الباحث القرآني

﴿ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الكَرَّةَ﴾ أيِ الدَّوْلَةَ والغَلَبَةَ، وأصْلُ مَعْنى الكَرِّ العَطْفُ والرُّجُوعُ، وإطْلاقُ الكَرَّةِ عَلى ما ذُكِرَ مَجازٌ شائِعٌ كَما يُقالُ: تَراجَعَ الأمْرُ، ولامُ لَكم لِلتَّعْدِيَةِ، وقِيلَ: لِلتَّعْلِيلِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿عَلَيْهِمْ﴾ أيِ الَّذِينَ فَعَلُوا بِكم ما فَعَلُوا، مُتَعَلِّقٌ بِالكَرَّةِ لِما فِيها مِن مَعْنى الغَلَبَةِ أوْ حالٌ مِنها، وجُوِّزَ تَعَلُّقُهُ بِرَدَدْنا، وهَذا عَلى ما في البَحْرِ إخْبارٌ مِنهُ تَعالى في التَّوْراةِ لِبَنِي إسْرائِيلَ إلّا أنَّهُ جَعَلَ ﴿رَدَدْنا﴾ مَوْضِعَ نَرُدُّ لِتَحَقُّقِ الوُقُوعِ، وكانَ بَيْنَ البَعْثِ والرَّدِّ عَلى ما قِيلَ مِائَةُ سَنَةٍ؛ وذَلِكَ بَعْدَ أنْ تابُوا ورَجَعُوا عَمّا كانُوا عَلَيْهِ. واخْتُلِفَ في سَبَبِ ذَلِكَ فَرُوِيَ أنَّ أرْدِشِيرَ بِهْمَنَ بْنَ إسْفِنْدِيارَ بْنِ كِشْتاسِفَ بْنِ لِهْراسِفَ لَمّا ورِثَ المُلْكَ مِن جَدِّهِ كَشْتاسِفَ ألْقى اللَّهُ تَعالى في قَلْبِهِ الشَّفَقَةَ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ فَرَدَّ أُسَراءَهُمُ الَّذِينَ أتى بِهِمْ بُخْتَنَصَّرُ إلى بابِلَ، وسَيَّرَهم إلى أرْضِ الشّامِ، ومَلَّكَ عَلَيْهِمْ دانْيالَ فاسْتَوْلَوْا عَلى مَن كانَ فِيها مِن أتْباعِ بُخْتَنَصَّرَ، وجَعَلَ بَعْضُهم مِن آثارِ هَذِهِ الكَرَّةِ قَتْلَ بُخْتَنَصَّرَ ولَمْ يَثْبُتْ. وفِي البَحْرِ أنَّ مَلِكًا غَزا أهْلَ بابِلَ وكانَ بُخْتَنَصَّرُ قَدْ قَتَلَ مِن بَنِي إسْرائِيلَ أرْبَعِينَ ألْفًا مِمَّنْ يَقْرَأُ التَّوْراةَ، وأبْقى عِنْدِهِ بَقِيَّةً في بابِلَ، فَلَمّا غَزاهم ذَلِكَ المَلِكُ وغَلَبَ عَلَيْهِمْ تَزَوَّجَ امْرَأةً مِن بَنِي إسْرائِيلَ فَطَلَبَتْ مِنهُ أنْ يَرُدَّ بَنِي إسْرائِيلَ إلى دِيارِهِمْ فَفَعَلَ، وبَعْدَ مُدَّةٍ قامَتْ فِيهِمُ الأنْبِياءُ ورَجَعُوا إلى أحْسَنِ ما كانُوا، وقِيلَ: رَدُّ الكَرَّةِ بِأنْ سَلَّطَ اللَّهُ تَعالى داوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ فَقَتَلَ جالُوتَ. وتُعُقِّبَ بِأنَّهُ يَرُدُّهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ﴾ إلَخْ. فَإنَّ المُرادَ بِهِ بَيْتُ المَقْدِسِ وداوُدُ عَلَيْهِ السَّلامُ ابْتَدَأ بِناءَهُ بَعْدَ قَتْلِ جالُوتَ وإيتائِهِ النُّبُوَّةَ ولَمْ يُتِمَّهُ وأتَمَّهُ سُلَيْمانُ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَلَمْ يَكُنْ قَبْلَ داوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ مَسْجِدٌ حَتّى يَدْخُلُوهُ أوَّلَ مَرَّةٍ، ودُفِعَ بِأنَّ حَقِيقَةَ المَسْجِدِ الأرْضُ لا البِناءُ، ويُحْمَلُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿دَخَلُوهُ﴾ عَلى الِاسْتِخْدامِ وهو كَما تَرى، والحَقُّ أنَّ المَسْجِدَ كانَ مَوْجُودًا قَبْلَ داوُدَ عَلَيْهِ السَّلامُ كَما قَدَّمْنا. ﴿وأمْدَدْناكم بِأمْوالٍ﴾ كَثِيرَةٍ بَعْدَ ما نُهِبَتْ أمْوالُكم ﴿وبَنِينَ﴾ بَعْدَ ما سُبِيَتْ أوْلادُكم ﴿وجَعَلْناكم أكْثَرَ نَفِيرًا﴾ مِمّا كُنْتُمْ مِن قَبْلُ أوْ مِن أعْدائِكُمْ، والنَّفِيرُ عَلى ما قالَ أبُو مُسْلِمٍ كالنّافِرِ مِن يَنْفِرُ مَعَ الرَّجُلِ مِن عَشِيرَتِهِ وأهْلِ بَيْتِهِ، وقالَ الزَّجّاجُ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ جَمْعَ نَفْرٍ كَكَلْبٍ وكُلَيْبٍ وعَبْدٍ وعَبِيدٍ وهُمُ المُجْتَمِعُونَ لِلذَّهابِ إلى العَدُوِّ، وقِيلَ: هو مَصْدَرٌ؛ أيْ أكْثَرُ خُرُوجًا إلى الغَزْوِ كَما في قَوْلِ الشّاعِرِ: ؎فَأكْرِمْ بِقَحْطانَ مِن والِدٍ وحِمْيَرَ أكْرِمْ بِقَوْمٍ نَفِيرا ويُرْوى: بِالحِمْيَرِيِّينَ أكْرِمْ نَفِيرًا، وصَحَّحَ السُّهَيْلِيُّ أنَّهُ اسْمُ جَمْعٍ لِغَلَبَتِهِ في المُفْرَداتِ وعَدَمِ اطِّرادِ مُفْرَدِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب