الباحث القرآني
﴿إنَّ عِبادِي﴾ الإضافَةُ لِلتَّعْظِيمِ فَتَدُلُّ عَلى تَخْصِيصِ العِبادِ بِالمُخْلَصِينَ كَما وقَعَ التَّصْرِيحُ بِهِ في الآيَةِ الأُخْرى ولِقَرِينَةِ كَوْنِ اللَّهِ تَعالى وكِيلًا لَهم يَحْمِيهِمْ مِن شَرِّ الشَّيْطانِ فَإنَّ مَن هو كَذَلِكَ لا يَكُونُ إلّا عَبْدًا مُكْرَمًا مُخْتَصًّا بِهِ تَعالى، وكَثِيرًا ما يُقالُ لِمَن يَسْتَوْلِي عَلَيْهِ حُبُّ شَيْءٍ فَيَنْقادُ لَهُ عَبْدُ ذَلِكَ الشَّيْءِ ومِنهُ عَبْدُ الدِّينارِ والدِّرْهَمِ وعَبْدُ الخَمِيصَةِ وعَبْدُ بَطْنِهِ، ومِن هُنا يُقالُ لِمَن يَتْبَعُ الشَّيْطانَ عَبْدُ الشَّيْطانِ فَلا حاجَةَ إلى القَوْلِ بِأنَّ في الكَلامِ صِفَةً مَحْذُوفَةً؛ أيْ: إنَّ عِبادِي المُخْلَصِينَ.
وزَعَمَ الجُبّائِيُّ أنَّ ﴿عِبادِي﴾ عامٌّ لِجَمِيعِ المُكَلَّفِينَ ولَيْسَ هُناكَ صِفَةٌ مَحْذُوفَةٌ لَكِنْ تُرِكَ الِاسْتِثْناءُ اعْتِمادًا عَلى التَّصْرِيحِ بِهِ في مَوْضِعٍ آخَرَ ولَيْسَ بِشَيْءٍ، وفي هَذِهِ الإضافَةِ إيذانٌ بِعِلَّةِ ثُبُوتِ الحُكْمِ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ:
﴿لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ﴾ أيْ: تَسَلُّطٌ وقُدْرَةٌ عَلى إغْوائِهِمْ، وتَأْكِيدُ الحُكْمِ مَعَ اعْتِرافِ الخَصْمِ بِهِ لِمَزِيدِ الِاعْتِناءِ.
﴿وكَفى بِرَبِّكَ وكِيلا﴾ لَهم يَتَوَكَّلُونَ عَلَيْهِ جَلَّ وعَلا ويَسْتَمِدُّونَ مِنهُ تَعالى في الخَلاصِ عَنْ إغْوائِكَ فَيَحْمِيهِمْ سُبْحانَهُ مِنهُ، والخِطابُ في هَذِهِ الجُمْلَةِ قِيلَ لِلشَّيْطانِ كَما في الجُمْلَةِ السّابِقَةِ فَفي التَّعَرُّضِ لِوَصْفِ الرُّبُوبِيَّةِ المُنْبِئَةِ عَنِ المالِكِيَّةِ المُطْلَقَةِ والتَّصَرُّفِ الكُلِّيِّ مَعَ الإضافَةِ إلى ضَمِيرِهِ إشْعارٌ بِكَيْفِيَّةِ كِفايَتِهِ تَعالى لَهم وحِمايَتِهِ إيّاهم مِنهُ؛ أعْنِي سَلْبَ قُدْرَتِهِ عَلى إغْوائِهِمْ، وقِيلَ لِلنَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أوْ لِلْإنْسانِ كَأنَّهُ لَمّا بَيَّنَ سُبْحانَهُ مِن حالِ الشَّيْطانِ ما بَيَّنَ صارَ ذَلِكَ لِحُصُولِ الخَوْفِ في القُلُوبِ فَقالَ سُبْحانَهُ: ﴿وكَفى بِرَبِّكَ﴾ أيُّها النَّبِيُّ أوْ أيُّها الإنْسانُ وكِيلًا فَهو جَلَّ جَلالُهُ يَدْفَعُ كَيْدَ الشَّيْطانِ ويَحْفَظُ مِنهُ، والقَلْبُ يَمِيلُ إلى عَدَمِ كَوْنِهِ خِطابًا لِلشَّيْطانِ وإنْ كانَ في السّابِقِ لَهُ. واسْتُدِلَّ بِالآيَةِ عَلى أنَّ المَعْصُومَ مَن عَصَمَهُ اللَّهُ تَعالى، وإنَّ الإنْسانَ لا يُمْكِنُهُ أنْ يَحْتَرِزَ بِنَفْسِهِ عَنْ مَواقِعِ الضَّلالِ وإلّا لَقِيلَ: وكَفى بِالإنْسانِ وكِيلًا لِنَفْسِهِ، هَذا وهاهُنا سُؤالانِ ذَكَرَهُما الإمامُ مَعَ جَوابَيْهِما، الأوَّلُ أنَّ إبْلِيسَ هَلْ كانَ عالِمًا بِأنَّ الَّذِي تَكَلَّمَ مَعَهُ بِهَذِهِ التَّهْدِيداتِ هو إلَهُ العالَمِ أوْ لَمْ يَكُنْ عالِمًا، فَإنْ كانَ الأوَّلَ فَكَيْفَ يُصِرُّ الوَعِيدَ الشَّدِيدَ بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ:
﴿فَإنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكم جَزاءً مَوْفُورًا﴾ مانِعًا لَهُ مِنَ المَعْصِيَةِ مَعَ أنَّهُ سَمِعَهُ مِنَ اللَّهِ جَلَّ جَلالُهُ مِن غَيْرِ واسِطَةٍ، وإنْ كانَ الثّانِي فَكَيْفَ قالَ: ﴿أرَأيْتَكَ هَذا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ﴾ والجَوابُ: لَعَلَّهُ كانَ شاكًّا في الكُلِّ، وكانَ يَقُولُ في كُلِّ قِسْمٍ ما يَخْطُرُ بِبالِهِ عَلى سَبِيلِ الظَّنِّ، وأقُولُ: لا يَخْفى ما في هَذا الجَوابِ.
والحَقُّ فِيهِ أنَّهُ كانَ جازِمًا بِأنَّ الَّذِي تَكَلَّمَ مَعَهُ بِذَلِكَ هو إلَهُ العالَمِ جَلَّ وعَلا إلّا أنَّهُ غَلَبَتْ عَلَيْهِ شِقْوَتُهُ الَّتِي اسْتَعَدَّتْ لَها ذاتُهُ فَلَمْ يَصِرِ الوَعِيدُ مانِعًا لَهُ؛ ولِذا حِينَ تُنْصَبُ لِهَلاكِهِ الحَبائِلُ إذا جاءَ وقْتُهُ ويُعايِنُ مِنَ العَذابِ ما يُعايِنُ وتَضِيقُ عَلَيْهِ الأرْضُ بِما رَحُبَتْ، فَيُقالُ لَهُ: اسْجُدِ اليَوْمَ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ لِتَنْجُوَ لا يَسْجُدُ ويَقُولُ: لَمْ أسْجُدْ لَهُ حَيًّا فَكَيْفَ أسْجُدُ لَهُ مَيِّتًا كَما ورَدَ في بَعْضِ الآثارِ.
ولَيْسَ هَذا بِأعْجَبَ مِن حالِ الكُفّارِ الَّذِينَ يُعَذَّبُونَ يَوْمَ القِيامَةِ أشَدَّ العَذابِ عَلى كُفْرِهِمْ ويَطْلُبُونَ العَوْدَ لِيُؤْمِنُوا حَيْثُ أخْبَرَ اللَّهُ تَعالى بِأنَّهم لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ. ورُبَّما يُقالُ: إنَّ اللَّعِينَ مَعَ هَذا الوَعِيدِ لَهُ أمَلٌ بِالنَّجاةِ، فَقَدْ حُكِيَ أنَّ مَوْلانا عَبْدَ اللَّهِ التُّسْتَرِيَّ سَألَ اللَّهَ تَعالى أنْ (p-114)يُرِيَهُ إبْلِيسَ فَرَآهُ فَسَألَهُ: هَلْ تَطْمَعُ في رَحْمَةِ اللَّهِ تَعالى؟ فَقالَ: كَيْفَ لا أطْمَعُ فِيها واللَّهُ سُبْحانَهُ يَقُولُ: ﴿ورَحْمَتِي وسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ﴾ وأنا شَيْءٌ مِنَ الأشْياءِ فَقالَ التَّسْتُرِيُّ: ويْلَكَ إنَّ اللَّهَ تَعالى قَيَّدَ في آخِرِ الآيَةِ فَقالَ إبْلِيسُ لَهُ: ويَحْكَ ما أجْهَلَكَ؛ القَيْدُ لَكَ لا لَهُ، ولَعَلَّهُ يَزْعُمُ أنَّ آياتِ الوَعِيدِ مُطْلَقًا مُقَيَّدَةٌ بِالمَشِيئَةِ وإنْ لَمْ تُذْكَرْ كَما يَقُولُهُ بَعْضُ الأشاعِرَةِ في آياتِ الوَعِيدِ لِلْعُصاةِ مِنَ المُؤْمِنِينَ.
السُّؤالُ الثّانِي: ما الحِكْمَةُ في أنَّ اللَّهَ تَعالى أنْظَرَهُ إلى يَوْمِ القِيامَةِ ومَكَّنَهُ مِنَ الوَسْوَسَةِ؟ والحَكِيمُ إذا أرادَ أمْرًا وعَلِمَ أنَّ لَهُ مانِعًا يَمْنَعُ مِن حُصُولِهِ لا يَسْعى في تَحْصِيلِ ذَلِكَ المانِعِ، والجَوابُ أمّا عَلى مَذْهَبِنا فَظاهِرٌ، وأمّا المُعْتَزِلَةُ فَقالَ الجُبّائِيُّ مِنهُمْ: إنَّ اللَّهَ تَعالى عَلِمَ أنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ عِنْدَ وسْوَسَةِ إبْلِيسَ يَكْفُرُونَ بِتَقْدِيرِ أنْ لا يُوجَدَ وحِينَئِذٍ لَمْ يَكُنْ في وُجُودِهِ مَزِيدُ مَفْسَدَةٍ، وقالَ أبُو هاشِمٍ: لا يَبْعُدُ أنْ يَحْصُلَ مِن وُجُودِهِ مَزِيدُ مَفْسَدَةٍ إلّا أنَّهُ تَعالى أبْقاهُ تَشْدِيدًا لِلتَّكْلِيفِ عَلى الخَلْقِ لِيَسْتَحِقُّوا بِذَلِكَ مَزِيدَ الثَّوابِ، وأنا أقُولُ: إنَّ إبْلِيسَ لَيْسَ مانِعًا مِمّا يُرِيدُهُ اللَّهُ جَلَّ مَجْدُهُ وتَعالى جَدُّهُ فَما شاءَ اللَّهُ سُبْحانَهُ كانَ وما لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، واللَّهُ تَبارَكَ وتَعالى خَلَقَ الخَلْقَ طِبْقَ عِلْمِهِ وعَلِمَ بِهِ طِبْقَ ما هو عَلَيْهِ في نَفْسِهِ فافْهَمْ. واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ.
{"ayah":"إِنَّ عِبَادِی لَیۡسَ لَكَ عَلَیۡهِمۡ سُلۡطَـٰنࣱۚ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ وَكِیلࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق