الباحث القرآني

﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِن دُونِهِ﴾ إلَخْ. كالِاسْتِدْلالِ عَلى حَقِّيَّةِ ما دَعاهم إلَيْهِ مِنَ التَّوْحِيدِ ورَبَطَهُ بِما تَقَدَّمَ عَلى ما ذَكَرْناهُ أوَّلًا لا أظُنُّهُ يَخْفى، والزَّعْمُ بِتَثْلِيثِ الزّايِ قَرِيبٌ مِنَ الظَّنِّ ويُقالُ إنَّهُ القَوْلُ المَشْكُوكُ فِيهِ ويُسْتَعْمَلُ بِمَعْنى الكَذِبِ حَتّى قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: كُلُّ ما ورَدَ في القُرْآنِ زَعَمَ فَهو كَذِبٌ وقَدْ يُطْلَقُ عَلى القَوْلِ المُحَقَّقِ والصِّدْقِ الَّذِي لا شَكَّ فِيهِ. فَقَدْ أخْرَجَ مُسْلِمٌ مِن حَدِيثِ أنَسٍ «أنَّ رَجُلًا مِن أهْلِ البادِيَةِ - واسْمُهُ ضِمامُ بْنُ ثَعْلَبَةَ - جاءَ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقالَ: يا مُحَمَّدُ، أتانا رَسُولُكَ فَزَعَمَ أنَّكَ تَزْعُمُ أنَّ اللَّهَ تَعالى أرْسَلَكَ. قالَ: صَدَقَ... الحَدِيثَ». فَإنَّ تَصْدِيقَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إيّاهُ مَعَ قَوْلِهِ زَعَمَ وتَزْعُمُ دَلِيلٌ عَلى ما قُلْنا. ووَرَدَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: ««زَعَمَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ كَذا»» وقَدْ أكْثَرَ سِيبَوَيْهِ وهو إمامُ العَرَبِيَّةِ في كِتابِهِ مِن قَوْلِهِ: زَعَمَ الخَلِيلُ، زَعَمَ أبُو الخَطّابِ، يُرِيدُ بِذَلِكَ القَوْلَ المُحَقَّقَ، وقَدْ نَقَلَ ذَلِكَ جَماعاتٌ مِن أهْلِ اللُّغَةِ وغَيْرِهِمْ ونَقَلَهُ أبُو عُمَرَ الزّاهِدُ في شَرْحِ الفَصِيحِ عَنْ شَيْخِهِ أبِي العَبّاسِ ثَعْلَبٍ عَنِ العُلَماءِ بِاللُّغَةِ مِنَ الكُوفِيِّينَ والبَصْرِيِّينَ، وهو مِمّا يَتَعَدّى إلى مَفْعُولَيْنِ وقَدْ حُذِفا هاهُنا أوْ ما يَسُدُّ مَسَدَّهُما جائِزٌ، والخِلافُ في حَذْفِ أحَدِهِما، والظّاهِرُ أنَّ المُرادَ مِنَ المَوْصُولِ كُلُّ مَن عُبِدَ مِن دُونِ اللَّهِ سُبْحانَهُ مِنَ العُقَلاءِ. وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ وابْنُ أبِي شَيْبَةَ والبُخارِيُّ والنَّسائِيُّ والطَّبَرانِيُّ وجَماعَةٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ قالَ: كانَ نَفَرٌ مِنَ الإنْسِ يَعْبُدُونَ نَفَرًا مِنَ الجِنِّ فَأسْلَمَ النَّفَرُ مِنَ الجِنِّ وتَمَسَّكَ الإنْسِيُّونَ بِعِبادَتِهِمْ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، وكانَ هَؤُلاءِ الإنْسُ مِنَ العَرَبِ كَما صَرَّحَ بِهِ في رِوايَةِ البَيْهَقِيِّ وغَيْرِهِ عَنْهُ، وفي أُخْرى التَّصْرِيحُ بِأنَّهم مِن خُزاعَةَ، وفي رِوايَةِ ابْنِ جَرِيرٍ أنَّهُ قالَ: كانَ قَبائِلُ مِنَ العَرَبِ يَعْبُدُونَ صِنْفًا مِنَ المَلائِكَةِ يُقالُ لَهُمُ الجِنُّ ويَقُولُونَ هم بَناتُ اللَّهِ سُبْحانَهُ فَنَزَلَتِ الآيَةُ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّها نَزَلَتْ في الَّذِينَ أشْرَكُوا بِاللَّهِ تَعالى فَعَبَدُوا عِيسى وأُمَّهُ (p-98)وعُزَيْرًا والشَّمْسَ والقَمَرَ والكَواكِبَ، وعَلى هَذا فَفي الآيَةِ عَلى ما في البَحْرِ تَغْلِيبُ العاقِلِ عَلى غَيْرِهِ، ومَتى صَحَّ إدْراجُ الشَّمْسِ والقَمَرِ والكَواكِبِ عَلى سَبِيلِ التَّغْلِيبِ بِناءً عَلى أنَّها لَيْسَتْ مِن ذَوِي العِلْمِ فَلْيُدْرَجْ سائِرُ ما عُبِدَ بِالباطِلِ مِنَ الأصْنامِ ويُرْتَكَبُ التَّغْلِيبُ، وتُعُقِّبَ بِأنَّ ما سَيَأْتِي قَرِيبًا إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى مِنَ ابْتِغاءِ الوَسِيلَةِ ورَجاءِ الرَّحْمَةِ والخَوْفِ مِنَ العَذابِ يُؤَيِّدُ إرادَةَ العُقَلاءِ كَعِيسى وعُزَيْرٍ عَلَيْهِما السَّلامُ بِناءً عَلى أنَّ الأصْنامَ لا يُعْقَلُ مِنها ذَلِكَ، وارْتِكابُ التَّغْلِيبِ هُناكَ أيْضًا خِلافُ الظّاهِرِ جِدًّا، والدُّعاءُ كالنِّداءِ لَكِنَّ النِّداءَ قَدْ يُقالُ إذا قِيلَ: «يا» أوْ «أيا» أوْ نَحْوَهُما مِن غَيْرِ أنْ يُضَمَّ إلَيْهِ الِاسْمُ والدُّعاءُ لا يَكادُ يُقالُ إلّا إذا كانَ مَعَهُ الِاسْمُ نَحْوَ: يا فُلانُ، وقَدْ يُسْتَعْمَلُ كُلٌّ مِنهُما مَوْضِعَ الآخَرِ، والمُرادُ: ادْعُوهم لِكَشْفِ الضُّرِّ الَّذِي هو أوْلى مِن جَلْبِ النَّفْعِ وأهَمُّ، وتَوَجُّهُ القَلْبِ إلى مَن يَكْشِفُهُ أكْمَلُ وأتَمُّ. ﴿فَلا يَمْلِكُونَ﴾ فَلا يَسْتَطِيعُونَ بِأنْفُسِهِمْ ﴿كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ﴾ كالمَرَضِ والفَقْرِ والقَحْطِ وغَيْرِها ﴿ولا تَحْوِيلا﴾ ولا نَقْلَهُ مِنكم إلى غَيْرِكم مِمَّنْ لَمْ يَعْبُدْهم أوْ ولا تَبْدِيلَهُ بِنَوْعٍ آخَرَ ومَن لا يَمْلِكُ ذَلِكَ لا يَسْتَحِقُّ العِبادَةَ إذْ شَرْطُ اسْتِحْقاقِها القُدْرَةُ الكامِلَةُ التّامَّةُ عَلى دَفْعِ الضُّرِّ وجَلْبِ النَّفْعِ ولا تَكُونُ كَذَلِكَ إذا كانَتْ مُفاضَةً مِنَ الغَيْرِ، وكَأنَّ المُرادَ مِن نَفْيِ مِلْكِهِمْ ذَلِكَ نَفْيُ قُدْرَتِهِمُ التّامَّةِ الكامِلَةِ عَلَيْهِ وكَوْنُ قُدْرَةِ الآلِهَةِ الباطِلَةِ مُفاضَةٌ مِنهُ تَعالى مُسَلَّمٌ عِنْدَ الكَفَرَةِ لِأنَّهم لا يُنْكِرُونَ أنَّها مَخْلُوقَةٌ لِلَّهِ تَعالى بِجَمِيعِ صِفاتِها، وأنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ أقْوى وأكْمَلُ صِفَةً مِنها، وبِهَذا يَتِمُّ الدَّلِيلُ ويَحْصُلُ الإفْحامُ وإلّا فَنَفْيُ قُدْرَةِ نَحْوِ الجِنِّ والمَلائِكَةِ الَّذِينَ عُبِدُوا مِن دُونِ اللَّهِ تَعالى مُطْلَقًا عَلى كَشْفِ الضُّرِّ مِمّا لا يَظْهَرُ دَلِيلُهُ فَإنَّهُ إنْ قِيلَ: هو أنّا نَرى الكَفَرَةَ يَتَضَرَّعُونَ إلَيْهِمْ ولا تَحْصُلُ لَهُمُ الإجابَةُ عُورِضَ بِأنّا نَرى أيْضًا المُسْلِمِينَ يَتَضَرَّعُونَ إلى اللَّهِ تَعالى ولا تَحْصُلُ لَهُمُ الإجابَةُ، وقَدْ يُقالُ: المُرادُ نَفْيُ قُدْرَتِهِمْ عَلى ذَلِكَ أصْلًا ويُحْتَجُّ لَهُ بِدَلِيلِ الأشْعَرِيِّ عَلى اسْتِنادِ جَمِيعِ المُمْكِناتِ إلَيْهِ عَزَّ وجَلَّ ابْتِداءً. وفَسَّرَ بَعْضُهُمُ الضُّرَّ هُنا بِالقَحْطِ بِناءً عَلى ما رُوِيَ أنَّ المُشْرِكِينَ أصابَهم قَحْطٌ شَدِيدٌ أكَلُوا فِيهِ الكِلابَ والجِيَفَ فاسْتَغاثُوا بِالنَّبِيِّ ﷺ لِيَدْعُوَ لَهم فَنَزَلَتْ، وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ هَذا لا يُوجِبُ التَّخْصِيصَ. واسْتُدِلَّ بِهَذِهِ الرِّوايَةِ عَلى أنَّ نَفْيَ الِاسْتِطاعَةِ مُطْلَقًا عَنْ آلِهَتِهِمْ كانَ إذْ ذاكَ مُسَلَّمًا عِنْدَهم وإلّا لَما تَرَكُوها واسْتَغاثُوا بِالنَّبِيِّ ﷺ لِيَدْعُوَ لَهم وفِيهِ نَظَرٌ فانْظُرْ وتَدَبَّرْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب