الباحث القرآني

﴿ولا تَكُونُوا﴾ فِيما تَصْنَعُونَ مِنَ النَّقْضِ ﴿كالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها﴾ مَصْدَرٌ بِمَعْنى المَفْعُولِ أيْ مَغْزُولَها، والفِعْلُ مِنهُ غَزَلَ يَغْزِلُ بِكَسْرِ الزّايِ، والنَّقْضُ ضِدُّ الإبْراءِ، وهو في الجُرْمِ فَكُّ أجْزائِهِ بَعْضِها مِن بَعْضٍ، وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿مِن بَعْدِ قُوَّةٍ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِنَقَضَتْ عَلى أنَّهُ ظَرْفٌ لَهُ لا حالٌ ومِن- زائِدَةٌ مُطَّرِدَةٌ في مِثْلِهِ أيْ كالمَرْأةِ الَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِن بَعْدِ إبْرامِهِ وإحْكامِهِ. ﴿أنْكاثًا﴾ جَمْعُ نِكْثٍ بِكَسْرِ النُّونِ وهو ما يَنْكُثُ فَتْلُهُ وانْتِصابُهُ قِيلَ عَلى إنَّهُ حالٌ مُؤَكَّدَةٌ مِن ﴿غَزْلَها﴾ وقِيلَ: عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ ثانٍ لِنَقَضَ لِتَضَمُّنِهِ مَعْنى جَعَلَ، وجَوَّزَ الزَّجّاجُ كَوْنَ النَّصْبِ عَلى المَصْدَرِيَّةِ لِأنَّ ﴿نَقَضَتْ﴾ بِمَعْنى نَكَثَتْ فَهو مُلاقٍ لِعامِلِهِ في المَعْنى. وقالَ في الكَشْفِ: إنَّ جَعْلَهُ مَفْعُولًا عَلى التَّضْمِينِ أوْلى مِن جَعْلِهِ حالًا أوْ مَصْدَرًا، وفي الإتْيانِ بِهِ مَجْمُوعًا مُبالَغَةٌ وكَذَلِكَ في حَذْفِ المَوْصُوفَةِ لِيَدُلَّ عَلى الخَرْقاءِ الحَمْقاءِ وما أشْبَهَ ذَلِكَ، وفي الكَشّافِ ما يُشِيرُ إلى اعْتِبارِ التَّضْمِينِ حَيْثُ قالَ: أيْ لا تَكُونُوا كالمَرْأةِ الَّتِي أنْحَتْ عَلى غَزْلِها بَعْدَ أنْ أحْكَمَتْهُ فَجَعَلَتْهُ أنْكاثًا، وفي قَوْلِهِ: أنْحَتْ- عَلى ما قالَ القُطْبُ- إشارَةٌ إلى أنَّ ﴿نَقَضَتْ﴾ مَجازٌ عَنْ أرادَتِ النَّقْضَ عَلى حَدِّ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إذا قُمْتُمْ إلى الصَّلاةِ﴾ وذُكِرَ أنَّهُ فُسِّرَ بِذَلِكَ جَمْعًا بَيْنَ القَصْدِ والفِعْلِ لِيَدُلَّ عَلى حَماقَتِها واسْتِحْقاقِها اللَّوْمَ بِذَلِكَ فَإنَّ نَقْضَها لَوْ كانَ مِن غَيْرِ قَصْدٍ لَمْ تَسْتَحِقَّ ذَلِكَ ولِأنَّ التَّشْبِيهَ كُلَّما كانَ أكْثَرَ تَفْصِيلًا كانَ أحْسَنَ، ولا يَخْفى ما في اعْتِبارِ التَّضْمِينِ وهَذا المَجازُ مِنَ التَّكَلُّفِ وكَأنَّهُ لِهَذا قِيلَ: إنَّ اعْتِبارَ القَصْدِ لِأنَّ المُتَبادِرَ مِنَ الفِعْلِ الِاخْتِيارِيِّ وفي الكَشْفِ خَرَجَ ذَلِكَ المَعْنى مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿مِن بَعْدِ قُوَّةٍ﴾ فَإنَّ نَقْضَ المُبْرَمِ لا يَكُونُ إلّا بَعْدَ إنْحاءٍ بالِغٍ وقَصْدٍ تامٍّ ولَمْ يُرِدْ بِالمَوْصُولِ امْرَأةً بِعَيْنِها بَلِ المُرادُ مِن هَذِهِ صِفَتُهُ فَفي الآيَةِ حالُ النّاقِضِ بِحالِ النّاقِضِ في أخَسِّ أحْوالِهِ تَحْذِيرًا مِنهُ وإنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِن فِعْلِ العُقَلاءِ وصاحِبُهُ داخِلٌ في عِدادِ حَمْقى النِّساءِ، وقِيلَ: المُرادُ امْرَأةٌ مَعْلُومَةٌ عِنْدَ المُخاطَبِينَ كانَتْ تَغْزِلُ فَإذا بَرَمَتْ غَزْلَها تَنْقُضُهُ وكانَتْ تُسَمّى خَرْقاءَ مَكَّةَ، قالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: كانَ اسْمُها رَبْطَةَ بِنْتَ عَمْرٍو المِرْيَةَ تُلَقَّبُ الحَفْراءَ، وقالَ الكَلْبِيُّ ومُقاتِلٌ: هي امْرَأةٌ مِن قُرَيْشٍ اسْمُها رَبْطَةُ بِنْتُ سَعْدٍ التَّيْمِيِّ اتَّخَذَتْ (p-222)مِغْزَلًا قَدْرَ ذِراعٍ وصِنّارَةً مِثْلَ أُصْبُعٍ وفَلَكَةً عَظِيمَةً عَلى قَدْرِها فَكانَتْ تَغْزِلُ هي وجِوارُها مِنَ الغَداةِ إلى الظُّهْرِ ثُمَّ تَأْمُرُهُنَّ فَيَنْقُضْنَ ما غَزَلْنَ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ أبِي بَكْرِ بْنِ حَفْصٍ قالَ: كانَتْ سَعِيدَةُ الأسَدِيَّةُ مَجْنُونَةً تَجْمَعُ الشَّعْرَ واللِّيفَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ﴿ولا تَكُونُوا كالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها﴾ ورَوى ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَطاءٍ «أنَّها شَكَتْ جُنُونَها إلى رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ وطَلَبَتْ أنْ يَدْعُوَ لَها بِالمُعافاةِ فَقالَ لَها عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «إنْ شِئْتِ دَعَوْتُ فَعافاكِ اللَّهُ تَعالى وإنْ شِئْتِ صَبَرْتِ واحْتَسَبْتِ ولَكِ الجَنَّةُ» فاخْتارَتِ الصَّبْرَ والجَنَّةَ». وذَكَرَ عَطاءٌ أنَّ ابْنَ عَبّاسٍ أراهُ إيّاها، وعَنْ مُجاهِدٍ هَذا فِعْلُ نِساءِ نَجْدٍ تَنْقُضُ إحْداهُنَّ غَزْلَها ثُمَّ تَنْفُشُهُ فَتَغْزِلُهُ بِالصُّوفِ، وإلى عَدَمِ التَّعْيِينِ ذَهَبَ قَتادَةُ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ ﴿تَتَّخِذُونَ أيْمانَكم دَخَلا بَيْنَكُمْ﴾ حالٌ مِنَ الضَّمِيرِ في ( لا تَكُونُوا ) أوْ في الجارِّ والمَجْرُورِ الواقِعِ مَوْقِعَ الخَبَرِ. وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ خَبَرُ تَكُونُوا و﴿كالَّتِي﴾ نَقَضَتْ في مَوْضِعِ الحالِ وهو خِلافُ الظّاهِرِ، وقالَ الإمامُ: الجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ عَلى سَبِيلِ الِاسْتِفْهامِ الإنْكارِيِّ أنْ أتَتَّخِذُونَ، والدَّخَلُ في الأصْلِ ما يَدْخُلُ الشَّيْءَ ولَمْ يَكُنْ مِنهُ ثُمَّ كُنِّيَ بِهِ عَنِ الفَسادِ والعَداوَةِ المُسْتَبْطِنَةِ كالدَّغَلِ، وفَسَّرَهُ قَتادَةُ بِالغَدْرِ والخِيانَةِ، ونَصْبُهُ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ ثانٍ، وقِيلَ: عَلى المَفْعُولِيَّةِ مِن أجْلِهِ، وفائِدَةُ وُقُوعِ الجُمْلَةِ حالًا الإشارَةُ إلى وجْهِ الشَّبَهِ أيْ لا تَكُونُوا مُشَبَّهِينَ بِامْرَأةٍ هَذا شَأْنُها مُتَّخِذِينَ أيْمانَكم وسِيلَةً لِلْغَدْرِ والفَسادِ بَيْنَكم ﴿أنْ تَكُونَ أُمَّةٌ﴾ أيْ بِأنْ تَكُونَ جَماعَةٌ ﴿هِيَ أرْبى﴾ أيْ أزْيَدَ عَدَدًا وأوْفَرَ مالًا ﴿مِن أُمَّةٍ﴾ أيْ مِن جَماعَةٍ أُخْرى، والمَعْنى لا تَغْدِرُوا بِقَوْمٍ بِسَبَبِ كَثْرَتِهِمْ وقِلَّتِهِمْ بَلْ حافِظُوا عَلى أيْمانِكم مَعَهُمْ، وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ. وابْنُ المُنْذِرِ وغَيْرُهُما عَنْ مُجاهِدٍ أنَّهُ قالَ: كانُوا يُحالِفُونَ الحُلَفاءَ فَيَجِدُونَ أكْثَرَ مِنهم وأعَزَّ فَيَنْقُضُونَ حَلِفَهم ويُحالِفُونَ الَّذِينَ هم أعَزُّ فَنُهُوا عَنْ ذَلِكَ لا تَغْدِرُوا بِجَماعَةٍ بِسَبَبِ أنْ تَكُونَ جَماعَةٌ أُخْرى أكْثَرَ مِنها وأعَزَّ بَلْ عَلَيْكُمُ الوَفاءَ بِالأيْمانِ والمُحافَظَةَ عَلَيْها وإنَّ قَلَّ مَن خَلَّفْتُمْ لَهُ وكَثُرَ الآخَرُ وجُوِّزَ في «تَكُونَ» أنْ تَكُونَ تامَّةً وناقِصَةً وفِي- هِيَ- أنْ يَكُونَ مُبْتَدَأً وعِمادًا «فَأرْبى» إمّا مَرْفُوعٌ أوْ مَنصُوبٌ وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ البَصْرِيِّينَ لا يُجَوِّزُونَ كَوْنَ ( هي ) عِمادَ التَّنْكِيرِ ( أُمَّةٌ ) . وزَعَمَ بَعْضُ الشِّيعَةِ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ قَدْ حُرِّفَتْ وأصْلُها أنْ تَكُونَ أئِمَّةٌ هي أزْكى مِن أئِمَّتِكم ولَعَمْرِي قَدْ ضَلُّوا سَواءَ السَّبِيلِ ﴿إنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ﴾ الضَّمِيرُ المَجْرُورُ عائِدٌ إمّا عَلى المَصْدَرِ المُنْسَبِكِ مِن ( أنْ تَكُونَ ) أوْ عَلى المَصْدَرِ المُنْفَهَمِ مِن ﴿أرْبى﴾ وهو الرَّبْوُ بِمَعْنى الزِّيادَةِ، وقَوْلُ ابْنِ جُبَيْرٍ وابْنِ السّائِبِ ومُقاتِلٍ يَعْنِي بِالكَثْرَةِ مُرادُهم مِنهُ هَذا واكْتَفَوْا بِبَيانِ حاصِلِ المَعْنى، وظَنَّ ابْنُ الأنْبارِيِّ أنَّهم أرادُوا أنَّ الضَّمِيرَ راجِعٌ إلى نَفْسِ الكَثْرَةِ لَكِنْ لَمّا كانَ تَأْنِيثُها غَيْرَ حَقِيقِيٍّ صَحَّ التَّذْكِيرُ وهو كَما تَرى، وقِيلَ: إنَّهُ لِأرْبى لِتَأْوِيلِهِ بِالكَثِيرِ، وقِيلَ لِلْأمْرِ بِالوَفاءِ المَدْلُولِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعالى- وأوْفُوا- إلَخْ ولا حاجَةَ إلى جَعْلِهِ مُنْفَهِمًا مِنَ النَّهْيِ عَنِ الغَدْرِ بِالعَهْدِ واخْتارَ بَعْضُهُمُ الأوَّلَ لِأنَّهُ أسْرَعُ تَبادُرًا أيْ يُعامِلُكم مُعامَلَةَ المُخْتَبَرِ بِذَلِكَ الكَوْنِ لِيَنْظُرَ أتَتَمَسَّكُونَ بِحَبَلِ الوَفاءِ بِعَهْدِ اللَّهِ تَعالى وبَيْعَةِ رَسُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أمْ تَغْتَرُّونَ بِكَثْرَةِ قُرَيْشٍ وشَوْكَتِهِمْ وقِلَّةِ المُؤْمِنِينَ وضَعْفِهِمْ بِحَسَبِ ظاهِرِ الحالِ ﴿ولَيُبَيِّنَنَّ لَكم يَوْمَ القِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ فَيُجازِيكم بِأعْمالِكم ثَوابًا وعِقابًا
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب