمِّماتِها، وإمّا لِأنَّ ذِكْرَ هَلاكِها عَلى ما قِيلَ مُغْنٍ عَنْ ذِكْرِ هَلاكِ الباقِي لِأنَّها حَيْثُ هَلَكَتْ وهي مُسْنَدَةٌ بِعُرُوشِها فَهَلاكُ ما عَداها بِالطَّرِيقِ الأوْلى، وإمّا لِأنَّ الإنْفاقَ في عِمارَتِها أكْثَرُ، ثُمَّ هَذِهِ الجُمْلَةُ تُبْعِدُ ما رُوِيَ مِن أنَّ اللَّهَ تَعالى أرْسَلَ عَلَيْها نارًا فَأحْرَقَتْها وغارَ ماؤُها إلّا أنْ يُرادَ مِنها مُطْلَقُ الخَرابِ، وحِينَئِذٍ يَجُوزُ أنْ يُرادَ مِن «هِيَ» الجَنَّةُ بِجَمِيعِ ما اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ ( ويَقُولُ ) عَطْفٌ عَلى ( يُقَلِّبُ ) وجَوَّزَ أبُو البَقاءِ وغَيْرُهُ أنْ يَكُونَ حالًا مِنَ الضَّمِيرِ المُسْتَتِرِ فِيهِ بِتَقْدِيرِ: وهو يَقُولُ؛ لِأنَّ المُضارِعَ المُثْبَتَ لا يَقْتَرِنُ بِالواوِ الحالِيَّةِ إلّا شُذُوذًا. ﴿يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أحَدًا﴾ كَأنَّهُ تَذَكَّرَ مَوْعِظَةَ أخِيهِ وعَلِمَ أنَّهُ إنَّما أُتِيَ مِن قِبَلِ شِرْكِهِ فَتَمَنّى لَوْ لَمْ (p-284)يَكُنْ مُشْرِكًا فَلَمْ يُصِبْهُ ما أصابَهُ، قِيلَ: ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ تَوْبَةً مِنَ الشِّرْكِ ونَدَمًا عَلَيْهِ فَيَكُونُ تَجْدِيدًا لِلْإيمانِ لِأنَّ نَدَمَهُ عَلى شِرْكِهِ فِيما مَضى يُشْعِرُ بِأنَّهُ آمَنَ في الحالِ فَكَأنَّهُ قالَ: آمَنتُ بِاللَّهِ تَعالى الآنَ ولَيْتَ ذَلِكَ كانَ أوَّلًا، لَكِنْ لا يَخْفى أنَّ مُجَرَّدَ النَّدَمِ عَلى الكُفْرِ لا يَكُونُ إيمانًا وإنْ كانَ النَّدَمُ عَلى المَعْصِيَةِ قَدْ يَكُونُ تَوْبَةً إذا عَزَمَ عَلى أنْ لا يَعُودَ وكانَ النَّدَمُ عَلَيْها مِن حَيْثُ كَوْنُها مَعْصِيَةً كَما صَرَّحَ بِهِ في المَواقِفِ، وعَلى فَرْضِ صِحَّةِ قِياسِهِ بِها لَمْ يَتَحَقَّقْ هُنا مِنَ الكافِرِ نَدَمٌ عَلَيْهِ مِن حَيْثُ هو كُفْرٌ بَلْ بِسَبَبِ هَلاكِ جَنَّتَيْهِ، والآيَةُ فِيما بَعْدُ ظاهِرَةٌ أيْضًا في أنَّهُ لَمْ يَتُبْ عَمّا كَفَرَ بِهِ وهو إنْكارُ البَعْثِ، والقَوْلُ بِأنَّهُ إنَّما لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُ عَنْ ذَلِكَ لِأنَّها كانَتْ عِنْدَ مُشاهَدَةِ البَأْسِ، والإيمانُ إذْ ذاكَ غَيْرُ مَقْبُولٍ، غَيْرِ مَقْبُولٍ؛ إذْ غايَةُ ما في البابِ أنَّهُ إيمانٌ بَعْدَ مُشاهَدَةِ إهْلاكِ مالِهِ ولَيْسَ في ذَلِكَ سَلْبُ الِاخْتِيارِ الَّذِي هو مَناطُ التَّكْلِيفِ لا سِيَّما إذا كانَ ذَلِكَ الإهْلاكُ لِلْإنْذارِ، نَعَمْ إذا قِيلَ: إنَّ هَذا حِكايَةٌ لِما يَقُولُهُ الكافِرُ يَوْمَ القِيامَةِ كَما ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ المُفَسِّرِينَ كانَ وجْهُ عَدَمِ القَبُولِ ظاهِرًا؛ إذْ لا يَنْفَعُ تَجْدِيدُ الإيمانِ هُناكَ بِالِاتِّفاقِ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب