الباحث القرآني

﴿واللَّهُ أنْزَلَ مِنَ السَّماءِ﴾ ماءً تَقَدَّمَ الكَلامُ في مِثْلِهِ، وهَذا عَلى ما قِيلَ تَكْرِيرٌ لِما سَبَقَ تَأْكِيدًا لِمَضْمُونِهِ وتَوْحِيدًا لِما يَعْقُبُهُ مِن أدِلَّةِ التَّوْحِيدِ ﴿فَأحْيا بِهِ الأرْضَ﴾ بِما أنْبَتَ بِهِ فِيها مِن أنْواعِ النَّباتاتِ ﴿بَعْدَ مَوْتِها﴾ بَعْدَ يُبْسِها فالإحْياءُ والمَوْتُ اسْتِعارَةٌ لِلْإنْباتِ واليُبْسِ، ولَيْسَ المُرادُ إعادَةَ اليابِسِ بَلْ إنْباتَ مِثْلِهِ، والفاءُ لِلتَّعْقِيبِ العادِيِّ فَلا يُنافِيهِ ما بَيْنَ المُتَعاطِفَيْنِ مِنَ المُهْلَةِ، ونَظِيرُ ذَلِكَ تَزَوَّجَ فَوُلِدَ لَهُ ولَدٌ، والآيَةُ دَلِيلٌ لِمَن قالَ: إنَّ المُسَبِّباتِ بِالأسْبابِ لا عِنْدَها ومَن قالَ بِهِ أوَّلَ ﴿إنَّ في ذَلِكَ﴾ أيْ في إنْزالِ الماءِ مِنَ السَّماءِ وإحْياءِ الأرْضِ المَيْتَةِ ﴿لآيَةً﴾ وأيَّةُ آيَةٍ دالَّةٍ عَلى وحْدَتِهِ سُبْحانَهُ وعِلْمِهِ وقُدْرَتِهِ وحِكْمَتِهِ جَلَّ شَأْنُهُ، والإشارَةُ بِما يَدُلُّ عَلى البُعْدِ إمّا لِتَعْظِيمِ المُشارِ إلَيْهِ أوْ لِعَدَمِ ذِكْرِهِ صَرِيحًا ﴿لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ﴾ قالَ المَوْلى ابْنُ الكَمالِ: أُرِيدَ بِالسَّمْعِ القَبُولُ كَما في سَمِعَ اللَّهُ لِمَن حَمِدَهُ أيْ لِقَوْمٍ يَتَأمَّلُونَ فِيها ويَعْقِلُونَ وجْهَ دَلالَتِها ويَقْبَلُونَ مَدْلُولَها، وإنَّما خَصَّ كَوْنَها آيَةً لَهم لِأنَّ غَيْرَهم لا يَنْتَفِعُ بِها وهَذا كالتَّخْصِيصِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿هُدًى ورَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ وبِما قَرَّرْناهُ تَبَيَّنَ وجْهُ العُدُولِ عَنْ- يُبْصِرُونَ- إلى ﴿يَسْمَعُونَ﴾ انْتَهى، وقالَ الخَفاجِيُّ: اللّائِقُ بِالمَقامِ ما ذَكَرَهُ الشَّيْخانِ وبَيانُهُ أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ أنَّهُ أرْسَلَ إلى الأُمَمِ السّالِفَةِ رُسُلًا وكُتُبًا فَكَفَرُوا بِها فَكانَ لَهم خِزْيٌ في الدُّنْيا والآخِرَةِ عَقَّبَهُ بِأنَّهُ أرْسَلَهُ ﷺ بِسَيِّدِ الكُتُبِ فَكانَ عَيْنَ الهُدى والرَّحْمَةِ لِمَن أُرْسِلَ إلَيْهِ إشارَةً إلى أنَّ مُخالَفَةَ أُمَّتِهِ لِمَن قَبْلَهم تُقَرِّبُهم مِن سَعادَةِ الدّارَيْنِ وتَبْشِيرًا لَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِكَثْرَةٍ مُتابِعِيهِ وقِلَّةٍ مُناوِيهِ وأنَّهم سَيَدْخُلُونَ في دِينِهِ أفْواجًا أفْواجًا ثُمَّ أتْبَعَ ذَلِكَ عَلى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ لِإنْزالِهِ تِلْكَ الرَّحْمَةَ الَّتِي أحْيَتْ مِن مَوْتَةِ الضَّلالِ إنْزالَ الأمْطارِ الَّتِي أحْيَتْ مَواتَ الأرْضِ وهو الَّذِي يُنَزِّلُ الغَيْثَ مِن بَعْدِ ما قَنَطُوا ولَوْلا هَذا لَكانَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿واللَّهُ أنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً﴾ كالأجْنَبِيِّ عَمّا قَبْلَهُ وبَعْدَهُ، وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿إنَّ في ذَلِكَ لآيَةً﴾ إلَخْ تَتْمِيمٌ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما أنْزَلْنا﴾ إلَخْ ولِلْمَقْصُودِ بِالذّاتِ مِنهُ فالمُناسِبُ (يَسْمَعُونَ) لا يُبْصِرُونَ ولَوْ كانَ تَتْمِيمًا لِمُلاصِقَةٍ مِنَ الإنْباتِ لَمْ يَكُنْ- لِيَسْمَعُونَ- بِمَعْنى يَقْبَلُونَ مُناسِبَةٌ أيْضًا، ثُمَّ قالَ: ومَن لَمْ يَقِفْ عَلى مَحَطِّ نَظَرِهِمْ قالَ في جَوابِهِ: يُمْكِنُ أنْ يَحْمِلَ عَلى يَسْمَعُونَ قَوْلَيِ واللَّهُ أنْزَلَ إلَخْ فَإنَّهُ مُذَكَّرٌ وحامِلٌ عَلى تَأمُّلِ مَدْلُولِهِ انْتَهى، وفي قَوْلِهِ عَقِبَهُ: بِأنَّهُ أرْسَلَهُ ﷺ بِسَيِّدِ الكُتُبِ فَكانَ عَيْنَ الهُدى والرَّحْمَةِ إشارَةٌ إلَخْ خَفاءٌ كَما لا يَخْفى، ومَتى كانَ تَتْمِيمًا لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما أنْزَلْنا﴾ إلَخْ لَمْ يَظْهَرْ جَعْلُ المُشارِ إلَيْهِ ما سَمِعْتَ وهو الظّاهِرُ، وفي البَحْرِ أنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ إنْزالَ الكِتابِ لِلتَّبْيِينِ كانَ القُرْآنُ حَياةً لِلْأرْواحِ وشِفاءً لِما في الصُّدُورِ مِن عِلَلِ العَقائِدِ ولِذَلِكَ خَتَمَ بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ أيْ يُصَدِّقُونَ والتَّصْدِيقُ مَحَلُّهُ القَلْبُ، ذَكَرَ سُبْحانَهُ إنْزالَ المَطَرِ الَّذِي هو حَياةُ الأجْسامِ وسَبَبُ بَقائِها ثُمَّ أشارَ سُبْحانَهُ بِإحْياءِ الأرْضِ بَعْدَ مَوْتِها إلى إحْياءِ القُلُوبِ بِالقُرْآنِ كَما قالَ تَعالى: ﴿أوَمَن كانَ مَيْتًا فَأحْيَيْناهُ﴾ فَكَما تَصِيرُ الأرْضُ خَضِرَةً بِالنَّباتِ نَضِرَةً بَعْدَ هُمُودِها كَذَلِكَ القَلْبُ يَحْيا بِالقُرْآنِ بَعْدَ أنْ كانَ مَيِّتًا بِالجَهْلِ ولِذَلِكَ خَتَمَ تَعالى بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿يَسْمَعُونَ﴾ أيْ يَسْمَعُونَ هَذا التَّشْبِيهَ المُشارَ إلَيْهِ والمَعْنى سَماعَ إنْصافٍ وتَدَبُّرٍ، ولِمُلاحَظَةِ هَذا المَعْنى واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ لَمْ يَخْتِمْ سُبْحانَهُ- بِلِقَوْمٍ يُبْصِرُونَ- وإنْ كانَ إنْزالُ المَطَرِ مِمّا يُبْصَرُ ويُشاهَدُ انْتَهى. وفِيهِ أيْضًا مِنَ التَّكَلُّفِ ما فِيهِ، وأقُولُ: لَعَلَّ الأظْهَرَ أنَّ المُشارَ إلَيْهِ ما ذُكِرَ مِنَ الإنْزالِ والإحْياءِ والسَّماعِ عَلى ظاهِرِهِ والكَلامُ تَتْمِيمٌ لِمُلاصِقِهِ والعُدُولُ عَنْ يُبْصِرُونَ إلى (يَسْمَعُونَ) لِلْإشارَةِ إلى ظُهُورِ هَذا المُعْتَبَرِ فِيهِ وأنَّهُ لا يَحْتاجُ إلى نَظَرٍ ولا تَفَكُّرٍ وإنَّما يَحْتاجُ المُنَبَّهَ إلى أنْ يَسْمَعَ القَوْلَ فَقَطْ، ويَكْفِي في رَبْطِ الآيَةِ بِما قَبْلَها تَشارُكُ الكِتابِ والمَطَرِ (p-176)فِي الإحْياءِ لَكِنَّ في ذاكَ إحْياءَ القُلُوبِ وفي هَذا إحْياءَ الأرْضِ الجَدُوبِ فَتَأمَّلْ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب