الباحث القرآني

﴿لَكِنّا هو اللَّهُ رَبِّي﴾ أصْلُهُ: لَكِنْ أنا، وقَدْ قَرَأ بِهِ أُبَيٌّ والحَسَنُ، وحَكى ابْنُ عَطِيَّةَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَنَقَلَ حَرَكَةَ هَمْزَةِ أنا إلى نُونِ لَكِنَّ فَحُذِفَتِ الهَمْزَةُ ثُمَّ حُذِفَتِ الحَرَكَةُ ثُمَّ أُدْغِمَتِ النُّونُ في النُّونِ، وقِيلَ: حُذِفَتِ الهَمْزَةُ مَعَ حَرَكَتِها ثُمَّ أُدْغِمَ أحَدُ المِثْلَيْنِ في الآخَرِ، وهو أقْرَبُ مَسافَةً إلّا أنَّ الحَذْفَ المَذْكُورَ عَلى خِلافِ القِياسِ، وقَدْ جاءَ الحَذْفُ والإدْغامُ في قَوْلِهِ: ؎وتَرْمِينَنِي بِالطَّرْفِ أيْ أنْتَ مُذْنِبٌ وتَقْلِينَنِي لَكِنَّ إيّاكِ لا أقْلِي فَإنَّهُ أرادَ: لَكِنَّ أنا لا أقْلِيكِ، وهو أوْلى مِن جَعْلِهِمُ التَّقْدِيرَ لَكِنَّهُ إيّاكَ عَلى حَذْفِ ضَمِيرِ الشَّأْنِ، وأبْعَدُ مِنهُ جَعْلُ الأصْلِ: لَكِنَّنِي إيّاكِ عَلى حَذْفِ اسْمِ لَكِنَّ كَما في قَوْلِهِ: ؎فَلَوْ كُنْتَ ضَبِّيًّا عَرَفْتَ قَرابَتِي ∗∗∗ ولَكِنَّ زِنْجِيٌّ عَظِيمُ المَشافِرِ أيْ: لَكِنَّكَ مَعَ نُونِ الوِقايَةِ، وبِإثْباتِ الألِفِ آخِرًا في الوَقْفِ وحَذْفِها في الوَصْلِ كَما هو الأصْلُ في أنا وقْفًا ووَصْلًا قَرَأ الكُوفِيُّونَ وأبُو عَمْرٍو وابْنُ كَثِيرٍ ونافِعٌ في رِوايَةِ ورْشٍ وقالُونَ، وأبْدَلَها هاءً في الوَقْفِ أبُو عَمْرٍو في رِوايَةٍ فَقالَ: «لَكِنَّهُ» ذَكَرَهُ ابْنُ خالَوَيْهِ، وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: رَوى هارُونُ عَنْ أبِي عَمْرٍو: «لَكِنَّهُ هو اللَّهُ رَبِّي» بِضَمِيرٍ لَحِقَ لَكِنَّ. وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ والحَسَنُ والزُّهْرِيُّ بِإثْباتِ الألِفِ وقْفًا ووَصْلًا وهو رِوايَةٌ عَنْ نافِعٍ ويَعْقُوبَ وأبِي عَمْرٍو ووَرْشٍ وأبِي جَعْفَرٍ وأبِي بَحْرِيَّةَ، وجاءَ ذَلِكَ عَلى لُغَةِ بَنِي تَمِيمٍ؛ فَإنَّهم يُثْبِتُونَ ألِفَ أنا في الأصْلِ اخْتِيارًا، وأمّا غَيْرُهم فَيُثْبِتُها فِيهِ اضْطِرارًا، وقالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ إثْباتَها في الوَصْلِ غَيْرُ فَصِيحٍ لَكِنَّهُ حَسَنٌ هُنا لِمُشابِهَةِ أنا بَعْدَ حَذْفِ هَمْزَتِهِ لِضَمِيرِ «نا» المُتَّصِلِ، ولِأنَّ الألِفَ جُعِلَ عِوَضًا عَنِ الهَمْزَةِ المَحْذُوفَةِ فِيهِ. وقِيلَ: أُثْبِتَتْ إجْراءً لِلْوَصْلِ مَجْرى الوَقْفِ وفي إثْباتِها دَفْعُ اللَّبْسِ بِلَكِنَّ المُشَدَّدَةِ، ومِن إثْباتِها وصْلًا قَوْلُ الشّاعِرِ:(p-278) ؎أنا شَيْخُ العَشِيرَةِ فاعْرِفُونِي ∗∗∗ حُمَيْدًا قَدْ تَذَرَّيْتُ السَّناما وفِي رِوايَةِ الهاشِمِيِّ عَنْ أبِي جَعْفَرٍ حَذْفُها وصْلًا ووَقْفًا، ورُوِيَ ذَلِكَ أيْضًا عَنْ أبِي عَبْلَةَ وأبِي حَيْوَةَ وأبِي بَحْرِيَّةَ، وقَرَأ: «لَكِنَنا» بِحَذْفِ الهَمْزَةِ وتَخْفِيفِ النُّونَيْنِ، و«لَكِنْ» في جَمِيعِ هَذِهِ القِراءاتِ حَرْفُ اسْتِدْراكٍ لا عَمَلَ لَهُ، وأنا مُبْتَدَأٌ أوَّلُ و«هُوَ» ضَمِيرُ الشَّأْنِ مُبْتَدَأٌ ثانٍ و﴿اللَّهُ رَبِّي﴾ مُبْتَدَأٌ وخَبَرٌ، والجُمْلَةُ خَبَرُ ضَمِيرِ الشَّأْنِ وهي غَنِيَّةٌ عَنِ الرّابِطِ، وجُمْلَةُ ضَمِيرِ الشَّأْنِ وخَبَرُهُ خَبَرُ المُبْتَدَأِ الأوَّلِ، والرّابِطُ ضَمِيرُ المُتَكَلِّمِ المُضافُ إلَيْهِ، والتَّرْكِيبُ نَظِيرُ قَوْلِكَ: هِنْدٌ هو زَيْدٌ ضارِبُها، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ «هُوَ» مُبْتَدَأً ثانِيًا، والِاسْمُ الجَلِيلُ بَدَلًا مِنهُ و«رَبِّي» خَبَرُهُ والجُمْلَةُ خَبَرُ المُبْتَدَأِ الأوَّلِ والرّابِطُ الياءُ أيْضًا. وفِي البَحْرِ أنَّ «هُوَ» ضَمِيرُ الشَّأْنِ وثَمَّ قَوْلٌ مَحْذُوفٌ؛ أيْ: لَكِنْ أنا أقُولُ هو اللَّهُ رَبِّي، ويَجُوزُ أنْ يَعُودَ عَلى الَّذِي ﴿خَلَقَكَ﴾ أيْ: لَكِنْ أنا أقُولُ الَّذِي خَلَقَكَ اللَّهُ رَبِّي فَخَبَرُهُ الِاسْمُ الجَلِيلُ و«رَبِّي» نَعْتٌ أوْ عَطْفُ بَيانٍ أوْ بَدَلٌ انْتَهى، ثُمَّ جُوِّزَ عَدَمُ تَقْدِيرِ القَوْلِ واقْتُصِرَ عَلى جَعْلِ «هُوَ» ضَمِيرَ الشَّأْنِ حِينَئِذٍ حَسْبَما سَمِعْتَ، ولا يَخْفى أنَّ احْتِمالَ تَقْدِيرِ القَوْلِ بِعِيدٌ في هَذِهِ القِراءَةِ، ولَعَلَّ احْتِمالَ كَوْنِ الِاسْمِ الجَلِيلِ بَدَلًا أقْرَبُ مَعْنًى مِن كَوْنِهِ خَبَرًا وعَوْدُ الضَّمِيرِ عَلى الَّذِي خَلَقَكَ، وجَوَّزَ أبُو عَلِيٍّ كَوْنَ - نا - ضَمِيرَ الجَماعَةِ كالَّتِي في خَرَجْنا وضَرَبْنا ووَقَعَ الإدْغامُ لِاجْتِماعِ المِثْلَيْنِ إلّا أنَّهُ أُرِيدَ بِها ضَمِيرُ المُعَظِّمِ نَفْسَهُ فَوَحَّدَ «رَبِّي» عَلى المَعْنى ولَوِ اتَّبَعَ اللَّفْظَ لَقِيلَ: رَبُّنا ولا يَخْفى ما فِيهِ مِنَ البُعْدِ، وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ في الآيَةِ: يَجُوزُ أنْ تَكُونَ لَكِنَّ هي العامِلَةَ مِن أخَواتِ إنَّ واسْمُها مَحْذُوفٌ، وحَذْفُهُ فَصِيحٌ إذا دَلَّ عَلَيْهِ الكَلامُ، والتَّقْدِيرُ: لَكِنَّ قَوْلِي هو اللَّهُ رَبِّي، لَكِنَّ ذَلِكَ إنَّما يَتِمُّ لَوْ قُرِئَ بِحَذْفِ الألِفِ وقْفًا ووَصْلًا وأنا لا أعْرِفُ أحَدًا قَرَأ بِذَلِكَ انْتَهى. وأنْتَ قَدْ عَرَفْتَ مَن قَرَأ بِهِ، وقَدْ ذُكِرَ غَيْرُهم قَرَءُوا أيْضًا أبُو القاسِمِ يُوسُفُ بْنُ عَلِيٍّ الهُذَلِيُّ في كِتابِهِ الكامِلِ في القِراءاتِ لَكِنْ لا أظُنُّكَ تَسْتَحْسِنُ التَّخْرِيجَ عَلى ذَلِكَ، وقَرَأ عِيسى الثَّقَفِيُّ: «لَكِنْ هو اللَّهُ» بِسُكُونِ نُونِ لَكِنْ، وحَكاهُ ابْنُ خالَوَيْهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، والأهْوازِيُّ عَنِ الحَسَنِ، وإعْرابُهُ ظاهِرٌ جِدًّا. وقُرِئَ: «لَكِنَّ أنا هو اللَّهُ لا إلَهَ إلّا هو رَبِّي» ويُعْلَمُ إعْرابُهُ مِمّا مَرَّ، وخَرَّجَ أبُو حَيّانَ قِراءَةَ أبِي عَمْرٍو عَلى رِوايَةِ هارُونَ عَلى أنْ يَكُونَ «هُوَ» تَأْكِيدًا لِضَمِيرِ النَّصْبِ في «لَكِنَّهُ» وجَعْلِهِ عائِدًا عَلى «الَّذِي خَلَقَكَ» ثُمَّ قالَ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ فَصْلًا لِوُقُوعِهِ بَيْنَ مَعْرِفَتَيْنِ، ولا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ ضَمِيرَ شَأْنٍ لِأنَّهُ لا عائِدَ حِينَئِذٍ عَلى اسْمِ لَكِنَّ مِنَ الجُمْلَةِ الواقِعَةِ خَبَرًا انْتَهى، ويا لَيْتَ شِعْرِي ما الَّذِي مَنَعَهُ مِن تَجْوِيزِ أنْ يَكُونَ ضَمِيرُ لَكِنَّهُ لِلشَّأْنِ ويَكُونَ «هُوَ» مُبْتَدَأً عائِدًا عَلى﴿الَّذِي خَلَقَكَ﴾ والِاسْمُ الجَلِيلُ خَبَرُهُ و«رَبِّي» نَعْتًا، أوْ عَطْفَ بَيانٍ أوْ بَدَلًا، والجُمْلَةُ خَبَرُ ضَمِيرِ الشَّأْنِ المَنصُوبِ بِلَكِنَّ، أوْ يَكُونَ «هُوَ» مُبْتَدَأً، والِاسْمُ الجَلِيلُ بَدَلًا مِنهُ و«رَبِّي» خَبَرًا والجُمْلَةُ خَبَرُ الضَّمِيرِ. هَذا وقَوْلُهُ: ﴿ولا أُشْرِكُ بِرَبِّي أحَدًا﴾ عَطْفٌ عَلى إحْدى الجُمْلَتَيْنِ والِاسْتِدْراكُ عَلى ﴿أكَفَرْتَ﴾ ومُلَخَّصُ المَعْنى لِمَكانِ الِاسْتِفْهامِ الَّذِي هو لِلتَّقْرِيرِ عَلى سَبِيلِ الإنْكارِ: أنْتَ كافِرٌ بِاللَّهِ تَعالى لَكِنِّي مُؤْمِنٌ مُوَحِّدٌ. ولِلتَّغايُرِ الظّاهِرِ بَيْنَ الجُمْلَتَيْنِ وقَعَتْ لَكِنَّ مَوْقِعَها؛ فَقَدْ قالُوا: إنَّها تَقَعُ بَيْنَ كَلامَيْنِ مُتَغايِرَيْنِ نَحْوَ: زَيْدٌ حاضِرٌ لَكِنْ عَمْرٌو غائِبٌ، وإلى كَوْنِ المَعْنى ما ذُكِرَ ذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ وغَيْرُهُ، وذَكَرَ في الكَشْفِ أنَّ فِيهِ إشارَةً إلى أنَّ الكُفْرَ بِاللَّهِ تَعالى يُقابِلُهُ الإيمانُ والتَّوْحِيدُ، فَجازَ أنْ يَسْتَدْرَكَ بِكُلٍّ مِنهُما وبِهِما مَعًا؛ أيْ: كَما هُنا فَإنَّ الإيمانَ مُفادُ: ﴿لَكِنّا هو اللَّهُ رَبِّي﴾ والتَّوْحِيدُ مُفادُ: ( لا أُشْرِكُ بِرَبِّي أحَدًا ) وأنْتَ تَعْلَمُ أيْضًا أنَّ الشِّرْكَ كَثِيرًا ما يُطْلَقُ عَلى مُطْلَقِ الكُفْرِ (p-279)وجَعَلُوا مِنهُ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أنْ يُشْرَكَ بِهِ﴾ وإنَّهُ يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ الغَرَضُ مِن مَجْمُوعِ الكَلامِ إثْباتَ الإيمانِ عَلى الوَجْهِ الأكِيدِ، ولَعَلَّ شِرْكَ صاحِبِهِ الَّذِي عَرَّضَ بِهِ في الجُمْلَةِ الثّانِيَةِ كَما صَرَّحَ بِهِ غَيْرُ واحِدٍ بِهَذا المَعْنى. وقِيلَ: الشِّرْكُ فِيهِ بِالمَعْنى المُتَبادِرِ وإثْباتُهُ لِصاحِبِهِ تَعْرِيضًا بِاعْتِبارِ أنَّهُ لَمّا أنْكَرَ البَعْثَ فَقَدْ عَجَّزَ البارِيَ جَلَّ جَلالُهُ، ومَن عَجَّزَهُ سُبْحانَهُ وتَعالى فَقَدْ سَوّاهُ بِخَلْقِهِ تَعالى في العَجْزِ وهو شِرْكٌ، وقِيلَ: بِاعْتِبارِ أنَّهُ لَمّا اغْتَرَّ بِدُنْياهُ وزَعَمَ الِاسْتِحْقاقَ الذّاتِيَّ وأضافَ ما أضافَ لِنَفْسِهِ كانَ كَأنَّهُ أشْرَكَ فَعَرَّضَ بِهِ المُؤْمِنُ بِما عَرَّضَ فَكَأنَّهُ قالَ: لَكِنَّ أنا مُؤْمِنٌ ولا أرى الغِنى والفَقْرَ إلّا مِنَ اللَّهِ تَعالى يُفْقِرُ مَن يَشاءُ ويُغْنِي مَن يَشاءُ ولا أرى الِاسْتِحْقاقَ الذّاتِيَّ عَلى خِلافِ ما أنْتَ عَلَيْهِ، والإنْصافُ أنَّ كُلًّا مِنَ القَوْلَيْنِ تَكَلُّفٌ، وقِيلَ: في الكَلامِ تَعْرِيضٌ بِشْرِكِ صاحِبِهِ ولا يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ مَدْلُولًا عَلَيْهِ بِكَلامِهِ السّابِقِ بَلْ يَكْفِيهِ ثُبُوتُ كَوْنِهِ مُشْرِكًا في نَفْسِ الأمْرِ وفِيما بَعْدُ ما هو ظاهِرٌ فِيهِ فَتَأمَّلْ، ثُمَّ اعْلَمْ أنَّ ما تَضَمَّنَتْهُ الآيَةُ ذِكْرٌ جَلِيلٌ. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ «عَنْ أسْماءَ بِنْتِ عُمَيْسٍ قالَتْ: عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ كَلِماتٍ أقُولُهُنَّ عِنْدَ الكَرْبِ: اللَّهُ رَبِّي لا أُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا».
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب