الباحث القرآني

﴿ثُمَّ بَعَثْناهُمْ﴾ أيْ: أيْقَظْناهم وأثَرْناهم مِن نَوْمِهِمْ ﴿لِنَعْلَمَ أيُّ الحِزْبَيْنِ﴾ أيْ: مِنهم وهُمُ القائِلُونَ لَبِثْنا يَوْمًا أوْ بَعْضَ يَوْمٍ والقائِلُونَ: ﴿رَبُّكم أعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ﴾ وقِيلَ: أحَدُ الحِزْبَيْنِ الفِتْيَةُ الَّذِينَ ظَنُّوا قِلَّةَ زَمانِ لُبْثِهِمْ، والثّانِي أهْلُ المَدِينَةِ الَّذِينَ بُعِثَ الفِتْيَةُ عَلى عَهْدِهِمْ وكانَ عِنْدَهم تارِيخُ غَيْبَتِهِمْ، وزَعَمَ ابْنُ عَطِيَّةَ أنَّ هَذا قَوْلُ جُمْهُورِ المُفَسِّرِينَ وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ أحَدَ الحِزْبَيْنِ الفِتْيَةُ والآخَرُ المُلُوكُ الَّذِينَ تَداوَلُوا مُلْكَ المَدِينَةِ واحِدًا بَعْدَ واحِدٍ، وعَنْ مُجاهِدٍ: الحِزْبانِ قَوْمُ أهْلِ الكَهْفِ حِزْبٌ مِنهم مُؤْمِنُونَ وحِزْبٌ كافِرُونَ، وقالَ الفَرّاءُ: الحِزْبانِ مُؤْمِنانِ كانُوا في زَمَنِهِمْ، واخْتَلَفُوا في مُدَّةِ لُبْثِهِمْ، وقالَ السُّدِّيُّ: الحِزْبانِ كافِرانِ، والمُرادُ بِهِما اليَهُودُ والنَّصارى الَّذِي عَلَّمُوا قُرَيْشًا سُؤالَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَنْ أهْلِ الكَهْفِ وقالَ ابْنُ حَرْبٍ: الحِزْبانِ اللَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى والخَلْقُ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أأنْتُمْ أعْلَمُ أمِ اللَّهُ﴾ (p-213)والظّاهِرُ هو الأوَّلُ لِأنَّ اللّامَ لِلْعَهْدِ ولا عَهْدَ لِغَيْرِ مَن سَمِعْتَ ﴿أحْصى﴾ أيْ ضَبْطٍ فَهو فِعْلٌ ماضٍ وفاعِلُهُ ضَمِيرُ ( أيُّ ) واخْتارَ ذَلِكَ الفارِسِيُّ والزَّمَخْشَرِيُّ، وابْنُ عَطِيَّةَ، وما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لِما لَبِثُوا﴾ مَصْدَرِيَّةٌ، والجارُّ والمَجْرُورُ حالٌ مُقَدَّمٌ عَنْ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿أمَدًا﴾ وهو مَفْعُولُ ﴿أحْصى﴾ والأمَدُ عَلى ما قالَ الرّاغِبُ: مُدَّةٌ لَها حَدٌّ، والفَرْقُ بَيْنَهُ وبَيْنَ الزَّمانِ أنَّ الأمَدَ يُقالُ: بِاعْتِبارِ الغايَةِ بِخِلافِ الزَّمانِ فَإنَّهُ عامٌّ في المَبْدَأِ والغايَةِ، ولِذَلِكَ قالَ بَعْضُهُمْ: المَدى والأمَدُ يَتَقارَبانِ، ولَيْسَ اسْمًا لِلْغايَةِ حَتّى يَكُونَ إطْلاقُهُ عَلى المُدَّةِ مَجازًا كَما أُطْلِقَتِ الغايَةُ عَلَيْها في قَوْلِهِمْ: ابْتِداءُ الغايَةِ وانْتِهاؤُها، أيْ: لِيُعْلَمَ أيُّهم أحْصى مُدَّةً كائِنَةً لِلُبْثِهِمْ، والمُرادُ مِن إحْصائِها ضَبْطُها مِن حَيْثُ كَمِّيَّتُها المُنْفَصِلَةُ العارِضَةُ لَها بِاعْتِبارِ قِسْمَتِها إلى السِّنِينَ وبُلُوغِها مِن تِلْكَ الحَيْثِيَّةِ إلى مَراتِبِ الأعْدادِ كَما يُرْشِدُكَ إلَيْهِ كَوْنُ المُدَّةِ عِبارَةً عَمّا سَبَقَ مِنَ السِّنِينَ، ولَيْسَ المُرادُ ضَبْطَها مِن حَيْثُ كَمِّيَّتُها المُتَّصِلَةُ الذّاتِيَّةُ؛ فَإنَّهُ لا يُسَمّى إحْصاءً، وقِيلَ: إطْلاقُ الأمَدِ عَلى المُدَّةِ مَجازٌ، وحَقِيقَتُهُ غايَةُ المُدَّةِ. ويَجُوزُ إرادَةُ ذَلِكَ بِتَقْدِيرِ المُضافِ، أيْ: لِنَعْلَمَ أيُّهم ضَبَطَ غايَةً لِزَمانِ لُبْثِهِمْ وبِدُونِهِ أيْضًا، فَإنَّ اللُّبْثَ عِبارَةٌ عَنِ الكَوْنِ المُسْتَمِرِّ المُنْطَبِقِ عَلى الزَّمانِ المَذْكُورِ فَبِاعْتِبارِ الِامْتِدادِ العارِضِ لَهُ بِسَبَبِهِ يَكُونُ لَهُ أمَدٌ وغايَةٌ لا مَحالَةَ، لَكِنْ لَيْسَ المُرادُ ما يَقَعُ غايَةً ومُنْتَهًى لِذَلِكَ الكَوْنِ المُسْتَمِرِّ بِاعْتِبارِ كَمِّيَّتِهِ المُتَّصِلَةِ العارِضَةِ لَهُ بِسَبَبِ انْطِباقِهِ عَلى الزَّمانِ المُمْتَدِّ بِالذّاتِ، وهو آنُ انْبِعاثِهِمْ مِن نَوْمِهِمْ فَإنَّ مَعْرِفَتَهُ مِن تِلْكَ الحَيْثِيَّةِ لا تَخْفى عَلى أحَدٍ ولا تُسَمّى إحْصاءً أيْضًا، بَلْ بِاعْتِبارِ كَمِّيَّتِهِ المُنْفَصِلَةِ العارِضَةِ لَهُ بِسَبَبِ عُرُوضِها لِزَمانِهِ المُنْطَبِقِ هو عَلَيْهِ بِاعْتِبارِ انْقِسامِهِ إلى السِّنِينَ ووُصُولِهِ إلى مَرْتَبَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِن مَراتِبِ العَدَدِ، والفَرْقُ بَيْنَ هَذا وما سَبَقَ أنْ ما تَعَلَّقَ بِهِ الإحْصاءُ في الصُّورَةِ السّابِقَةِ نَفْسُ المُدَّةِ المُنْقَسِمَةِ إلى السِّنِينَ فَهو مَجْمُوعُ ثَلاثِمِائَةٍ وتِسْعِ سِنِينَ وفي الصُّورَةِ الأخِيرَةِ مُنْتَهى تِلْكَ المُدَّةِ المُنْقَسِمَةِ إلَيْها أعْنِي التّاسِعَةَ بَعْدَ الثَّلاثِمِائَةِ وتَعَلُّقُ الإحْصاءِ بِالأمَدِ بِالمَعْنى الأوَّلِ ظاهِرٌ، وأمّا تَعَلُّقُهُ بِهِ بِالمَعْنى الثّانِي فَبِاعْتِبارِ انْتِظامِهِ لِما تَحْتَهُ مِن مَراتِبِ العَدَدِ، واشْتِمالُهُ عَلَيْها. انْتَهى. وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ ظاهِرَ كَلامِ الرّاغِبِ وهو - هو - في اللُّغَةِ يَقْتَضِي أنَّ الأمَدَ حَقِيقَةٌ في المُدَّةِ وأنَّهُ في الغايَةِ مَجازٌ، وأنَّ تَوْجِيهَ إرادَةِ الغايَةِ هُنا بِما ذَكَرَ تَكَلُّفٌ لا يُحْتاجُ إلَيْهِ عَلى تَقْدِيرِ كَوْنِ ما مَصْدَرِيَّةً. نَعَمْ يَحْتاجُ إلَيْهِ عَلى تَقْدِيرِ جَعْلِها مَوْصُولَةً حَذْفُ عائِدِها مِنَ الصِّلَةِ؛ أيْ: لِنَعْلَمَ أيُّهم أحْصى أمَدًا كائِنًا لِلَّذِي لَبِثُوهُ، أيْ: لَبِثُوا فِيهِ مِنَ الزَّمانِ. وقِيلَ: ما لَبِثُوا في مَوْضِعِ المَفْعُولِ لَهُ وجِيءَ بِلامِ التَّعْلِيلِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ مَصْدَرٍ صَرِيحٍ وغَيْرَ مُقارَنٍ أيْضًا، ولَيْسَ بِذاكَ. وقِيلَ: اللّامُ مَزِيدَةٌ وما مَوْصُولَةٌ وهي المَفْعُولُ بِهِ وعائِدُها مَحْذُوفٌ؛ أيْ: ﴿أحْصى﴾ الَّذِي لَبِثُوهُ والمُرادُ الزَّمانُ الَّذِي لَبِثُوا فِيهِ، و﴿أمَدًا﴾ عَلى هَذا تَمْيِيزٌ لِلنِّسْبَةِ مُفَسِّرٌ لِما في نِسْبَةِ المَفْعُولِ مِنَ الإبْهامِ مُحَوَّلٌ عَنِ المَفْعُولِ وأصْلُهُ أحْصى أمَدَ الزَّمانِ الَّذِي لَبِثُوا فِيهِ. وزُعِمَ أنَّهُ لا يَصِحُّ أنْ يَكُونَ تَمْيِيزًا لِلنِّسْبَةِ لِأنَّهُ لا بُدَّ أنْ يَكُونَ مُحَوَّلًا عَنِ الفاعِلِ ولا يُمْكِنُ ذَلِكَ هُنا لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأنَّ البَدِيَّةَ في حَيِّزِ المَنعِ. والَّذِي تَحَقَّقَ في المُعْتَبَراتِ كَشُرُوحِ التَّسْهِيلِ وغَيْرِها أنَّهُ يَكُونُ مُحَوَّلًا عَنِ المَفْعُولِ كَ ( فَجَّرْنا الأرْضَ عُيُونًا ) كَما يَكُونُ مُحَوَّلًا عَنِ الفاعِلِ كَ: «تَصَبَّبَ زَيْدٌ عَرَقًا» ولَوْ جُعِلَ تَمْيِيزًا لَما كانَ تَمْيِيزًا لِمُفْرَدٍ. ولَمْ يَقُلْ أحَدٌ بِاشْتِراطِ التَّحْوِيلِ فِيهِ أصْلًا. وجُوِّزَ في ما عَلى هَذا التَّقْدِيرِ أنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً وهو بَعِيدٌ، وضُعِّفَ القَوْلُ بِزِيادَةِ اللّامِ هُنا بِأنَّها لا تُزادُ في مِثْلِ ذَلِكَ. (p-214)واخْتارَ الزَّجّاجُ والتَّبْرِيزِيُّ كَوْنَ «أحْصى» أفْعَلَ تَفْضِيلٍ؛ لِأنَّهُ المُوافِقُ لِما وقَعَ في سائِرِ الآياتِ الكَرِيمَةِ نَحْوَ: ﴿أيُّهم أحْسَنُ عَمَلا﴾ ﴿أيُّهم أقْرَبُ لَكم نَفْعًا﴾ إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِمّا لا يُحْصى، ولِأنَّ كَوْنَهُ فِعْلًا ماضِيًا يُشْعِرُ بِأنَّ غايَةَ البَعْثِ هو العِلْمُ بِالإحْصاءِ المُتَقَدِّمِ عَلى البَعْثِ لا بِالإحْصاءِ المُتَأخِّرِ عَنْهُ ولَيْسَ كَذَلِكَ، واعْتُرِضَ أوَّلًا بِأنَّ بِناءَ أفْعَلِ التَّفْضِيلِ مِن غَيْرِ الثُّلاثِيِّ المُجَرَّدِ لَيْسَ بِقِياسٍ، وما جاءَ مِنهُ شاذٍّ كَأعْدى مِنَ الجَرَبِ وأفْلَسَ مِنَ ابْنِ المُدْلِقِ، وأُجِيبَ بِأنَّ في بِناءِ أفْعَلَ مِن ذَلِكَ ثَلاثَةُ مَذاهِبَ: الجَوازُ مُطْلَقًا، وهو ظاهِرُ كَلامِ سِيبَوَيْهِ، والمَنعُ مُطْلَقًا وما ورَدَ شاذٌّ لا يُقاسُ عَلَيْهِ وهو مَذْهَبُ أبِي عَلِيٍّ، والتَّفْصِيلُ بَيْنَ أنْ تَكُونَ الهَمْزَةُ لِلنَّقْلِ فَلا يَجُوزُ أوْ لِغَيْرِهِ كَأشْكَلَ الأمْرُ وأظْلَمَ اللَّيْلُ فَيَجُوزُ وهو اخْتِيارُ ابْنِ عُصْفُورٍ فَلَعَلَّهُما يَرَيانِ الجَوازَ مُطْلَقًا كَسِيبَوَيْهِ أوِ التَّفْصِيلَ كابْنِ عُصْفُورٍ، والهَمْزَةُ فِي: «أحْصى» لَيْسَتْ لِلنَّقْلِ، وثانِيًا بِأنَّ «أمَدًا» حِينَئِذٍ إنْ نُصِبَ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ فَإنْ كانَ بِمُضْمَرٍ كَما في قَوْلِ العَبّاسِ بْنِ مِرْداسٍ: ؎فَلَمْ أرَ مِثْلَ الحَيِّ حَيًّا مُصَبَّحًا ولا مِثْلَنا لَمّا التَقَيْنا فَوارِسا ؎أكَرَّ وأحْمى لِلْحَقِيقَةِ مِنهُمُ ∗∗∗ وأضْرَبَ مِنّا بِالسُّيُوفِ القَوانِسا لَزِمَ الوُقُوعُ فِيما فَرّا مِنهُ حَيْثُ لَمْ يَجْعَلا المَذْكُورَ فِعْلًا ثُمَّ قَدَّرا وإنْ كانَ بِهِ فَلَيْسَ صالِحًا لِذَلِكَ، وإنْ نُصِبَ يَلْبَثُوا لا يَكُونُ المَعْنى سَدِيدًا؛ لِأنَّ الضَّبْطَ لِمُدَّةِ اللُّبْثِ وأمَدِهِ لا لِلُبْثٍ في الأمَدِ، ولا يُقالُ: فَلْيَكُنْ نَظِيرَ قَوْلِكم أيُّكم أضْبَطُ لِصَوْمِهِ في الشَّهْرِ، أيْ: لِأيّامِ صَوْمِهِ والمَعْنى: أيُّهم أضْبَطُ لِأيّامِ اللُّبْثِ أوْ ساعاتِهِ في الأمَدِ ويُرادُ بِهِ جَمِيعُ المُدَّةِ لِما قِيلَ يَعْضُلُ حِينَئِذٍ تَنْكِيرُ «أمَدًا» والِاعْتِذارُ بِأنَّهم ما كانُوا عارِفِينَ بِتَحْدِيدِهِ يَوْمًا أوْ شَهْرًا أوْ سَنَةً فَنُكِّرَ عَلى أنَّهُ سُؤالٌ إمّا عَنِ السّاعاتِ والأيّامِ أوِ الأشْهُرِ غَيْرُ سَدِيدٍ لِأنَّهُ مَعْلُومٌ أنَّهُ أمَدُ زَمانِ اللُّبْثِ فَلْيُعْرَفْ إضافَةً أوْ عَهْدًا ويَكُونُ الِاحْتِمالُ عَلى حالِهِ، ووَجَّهَ أبُو حَيّانَ نَصْبَهُ بِأنَّهُ عَلى إسْقاطِ حَرْفِ الجَرِّ وهو بِمَعْنى المُدَّةِ والأصْلُ لِما لَبِثُوا مِن أمَدٍ ويَكُونُ مِن أمَدٍ تَفْسِيرًا لِما أُبْهِمَ في لَفْظِ ما كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ما نَنْسَخْ مِن آيَةٍ﴾ ﴿ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنّاسِ مِن رَحْمَةٍ﴾ ولَمّا سَقَطَ الحَرْفُ وصَلَ إلَيْهِ الفِعْلُ وهو كَما تَرى، وتُعُقِّبَ مَنعُ صَلاحِيَةِ أفْعَلَ لِنَصْبِ المَفْعُولِ بِهِ بِأنَّهُ قَوْلُ البَصْرِيِّينَ دُونَ الكُوفِيِّينَ فَلَعَلَّ الإمامَيْنِ سَلَكا مَذْهَبَ الكُوفِيِّينَ فَجَعَلا «أحْصى» أفْعَلَ تَفْضِيلٍ و«أمَدًا» مَفْعُولًا لَهُ، والحَقُّ أنَّ الذّاهِبَ إلى كَوْنِ أحْصى أفْعَلَ تَفْضِيلٍ جَعَلَ أمَدًا تَمْيِيزًا وهو يَعْمَلُ في التَّمْيِيزِ عَلى الصَّحِيحِ، والقَوْلُ بِأنَّ التَّمْيِيزَ يَجِبُ كَوْنُهُ مُحَوَّلًا عَنِ الفاعِلِ قَدْ مُيِّزَتْ حالُهُ، وثالِثًا: بِأنَّ تَوَهُّمَ الإشْعارِ بِأنَّ غايَةَ البَعْثِ هو العِلْمُ بِالإحْصاءِ المُتَقَدِّمِ عَلَيْهِ مَرْدُودٌ بِأنَّ صِيغَةَ الماضِي بِاعْتِبارِ حالِ الحِكايَةِ ولا يَكادُ يُتَوَهَّمُ مِن ذَلِكَ الإشْعارُ المَذْكُورُ، ورابِعًا: بِأنَّهُ يَلْزَمُ حِينَئِذٍ أنْ يَكُونَ أصْلُ الإحْصاءِ مُتَحَقِّقًا في الحِزْبَيْنِ إلّا أنَّ بَعْضَهم أفْضَلُ والبَعْضُ الآخَرُ أدْنى مَعَ أنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وفي الكَشْفِ أنَّ قَوْلَ الزَّجّاجِ لَيْسَ بِذَلِكَ المَرْدُودِ إلّا أنَّ ما آثَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ أحَقُّ بِالإيثارِ لَفْظًا ومَعْنًى، أمّا الأوَّلُ فَظاهِرٌ، وأمّا الثّانِي فَلِأنَّهُ تَعالى حَكى تَساؤُلَهم فِيما بَيْنَهُمْ، وأنَّهُ عَنِ العارِفِ لا عَنِ الأعْرَفِ وغَيْرِهِمْ أوْلى بِهِ انْتَهى. فافْهَمْ. وأيُّ اسْتِفْهامِيَّةٌ مُبْتَدَأٌ، وما بَعْدَها خَبَرُها وقَدْ عُلِّقَتْ «نَعْلَمَ» عَنِ العَمَلِ كَما هو شَأْنُ أدَواتِ الِاسْتِفْهامِ في مِثْلِ هَذا الوَضْعِ، وهَذا جارٍ عَلى احْتِمالَيْ كَوْنِ «أحْصى» فِعْلًا ماضِيًا وكَوْنِهِ أفْعَلَ تَفْضِيلٍ، وجُوِّزَ جَعْلُ أيُّ مَوْصُولَةً فَفي البَحْرِ إذا قُلْنا بِأنَّ «أحْصى» أفْعَلُ تَفْضِيلٍ جازَ أنْ تَكُونَ أيُّ مَوْصُولًا مَبْنِيًّا عَلى مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ لِوُجُودِ شَرْطِ جَوازِ البِناءِ فِيهِ وهو كَوْنُ «أيُّ» مُضافَةً حُذِفَ صَدْرُ صِلَتِها والتَّقْدِيرُ لِنَعْلَمَ الفَرِيقَ الَّذِي هو أحْصى لِما لَبِثُوا أمَدًا مِنَ الَّذِينَ لَمْ يُحْصُوا، وإذا كانَ فِعْلًا ماضِيًا امْتَنَعَ ذَلِكَ لِأنَّهُ حِينَئِذٍ لَمْ يُحْذَفْ صَدْرُ صِلَتِها لِوُقُوعِ الفِعْلِ مَعَ فاعِلِهِ (p-215)صِلَةً فَلا يَجُوزُ بِناؤُها لِفَواتِ تَمامِ الشَّرْطِ وهو حَذْفُ صَدْرِ الصِّلَةِ. انْتَهى. وقَرَأ الزُّهْرِيُّ: «لِيَعْلَمَ» بِالياءِ عَلى إسْنادِ الفِعْلِ إلَيْهِ تَعالى بِطَرِيقِ الِالتِفاتِ، «وأيًّا» ما كانَ فالعِلْمُ غايَةٌ لِلْبَعْثِ ولَيْسَ ذَلِكَ عَلى ظاهِرِهِ، وإلّا تَكُنِ الآيَةُ دَلِيلًا لِهِشامٍ عَلى ما يَزْعُمُهُ تَعالى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، فَقِيلَ: هو غايَةٌ بِجَعْلِهِ مَجازًا عَنِ الإظْهارِ والتَّمْيِيزِ، وقِيلَ: المُرادُ لِيَتَعَلَّقَ عِلْمُنا تَعَلُّقًا حالِيًّا مُطابِقًا لِتَعَلُّقِهِ أوَّلًا تَعَلُّقًا اسْتِقْبالِيًّا كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ﴾ واعْتَرَضَهُ بَعْضُ الأجِلَّةِ بِأنَّ بَعْثَ هَؤُلاءِ الفِئَةِ لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ تَفَرُّقُهم إلى المُحْصِي وغَيْرِهِ حَتّى يَتَعَلَّقَ بِهِما العِلْمُ تَعَلُّقًا حالِيًّا أوِ الإظْهارُ والتَّمْيِيزُ، ويَتَسَنّى نَظْمُ شَيْءٍ مِن ذَلِكَ في سِلْكِ الغايَةِ كَما تَرَتَّبَ عَلى تَحْوِيلِ القِبْلَةِ انْقِسامُ النّاسِ إلى مُتَّبِعٍ ومُنْقَلِبٍ، فَصَحَّ تَعَلُّقُ العِلْمِ الحالِيِّ والإظْهارِ بِكُلٍّ مِنَ القَسَمَيْنِ، وإنَّما الَّذِي تَرَتَّبَ عَلى ذَلِكَ تَفَرُّقُهم إلى مُقَدِّرٍ تَقْدِيرًا غَيْرَ مُصِيبٍ، ومُفَوَّضٍ العِلْمَ إلى اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ ولَيْسَ في شَيْءٍ مِنهُما إحْصاءٌ أصْلًا، ثُمَّ قالَ: إنْ جُعِلَ ذَلِكَ غايَةً بِحَمْلِ النَّظْمِ الكَرِيمِ عَلى التَّمْثِيلِ المَبْنِيِّ عَلى جَعْلِ العِلْمِ عِبارَةً عَنِ الِاخْتِبارِ مَجازًا بِإطْلاقِ اسْمِ المُسَبَّبِ عَلى السَّبَبِ ولَيْسَ مِن ضَرُورَةِ الِاخْتِبارِ صُدُورُ الفِعْلِ المُخْتَبَرِ بِهِ عَنِ المُخْتَبَرِ قَطْعًا بَلْ قَدْ يَكُونُ لِإظْهارِهِ عَجْزَهُ عَنْهُ عَلى سُنَنِ التَّكالِيفِ التَّعْجِيزِيَّةِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَأْتِ بِها مِنَ المَغْرِبِ﴾ وهو المُرادُ هُنا، فالمَعْنى: بَعَثْناهم لِنُعامِلَهم مُعامَلَةَ مَن يَخْتَبِرُهم أيُّهم أحْصى لِما لَبِثُوا أمَدًا فَيَظْهَرُ لَهم عَجْزُهم ويُفَوِّضُوا ذَلِكَ إلى العَلِيمِ الخَبِيرِ ويَتَعَرَّفُوا حالَهم وما صَنَعَ اللَّهُ تَعالى بِهِمْ مِن حِفْظِ أبْدانِهِمْ فَيَزْدادُوا يَقِينًا بِكَمالِ قُدْرَتِهِ تَعالى وعِلْمِهِ ويَسْتَبْصِرُوا بِهِ أمْرَ البَعْثِ ويَكُونَ ذَلِكَ لُطْفًا لِمُؤْمِنِي زَمانِهِمْ وآيَةً بَيِّنَةً لِكُفّارِهِمْ. وقَدِ اقْتَصَرَها هُنا مِن تِلْكَ الغاياتِ الجَلِيلَةِ عَلى مَبْدَئِها الصّادِرِ عَنْهُ سُبْحانَهُ وفِيما سَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى عَلى ما صَدَرَ عَنْهم مِنَ التَّساؤُلِ المُؤَدِّي إلَيْها، وهَذا أوْلى مِن تَصْوِيرِ التَّمْثِيلِ بِأنْ يُقالَ: بَعَثْناهم بَعْثَ مَن يُرِيدُ أنْ يَعْلَمَ إذْ رُبَّما يُتَوَهَّمُ مِنهُ اسْتِلْزامُ الإرادَةِ لِتَحَقُّقِ المُرادِ فَيَعُودُ المَحْذُورُ فَيُصارُ إلى جَعْلِ إرادَةِ العِلْمِ عِبارَةً عَنِ الِاخْتِبارِ فاخْتَبِرْ واخْتَرِ. انْتَهى. وتَعَقَّبَهُ الخَفاجِيُّ بِأنَّ ما ذَكَرَهُ مَعَ تَكَلُّفِهِ وقِلَّةِ جَدْواهُ غَيْرُ مُسْتَقِيمٍ؛ لِأنَّ الِاخْتِيارَ الحَقِيقِيَّ لا يُتَصَوَّرُ مِمَّنْ أحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا فَحَيْثُ وقَعَ جَعَلُوهُ مَجازًا عَنِ العِلْمِ أوْ ما يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فَلَزِمَهُ بِالآخِرَةِ الرُّجُوعُ إلى ما أنْكَرَهُ واخْتارَ جَعْلَ العِلْمِ كِنايَةً عَنْ ظُهُورِ أمْرِهِمْ لِيُطَمْئِنَ بِازْدِيادِ الإيمانِ قُلُوبَ المُؤْمِنِينَ وتَنْقَطِعَ حُجَّةُ المُنْكِرِينَ، وعِلْمُ اللَّهِ تَعالى حَيْثُ تَعَذَّرَ إرادَةُ حَقِيقَتِهِ في كِتابِهِ تَعالى جُعِلَ كِنايَةً عَنْ بَعْضِ لَوازِمِهِ المُناسِبَةِ لِمَوْقِعِهِ، والمُناسِبُ هُنا ما ذُكِرَ، ثُمَّ قالَ: وإنَّما عُلِّقَ العِلْمُ بِالِاخْتِلافِ في أمَدِهِ أيِ المَفْهُومِ مِن أيِّ الحِزْبَيْنِ أحْصى لِما لَبِثُوا أمَدًا لِأنَّهُ أدْعى لِإظْهارِهِ وأقْوى لِانْتِشارِهِ، وفي الكَشْفِ تَوْجِيهًا لِما في الكَشّافِ أرادَ أنَّ العَلَمَ مَجازٌ عَنِ التَّمْيِيزِ والإظْهارِ كَأنَّهُ قِيلَ: لِنُظْهِرَهُ ونُمَيِّزَ لَهُمُ العارِفَ بِأمَدِ ما لَبِثُوا ولِيُنْظَرَ مَن هَذا العارِفُ فَإنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ أحَدًا مِنهم لِأنَّهم بَيْنَ مُفَوِّضٍ ومُقَدِّرٍ غَيْرِ مُصِيبٍ، والفَرْقُ بَيْنَ ما في الكَشْفِ وما ذَكَرَهُ الخَفاجِيُّ لا يُنْفى عَلى بَصِيرٍ وما في الكَشْفِ أقَلُّ مُؤْنَةً مِنهُ. وتَصْوِيرُ التَّمْثِيلِ بِأنْ يُقالَ: بَعَثْناهم بَعْثَ مَن يُرِيدُ أنْ يَعْلَمَ أحْسَنُ عِنْدِي مِنَ التَّصْوِيرِ الأوَّلِ، والتَّوَهُّمُ المَذْكُورُ مِمّا لا يَكادُ يُلْتَفَتُ إلَيْهِ فَتَدَبَّرْ جِدًّا. وقُرِئَ: «لِيُعْلِمَ» مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ مِنَ الإعْلامِ، وخُرِّجَ ذَلِكَ عَلى أنَّ الفاعِلَ ضَمِيرُهُ تَعالى والمَفْعُولُ الأوَّلُ مَحْذُوفٌ لِدَلالَةِ المَعْنى عَلَيْهِ و﴿أيُّ الحِزْبَيْنِ﴾ إلَخْ مِنَ المُبْتَدَأِ والخَبَرِ في مَوْضِعِ مَفْعُولَيْ نُعْلِمُ الثّانِي والثّالِثِ، والتَّقْدِيرُ: لِيُعْلِمَ اللَّهُ النّاسَ أيَّ الحِزْبَيْنِ إلَخْ، وإذا جُعِلَ العِلْمُ عِرْفانِيًّا كانَتِ الجُمْلَةُ في مَوْضِعِ مَفْعُولَيْ نُعْلِمُ الثّانِي فَقَطْ وهو ظاهِرٌ. وقُرِئَ: «لِيُعْلَمَ» بِالبِناءِ لِلْمَفْعُولِ، وخُرِّجَ عَلى أنَّ نائِبَ الفاعِلِ مَحْذُوفٌ؛ أيْ: لِيُعْلَمَ النّاسُ. (p-216)والجُمْلَةُ بَعْدُ إمّا في مَوْضِعِ المَفْعُولَيْنِ أوِ المَفْعُولِ حَسْبَما سَمِعْتَ، وقالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ الجُمْلَةَ هي النّائِبُ عَنِ الفاعِلِ وهو مَذْهَبٌ كُوفِيٌّ؛ فَفي البَحْرِ: البَصْرِيُّونَ لا يَجُوزُ كَوْنُ الجُمْلَةِ فاعِلًا ولا نائِبًا عَنْهُ ولِلْكُوفِيِّينَ مَذْهَبانِ، أحَدُهُما أنَّهُ يَجُوزُ الإسْنادُ إلى الجُمْلَةِ مُطْلَقًا، والثّانِي أنَّهُ لا يَجُوزُ إلّا إذا كانَ المُسْنَدُ مِمّا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ وتَحْقِيقُ ذَلِكَ في مَحَلِّهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب