الباحث القرآني

﴿ونُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ ما هو شِفاءٌ ورَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ أيْ: ما هو في تَقْدِيمِ دِينِهِمْ واسْتِصْلاحِ نُفُوسِهِمْ كالدَّواءِ الشّافِي لِلْمَرْضى. و«مِن» لِلْبَيانِ، وقُدِّمَ اهْتِمامًا بِشَأْنِهِ، وأنْكَرَ أبُو حَيّانَ جَوازَ التَّقْدِيمِ واخْتارَ هُنا كَوْنَ مِن لِابْتِداءِ الغايَةِ، وهو إنْكارٌ غَيْرُ مَسْمُوعٍ فَيُفِيدُ أنَّ كُلَّ القُرْآنِ كَذَلِكَ. وفِي الخَبَرِ: «مَن لَمْ يَسْتَشْفَ بِالقُرْآنِ فَلا شَفاهُ اللَّهُ تَعالى». أوْ لِلتَّبْعِيضِ ومَعْناهُ عَلى ما في الكَشْفِ ونُنَزِّلُ ما هو شِفاءٌ أيْ: تَدَرَّجَ في نُزُولِهِ شِفاءً فَشِفاءً ولَيْسَ مَعْناهُ أنَّهُ مُنْقَسِمٌ إلى ما هو شِفاءٌ ولَيْسَ بِشِفاءٍ، والمُنَزَّلُ الأوَّلُ كَما وهَمَ الحُوفِيُّ فَأنْكَرَ جَوازَ إرادَةِ التَّبْعِيضِ وإنَّما المَعْنى: أنَّ ما لَمْ يَنْزِلْ بَعْدُ لَيْسَ بِشِفاءٍ لِلْمُؤْمِنِينَ لِعَدَمِ الِاطِّلاعِ، وأنَّ كُلَّ ما يَنْزِلُ فَهو شِفاءٌ لِداءٍ خاصٍّ يَتَجَدَّدُ نُزُولُ الشِّفاءِ كِفاءَ تَجَدُّدِ الدّاءِ. وفِيهِ أيْضًا أنَّ هَذا الوَجْهَ أوْفَقُ لِمُقْتَضى المَقامِ، ولا يَخْفى عَلَيْكَ بُعْدُهُ ولِذا اخْتِيرَ في تَوْجِيهِ التَّبْعِيضِ أنَّهُ بِاعْتِبارِ الشِّفاءِ الجُسْمانِيِّ وهو مِن خَواصِّ بَعْضٍ دُونِ بَعْضٍ ومِنَ البَعْضِ الأوَّلِ الفاتِحَةُ وفِيها آثارٌ مَشْهُورَةٌ، وآياتُ الشِّفاءِ وهي سِتٌّ: ﴿ويَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ﴾ ﴿وشِفاءٌ لِما في الصُّدُورِ﴾، ﴿فِيهِ شِفاءٌ لِلنّاسِ﴾، ﴿ونُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ ما هو شِفاءٌ ورَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ ﴿وإذا مَرِضْتُ فَهو يَشْفِينِ﴾، ﴿قُلْ هو لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وشِفاءٌ﴾ . قالَ السُّبْكِيُّ: وقَدْ جَرَّبْتُ كَثِيرًا، وعَنِ القُشَيْرِيِّ أنَّهُ مَرِضَ لَهُ ولَدٌ أيِسَ مِن حَياتِهِ فَرَأى اللَّهَ تَعالى في مَنامِهِ فَشَكا لَهُ سُبْحانَهُ ذَلِكَ فَقالَ لَهُ: اجْمَعْ آياتِ الشِّفاءِ واقْرَأْها عَلَيْهِ أوِ اكْتُبْها في إناءٍ واسْقِهِ فِيهِ ما مُحِيَتْ بِهِ فَفَعَلَ فَشَفاهُ اللَّهُ تَعالى، والأطِبّاءُ مُعْتَرِفُونَ بِأنَّ مِنَ الأُمُورِ والرُّقى ما يَشْفِي بِخاصِّيَّةٍ رُوحانِيَّةٍ كَما فَصَّلَهُ الأنْدَلُسِيُّ في مُفْرَداتِهِ، وكَذا داوُدُ في المُجَلَّدِ الثّانِي مِن تَذْكِرَتِهِ، ومَن يُنْكِرُ لا يُعْبَأُ بِهِ، نَعَمْ اخْتَلَفَ العُلَماءُ في جَوازِ نَحْوِ ما صَنَعَهُ القُشَيْرِيُّ عَنِ الرُّؤْيا وهو نَوْعٌ مِنَ النَّشْرَةِ وعَرَّفُوها بِأنَّها أنْ يُكْتَبَ شَيْءٌ مِن أسْماءِ اللَّهِ تَعالى أوْ مِنَ القُرْآنِ ثُمَّ يُغْسَلُ بِالماءِ ثُمَّ يُمْسَحُ بِهِ المَرِيضُ أوْ يُسْقاهُ، فَمَنَعَ ذَلِكَ الحَسَنُ والنَّخَعِيُّ ومُجاهِدٌ. ورَوى أبُو داوُدَ مِن حَدِيثِ جابِرٍ «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ سُئِلَ عَنِ النَّشْرَةِ فَقالَ: هي مِن عَمَلِ الشَّيْطانِ». وأجازَ ذَلِكَ ابْنُ المُسَيِّبِ، والنَّشْرَةُ الَّتِي قالَ فِيها ﷺ ما قالَ هي النَّشْرَةُ الَّتِي كانَتْ تُفْعَلُ في الجاهِلِيَّةِ وهي أنْواعٌ، مِنها ما يَفْعَلُهُ أهْلُ التَّعْزِيمِ في غالِبِ الأعْصارِ مِن قِراءَةِ أشْياءَ غَيْرِ مَعْلُومَةِ المَعْنى ولَمْ تَثْبُتْ في السُّنَّةِ أوْ كِتابَتُها وتَعْلِيقُها أوْ سَقْيُها، وقالَ مالِكٌ: لا بَأْسَ بِتَعْلِيقِ الكُتُبِ الَّتِي فِيها أسْماءُ اللَّهِ تَعالى عَلى أعْناقِ المَرْضى عَلى وجْهِ التَّبَرُّكِ بِها إذا لَمْ يُرِدُ مُعَلِّقُها بِذَلِكَ مُدافَعَةَ العَيْنِ، وعَنى بِذَلِكَ أنَّهُ لا بَأْسَ (p-146)بِالتَّعْلِيقِ بَعْدَ نُزُولِ البَلاءِ رَجاءَ الفَرَجِ والبِرِّ. كالرُّقى الَّتِي ورَدَتِ السُّنَّةُ بِها مِنَ العَيْنِ، وأمّا قَبْلَ النُّزُولِ فَفِيهِ بَأْسٌ وهو غَرِيبٌ، وعِنْدَ ابْنِ المُسَيِّبِ يَجُوزُ تَعْلِيقُ العُوذَةِ مِن كِتابِ اللَّهِ تَعالى في قَصَبَةٍ ونَحْوِها وتُوضَعُ عِنْدَ الجِماعِ، وعِنْدَ الغائِطِ ولَمْ يُقَيَّدْ بِقَبْلُ أوْ بَعْدُ، ورَخَّصَ الباقِرُ في العُوذَةِ تُعَلَّقُ عَلى الصِّبْيانِ مُطْلَقًا، وكانَ ابْنُ سِيرِينَ لا يَرى بَأْسًا بِالشَّيْءِ مِنَ القُرْآنِ يُعَلِّقُهُ الإنْسانُ كَبِيرًا أوْ صَغِيرًا مُطْلَقًا، وهو الَّذِي عَلَيْهِ النّاسُ قَدِيمًا وحَدِيثًا في سائِرِ الأمْصارِ لَكِنَّ تَوْجِيهَ التَّبْعِيضِ بِما ذُكِرَ لا يُساعِدُهُ قَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿ولا يَزِيدُ الظّالِمِينَ إلا خَسارًا﴾ أيْ: لا يَزِيدُ القُرْآنُ كُلُّهُ أوْ كُلُّ بَعْضٍ مِنهُ الكافِرِينَ المُكَذِّبِينَ بِهِ الواضِعِينَ لِلْأشْياءِ في غَيْرِ مَوْضِعِها مَعَ كَوْنِهِ في نَفْسِهِ شِفاءً لِما في الصُّدُورِ مِن أدْواءِ الرِّيَبِ وأسْقامِ الأوْهامِ. ﴿إلا خَسارًا﴾ أيْ: هَلاكًا بِكُفْرِهِمْ وتَكْذِيبِهِمْ وزِيادَتِهِمْ مِن حَيْثُ إنَّهم كُلَّما جَدَّدُوا الكُفْرَ والتَّكْذِيبَ بِالآيَةِ النّازِلَةِ تَدْرِيجًا ازْدادُوا بِذَلِكَ هَلاكًا، وفَسَّرَ بَعْضُهُمُ الخَسارَ بِالنُّقْصانِ، ورَجَّحَ أبُو السُّعُودِ الأوَّلَ بِأنَّ ما بِهِمْ مِن داءِ الكُفْرِ والضَّلالِ حَقِيقٌ بِأنْ يُعَبَّرَ عَنْهُ بِالهَلاكِ لا بِالنُّقْصانِ المُنْبِئِ عَنْ حُصُولِ بَعْضِ مَبادِئِ الإسْلامِ فِيهِمْ، وفِيهِ كَما قالَ: إيماءٌ إلّا أنَّ ما بِالمُؤْمِنِينَ مِنَ الشُّبَهِ والشُّكُوكِ المُعْتَرِيَةِ لَهم في أثْناءِ الِاهْتِداءِ والِاسْتِرْشادِ بِمَنزِلَةِ الأمْراضِ، وما بِالكَفَرَةِ مِنَ الجَهْلِ والعِنادِ بِمَنزِلَةِ المَوْتِ والهَلاكِ، وإسْنادُ الزِّيادَةِ المَذْكُورَةِ إلى القُرْآنِ مَعَ أنَّهُمُ المُزْدادُونَ في ذَلِكَ لِسُوءِ صَنِيعِهِمْ بِاعْتِبارِ كَوْنِهِ سَبَبًا لِذَلِكَ، وفِيهِ تَعْجِيبٌ مِن أمْرِهِ مِن حَيْثُ كَوْنُهُ مَدارًا لِلشِّفاءِ والهَلاكِ: ؎كَماءٍ صارَ في الأصْدافِ دُرًّا وفي ثَغْرِ الأفاعِي صارَ سُمّا هَذا ورُبَّما يُقالُ: إنَّ انْقِسامَ القُرْآنِ إلى ما هو شِفاءٌ مِن أدْواءِ الرِّيَبِ وأسْقامِ الوَهْمِ وإلى ما لَيْسَ كَذَلِكَ مِمّا لا يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ فِيهِ رَيْبٌ؛ لِأنَّ الشّافِيَ مِن أدْواءِ الرِّيَبِ إنَّما هو الأدِلَّةُ كالآياتِ الدّالَّةِ عَلى بُطْلانِ الشِّرْكِ وثُبُوتِ الوَحْدانِيَّةِ لَهُ تَعالى وكالآياتِ الدّالَّةِ عَلى إمْكانِ الحَشْرِ الجُسْمانِيِّ ولَيْسَ كُلُّ آياتِ القُرْآنِ كَذَلِكَ؛ فَإنَّ مِنهُ ما هو أمْرٌ بِصَلاةٍ وصَوْمٍ وزَكاةٍ ومِنهُ ما هو نَهْيٌ عَنْ قَتْلٍ وزِنًى وسَرِقَةٍ ونَحْوَ ذَلِكَ وهو لا يُشْفى بِهِ أدْواءُ الرِّيَبِ وأسْقامُ الوَهْمِ وكَذا آياتُ القَصَصِ، نَعَمْ فِيما ذُكِرَ نَفْعٌ غَيْرُ الشِّفاءِ مِن تِلْكَ الأدْواءِ فَهو رَحْمَةٌ وحِينَئِذٍ يُقالُ: في الآيَةِ حَذْفٌ؛ أيْ: نُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ ما هو شِفاءٌ وما هو رَحْمَةٌ عَلى مَعْنى نُنَزِّلُ مِنَ القُرْآنِ آياتٌ هي شِفاءٌ وآياتٌ هي رَحْمَةٌ. وفِيهِ أنَّ الرَّيْبَ غَيْرُ مُخْتَصٍّ فِيما يَتَعَلَّقُ بِاللَّهِ عَزَّ وجَلَّ وبِإمْكانِ الحَشْرِ بَلْ يَكُونُ أيْضًا في الرِّسالَةِ وصِدْقِهِ ﷺ في دَعْواها، وما مِن آيَةٍ في القُرْآنِ إلّا وهي مُسْتَقِلَّةٌ أوْ لَها دَخْلٌ في الشِّفاءِ مِن ذَلِكَ الدّاءِ لِما فِيها مِنَ الإعْجازِ، وكَذا ما مِن آيَةٍ إلّا وفِيها نَفْعٌ مِن جِهَةٍ أُخْرى، فَكُلُّ آيَةِ رَحْمَةٍ كَما أنَّ كُلَّها شِفاءٌ لَكِنَّ كَوْنَهُ رَحْمَةً بِالنِّسْبَةِ إلى كُلِّ واحِدٍ واحِدٍ مِنَ المُؤْمِنِينَ إذْ كَلُّ مُؤْمِنٍ يَنْتَفِعُ بِهِ نَوْعًا مِنَ الِانْتِفاعِ وكَوْنُهُ شِفاءً بِالفِعْلِ بِالنِّسْبَةِ إلى مَن عَرَضَ لَهُ شَيْءٌ مِن أدْواءِ الرِّيَبِ وأسْقامِ الوَهْمِ ولَيْسَ كُلُّ المُؤْمِنِينَ كَذَلِكَ، والقَوْلُ بِأنَّ كُلًّا كَذَلِكَ في أوَّلِ الإيمانِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ ولا يُحْتاجُ إلَيْهِ كَما لا يَخْفى. والإمامُ عَمَّمَ شِفائِيَّتَهُ وقَدْ أحْسَنَ فَقالَ: هو شِفاءٌ لِلْأمْراضِ الرُّوحانِيَّةِ وهي نَوْعانِ: اعْتِقاداتٌ باطِلَةٌ وأخْلاقٌ مَذْمُومَةٌ فَلِاشْتِمالِهِ عَلى الدَّلائِلِ الحَقَّةِ الكاشِفَةِ عَنِ المَذاهِبِ الباطِلَةِ في الإلَهِيّاتِ والنُّبُوّاتِ والمَعادِ والقَضاءِ والقَدَرِ المُبَيِّنَةِ لِبُطْلانِها يَشْفِي عَنِ النَّوْعِ الأوَّلِ مِنَ الأمْراضِ ولِاشْتِمالِهِ عَلى تَفاصِيلِ الأخْلاقِ المَذْمُومَةِ وتَعْرِيفِ (p-147)ما فِيها مِنَ المَفاسِدِ والإرْشادِ إلى الأخْلاقِ الفاضِلَةِ والأعْمالِ المَحْمُودَةِ يَشْفِي عَنِ النَّوْعِ الآخَرِ، والشِّفاءُ إشارَةٌ إلى التَّخْلِيَةِ، والرَّحْمَةُ إشارَةٌ إلى التَّحْلِيَةِ، ولِأنَّ الأُولى أهَمُّ مِنَ الثّانِيَةِ قُدِّمَ الشِّفاءُ عَلى الرَّحْمَةِ فَتَأمَّلْ. واللَّهُ تَعالى المُوَفِّقُ. وقَرَأ البَصْرِيّانِ: «نُنْزِلُ» بِالنُّونِ والتَّخْفِيفِ، وقَرَأ مُجاهِدٌ بِالياءِ والتَّخْفِيفِ، ورَواها المَرْوَزِيُّ عَنْ حَفْصٍ. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما: «شِفاءً ورَحْمَةً» بِنَصْبِهِما، قالَ أبُو حَيّانَ: ويَتَخَرَّجُ ذَلِكَ عَلى أنَّهُما حالانِ، والخَبَرُ لِلْمُؤْمِنِينَ، والعامِلُ في الحالِ ما في الجارِّ والمَجْرُورِ مِنَ الفِعْلِ، ونَظِيرُ ذَلِكَ: «والسَّماواتُ مَطْوِيّاتٍ بِيَمِينِهِ» في قِراءَةِ نَصْبِ «مَطْوِيّاتٍ» وقَوْلُ الشّاعِرِ: ؎رَهْطُ ابْنِ كُوزٍ مُحْقِبِي أدْراعِهِمْ ∗∗∗ فِيهِمْ ورَهْطُ رَبِيعَةَ بْنِ حَذارِ ثُمَّ قالَ: وتَقْدِيمُ الحالِ عَلى العامِلِ فِيهِ مِنَ الظَّرْفِ لا يَجُوزُ إلّا عِنْدَ الأخْفَشِ، ومَن مَنَعَ جَعَلَهُ مَنصُوبًا عَلى إضْمارِ أعْنِي، وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ مَن يُجَوِّزُ مَجِيءَ الحالِ مِنَ المُبْتَدَأِ لا يَحْتاجُ إلى ذَلِكَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب