الباحث القرآني

﴿واللَّهُ أخْرَجَكم مِن بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ﴾ عَطْفٌ عَلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿واللَّهُ جَعَلَ لَكم مِن أنْفُسِكم أزْواجًا﴾ [النَّحْلِ: 72] (p-200)مُنْتَظِمٌ مَعَهُ في سَلْكِ أدِلَّةِ التَّوْحِيدِ، ويُفْهَمُ مِن قَوْلِ العَلّامَةِ الطَّيِّبِيِّ أنَّهُ تَعالى عَقَّبَ قَوْلَهُ سُبْحانَهُ: ﴿إنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ بِقَوْلِهِ جَلَّ وعَلا: ﴿واللَّهُ أخْرَجَكُمْ﴾ إلَخْ مَعْطُوفًا بِالواوِ إيذانًا بِأنَّ مَقْدُوراتِهِ تَعالى لا نِهايَةَ لَها والمَذْكُورُ بَعْضٌ مِنها أنَّ العَطْفَ عَلى قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ( إنَّ اللَّهَ ) إلَخْ، والَّذِي تَنْبَسِطُ لَهُ النَّفْسُ هو الأوَّلُ. والأُمَّهاتُ بِضَمِّ الهَمْزَةِ وفَتْحِ الهَمْزَةِ جَمْعُ أُمٍّ والهاءُ فِيهِ مَزِيدَةٌ وكَثُرَ زِيادَتُها فِيهِ ووَرَدَ بِدُونِها، والمَعْنى في الحالَيْنِ واحِدٌ، وقِيلَ: ذُو الزِّيادَةِ لِلْأناسِيِّ والعارِي عَنْها لِلْبَهائِمِ، ووَزْنُ المُفْرَدِ فُعْلٌ لِقَوْلِهِمُ الأُمُومَةُ، وجاءَ بِالهاءِ كَقَوْلِ قَصِيِّ بْنِ كِلابٍ عَلَيْهِما الرَّحْمَةُ: أُمَّهْتِي خِنْدَفُ وإلْياسُ أبِي وهو قَلِيلٌ، وأقَلُّ مِن ذَلِكَ زِيادَةُ الهاءِ في الفِعْلِ كَما قِيلَ في أهْراقَ، وفِيهِ بَحْثٌ فارْجِعْ إلى الصِّحاحِ وغَيْرِهِ. وقَرَأ حَمْزَةُ بِكَسْرِ الهَمْزَةِ والمِيمِ هُنا، وفي الزُّمُرِ، والنَّجْمِ. والرُّومِ، والكِسائِيُّ بِكَسْرِ المِيمِ فِيهِنَّ والأعْمَشُ بِحَذْفِ الهَمْزَةِ وكَسْرِ المِيمِ، وابْنُ أبِي لَيْلى بِحَذْفِها وفَتْحِ المِيمِ، قالَ أبُو حاتِمٍ: حَذْفُ الهَمْزَةِ رَدِيءٌ ولَكِنَّ قِراءَةَ ابْنِ أبِي لَيْلى أصْوَبُ، وكانَتْ كَذَلِكَ عَلى ما في البَحْرِ لِأنَّ كَسْرَ المِيمِ إنَّما هو لِإتْباعِها حَرَكَةَ الهَمْزَةِ فَإذا كانَتِ الهَمْزَةُ مَحْذُوفَةً زالَ الإتْباعُ بِخِلافِ قِراءَةِ ابْنِ أبِي لَيْلى فَإنَّهُ أقَرَّ المِيمَ عَلى حَرَكَتِها ﴿لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا﴾ في مَوْضِعِ الحالِ (وشَيْئًا) مَنصُوبٌ عَلى المَصْدَرِيَّةِ أوْ مَفْعُولُ ( تَعْلَمُونَ )، والنَّفْيُ مُنْصَبٌّ عَلَيْهِ، والعِلْمُ بِمَعْنى المَعْرِفَةِ أيْ غَيْرَ عارِفِينَ شَيْئًا أصْلًا مِن حَقِّ المُنْعِمِ وغَيْرِهِ، وقِيلَ: شَيْئًا مِن مَنافِعِكُمْ، وقِيلَ: مِمّا قَضى عَلَيْكم مِنَ السَّعادَةِ أوِ الشَّقاوَةِ، وقِيلَ: مِمّا أخَذَ عَلَيْكم مِنَ المِيثاقِ في أصْلابِ آبائِكُمْ، والظّاهِرُ العُمُومُ ولا داعِيَ إلى التَّخْصِيصِ. وعَنْ وهْبٍ يُولَدُ المَوْلُودُ خَدِرًا إلى سَبْعَةِ أيّامٍ لا يُدْرِكُ راحَةً ولا ألَمًا. وادَّعى بَعْضُهم أنَّ النَّفْسَ لا تَخْلُو في مَبْدَأِ الفِطْرَةِ عَنِ العِلْمِ الحُضُورِيِّ وهو عِلْمُها بِنَفْسِها إذِ المُجَرَّدُ لا يَغِيبُ عَنْ ذاتِهِ أصْلًا، فَقَدْ قالَ الشَّيْخُ في بَعْضِ تَعْلِيقاتِهِ عِنْدَ إثْباتِ تَجَرُّدِ النَّفْسِ: إنَّكَ لا تَغْفُلُ عَنْ ذاتِكَ أصْلًا في حالٍ مِنَ الأحْوالِ ولَوْ في حالِ النَّوْمِ والسُّكْرِ، ولَوْ جُوِّزَ أنْ يَغْفُلَ عَنْ ذاتِهِ في بَعْضِ الأحْوالِ حَتّى لا يَكُونَ بَيْنَهُ وبَيْنَ الجَمادِ في هَذِهِ الحالَةِ فَرْقٌ فَلا يُجْدِي هَذا البُرْهانُ مَعَهُ، وقالَ بَهْمَنيارُ في التَّحْصِيلِ في فَصْلِ العَقْلِ والمَعْقُولِ: ثُمَّ إنَّ النَّفْسَ الإنْسانِيَّةَ تَشْعُرُ بِذاتِها فَيَجِبُ أنْ يَكُونَ وُجُودُها عَقْلِيًّا فَيَكُونُ نَفْسُ وُجُودِها نَفْسَ إدْراكِها ولِهَذا لا تَعْزُبُ عَنْ ذاتِها البَتَّةَ، ومِثْلُهُ في الشِّفاءِ، وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ عَدَمَ الخُلُوِّ مَبْنِيٌّ عَلى مُقَدِّماتٍ خَفِيَّةٍ كَتَجَرُّدِ النَّفْسِ الَّذِي أنْكَرَهُ الطَّبِيعِيُّونَ عَنْ آخِرِهِمْ وإنَّ كُلَّ مُجَرَّدٍ عالَمٌ ولا يَتِمُّ البُرْهانُ عَلَيْهِ، وأيْضًا ما نُقِلَ مِن أنَّ عِلْمَ النَّفْسِ بِذاتِها عَيْنُ ذاتِها لا يُنافِي أنْ يَكُونَ لِكَوْنِ الذّاتِ عِلْمًا بِها شَرْطٌ فَما لَمْ يَتَحَقَّقْ ذَلِكَ الشَّرْطُ لَمْ تَكُنِ الذّاتُ عِلْمًا بِها كَما أنَّ لِكَوْنِ المَبْدَأِ الفَيّاضِ خِزانَةً لِمَعْقُولاتِ زَيْدٍ مَثَلًا شَرْطًا إذا تَحَقَّقَ تَحَقَّقَ وإلّا فَلا، ويُؤَيِّدُ ذَلِكَ أنَّ عِلْمَ النَّفْسِ بِصِفاتِها أيْضًا نَفْسُ صِفاتِها عِنْدَهم ومَعَ ذَلِكَ يَجُوزُ الغَفْلَةُ عَنِ الصِّفَةِ في بَعْضِ الأحْيانِ كَما لا يَخْفى. وأيْضًا إذا قُلْنا: إنَّ حَقِيقَةَ الذّاتِ غَيْرُ غائِبَةٍ عَنْها، وقُلْنا: إنَّ ذَلِكَ عِلْمٌ بِها يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ حَقِيقَةُ النَّفْسِ المُجَرَّدَةِ مَعْلُومَةً لِكُلِّ أحَدٍ ومِنِ البَيِّنِ أنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، عَلى أنَّ المُحَقِّقَ الطَّوْسِيُّ قَدْ مَنَعَ قَوْلَهُمْ: إنَّكَ لا تَغْفُلُ عَنْ ذاتِكَ أبَدًا، وقالَ: إنَّ المُغْمى عَلَيْهِ رُبَّما غَفَلَ عَنْ ذاتِهِ في وقْتِ الإغْماءِ، ومِثْلُهُ كَثِيرٌ مِنَ الأمْراضِ النَّفْسانِيَّةِ، ومِنَ العَجائِبِ أنَّ بَعْضَ الأجِلَّةِ ذَكَرَ أنَّ المُرادَ بِخُلُوِّها في مَبْدَأِ الفِطْرَةِ خُلُوُّها حالَ تَعَلُّقِها بِالبَدَنِ، وقالَ: إنَّهُ لا يُنافِي (p-201)ذَلِكَ ما قالَهُ الشَّيْخُ مِن أنَّ الطِّفْلَ يَتَعَلَّقُ بِالثَّدْيِ حالَ التَّوَلُّدِ بِإلْهامٍ فِطْرِيٍّ لِأنَّ حالَ التَّعَلُّقِ سابِقٌ عَلى ذَلِكَ وذَلِكَ بَعْدَ أنْ ذَكَرَ أنَّ الخُلُوَّ في مَبْدَأِ الفِطْرَةِ إنَّما يَظْهَرُ لِذَوِي الحَدْسِ بِمُلاحَظَةِ حالِ الطِّفْلِ وتَجارِبِ أحْوالِهِ ووَجْهُ العَجَبِ ظاهِرٌ فافْهَمْ ولا تَغْفُلْ. وتَفْسِيرُ العِلْمِ بِالمَعْرِفَةِ مِمّا ذَهَبَ إلَيْهِ غَيْرُ واحِدٍ، وفي أمالِي العِزِّ لا يَجُوزُ أنْ يُجْعَلَ باقِيًا عَلى بابِهِ ويَكُونُ (شَيْئًا) مَصْدَرًا أيْ لا تَعْلَمُونَ عِلْمًا لِوَجْهَيْنِ. الأوَّلُ أنَّهُ يَلْزَمُ حَذْفُ المَفْعُولَيْنِ وهو خِلافُ الأصْلِ. الثّانِي أنَّهُ لَوْ كانَ باقِيًا عَلى بابِهِ لَكانَ النّاسُ يَعْلَمُونَ المُبْتَدَأ الَّذِي هو أحَدُ المَفْعُولَيْنِ قَبْلَ الخُرُوجِ مِنَ البُطُونِ وهو مُحالٌ لِاسْتِحالَةِ العِلْمِ عَلى مَن لَمْ يُولَدْ، بَيانُ ذَلِكَ أنّا إذا قُلْنا: عَلِمْتُ زَيْدًا مُقِيمًا يَجِبُ أنْ يَكُونَ العِلْمُ بِزَيْدٍ مُتَقَدِّمًا قَبْلَ هَذا العِلْمِ وهَذا العِلْمُ إنَّما يَتَعَلَّقُ بِإقامَتِهِ، وكَذَلِكَ إذا قُلْتَ: ما عَلِمْتُ زَيْدًا مُقِيمًا فالَّذِي لَمْ يُعْلَمْ هو إقامَةُ زَيْدٍ وأمّا هو فَمَعْلُومٌ وذَلِكَ مُسْتَفادٌ مِن جِهَةِ الوَضْعِ فَحَيْثُ أُثْبِتَ العِلْمُ أوْ نُفِيَ فَلا بُدَّ أنْ يَكُونَ الأوَّلُ مَعْلُومًا فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُ العِلْمِ عَلى المَعْرِفَةِ اه. ويُعْلَمُ مِنهُ عَدَمُ اسْتِقامَةِ جَعْلِ العِلْمِ عَلى بابِهِ، (وشَيْئًا) مَفْعُولُهُ الأوَّلُ والمَفْعُولُ الثّانِي مَحْذُوفٌ. وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ والأبْصارَ والأفْئِدَةَ﴾ يَحْتِمَلُ أنْ يَكُونَ جُمْلَةً ابْتِدائِيَّةً ويَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلى الجُمْلَةِ الواقِعَةِ خَبَرًا والواوُ لا تَقْتَضِي التَّرْتِيبَ، ونُكْتَةُ تَأْخِيرِهِ أنَّ السَّمْعَ ونَحْوَهُ مِن آلاتِ الإدْراكِ إنَّما يُعْتَدُّ بِهِ إذا أُحِسَّ وأُدْرِكَ وذَلِكَ بَعْدَ الإخْراجِ، وجَعَلَ إنْ تَعَدّى لِواحِدٍ بِأنْ كانَ بِمَعْنى خَلَقَ- لَكُمْ- مُتَعَلِّقٌ بِهِ وإنْ تَعَدّى لِاثْنَيْنِ بِأنْ كانَ بِمَعْنى صَيَّرَ فَهو مَفْعُولُهُ الثّانِي، وتَقْدِيمُ الجارِّ والمَجْرُورِ عَلى المَنصُوباتِ لِما مَرَّ غَيْرُ مَرَّةٍ. والمَعْنى جَعَلَ لَكم هَذِهِ الأشْياءَ آلاتٍ تُحَصِّلُونَ بِها العِلْمَ والمَعْرِفَةَ بِأنْ تُحِسُّوا بِمَشاعِرِكم جُزْئِيّاتِ الأشْياءِ وتُدْرِكُوها بِأفْئِدَتِكم وتَنْتَبِهُوا لِما بَيْنَها مِنَ المُشارَكاتِ والمُبايَناتِ بِتَكْرِيرِ الإحْساسِ فَيَحْصُلُ لَكم عُلُومٌ بَدِيهِيَّةٌ تَتَمَكَّنُونَ بِالنَّظَرِ فِيها مِن تَحْصِيلِ العُلُومِ الكَسْبِيَّةِ، وهَذا خُلاصَةُ ما ذَكَرَهُ الإمامُ في هَذا المَقامِ ومُسْتَمَدُّ ما ذَهَبَ إلَيْهِ الكَثِيرُ مِنَ الحُكَماءِ مِن أنَّ النَّفْسَ في أوَّلِ أمْرِها خالِيَةٌ عَنِ العُلُومِ فَإذا اسْتَعْمَلَتِ الحَواسَّ الظّاهِرَةَ أدْرَكَتْ بِالقُوَّةِ الوَهْمِيَّةِ أُمُورًا جُزْئِيَّةً بِمُشارَكاتٍ ومُبايَناتٍ جُزْئِيَّةٍ بَيْنَها فاسْتَعَدَّتْ لِأنْ يُفِيدَ عَلَيْها المَبْدَأُ الفَيّاضُ المُشارَكاتِ الكُلِّيَّةَ، ويُثْبِتُونَ لِلنَّفْسِ أرْبَعَ مَراتِبَ. مَرْتَبَةُ العَقْلِ الهُيُولانِيِّ. ومَرْتَبَةُ العَقْلِ بِالمَلَكَةِ. ومَرْتَبَةُ العَقْلِ بِالفِعْلِ ومَرْتَبَةُ العَقْلِ المُسْتَفادِ، ويَزْعُمُونَ أنَّ النَّفْسَ لا تُدْرِكُ الجُزْئِيَّ المادِّيَّ، ولَهم في هَذا المَقامِ كَلامٌ طَوِيلٌ وبَحْثٌ عَرِيضٌ. وأهْلُ السُّنَّةِ يَقُولُونَ: إنَّ النَّفْسَ تُدْرِكُ الكُلِّيَّ والجُزْئِيَّ مُطْلَقًا بِاسْتِعْمالِ المَشاعِرِ وبِدُونِهِ كَما فُصِّلَ في مَحَلِّهِ، وتَحْقِيقُ هَذا المَطْلَبِ بِما لَهُ وما عَلَيْهِ يَحْتاجُ إلى بَسْطٍ كَثِيرٍ، وقَدْ عُرِضَ والمُسْتَعانُ بِالحَيِّ القَيُّومِ جَلَّ جَلالُهُ وعَمَّ نَوالُهُ مِنَ الحَوادِثِ المُوجِبَةِ لِاخْتِلالِ أمْرِ الخاصَّةِ والعامَّةِ ما شَوَّشَ ذِهْنِي وحالَ بَيْنَ تَحْقِيقِ ذَلِكَ وبَيْنِي، أسْألُ اللَّهَ سُبْحانَهُ أنْ يَمُنَّ عَلَيْنا بِما يَسُرُّ الفُؤادَ ويُيَسِّرُ لَنا ما يَكُونُ عَوْنًا عَلى تَحْصِيلِ المُرادِ وبِالجُمْلَةِ المَأْثُورُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما في هَذِهِ الآيَةِ أنَّهُ قالَ: يُرِيدُ سُبْحانَهُ أنَّهُ جَعَلَ لَكم ذَلِكَ لِتَسْمَعُوا مَواعِظَ اللَّهِ تَعالى وتُبْصِرُوا ما أنْعَمَ اللَّهُ تَعالى بِهِ عَلَيْكم مِن إخْراجِكم مِن بُطُونِ أُمَّهاتِكم إلى أنْ صِرْتُمْ رِجالًا وتَعْقِلُوا عَظَمَتَهُ سُبْحانَهُ. وقِيلَ المَعْنى جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ لِتَسْمَعُوا بِهِ نُصُوصَ الكِتابِ والسَّنَةِ الَّتِي هي دَلائِلُ سَمْعِيَّةٌ لِتَسْتَدِلُّوا بِها عَلى ما يُصْلِحُكم في أمْرِ دِينِكُمْ، والأبْصارَ لِتُبْصِرُوا بِها عَجائِبَ مَصْنُوعاتِهِ تَعالى وغَرائِبَ مَخْلُوقاتِهِ سُبْحانَهُ فَتَسْتَدِلُّوا بِها عَلى وحْدانِيَّتِهِ (p-202)جَلَّ وعَلا، والأفْئِدَةَ لِتَعْقِلُوا بِها مَعانِيَ الأشْياءِ الَّتِي جَعَلَها سُبْحانَهُ دَلائِلَ لَكُمْ، والسَّمْعُ والأبْصارُ عَلى هَذَيْنِ القَوْلَيْنِ عَلى ظاهِرِهِما ولَمْ نَرَ مَن جَوَّزَ إخْراجَهُما عَنْ ذَلِكَ. وجُوِّزَ أنْ يُرادَ بِهِما الحَواسُّ الظّاهِرَةُ عَلى الأوَّلِ، والأفْئِدَةُ جَمْعُ فُؤادٍ وهو وسَطُ القَلْبِ وهو مِنَ القَلْبِ كالقَلْبِ مِنَ الصَّدْرِ، وهَذا الجَمْعُ عَلى ما في الكَشّافِ مِن جُمُوعِ القِلَّةِ الجارِيَةِ مَجْرى جُمُوعِ الكَثْرَةِ والقِلَّةِ إذا لَمْ يَرِدْ في السَّماعِ غَيْرُهُما كَما جاءَ شُسُوعٌ في جَمْعِ شِسْعٍ لا غَيْرَ فَجَرى ذَلِكَ المَجْرى، وقالَ الزَّجّاجُ: لَمْ يُجْمَعْ فُؤادٌ عَلى أكْثَرِ العَدَدِ ورُبَّما قِيلَ: أفْئِدَةٌ وفِئْدانُ كَما قِيلَ: أغْرِبَةٌ وغِرْبانُ في جَمْعِ غُرابٍ، وفي التَّفْسِيرِ الكَبِيرِ لَعَلَّ الفُؤادَ إنَّما جُمِعَ عَلى بِناءِ القِلَّةِ تَنْبِيهًا عَلى أنَّ السَّمْعَ والبَصَرَ كَثِيرٌ وأمّا الفُؤادُ فَقَلِيلٌ لِأنَّهُ إنَّما خُلِقَ لِلْمَعارِفِ الحَقِيقِيَّةِ والعُلُومِ اليَقِينِيَّةِ وأكْثَرُ الخَلْقِ لَيْسَ لَهم ذَلِكَ بَلْ يَكُونُونَ مُشْتَغِلِينَ بِالأفْعالِ البَهِيمِيَّةِ والصِّفاتِ السَّبْعِيَّةِ فَكَأنَّ فُؤادَهم لَيْسَ بِفُؤادٍ فَلِذا ذُكِرَ في جَمْعِهِ جَمْعُ القِلَّةِ اه، ويَرُدُّ عَلَيْهِ الأبْصارُ فَإنَّهُ جَمْعُ قِلَّةٍ أيْضًا. وفي البَحْرِ بَعْدَ نَقْلِهِ أنَّهُ قَوْلٌ هَذَيانِيٌّ ولَوْلا جَلالَةُ قائِلِهِ لَمْ نُسَطِّرْهُ في الكُتُبِ وإنَّما يُقالُ في هَذا ما قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِمّا ذَكَرَ سابِقًا إلّا أنَّ قَوْلَهُ: لَمْ يَجِئْ في جَمْعِ شِسْعٍ إلّا شُسُوعٌ لَيْسَ بِصَحِيحٍ بَلْ جاءَ فِيهِ أشْساعٌ جَمْعُ قِلَّةٍ عَلى قِلَّةٍ اه فاحْفَظْ ولا تَغْفُلْ. وزَعَمَ بَعْضُهم أنَّ الفُؤادَ إنَّما يُدْرِكُ ما لَيْسَ بِمَحْدُودٍ بِنَحْوِ أيْنَ وكَيْفَ وكَمْ وغَيْرَ ذَلِكَ وإنَّ لِكُلِّ مُدْرَكٍ قُوَّةً مُدْرِكَةً لَهُ تُناسِبُهُ لا يُمْكِنُ أنْ يُدْرَكَ بِغَيْرِها عَلى نَحْوِ المَحْسُوساتِ الظّاهِرَةِ مِنَ الأصْواتِ والألْوانِ والطُّعُومِ ونَحْوِها والحَواسِّ الظّاهِرَةِ مِنَ السَّمْعِ والبَصَرِ والذَّوْقِ إلى غَيْرِ ذَلِكَ وهو كَما تَرى. وإفْرادُ السَّمْعِ بِاعْتِبارِ أنَّهُ مَصْدَرٌ في الأصْلِ، وقِيلَ: إنَّما أُفْرِدَ وجُمِعَ الأبْصارُ لِلْإشارَةِ إلى أنَّ مُدْرَكاتِهِ نَوْعٌ واحِدٌ ومُدْرَكاتِ البَصَرِ أكْثَرُ مِن ذَلِكَ وتَقْدِيمُهُ لِما أنَّهُ طَرِيقُ تَلَقِّي الوَحْيِ أوْ لِأنَّ إدْراكَهُ أقْدَمُ مِن إدْراكِ البَصَرِ، وقِيلَ: لِأنَّ مُدْرَكاتِهِ أقَلُّ مِن مُدْرَكاتِهِ، والخِلافُ في الأفْضَلِ مِنهُما شَهِيرٌ وقَدْ مَرَّ، وتَقْدِيمُها عَلى الأفْئِدَةِ المُشارِ بِها إلى العَقْلِ لِتَقَدُّمِ الظّاهِرِ عَلى الباطِنِ أوْ لِأنَّ لَهُما مَدْخَلًا في إدْراكِهِ في الجُمْلَةِ بَلْ هُما مِن خَدَمِهِ والخَدَمُ تَتَقَدَّمُ بَيْنَ يَدِي السّادَةِ، وكَثِيرٌ مِنَ السُّنَنِ أُمِرَ بِتَقْدِيمِهِ عَلى فُرُوضِ العِبادَةِ أوْ لِأنَّ مُدْرَكاتِهِما أقَلُّ قَلِيلٍ بِالنِّسْبَةِ إلى مُدْرَكاتِهِ كَيْفَ لا ومُدْرَكاتِهِ لا تَكادُ تُحْصى وإنْ قِيلَ: إنَّ لِلْعَقْلِ حَدًّا يَنْتَهِي إلَيْهِ كَما أنَّ لِلْبَصَرِ حَدًّا كَذَلِكَ، واسْتَأْنَسَ بَعْضُهم بِذِكْرِ ما يُشِيرُ إلَيْهِ فَقَطْ دُونَ ضَمِّ ما يُشِيرُ إلى سائِرِ المَشاعِرِ الباطِنَةِ إلَيْهِ لِنَفْيِ الحَواسِّ الخَمْسِ الباطِنَةِ الَّتِي أثْبَتَها الحُكَماءُ بِما لا يَخْلُو عَنْ كَدَرٍ، وتَفْصِيلُ الكَلامِ في مَحَلِّهِ ﴿لَعَلَّكم تَشْكُرُونَ﴾ كَيْ تَعْرِفُوا ما أنْعَمَ سُبْحانَهُ بِهِ عَلَيْكم طَوْرًا غَبِّ طَوْرٍ فَتَشْكُرُوهُ، وقِيلَ: المَعْنى جَعَلَ ذَلِكَ كَيْ تَشْكُرُوهُ تَعالى بِاسْتِعْمالِ ما ذُكِرَ فِيما خَلَقَ لِأجْلِهِ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب