الباحث القرآني
﴿انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهم عَلى بَعْضٍ﴾ كَيْفَ في مَحَلِّ النَّصْبِ بِ (فَضَّلْنا) عَلى الحالِ ولَيْسَتْ مُضافَةً لِلْجُمْلَةِ كَما تُوُهِّمَ، والجُمْلَةُ بِتَمامِها في مَحَلِّ نَصْبٍ بِ (انْظُرْ) وهو مُعَلَّقٌ هُنا، والمُرادُ كَما قالَ شَيْخُ الإسْلامِ تَوْضِيحُ ما مَرَّ مِنَ الإمْدادِ وعَدَمِ مَحْظُورِيَّةِ العَطاءِ بِالتَّنْبِيهِ عَلى اسْتِحْضارِ مَراتِبِ أحَدِ العَطاءَيْنِ والِاسْتِدْلالِ بِها عَلى مَراتِبِ الآخَرِ، أيِ انْظُرْ بِنَظَرِ الِاعْتِبارِ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهم عَلى بَعْضٍ فِيما أمْدَدْناهم مِنَ العَطايا الآجِلَةِ وتَفاوُتِ أهْلِها عَلى طَرِيقَةِ الِاسْتِدْلالِ بِحالِ الأدْنى عَلى حالِ الأعْلى كَما أفْصَحَ عَنْهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَلآخِرَةُ أكْبَرُ دَرَجاتٍ وأكْبَرُ تَفْضِيلا﴾ أيْ: أكْبَرُ مِن دَرَجاتِ الدُّنْيا وتَفْضِيلِها؛ لِأنَّ التَّفاوُتَ فِيها بِالجَنَّةِ ودَرَجاتِها العالِيَةِ لا يُقادَرُ قَدْرُها ولا يُكْتَنَهُ كُنْهُها.
وفِي بَعْضِ الآثارِ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: ««إنَّ بَيْنَ أعْلى أهْلِ الجَنَّةِ وأسْفَلِهِمْ دَرَجَةً كالنَّجْمِ يُرى في مَشارِقِ الأرْضِ ومَغارِبِها، وقَدْ أرْضى اللَّهُ تَعالى الجَمِيعَ فَما يَغْبِطُ أحَدٌ أحَدًا»».
وعَنِ الضَّحّاكِ: الأعْلى يَرى فَضْلَهُ عَلى مَن هو أسْفَلَ مِنهُ، والأسْفَلُ لا يَرى أنَّ فَوْقَهُ أحَدًا، وصَحَّ أنَّ اللَّهَ تَعالى أعَدَّ لِعِبادِهِ الصّالِحِينَ ما لا عَيْنٌ رَأتْ ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ ولا خَطَرَ عَلى قَلْبِ بَشَرٍ، ورَوى ابْنُ عَبْدِ البَرِّ في الِاسْتِيعابِ عَنِ الحَسَنِ قالَ: حَضَرَ جَماعَةٌ مِنَ النّاسِ بابَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ وفِيهِمْ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو القُرَشِيُّ، وكانَ أحَدَ الأشْرافِ في الجاهِلِيَّةِ وأبُو سُفْيانَ بْنُ حَرْبٍ، وأُولَئِكَ المَشايِخُ مِن قُرَيْشٍ فَأذِنَ لِصُهَيْبٍ وبِلالٍ وأهْلٍ بَدْرٍ وكانَ يُحِبُّهُمْ، وكانَ قَدْ أوْصى لَهم فَقالَ أبُو سُفْيانَ: ما رَأيْتُ كاليَوْمِ قَطُّ؛ إنَّهُ لَيُؤْذَنُ لِهَؤُلاءِ العَبِيدِ ونَحْنُ جُلُوسٌ لا يُلْتَفَتُ إلَيْنا فَقالَ سُهَيْلٌ: وكانَ أعْقَلَهُمْ: أيُّها القَوْمُ، إنِّي واللَّهِ قَدْ (p-49)أرى الَّذِي في وُجُوهِكُمْ، فَإنْ كُنْتُمْ غِضابًا فاغْضَبُوا عَلى أنْفُسِكُمْ؛ دُعِيَ القَوْمُ ودُعِيتُمْ فَأسْرَعُوا وأبْطَأْتُمْ، أما واللَّهِ لَما سَبَقُوكم بِهِ مِنَ الفَضْلِ أشَدُّ عَلَيْكم فَوْتًا مِن بابِكم هَذا الَّذِي تَنافَسُونَ عَلَيْهِ.
وفِي الكَشّافِ أنَّهُ قالَ: إنَّما أُتِينا مِن قِبَلِنا أنَّهم دُعُوا ودُعِينا فَأسْرَعُوا وأبْطَأنا، وهَذا بابُ عُمَرَ فَكَيْفَ التَّفاوُتُ في الآخِرَةِ، ولَئِنْ حَسَدْتُمُوهم عَلى بابِ عُمَرَ لَما أعَدَّ اللَّهُ تَعالى لَهم في الجَنَّةِ أكْبَرُ، وقُرِئَ: (أكْثَرُ تَفْضِيلًا) بِالثّاءِ المُثَلَّثَةِ، هَذا وجُوِّزَ أنْ يُرادَ بِما بِهِ الإمْدادُ العَطايا العاجِلَةُ فَقَطْ، وحُمِلَ القَصْرُ المَذْكُورُ عَلى دَفْعِ تَوَهُّمِ اخْتِصاصِها بِالفَرِيقِ الأوَّلِ، فَإنَّ تَخْصِيصَ إرادَتِهِمْ لَها ووُصُولَهم إلَيْها بِالذِّكْرِ مِن غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِبَيانِ النِّسْبَةِ بَيْنَها وبَيْنَ الفَرِيقِ الثّانِي إرادَةً ووُصُولًا مِمّا يُوهِمُ اخْتِصاصَها بِالأوَّلِينَ، فالمَعْنى: كُلُّ الفَرِيقَيْنِ نَمُدُّ بِالعَطايا العاجِلَةِ لا مَن ذَكَرْنا إرادَتَهُ لَها فَقَطْ مِنَ الفَرِيقِ الأوَّلِ مِن عَطاءِ رَبِّكَ الواسِعِ وما كانَ عَطاؤُهُ الدُّنْيَوِيُّ مَحْظُورًا مِن أحَدٍ مِمَّنْ يُرِيدُ ومِمَّنْ يُرِيدُ غَيْرَهُ، انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا في ذَلِكَ العَطاءِ بَعْضَ كُلٍّ مِنَ الفَرِيقَيْنِ عَلى بَعْضٍ آخَرَ مِنهُما، ولَلْآخِرَةُ... إلَخْ، وإلى نَحْوِ هَذا ذَهَبَ الحَسَنُ وقَتادَةُ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُما أنَّهُما قالا في مَعْنى الآيَةِ: إنَّ اللَّهَ تَعالى يَرْزُقُ في الدُّنْيا مُرِيدِي العاجِلَةِ الكافِرِينَ ومُرِيدِي الآخِرَةِ المُؤْمِنِينَ ويَمُدُّ الجَمِيعَ بِالرِّزْقِ، وذَكَرَ الرِّزْقَ مِن بَيْنِ ما بِهِ الإمْدادُ قِيلَ عَلى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ، وقِيلَ: تَخْصِيصٌ لِدَلالَةِ السِّياقِ.
وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِهِ مَعْناهُ اللُّغَوِيُّ فَيَتَناوَلُ الجاهَ ونَحْوَهُ كَما يُقالُ: السَّعادَةُ أرْزاقٌ، واعْتَبَرَ الجُمْهُورُ عَدَمَ المَحْظُورِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ إلى الفَرِيقِ الأوَّلِ تَحْقِيقًا لِشُمُولِ الإمْدادِ لَهُ حَيْثُ قالُوا: لا يَمْنَعُهُ مِن عاصٍ لِعِصْيانِهِ. واعْتُرِضَ بِأنَّهُ يَقْتَضِي كَوْنَ القَصْرِ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ اخْتِصاصِ الإمْدادِ الدُّنْيَوِيِّ بِالفَرِيقِ الثّانِي مَعَ أنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ في الكَلامِ ما يُوهِمُ ثُبُوتَهُ لَهُ فَضْلًا عَنْ إيهامِ اخْتِصاصِهِ وفِيهِ تَأمُّلٌ، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما أنَّ مَعْنى ﴿مِن عَطاءِ رَبِّكَ﴾ مِنَ الطّاعاتِ ويَمُدُّ بِها مُرِيدَ الآخِرَةِ والمَعاصِي، ويَمُدُّ بِها مُرِيدَ العاجِلَةِ فَيَكُونُ العَطاءُ عِبارَةً عَمّا قَسَّمَ اللَّهُ تَعالى لِلْعَبْدِ مِن خَيْرٍ أوْ شَرٍّ، وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّهُ يَبْعُدُ غايَةَ البُعْدِ إرادَةُ المَعاصِي مِنَ العَطاءِ، ولَعَلَّ نِسْبَةَ ذَلِكَ لِلْحَبْرِ غَيْرُ صَحِيحَةٍ فَلا تَغْفُلْ واعْلَمْ أنَّ التَّقْسِيمَ الَّذِي تَضَمَّنَتْهُ الآيَةُ غَيْرُ حاصِرٍ، وذَلِكَ غَيْرُ مُضِرٍّ، والتَّقْسِيمُ الحاصِرُ أنَّ كُلَّ فاعِلٍ إمّا أنْ يُرِيدَ بِفِعْلِهِ العاجِلَةَ فَقَطْ أوْ يُرِيدَ الآخِرَةَ فَقَطْ أوْ يُرِيدَهُما مَعًا أوْ لَمْ يُرِدْ شَيْئًا، والقِسْمانِ الأوَّلانِ قَدْ عُلِمَ حُكْمُهُما مِنَ الآيَةِ، والقِسْمُ الثّالِثُ يَنْقَسِمُ إلى ثَلاثَةِ أقْسامٍ؛ لِأنَّهُ إمّا تَكُونُ إرادَةُ الآخِرَةِ أرْجَحَ أوْ تَكُونُ مَرْجُوحَةً أوْ تَكُونُ الإرادَتانِ مُتَعادِلَتَيْنِ، وفي قَبُولِ العَمَلِ في القِسْمِ الأوَّلِ بَحْثٌ عِنْدَ الإمامِ قالَ: يُحْتَمَلُ عَدَمُ القَبُولِ لِما رُوِيَ عَنْ رَبِّ العِزَّةِ جَلَّ شَأْنُهُ: ««أنا أغْنى الشُّرَكاءِ عَنِ الشِّرْكِ، مَن عَمِلَ عَمَلًا أشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي تَرَكْتُهُ وشِرْكَهُ»».
ويُمْكِنُ أنْ يُقالَ: إذا كانَتْ إرادَةُ الآخِرَةِ راجِحَةً عَلى إرادَةِ الدُّنْيا تَعارُضَ المَثَلِ بِالمَثَلِ فَيَبْقى القَدْرُ الزّائِدُ خالِصًا لِلْآخِرَةِ فَيَجِبُ كَوْنُهُ مَقْبُولًا، وإلى عَدَمِ القَبُولِ ذَهَبَ العِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلامِ، ومالَ إلى القَوْلِ بِأصْلِ الثَّوابِ حُجَّةُ الإسْلامِ الغَزالِيُّ حَيْثُ قالَ: لَوْ كانَ اطِّلاعُ النّاسِ مُرَجِّحًا أوْ مُقَوِّيًا لِنَشاطِهِ ولَوْ فُقِدَ لَمْ تُتْرَكِ العِبادَةُ ولَوِ انْفَرَدَ قَصْدُ الرِّياءِ لَما أقْدَمَ فالَّذِي نَظُنُّهُ والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى أنَّهُ لا يُحْبِطُ أصْلَ الثَّوابِ ولَكِنَّهُ يُعاقِبُ عَلى مِقْدارِ قَصْدِ الرِّياءِ ويُثابُ عَلى مِقْدارِ قَصْدِ الثَّوابِ، وهَذا ظاهِرٌ في أنَّ الرِّياءَ ولَوْ مُحَرَّمًا لا يُمْنَعُ أصْلُ الثَّوابِ عِنْدَهُ إذا كانَ باعِثُ العِبادَةِ أغْلَبَ، وذَكَرَ ابْنُ حَجَرٍ أنَّ الَّذِي يَتَّجِهُ تَرْجِيحُهُ أنَّهُ مَتى كانَ المُصاحِبُ بِقَصْدِ العِبادَةِ رِياءً مُباحًا لَمْ يَقْتَضِ إسْقاطَ ثَوابِها مِن أصْلِهِ بَلْ يُثابُ عَلى مِقْدارِ قَصْدِ العِبادَةِ وإنْ ضَعُفَ أوْ مُحَرَّمًا اقْتَضى سُقُوطَهُ مِن أصْلِهِ لِلْأخْبارِ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾ قَدْ لا يُعَكِّرُ عَلى ذَلِكَ لِأنَّ تَقْصِيرَهُ بِقَصْدِ المُحَرِّمِ (p-50)اقْتَضى سُقُوطَ قَصْدِ الأجْرِ فَلَمْ تَبْقَ لَهُ ذَرَّةٌ مِن خَيْرٍ فَلَمْ تَشْمَلْهُ الآيَةُ، واتَّفَقُوا عَلى عَدَمِ قَبُولِ ما تَرَجَّحَ فِيهِ باعِثُ الدُّنْيا أوْ كانَ الباعِثانِ فِيهِ مُتَساوِيَيْنِ، وخَصَّ الغَزالِيُّ الأحادِيثَ الدّالَّةَ بِظاهِرِها عَلى عَدَمِ القَبُولِ مُطْلَقًا بِهَذَيْنَ القِسْمَيْنِ، وتَمامُ الكَلامِ في هَذا المَقامِ في الزَّواجِرِ عَنِ اقْتِرافِ الكَبائِرِ، وأمّا القِسْمُ الرّابِعُ عِنْدَ القائِلِينَ بِأنَّ صُدُورَ الفِعْلِ مِنَ القادِرِ يَتَوَقَّفُ عَلى حُصُولِ الدّاعِي فَهو مُمْتَنِعُ الحُصُولِ، والَّذِينَ قالُوا إنَّهُ لا يَتَوَقَّفُ قالُوا: ذَلِكَ الفِعْلُ لا أثَرَ لَهُ في الباطِنِ وهو مُحَرَّمٌ في الظّاهِرِ؛ لِأنَّهُ عَبَثٌ، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ.
* * *
ومِن بابِ الإشارَةِ في الآياتِ: ﴿سُبْحانَ الَّذِي أسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلا﴾ فِيهِ أرْبَعُ إشاراتٍ، إشارَةُ التَّقْدِيسِ بِسُبْحانَ؛ فَهو تَنْزِيهٌ لَهُ تَعالى عَنِ اللَّواحِقِ المادِّيَّةِ والنَّقائِصِ التَّشْبِيهِيَّةِ وعَنْ جَمِيعِ ما يَرْتَسِمُ في الأذْهانِ، وإشارَةُ الغَيْرَةِ بِعَدَمِ ذِكْرِ الِاسْمِ الظّاهِرِ مِن أسْمائِهِ الحُسْنى عَزَّتْ أسْماؤُهُ، وكَذا بِعَدَمِ ذِكْرِ اسْمِهِ ﷺ، وإشارَةُ الغَيْبِ بِذِكْرِ ضَمِيرِ الغائِبِ، وإشارَةُ السِّرِّ بِذِكْرِ اللَّيْلِ فَإنَّهُ مَحَلُّ السِّرِّ والنَّجْوى، وعَنْ بَعْضِ الأكابِرِ: لَوْلا اللَّيْلُ ما أحْبَبْتُ البَقاءَ في الدُّنْيا، وذَكَرَ غَيْرُ واحِدٍ إنَّ في اخْتِيارِ عُنْوانِ العُبُودِيَّةِ إشارَةً إلى أنَّها أعْلى المَقاماتِ، وقَدْ أُشِيرَ إلى ذَلِكَ فِيما سَلَفَ، وأصْلُها الذُّلُّ والخُضُوعُ وحَيْثُ إنَّ الذُّلَّ لِشَيْءٍ لا يَكُونُ إلّا بَعْدَ مَعْرِفَتِهِ دَلَّتِ العُبُودِيَّةُ لِلَّهِ تَعالى عَلى مَعْرِفَتِهِ سُبْحانَهُ وكَمالُها عَلى كَمالِها، ومِن هُنا فَسَّرَ ابْنُ عَبّاسٍ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وما خَلَقْتُ الجِنَّ والإنْسَ إلا لِيَعْبُدُونِ﴾ بِقَوْلِهِ: إلّا لِيَعْرِفُونِ، وهي تِسْعَةٌ وتِسْعُونَ سَهْمًا بِعَدَدِ الأسْماءِ الإلَهِيَّةِ الَّتِي مَن أحْصاها دَخَلَ الجَنَّةَ لِكُلِّ اسْمٍ إلَهِيٍّ عُبُودِيَّةٌ مُخْتَصَّةٌ بِهِ يَتَعَبَّدُ لَهُ مَن يَتَعَبَّدُ مِنَ المَخْلُوقِينَ ولَمْ يَتَحَقَّقْ بِهَذا المَقامِ عَلى كَمالِهِ مِثْلَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَكانَ عَبْدًا مَحْضًا زاهِدًا في جَمِيعِ الأحْوالِ الَّتِي تُخْرِجُهُ عَنْ مَرْتَبَةِ العُبُودِيَّةِ، وشَهِدَ اللَّهُ تَعالى لَهُ بِأنَّهُ عَبْدٌ مُضافٌ إلَيْهِ مِن حَيْثُ هَوِيتُهُ هُنا واسْمُهُ الجامِعُ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿وأنَّهُ لَمّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ﴾ ولَمّا أمَرَ ﷺ بِتَعْرِيفِ مَقامِهِ يَوْمَ القِيامَةِ قَيَّدَ ذَلِكَ فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ««أنا سَيِّدُ ولَدِ آدَمَ ولا فَخْرَ»».
بِالرّاءِ أوِ الزّايِ عَلى اخْتِلافِ الرِّوايَتَيْنِ وهي لِما عَلِمْتَ مِن مَعْناها لا يُمْكِنُ أنْ تَكُونَ نَعْتًا إلَهِيًّا أصْلًا بَلْ هي صِفَةٌ خاصَّةٌ لا اشْتِراكَ فِيها، فَقَدْ قالَ أبُو يَزِيدَ البَسْطامِيُّ: ما وجَدْتُ شَيْئًا يُتَقَرَّبُ بِهِ إلَيْهِ تَعالى إذْ رَأيْتُ كُلَّ نَعْتٍ يُتَقَرَّبُ بِهِ لِلْأُلُوهِيَّةِ فِيهِ مَدْخَلٌ فَقُلْتُ: يا رَبِّ، بِماذا أتَقَرَّبُ إلَيْكَ؟ قالَ: تَقَرَّبْ إلَيَّ بِما لَيْسَ لِي. قُلْتُ: يا رَبِّ، وما الَّذِي لَيْسَ لَكَ؟ قالَ: الذِّلَّةُ والِافْتِقارُ.
وذُكِرَ أنَّ العَبْدَ مَعَ الحَقِّ في حالِ عُبُودِيَّتِهِ كالظِّلِّ مَعَ الشَّخْصِ في مُقابَلَةِ السِّراجِ كُلَّما قَرُبَ إلى السِّراجِ عَظُمَ الظِّلُّ، ولا قُرْبَ مِنَ اللَّهِ تَعالى إلّا بِما هو لَكَ وصْفٌ أخَصُّ لا لَهُ سُبْحانَهُ، وكُلَّما بَعُدَ عَنِ السِّراجِ صَغُرَ الظِّلُّ، فَإنَّهُ ما يُبْعِدُكَ عَنِ الحَقِّ إلّا خُرُوجُكَ عَنْ صِفَتِكَ الَّتِي تَسْتَحِقُّها وطَمَعُكَ في صِفَتِهِ تَعالى، كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبّارٍ، وهُما صِفَتانِ لِلَّهِ تَعالى: و﴿ذُقْ إنَّكَ أنْتَ العَزِيزُ الكَرِيمُ﴾ وهُما كَذَلِكَ وإلى هَذا أشارَ ﷺ بِقَوْلِهِ: ««أعُوذُ بِكَ مِنكَ»».
وأوَّلَ بَعْضُهُمُ اللَّيْلَ بِظُلْمَةِ الغَواشِي البَدَنِيَّةِ والتَّعَلُّقاتِ الطَّبِيعِيَّةِ وقالَ: إنَّ التَّرَقِّيَ والعُرُوجَ لا يَكُونُ إلّا بِواسِطَةِ البَدَنِ، وقَدْ صَرَّحُوا بِأنَّهُ ﷺ أُسَرِيَ بِهِ وكَذا عُرِجَ يَقَظَةً لَمْ يُفارِقْ بَدَنَهُ إلّا أنَّ العارِفَ الجامِيَّ قالَ: إنَّ ذَلِكَ إلى المُحَدَّدِ ثُمَّ أُلْقِيَ البَدَنُ هُناكَ، وقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ، وفي أسْرارِ القُرْآنِ أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أُسْرِيَ بِهِ مِن رُؤْيَةِ أفْعالِهِ إلى رُؤْيَةِ صِفاتِهِ ومِن رُؤْيَةِ صِفاتِهِ إلى رُؤْيَةِ ذاتِهِ فَرَأى الحَقَّ بِالحَقِّ وكانَتْ صُورَتُهُ رُوحَهُ ورُوحُهُ عَقْلَهُ وعَقْلُهُ قَلْبَهُ وقَلْبُهُ سِرَّهُ، وكَأنَّهُ أرادَ أنَّهُ ﷺ حَصَلَ لَهُ هَذا الإسْراءُ وإلّا فَإرادَةُ أنَّ الإسْراءَ الَّذِي في الآيَةِ هو هَذا مِمّا لا يَنْبَغِي.
ولا يَخْفى أنَّ الإسْراءَ غَيْرُ المِعْراجِ، نَعَمْ قَدْ يُطْلِقُونَ الإسْراءَ عَلى المِعْراجِ بَلْ قِيلَ: إنَّهُما إذا اجْتَمَعا افْتَرَقا، وإذا (p-51)افْتَرَقا اجْتَمَعا، وقَدْ ذَكَرُوا أنَّ لِجَمِيعِ الوارِثِينَ مِعْراجًا إلّا أنَّهُ مِعْراجُ أرْواحٍ لا أشْباحٍ وإسْراءُ أسْرارٍ لا أسْوارٍ، ورُؤْيَةُ جَنانٍ لا عِيانٍ، وسُلُوكُ ذَوْقٍ وتَحْقِيقٍ لا سُلُوكُ مَسافَةٍ وطَرِيقٍ إلى سَمَواتِ مَعْنًى لا مَغْنًى، وهَذا المِعْراجُ مُتَفاوِتٌ حَسْبَ تَفاوُتِ مَراتِبِ الرِّجالِ، وقَدْ ذَكَرَ الشَّيْخُ الأكْبَرُ قُدِّسَ سِرُّهُ في مِعْراجِهِ ما يُحَيِّرُ الألْبابَ ويَقْضِي مِنهُ العَجَبَ العُجابَ ولَمْ يُسْتَبْعَدْ ذَلِكَ مِنهُ بِناءً عَلى أنَّهُ خَتَمَ الوِلايَةَ المُحَمَّدِيَّةَ عِنْدَهُمْ، ومِن عَجائِبِ ما اتَّفَقَ في زَمانِنا أنَّ رَجُلًا يُدْعى بِعَبْدِ السَّلامِ نائِبِ القاضِي في بَغْدادَ وكانَ جَسُورًا عَلى الحُكْمِ بِالباطِلِ شَرَعَ في تَرْجَمَةِ مِعْراجِ الشَّيْخِ قُدِّسَ سِرُّهُ بِالتُّرْكِيَّةِ مَعَ شَرْحِ بَعْضِ مُغْلِقاتِهِ ولَمْ يَكُنْ مِن خَبايا هاتِيكَ الزَّوايا فَقَبْلَ أنْ يُتِمَّ مَرامَهُ ابْتُلِيَ والعِياذُ بِاللَّهِ تَعالى بِآكِلَةٍ في فَمِهِ فَأكَلَتْهُ إلى أُذُنَيْهِ فَماتَ وعُرِجَ بِرُوحِهِ إلى حَيْثُ شاءَ اللَّهُ تَعالى، نَسْألُ اللَّهَ سُبْحانَهُ العَفْوَ والعافِيَةَ في الدِّينِ والدُّنْيا والآخِرَةِ، ونُقِلَ عَنِ الشَّيْخِ قُدِّسَ سِرُّهُ أنَّ الإسْراءَ وقَعَ لَهُ ﷺ ثَلاثِينَ مَرَّةً، وفي كَلامِ الشَّيْخِ عَبْدِ الوَهّابِ الشَّعَرانِيِّ أنْ إسْراءاتِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كانَتْ أرْبَعًا وثَلاثِينَ، واحِدٌ مِنها بِجِسْمِهِ والباقِي بِرُوحِهِ، وقَدْ صَرَّحُوا أنَّ الأوَّلَ مِن خَصائِصِهِ ﷺ. وفي الخَصائِصِ الصُّغْرى وخُصَّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِالإسْراءِ وما تَضَمَّنَهُ مِن خَرْقِ السَّمَواتِ السَّبْعِ والعُلُوِّ إلى قابِ قَوْسَيْنِ ووَطْئِهِ مَكانًا ما وطِئَهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ ولا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وأنْ قَطَعَ المَسافَةَ الطَّوِيلَةَ في الزَّمَنِ القَصِيرِ مِمّا يَكُونُ كَرامَةً لِلْوَلِيِّ، والمَشْهُورُ تَسْمِيَةُ ذَلِكَ بِطَيِّ المَسافَةِ وهو مِن أعْظَمِ خَوارِقِ العاداتِ، وأنْكَرَ ثُبُوتَهُ لِلْأوْلِياءِ الحَنَفِيَّةُ، ومِنهُمُ ابْنُ وهْبانَ قالَ:
؎ومَن لِوَلِيٍّ قالَ طَيُّ مَسافَةٍ يَجُوزُ جَهُولٌ ثُمَّ بَعْضٌ يَكْفُرُ
وهَذا مِنهم مَعَ قَوْلِهِمْ: إذا وُلِدَ لِمَغْرِبِيٍّ ولَدٌ مِنَ امْرَأتِهِ المَشْرِقِيَّةِ مَثَلًا يُلْحَقُ بِهِ، وإنْ لَمْ يَلْتَقِيا ظاهِرًا غَرِيبٌ، والكُتُبُ مَلْأى مِن حِكاياتِ الثِّقاتِ هَذِهِ الكَرامَةَ لِكَثِيرٍ مِنَ الصّالِحِينَ، وكَأنَّ مُجْهِلَ قائِلِها بَنى تَجْهِيلَهُ عَلى أنَّ في ذَلِكَ قَوْلًا بِتَداخُلِ الجَواهِرِ وقَدْ أحالَهُ المُتَكَلِّمُونَ خِلافًا لِلنِّظامِ وبَرْهَنُوا عَلى اسْتِحالَتِهِ بِما لا مَزِيدَ عَلَيْهِ، وادَّعى بَعْضُهُمُ الضَّرُورَةَ في ذَلِكَ، وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ قَطْعَ المَسافَةِ الطَّوِيلَةِ في الزَّمَنِ القَصِيرِ لا يَتَوَقَّفُ عَلى تَداخُلِ الجَواهِرِ لِجَوازِ أنْ يَكُونَ بِالسُّرْعَةِ كَما قالُوا في الإسْراءِ فَلْيُثْبَتْ لِلْأوْلِياءِ عَلى هَذا النَّحْوِ عَلى أنَّ الكَراماتِ كالمُعْجِزاتِ مَجْهُولَةُ الكَيْفِيَّةِ فَنُؤْمِنُ بِما صَحَّ مِنها ونُفَوِّضُ كَيْفِيَّتَهُ إلى مَن لا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ سُبْحانَهُ وتَعالى، ومِثْلُ طَيِّ المَسافَةِ ما يَحْكُونَهُ مِن نَشْرِ الزَّمانِ وأنا مُؤْمِنٌ ولِلَّهِ تَعالى الحَمْدُ بِما يَصِحُّ نَقْلُهُ مِنَ الأمْرَيْنِ، والمُكَفِّرُ جَهُولٌ، والمُجِهِّلُ لَيْسَ بِرَسُولٍ، واللَّهُ تَعالى المُوَفِّقُ لِلصَّوابِ، وإلَيْهِ المَرْجِعُ والمَآبُ، وأُوِّلَ المَسْجِدُ الحَرامُ بِمَقامِ القَلْبِ المُحْتَرَمِ عَنْ أنْ يَطُوفَ بِهِ مُشْرِكُو القُوى البَدَنِيَّةِ ويُرْتَكَبَ فِيهِ فَواحِشُها وخَطاياها، والمَسْجِدُ الأقْصى بِمَقامِ الرُّوحِ الأبْعَدِ مِنَ العالَمِ الجِسْمانِيِّ ﴿لِنُرِيَهُ مِن آياتِنا﴾ أيْ آياتِ صِفاتِنا مِن جِهَةِ أنَّها مَنسُوبَةٌ إلَيْنا ونَحْنُ المُشاهِدُونَ بِها وإلّا فَأصْلُ مُشاهَدَةِ الصِّفاتِ في مَقامِ القَلْبِ﴿عَسى رَبُّكم أنْ يَرْحَمَكم وإنْ عُدْتُمْ عُدْنا﴾ قالَ سَهْلٌ: أيْ: إنْ عُدْتُمْ إلى المَعْصِيَةِ عُدْنا إلى المَغْفِرَةِ، وإنْ عُدْتُمْ إلى الإعْراضِ عَنّا عُدْنا إلى الإقْبالِ عَلَيْكُمْ، وإنْ عُدْتُمْ إلى الفِرارِ مِنّا عُدْنا إلى أخْذِ الطَّرِيقِ عَلَيْكم لِتَرْجِعُوا إلَيْنا.
وقالَ الوَرّاقُ: إنْ عُدْتُمْ إلى الطّاعَةِ عُدْنا إلى التَّيْسِيرِ والقَبُولِ، وقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.
﴿إنَّ هَذا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هي أقْوَمُ﴾ الآيَةَ. أيْ: إنَّ هَذا القُرْآنَ يَعْرِفُ أهْلُهُ بِنُورِهِ أقَوْمَ الطُّرُقِ إلى اللَّهِ تَعالى وهو طَرِيقُ الطّاعَةِ والِاقْتِداءِ بِمَن أُنْزِلَ عَلَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، فَإنَّهُ لا طَرِيقَ يُوصِلُ إلّا ذَلِكَ ولِلَّهِ تَعالى دَرُّ مَن قالَ:
؎وأنْتَ بابُ اللَّهِ أيُّ امْرِئٍ ∗∗∗ أتاهُ مِن غَيْرِكَ لا يَدْخُلُ
وذَكَرُوا أنَّ القُرْآنَ يُرْشِدُ بِظاهِرِهِ إلى مَعانِي باطِنِهِ وبِمَعانِي باطِنِهِ إلى نُورِ حَقِيقَتِهِ، وبِنُورِ حَقِيقَتِهِ إلى أصْلِ (p-52)الصِّفَةِ، وبِالصِّفَةِ إلى الذّاتِ فَطُوبى لِمَنِ اسْتَرْشَدَ بِالقُرْآنِ فَإنَّهُ يَدُلُّهُ عَلى اللَّهِ تَعالى، وقَدْ أحْسَنَ مَن قالَ:
؎إذا نَحْنُ أدْلَجْنا وأنْتَ أمامَنا ∗∗∗ كَفى لِمَطايانا بِنُورِكَ هادِيا
ويُبَشِّرُ أهْلَهُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَهُ أنَّ لَهم أجْرَ المُشاهَدَةِ وكَشْفِها بِلا حِجابٍ ﴿ويَدْعُ الإنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالخَيْرِ وكانَ الإنْسانُ عَجُولا﴾ فِيهِ إشارَةٌ إلى أدَبٍ مِن آدابِ الدُّعاءِ وهو عَدَمُ الِاسْتِعْجالِ فَيَنْبَغِي لِلسّالِكِ أنْ يَصْبِرَ حَتّى يَعْرِفَ ما يَلِيقُ بِحالِهِ فَيَدْعُوَ بِهِ، وقالَ سَهْلٌ: أسْلَمُ الدَّعَواتِ الذِّكْرُ وتَرْكُ الِاخْتِيارِ؛ لِأنَّ في الذِّكْرِ الكِفايَةَ، ورُبَّما يَسْألُ الإنْسانُ ما فِيهِ هَلاكُهُ ولا يَشْعُرُ، وفي الأثَرِ: «يَقُولُ اللَّهُ تَعالى شَأْنُهُ: مَن شَغَلَهُ ذِكْرى عَنْ مَسْألَتِي أُعْطِيهِ أفْضَلَ ما أُعْطِيَ السّائِلِينَ» ﴿وجَعَلْنا اللَّيْلَ﴾ أيْ لَيْلَ الكَوْنِ وظُلْمَةَ البَدَنِ ﴿والنَّهارَ﴾ أيْ: نَهارَ الإبْداعِ والرُّوحِ ﴿آيَتَيْنِ﴾ يُتَوَصَّلُ بِهِما إلى مَعْرِفَةِ الذّاتِ والصِّفاتِ ﴿فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ﴾ بِالفَسادِ والفَناءِ ﴿وجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً﴾ مُنِيرَةً باقِيَةً بِكَمالِها تُبَصِّرُ بِنُورِها الحَقائِقَ ﴿لِتَبْتَغُوا فَضْلا مِن رَبِّكُمْ﴾ وهو كَمالِكُمُ الَّذِي تَسْتَعِدُّونَهُ ﴿ولِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ والحِسابَ﴾ أيْ: لِتُحْصُوا عَدَدَ المَراتِبِ والمَقاماتِ مِن بِدايَتِكم إلى نِهايَتِكم بِالتَّرَقِّي فِيها وحِسابِ أعْمالِكم وأخْلاقِكم وأحْوالِكم فَتُبَدِّلُوا السَّيِّئَ مِن ذَلِكَ بِالحَسَنِ ﴿وكُلَّ شَيْءٍ﴾ مِنَ العُلُومِ والحِكَمِ ﴿فَصَّلْناهُ﴾ بِنُورِ عُقُولِكُمُ الفُرْقانِيَّةِ الحاصِلَةِ لَكم عِنْدَ الكَمالِ تَفْصِيلًا لا إجْمالَ فِيهِ كَما في مَرْتَبَةِ العَقْلِ القُرْآنِيِّ الحاصِلِ عِنْدَ البِدايَةِ ﴿وكُلَّ إنْسانٍ ألْزَمْناهُ طائِرَهُ في عُنُقِهِ﴾ الآيَةَ. تَقَدَّمَ ما يَصْلُحُ أنْ يَكُونَ مِن بابِ الإشارَةِ فِيها ﴿وما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولا﴾ لِلصُّوفِيَّةِ في هَذا الرَّسُولِ كَغَيْرِهِمْ قَوْلانِ، فَمِنهم مَن قالَ: إنَّهُ رَسُولُ العَقْلِ، ومِنهم مَن قالَ: رَسُولُ الشَّرْعِ.
﴿وإذا أرَدْنا أنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها﴾ الآيَةَ. فِيها إشارَةٌ إلى أنَّهُ سُبْحانَهُ إذا أرادَ أنْ يُخَرِّبَ قَلْبَ المُرِيدِ سَلَّطَ عَلَيْهِ عَساكِرَ هَوى نَفْسِهِ وجُنُودَ شَياطِينِهِ فَيُخَرِّبُ بِسَنابِكِ خُيُولِ الشَّهَواتِ وآفاتِ الطَّبْعِيّاتِ نَعُوذُ بِاللَّهِ تَعالى مِن ذَلِكَ ﴿مَن كانَ يُرِيدُ العاجِلَةَ﴾ لِكُدُورَةِ اسْتِعْدادِهِ وغَلَبَةِ هَواهُ وطَبِيعَتِهِ ﴿عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَن نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُومًا﴾ عَنْ ذَوِي العُقُولِ ﴿مَدْحُورًا﴾ في سَخَطِ اللَّهِ تَعالى وقَهْرِهِ ﴿ومَن أرادَ الآخِرَةَ﴾ لِصَفاءِ اسْتِعْدادِهِ وسَلامَةِ فِطْرَتِهِ ﴿وسَعى لَها سَعْيَها﴾ اللّائِقَ بِها وهو السَّعْيُ عَلى سَبِيلِ الِاسْتِقامَةِ وما تَرْتَضِيهِ الشَّرِيعَةُ، وقالَ بَعْضُهُمْ: السَّعْيُ إلى الدُّنْيا بِالأبْدانِ، والسَّعْيُ إلى الآخِرَةِ بِالقُلُوبِ، والسَّعْيُ عَلى اللَّهِ تَعالى بِالهِمَمِ ﴿وهُوَ مُؤْمِنٌ﴾ ثابِتُ الإيمانِ لا تَزَعْزُعُهُ عَواصِفُ الشُّبَهِ ﴿فَأُولَئِكَ كانَ سَعْيُهم مَشْكُورًا﴾ مَقْبُولًا مُثابًا عَلَيْهِ، وعَنْ أبِي حَفْصٍ أنَّ السَّعْيَ المَشْكُورَ ما لَمْ يَكُنْ مَشُوبًا بِرِياءٍ ولا بِسُمْعَةٍ ولا بِرُؤْيَةِ نَفْسٍ ولا بِطَلَبِ عِوَضٍ بَلْ يَكُونُ خالِصًا لِوَجْهِهِ تَعالى لا يُشارِكُهُ في ذَلِكَ شَيْءٌ فَلا تَغْفُلْ ﴿كُلا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وهَؤُلاءِ مِن عَطاءِ رَبِّكَ﴾ لا تَأْثِيرَ لِإرادَتِهِمْ وسَعْيِهِمْ في ذَلِكَ، وإنَّما هي مُعَرَّفاتٌ وعَلاماتٌ لِما قَدَّرْنا لَهم مِنَ العَطاءِ، ورَأيْتُ في الفُتُوحاتِ المَكِّيَّةِ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَحْوَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَألْهَمَها فُجُورَها وتَقْواها﴾ وهو نَحْوَ ما تَقَدَّمَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما وقَدْ سَمِعْتُ ما فِيهِ ﴿وما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾ عَنْ أحَدٍ مُطِيعًا كانَ أوْ عاصِيًا؛ لِأنَّ شَأْنَهُ تَعالى شَأْنُهُ الإفاضَةُ حَسْبَما تَقْتَضِيهِ الحِكْمَةُ ﴿انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهم عَلى بَعْضٍ﴾ في الدُّنْيا بِمُقْتَضى المَشِيئَةِ والحِكْمَةِ ﴿ولَلآخِرَةُ أكْبَرُ دَرَجاتٍ وأكْبَرُ تَفْضِيلا﴾ فَهُناكَ ما لا عَيْنٌ رَأتْ ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ عَلى قَلْبِ بَشَرٍ، رَزَقَنا اللَّهُ تَعالى وإيّاكم ذَلِكَ، إنَّهُ سُبْحانَهُ الجَوادُ المالِكُ.
{"ayah":"ٱنظُرۡ كَیۡفَ فَضَّلۡنَا بَعۡضَهُمۡ عَلَىٰ بَعۡضࣲۚ وَلَلۡـَٔاخِرَةُ أَكۡبَرُ دَرَجَـٰتࣲ وَأَكۡبَرُ تَفۡضِیلࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق