الباحث القرآني

﴿إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بَيانٌ بِطَرِيقِ الوَعْدِ لِمَآلِ الَّذِينَ اتَّصَفُوا بِأضْدادِ ما اتَّصَفَ بِهِ الكَفَرَةُ إثْرَ بَيانِ مَآلِهِمْ بِطَرِيقِ الوَعِيدِ أيْ إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ ولِقائِهِ سُبْحانَهُ ﴿وعَمِلُوا الصّالِحاتِ﴾ مِنَ الأعْمالِ ﴿كانَتْ لَهُمْ﴾ فِيما سَبَقَ مِن حُكْمِ اللَّهِ تَعالى ووَعْدِهِ فالمُضِيُّ بِاعْتِبارِ ما ذُكِرَ. وفِيهِ عَلى ما قالَ شَيْخُ الإسْلامِ إيماءٌ إلى أنَّ أثَرَ الرَّحْمَةِ يَصِلُ إلَيْهِمْ بِمُقْتَضى الرَّأْفَةِ الأزَلِيَّةِ بِخِلافِ ما مَرَّ مِن جَعْلِ جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا، فَإنَّهُ بِمُوجَبِ ما حَدَثَ مِن سُوءِ اخْتِيارِهِمْ، وقِيلَ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ ما وُعِدُوا بِهِ لِتَحَقُّقِهِ نَزَلَ مَنزِلَةَ الماضِي، فَجِيءَ بِكانَ إشارَةً إلى ذَلِكَ. ولَمْ يَقُلِ أعْتَدْنا لَهم كَما قِيلَ فِيما مَرَّ لِلْإشارَةِ إلى أنَّ أمْرَ الجَنّاتِ لا يَكادُ يَتِمُّ بَلْ لا يَزالُ ما فِيها يَزْدادُ فَإنَّ إعْتادَ الشَّيْءِ وتَهْيِئَتَهُ يَقْتَضِي تَمامِيَّةَ (p-50)أمْرِهِ وكَمالَهُ، وقَدْ جاءَ في الآثارِ أنَّهُ يُغْرَسُ لِلْمُؤْمِنِ بِكُلِّ تَسْبِيحَةٍ يُسَبِّحُها شَجَرَةٌ في الجَنَّةِ، وقِيلَ: التَّعْبِيرُ بِما ذَكَرَ أظْهَرُ في تَحَقُّقِ الأمْرِ مِنَ التَّعْبِيرِ بِالإعْتادِ، ألا تَرى أنَّهُ قَدْ تَهَيَّأ دارٌ لِشَخْصٍ ولا يَسْكُنُها ولا يَخْلُو عَنْ لُطْفٍ، فافْهَمْ. ﴿جَنّاتُ الفِرْدَوْسِ﴾ أخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ مُجاهِدٍ أنَّ الفِرْدَوْسَ هو البُسْتانُ بِالرُّومِيَّةِ، وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ أنَّهُ الكَرَمُ بِالنَّبَطِيَّةِ وأصْلُهُ فِرْداسا، وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ وغَيْرُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الحارِثِ أنَّ ابْنَ عَبّاسٍ سَألَ كَعْبًا عَنِ الفِرْدَوْسِ فَقالَ: جَنَّةُ الأعْنابِ بِالسُّرْيانِيَّةِ، وقالَ عِكْرِمَةُ: هي الجَنَّةُ بِالحَبَشِيَّةِ، وقالَ القَفّالُ: هي الجَنَّةُ المُلْتَفَّةُ بِالأشْجارِ، وحَكى الزَّجّاجُ أنَّها الأوْدِيَةُ الَّتِي تُنْبِتُ ضُرُوبًا مِنَ النَّباتِ، وقالَ المُبَرِّدُ: هي فِيما سَمِعْتُ مِنَ العَرَبِ الشَّجَرُ المُلْتَفُّ والأغْلَبُ عَلَيْهِ العِنَبُ، ونَصَّ الفَرّاءُ عَلى أنَّهُ عَرَبِيٌّ أيْضًا ومَعْناهُ البُسْتانُ الَّذِي فِيهِ كَرْمٌ وهو مِمّا يُذَكَّرُ ويُؤَنَّثُ، وزَعَمَ بَعْضُهم أنَّها لَمْ تُسْمَعْ في كَلامِ العَرَبِ إلّا في قَوْلِ حَسّانَ: ؎وإنَّ ثَوابَ اللَّهِ كُلَّ مُوَحِّدٍ جِنانٌ مِنَ الفِرْدَوْسِ فِيها يُخَلَّدُ وهُوَ لا يَصِحُّ فَقَدْ قالَ أُمَيَّةُ بْنُ أبِي الصَّلْتِ: ؎كانَتْ مَنازِلُهم إذْ ذاكَ ظاهِرَةً ∗∗∗ فِيها الفَرادِيسُ ثُمَّ الفُومُ والبَصَلُ وجاءَ في شِعْرِ جَرِيرٍ في أبْياتٍ يَمْدَحُ بِها خالِدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ القَسْرِيَّ حَيْثُ قالَ: ؎وإنّا لَنَرْجُو أنْ نُرافِقَ رُفْقَةً ∗∗∗ يَكُونُونَ في الفِرْدَوْسِ أوَّلَ وارِدِ ومِمّا سَمِعَهُ أهْلُ مَكَّةَ قَبْلَ إسْلامِ سَعْدٍ قَوْلُ هاتِفٍ: ؎أجِيبا إلى داعِي الهُدى وتَمَنَّيا ∗∗∗ عَلى اللَّهِ في الفِرْدَوْسِ مَنِيَّةَ عارِفِ والحَقُّ أنَّ ذِكْرَها في شِعْرِ الإسْلامِيِّينَ كَثِيرٌ وفي شِعْرِ الجاهِلِيِّينَ قَلِيلٌ، وأخْرَجَ البُخارِيُّ ومُسْلِمٌ وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: ( قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «إذا سَألْتُمُ اللَّهَ تَعالى فاسْألُوهُ الفِرْدَوْسَ فَإنَّهُ وسَطَ الجَنَّةِ وأعْلى الجَنَّةِ وفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ ومِنها تَفَجَّرُ أنْهارُ الجَنَّةِ» ) وعَنْ أبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الجَرّاحِ مَرْفُوعًا: «الجَنَّةُ مِائَةُ دَرَجَةٍ ما بَيْنَ كُلِّ دَرَجَتَيْنِ ما بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ، والفِرْدَوْسُ أعْلى الجَنَّةِ فَإذا سَألْتُمُ اللَّهَ تَعالى فاسْألُوهُ الفِرْدَوْسَ» . ورُوِيَ عَنْ كَعْبٍ «أنَّهُ لَيْسَ في الجَنَّةِ أعْلى مِن جَنَّةِ الفِرْدَوْسِ وفِيها الآمِرُونَ بِالمَعْرُوفِ والنّاهُونَ عَنِ المُنْكَرِ» . . وصَحَّ أنَّ أهْلَ الفِرْدَوْسِ لَيَسْمَعُونَ أطِيطَ العَرْشِ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ أبِي مُوسى الأشْعَرِيِّ مَرْفُوعًا: «الفِرْدَوْسُ مَقْصُورَةُ الرَّحْمَنِ» . وكُلُّ ذَلِكَ لا يُنافِي كَوْنَ الفِرْدَوْسِ في اللُّغَةِ البُسْتانَ كَما تُوُهِّمَ إذْ لا مانِعَ مِن أنْ يَكُونَ أعْلى الجَنَّةِ بُسْتانًا لَكِنَّهُ لِكَوْنِهِ في غايَةِ السِّعَةِ أُطْلِقَ عَلى كُلِّ قِطْعَةٍ مِنهُ جَنَّةٌ فَقِيلَ جَنّاتُ الفِرْدَوْسِ كَذا قِيلَ. واسْتُشْكِلَ بِأنَّ الآيَةَ حِينَئِذٍ تُفِيدُ أنَّ كُلَّ المُؤْمِنِينَ في الفِرْدَوْسِ المُشْتَمِلِ عَلى جَنّاتٍ، وهَذا لا يَصِحُّ عَلى القَوْلِ بِأنَّ الفِرْدَوْسَ أعْلى الدَّرَجاتِ إذْ لا شُبْهَةَ في تَفاوُتِ مَراتِبِهِمْ، وكَوْنُ المُرادِ بِالَّذِينِ آمَنُوا وعَمِلُوا الصّالِحاتِ طائِفَةً مَخْصُوصَةً مِن مُطْلَقِ المُؤْمِنِينَ مَعَ كَوْنِهِ في مُقابَلَةِ الكافِرِينَ لَيْسَ بِشَيْءٍ. وقالَ أبُو حَيّانَ: الظّاهِرُ أنَّ مَعْنى جَنّاتِ الفِرْدَوْسِ بَساتِينَ حَوْلَ الفِرْدَوْسِ ولِذا أُضِيفَتِ الجَنّاتُ إلى الفِرْدَوْسِ. وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ هَذا لا يَشْفِي الغَلِيلَ لِما أنَّ الآيَةَ حِينَئِذٍ تُفِيدُ أنَّ جَمِيعَ المُؤْمِنِينَ في جَنّاتِ الفِرْدَوْسِ ومِنَ المَعْلُومِ أنَّ مِنهم مَن هو في الفِرْدَوْسِ. وقِيلَ: الأمْرُ كَما ذَكَرَ أبُو حَيّانَ (p-51)إلّا أنَّهُ يَلْتَزِمُ الِاسْتِخْدامَ في الآيَةِ بِأنْ يُرادَ مُطْلَقُ الجَنّاتِ فِيما بَعْدُ، وفِيهِ مَعَ كَوْنِهِ خِلافَ الظّاهِرِ ما لا يَخْفى. وقِيلَ المُرادُ مِن جَنّاتِ الفِرْدَوْسِ جَمِيعُ الجَنّاتِ والإضافَةُ إلى الفِرْدَوْسِ الَّتِي هي أعْلاها بِاعْتِبارِ اشْتِمالِها عَلَيْها ويَكْفِي في الإضافَةِ هَذِهِ المُلابَسَةُ، ولَعَلَّكَ تَخْتارُ أنَّ الفِرْدَوْسَ في الآثارِ بِمَعْنًى وفي الآيَةِ بِمَعْنًى آخَرَ، وتَخْتارُ مِن مَعانِيهِ ما تُكَلِّفُ في الإضافَةِ فِيهِ كالشَّجَرِ المُلْتَفِّ ونَحْوِهِ، وظاهِرُ بَيْتِ حَسّانَ وبَيْتِ أُمَيَّةَ شاهِدٌ عَلى أنَّ لِلْفِرْدَوْسِ مَعْنًى غَيْرَ ما جاءَ في الآثارِ فَلْيُتَدَبَّرْ. واعْلَمْ أنَّهُ اسْتَشْكَلَ أيْضًا ما جاءَ مِن أمْرِ السّائِلِ بِسُؤالِ الفِرْدَوْسِ لِنَفْسِهِ مَعَ كَوْنِهِ أعْلى الجَنَّةِ بِخَبَرِ أحْمَدَ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا ( «إذا صَلَّيْتُمْ عَلَيَّ فاسْألُوا اللَّهَ تَعالى لِيَ الوَسِيلَةَ أعْلى دَرَجَةٍ في الجَنَّةِ لا يَنالُها إلّا رَجُلٌ واحِدٌ وأرْجُو أنْ أكُونَ أنا هو» ) . وأُجِيبُ بِأنَّهُ لا مانِعَ مِنِ انْقِسامِ الدَّرَجَةِ الواحِدَةِ إلى دَرَجاتٍ بَعْضُها أعْلى مِن بَعْضٍ، وتَكُونُ الوَسِيلَةُ عِبارَةً عَنْ أعْلى دَرَجاتِ الفِرْدَوْسِ الَّتِي هي أعْلى دَرَجاتِ الجِنانِ، ونَظِيرُ ذَلِكَ ما قِيلَ في حَدِّ الإعْجازِ فَتَذَكَّرْ، وقِيلَ المُرادُ مِنَ الدَّرَجَةِ في حَدِيثِ الوَسِيلَةِ دَرَجَةُ المَكانَةِ لا المَكانِ بِخِلافِها فِيما تَقَدَّمَ فَلا إشْكالَ، والجارُّ والمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ عَلى أنَّهُ حالٌ مِن قَوْلِهِ تَعالى (نُزُلًا) أوْ عَلى أنَّهُ بَيانٌ كَما في سُعُيًا لَكَ وخَبَرُ كانَ في الوَجْهَيْنِ (نُزُلًا) أوْ عَلى أنَّهُ الخَبَرُ (ونُزُلًا) حالٌ مِن (جَنّاتُ) فَإنْ جُعِلَ بِمَعْنى ما يُهَيَّأُ لِلنّازِلِ فالمَعْنى كانَتْ لَهم ثِمارُ جَنّاتِ الفِرْدَوْسِ نُزُلًا أوْ جُعِلَتْ نَفْسُ الجَنّاتِ نُزُلًا مُبالَغَةً في الإكْرامِ وفِيهِ إيذانٌ بِأنَّها عِنْدَما أعَدَّ اللَّهُ تَعالى لَهم عَلى لِسانِ النُّبُوَّةِ مِن قَوْلِهِ تَعالى ( «أعْدَدْتُ لِعِبادِي الصّالِحِينَ ما لا عَيْنٌ رَأتْ ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ ولا خَطَرَ عَلى قَلْبِ بَشَرٍ» ). بِمَنزِلَةِ النُّزُلِ بِالنِّسْبَةِ إلى الضِّيافَةِ، وإنْ جُعِلَتْ بِمَعْنى المُنْزَلِ فالمَعْنى ظاهِرٌ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب