الباحث القرآني

﴿أفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أيْ كَفَرُوا بِي كَما يُعْرِبُ عَنْهُ قَوْلُهُ تَعالى (عِبادِي) والحُسْبانُ بِمَعْنى الظَّنِّ، وقَدْ قَرَأ عَبْدُ اللَّهِ ( أفَظَنَّ ) والهَمْزَةُ لِلْإنْكارِ والتَّوْبِيخِ عَلى مَعْنى إنْكارِ الواقِعِ واسْتِقْباحِهِ، والفاءُ لِلْعَطْفِ عَلى مُقَدَّرٍ يُفْصِحُ عَنْهُ الصِّلَةُ عَلى تَوْجِيهِ الإنْكارِ والتَّوْبِيخِ وإلى المَعْطُوفِينَ جَمِيعًا عَلى ما اخْتارَهُ شَيْخُ الإسْلامِ. والمَعْنى أكَفَرُوا بِي مَعَ جَلالَةِ شَأْنِي فَحَسِبُوا ﴿أنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي﴾ مِنَ المَلائِكَةِ وعِيسى ونَحْوَهم عَلَيْهِمُ السَّلامُ مِنَ المُقَرَّبِينَ كَما تُشْعِرُ بِهِ الإضافَةُ فَإنَّ الأكْثَرَ أنْ تَكُونَ في مِثْلِ هَذا اللَّفْظِ لِتَشْرِيفِ المُضافِ. واقْتَصَرَ قَتادَةُ في المُرادِ مِن ذَلِكَ عَلى المَلائِكَةِ، والظّاهِرُ إرادَةُ ما يَعُمُّهم وغَيْرَهم مِمَّنْ ذَكَرْنا واخْتارَهُ أبُو حَيّانَ (p-46)وغَيْرُهُ، ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ المُرادَ مِنهُ الشَّياطِينُ وفِيهِ بُعْدٌ ولَعَلَّ الرِّوايَةَ لا تَصِحُّ. وعَنْ مُقاتِلٍ أنَّ المُرادَ الأصْنامُ وهو كَما تَرى، وجَوَّزَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ أنْ يُرادَ ما يَعُمُّ المَذْكُورِينَ والأصْنامَ وسائِرَ المَعْبُوداتِ الباطِلَةِ مِنَ الكَواكِبِ وغَيْرِها تَغْلِيبًا، ولَعَلَّ المَقامَ يَقْتَضِي أنْ لا تَكُونَ الإضافَةُ فِيهِ لِلتَّشْرِيفِ أيْ أفَظَنُّوا أنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي الَّذِينَ هم تَحْتَ مُلْكِي وسُلْطانِي ﴿مِن دُونِي﴾ أيْ: مُجاوَزِينَ لِي (أوْلِياءَ) أيْ: مَعْبُودِينَ أوْ أنْصارًا لَهم مِن بَأْسِي، وما في حَيِّزِ صِلَةِ أنْ قِيلَ سادٌّ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ حَسِبَ أيْ أفَحَسِبُوا أنَّهم يَتَّخِذُونَهم أوْلِياءَ. وكانَ مَصَبُّ الإنْكارِ أنَّهم يَتَّخِذُونَهم كَذَلِكَ إلّا أنَّهُ أُقْحِمَ الحُسْبانُ لِلْمُبالَغَةِ، وقِيلَ: المُرادُ ما ذُكِرَ عَلى مَعْنى أنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِنَ الِاتِّخاذِ في شَيْءٍ لِما أنَّهُ إنَّما يَكُونُ مِنَ الجانِبَيْنِ والمُتَّخِذُونَ بِمَعْزِلٍ عَنْ وِلايَتِهِمْ لِقَوْلِهِمْ: سُبْحانَكَ أنْتَ ولِيُّنا مِن دُونِهِمْ، وقِيلَ: أنْ وما بَعْدَها في تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ مَفْعُولٍ أوَّلَ لِحَسِبَ والمَفْعُولُ الثّانِي مَحْذُوفٌ أيْ أفَحَسِبُوا اتِّخاذَهم نافِعَهم أوْ سَبَبًا لِرَفْعِ العَذابِ عَنْهم أوْ نَحْوَ ذَلِكَ. وهو مَبْنِيٌّ عَلى تَجْوِيزِ حَذْفِ أحَدِ المَفْعُولَيْنِ في بابِ عَلِمَ وهو مَذْهَبُ بَعْضِ النُّحاةِ، وتُعُقِّبَ بِأنَّ فِيهِ تَسْلِيمًا لِنَفْسِ الِاتِّخاذِ واعْتِدادًا بِهِ في الجُمْلَةِ والأوْلى ما خَلا عَنْ ذَلِكَ. هَذا وفي الكَشْفِ أنَّ التَّحْقِيقَ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: (فَحَسِبَ) مَعْطُوفٌ عَلى كانَتْ وكانُوا دَلالَةً عَلى أنَّ الحُسْبانَ ناشِئٌ عَنِ التَّعامِي والتَّصامِّ، وأُدْخِلَ عَلَيْهِ هَمْزَةُ الإنْكارِ ذَمًّا عَلى ذَمٍّ وقَطْعًا لَهُ عَنِ المَعْطُوفِ عَلَيْهِما لَفْظًا لا مَعْنًى لِلْإيذانِ بِالِاسْتِقْلالِ المُؤَكَّدِ لِلذَّمِّ كَأنَّهُ قِيلَ لا يُزِيلُونَ ما بِهِمْ مِن مَرْضى الغِشاوَةِ والصَّمَمِ ويَزِيدُونَ عَلَيْهِما الحُسْبانَ المُتَرَتِّبَ عَلَيْهِما. وقَوْلُهُ تَعالى ﴿الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ مِن وضْعِ الظّاهِرِ مَقامَ المُضْمَرِ زِيادَةً لِلذَّمِّ انْتَهى. وفي إرْشادِ العَقْلِ السَّلِيمِ بَعْدَ نَقْلِ ما ذُكِرَ إلى قَوْلِهِ كَأنَّهُ قِيلَ إلَخْ أنَّهُ يَأْبى ذَلِكَ تَرْكَ الإضْمارِ والتَّعَرُّضَ لِوَصْفٍ آخَرَ غَيْرِ التَّعامِي والتَّصامِّ عَلى أنَّهُما أُخْرِجا مَخْرَجَ الأحْوالِ الجِبِلِّيَّةِ لَهم ولَمْ يُذْكَرا مِن حَيْثُ إنَّهُما مِن أفْعالِهِمُ الِاخْتِيارِيَّةِ الحادِثَةِ كَحُسْبانِهِمْ لِيَحْسُنَ تَفْرِيعُهُ عَلَيْهِما. وأيْضًا فَإنَّهُ دَيْنٌ قَدِيمٌ لَهم لا يُمْكِنُ جَعْلُهُ ناشِئًا عَنْ تَصامِّهِمْ عَنْ كَلامِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ. وتَخْصِيصُ الإنْكارِ بِحُسْبانِهِمُ المُتَأخِّرِ عَنْ ذَلِكَ تَعَسُّفٌ لا يَخْفى انْتَهى، ولا يَخْلُو عَنْ بَحْثٍ. فَتَأمَّلْ. وقَرَأ عَلِيٌّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ وزَيْدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم والشّافِعِيُّ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ ويَحْيى بْنُ يَعْمُرَ ومُجاهِدٌ وعِكْرِمَةُ وقَتادَةُ ونُعَيْمُ بْنُ مَيْسَرَةَ والضَّحّاكُ وابْنُ أبِي لَيْلى وابْنُ مُحَيْصِنٍ وأبُو حَيْوَةَ ومَسْعُودُ بْنُ صالِحٍ وابْنُ كَثِيرٍ ويَعْقُوبُ بِخِلافٍ عَنْهُما (أفَحَسِبَ) بِإسْكانِ السِّينِ وضَمِّ الباءِ مُضافًا إلى الَّذِينَ، وخَرَجَ ذَلِكَ عَلى أنَّ حَسِبَ مُبْتَدَأٌ وهو بِمَعْنى مُحْسِبٌ أيْ كافِي و(أنْ يَتَّخِذُوا) خَبَرُهُ أيْ أفَكافِيهِمُ اتِّخاذُهم عِبادِي مِن دُونِي أوْلِياءَ. وفِيهِ دَلالَةٌ عَلى غايَةِ الذَّمِّ لِأنَّهُ جَعَلَ ذَلِكَ مَجْمُوعَ عُدَّتِهِمْ يَوْمَ الحِسابِ وما يَكْتَفُونَ بِهِ عَنْ سائِرِ العَقائِدِ والفَضائِلِ الَّتِي لا بُدَّ مِنها لِلْفائِزِ في ذَلِكَ اليَوْمِ. وجَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ المَصْدَرَ المُتَحَصِّلَ مِن أنْ والفِعْلِ فاعِلًا لِحَسِبَ لِأنَّهُ اعْتَمَدَ عَلى الهَمْزَةِ، واسْمُ الفاعِلِ إذا اعْتَمَدَ ساوى الفِعْلَ في العَمَلِ، واعْتَرَضَ عَلَيْهِ أبُو حَيّانَ بِأنَّ حَسِبَ مُؤَوَّلٌ بِاسْمِ الفاعِلِ وما ذُكِرَ مَخْصُوصٌ بِالوَصْفِ الصَّرِيحِ. ثُمَّ أشارَ إلى جَوابِهِ بِأنَّ سِيبَوَيْهِ أجازَ في مَرَرْتُ بِرَجُلِ خَيْرٍ مِنهُ أبُوهُ وبِرَجُلِ سَواءٍ عَلَيْهِ الخَيْرُ والشَّرُّ وبِرَجُلِ أبٌ لَهُ صاحِبُهُ وبِرَجُلٍ إنَّما رَجُلٌ هو وبِرَجُلِ حَسْبُكَ مِن رَجُلٍ الرَّفْعَ بِالصِّفاتِ المُؤَوَّلَةِ، وذُكِرَ أنَّهم أجازُوا في مَرَرْتُ بِرَجُلٍ أبِي عَشَرَةٍ أبُوهُ ارْتِفاعَ أبُوهُ بِأبِي عَشَرَةٍ لِأنَّهُ في مَعْنى والِدِ عَشَرَةٍ وحِينَئِذٍ فَلا كَلامَ فِيما ذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ ﴿إنّا أعْتَدْنا جَهَنَّمَ﴾ أيْ هَيَّأْناها وهو ظاهِرٌ في أنَّها مَخْلُوقَةٌ اليَوْمَ (لِلْكافِرِينَ) المَعْهُودِينَ عَدَلَ عَنِ الإضْمارِ ذَمًّا لَهم وإشْعارًا بِأنَّ ذَلِكَ الِاعْتِدادَ (p-47)بِسَبَبِ كُفْرِهِمُ المُتَضَمِّنِ لِحُسْبانِهِمُ الباطِلِ (نُزُلًا) أيْ شَيْئًا يَتَمَتَّعُونَ بِهِ عِنْدَ ورُودِهِمْ وهو ما يُقامُ بِهِ لِلنَّزِيلِ أيِ الضَّيْفِ مِمّا حَضَرَ مِنَ الطَّعامِ، واخْتارَ هَذا جَماعَةٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ. وفي ذَلِكَ عَلى ما قِيلَ تَخْطِئَةٌ لَهم في حُسْبانِهِمْ وتَهَكُّمٌ بِهِ حَيْثُ كانَ اتِّخاذُهم إيّاهم أوْلِياءَ مِن قَبِيلِ اعْتادَ العَتادَ وإعْدادًا لِزادٍ لِيَوْمِ المَعادِ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: إنّا أعْتَدْنا لَهم مَكانَ ما أعَدُّوا لِأنْفُسِهِمْ مِنَ العُدَّةِ والذُّخْرِ جَهَنَّمَ عِدَّةً، وفي إيرادِ النُّزُلِ إيماءٌ إلى أنَّ لَهم وراءَ جَهَنَّمَ مِنَ العَذابِ ما هي أُنْمُوذَجٌ لَهُ، ولا يَأْبى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى ﴿جَزاؤُهم جَهَنَّمُ﴾ لِأنَّ المُرادَ هُناكَ أنَّها جَزاؤُهم بِما فِيها فافْهَمْ، وقالَ الزَّجّاجُ: النُّزُلُ مَوْضِعُ النُّزُولِ، ورُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، وقِيلَ: هو جَمْعُ نازِلٍ ونَصْبُهُ عَلى الحالِ. وقَرَأ أبُو حَيْوَةَ وأبُو عَمْرٍو بِخِلافٍ عَنْهُ ( نُزْلًا ) بِسُكُونِ الزّايِ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب