الباحث القرآني

﴿خَلَقَ الإنْسانَ﴾ أيْ هَذا النَّوْعَ غَيْرَ الفَرْدِ الأوَّلِ مِنهُ ﴿مِن نُطْفَةٍ﴾ أصْلُها الماءُ الصّافِي ويُعَبَّرُ بِها عَنْ ماءِ الرَّجُلِ أيْ أوْجَدَهُ مِن جَمادٍ لا حِسَّ لَهُ ولا حِراكَ سَيّالٍ لا يُحْفَظُ شَكْلًا ولا وضْعًا ﴿فَإذا هُوَ﴾ بَعْدَ الخَلْقِ مِن ذَلِكَ ﴿خَصِيمٌ﴾ مِنطِيقٌ مُجادِلٌ عَنْ نَفْسِهِ مُكافِحٌ لِلْخُصُومِ، وهو صِيغَةُ مُبالَغَةٍ، وقالَ الواحِدِيُّ: بِمَعْنى مُخاصِمٍ، وفَعِيلٌ بِمَعْنى مُفاعِلٍ مَعْرُوفٌ عِنْدَهم كالنَّسِيبِ بِمَعْنى المُناسِبِ والخَلِيطُ بِمَعْنى المُخالِطِ والعَشِيرُ بِمَعْنى المُعاشِرِ. ﴿مُبِينٌ﴾ مُظْهِرٌ لِلْحُجَّةِ لُقِّنَ بِها وقِيلَ: المَعْنى أوْجَدَهُ مِن ذَلِكَ فَإذا هو خَصِيمٌ لِخالِقِهِ سُبْحانَهُ مُنْكِرٌ لِعَظِيمِ قُدْرَتِهِ قائِلٌ: ﴿مَن يُحْيِي العِظامَ وهي رَمِيمٌ﴾ والأوَّلُ أنْسَبُ بِمَقامِ الِامْتِنانِ بِإعْطاءِ القُدْرَةِ عَلى الِاسْتِدْلالِ بِذَلِكَ عَلى قُدْرَتِهِ جَلَّ جَلالُهُ ووَحْدَتِهِ، وبَيَّنَ الإمامُ وجْهَ الِاسْتِدْلالِ فَقالَ بَعْدَ أنْ زَعَمَ أنَّ الإنْسانَ في الشَّرَفِ بَعْدَ الأفْلاكِ والكَواكِبِ وأشارَ إلى أنَّهُ لِذَلِكَ عَقَّبَ الِاسْتِدْلالَ بِخَلْقِ تِلْكَ بِالِاسْتِدْلالِ بِخَلْقِهِ: اعْلَمْ أنَّ الإنْسانَ مُرَكَّبٌ مِن نَفْسٍ وبَدَنٍ، وصَدْرُ الآيَةِ إشارَةٌ إلى الِاسْتِدْلالِ بِبَدَنِهِ عَلى وُجُودِ الصّانِعِ الحَكِيمِ وعَجُزُها إشارَةٌ إلى الِاسْتِدْلالِ بِأحْوالِهِ، وتَقْرِيرُ الأوَّلِ أنْ يُقالَ: إنَّ النُّطْفَةَ إمّا أنْ تَكُونَ مُتَشابِهَةَ الأجْزاءِ أوْ مُخْتَلِفَتَها فَإنْ كانَ الأوَّلَ لَمْ يَجُزْ أنْ يَكُونَ المُقْتَضِي لِتُوَلُّدِ هَذا البَدَنِ مِنها هو الطَّبِيعَةَ الحاصِلَةَ في جَوْهَرِها لِأنَّ تَأْثِيرَ الطَّبِيعَةِ بِالذّاتِ والإيجابِ فَمَتى عَمِلَتْ في مادَّةٍ مُتَشابِهَةِ الأجْزاءِ وجَبَ أنْ يَكُونَ عَمَلُها الكُرَيَّةَ وحَيْثُ لَمْ يَكُنِ الأمْرُ (p-97)فِيما نَحْنُ فِيهِ كَذَلِكَ لِظُهُورِ أنَّ الأبْدانَ لَيْسَتْ كُرَيَّةً عَلِمْنا أنَّ المُقْتَضِيَ لَها هو الفاعِلُ الحَكِيمُ المُخْتارُ، وإنْ كانَ الثّانِي قُلْنا: إنَّهُ يَجِبُ أنْ يَنْتَهِيَ تَحْلِيلُ تَرْكِيبِها إلى أجْزاءٍ يَكُونُ كُلُّ واحِدٍ مِنها في نَفْسِهِ جِسْمًا بَسِيطًا وحِينَئِذٍ لَوْ كانَ المُدَبِّرُ لَها قُوَّةً طَبِيعِيَّةً لَوَجَبَ أنْ يَكُونَ كُلٌّ مِن تِلْكَ البَسائِطِ كُرِّيَّ الشَّكْلِ فَكانَ يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ الإنْسانُ عَلى شَكْلِ كُراتٍ مَضْمُومَةٍ بَعْضُها إلى بَعْضٍ وحَيْثُ لَمْ يَكُنْ لِذَلِكَ عَلِمْنا أنَّ المُقْتَضِيَ هو الفاعِلُ المُخْتارُ أيْضًا جَلَّ شَأْنُهُ وأيْضًا أنَّ النُّطْفَةَ رَطْبَةٌ سَرِيعَةُ الِاسْتِحالَةِ فَلا تَحْفَظُ الوَضْعَ فالجُزْءُ الَّذِي هو مادَّةُ الدِّماغِ يُمْكِنُ حُصُولُهُ في السُّفْلِ والجُزْءُ الَّذِي هو مادَّةُ القَلْبِ يُمْكِنُ حُصُولُهُ في الفَوْقِ فَحَيْثُ كانَ الإنْسانُ عَلى هَذا التَّرْتِيبِ المُعَيَّنِ دائِمًا مَعَ إمْكانِ غَيْرِهِ عَلِمْنا أنَّ حُدُوثَهُ عَلى ذَلِكَ التَّرْتِيبِ لَيْسَ إلّا بِتَدْبِيرِ الفاعِلِ المُخْتارِ الحَكِيمِ. ولا يَصِحُّ أنْ يُقالَ: إنَّ ذَلِكَ مِن تَأْثِيرِ النُّجُومِ والأوْضاعِ الفَلَكِيَّةِ لِأنَّ تَأْثِيراتِها مُتَشابِهَةٌ عَلى أنَّهُ قَدْ بُيِّنَ بُطْلانُ كَوْنِها مُؤَثِّرَةً بِغَيْرِ ذَلِكَ في مَوْضِعِهِ. وتَقْرِيرُ الثّانِي أنَّ النُّفُوسَ الإنْسانِيَّةَ في أوَّلِ الفِطْرَةِ أقَلُّ فَهْمًا وذَكاءً وفِطْنَةً مِن نُفُوسِ سائِرِ الحَيَواناتِ فَإنَّ فَرْخَ الدَّجاجَةِ حِينَ خُرُوجِهِ مِن قِشْرِ البَيْضَةِ يُمَيِّزُ بَيْنَ العَدُوِّ والصَّدِيقِ فَيَهْرُبُ مِنَ الهِرَّةِ ويَلْتَجِئُ إلى الأُمِّ ويُمَيِّزُ بَيْنَ الغِذاءِ الَّذِي يُوافِقُهُ والَّذِي لا يُوافِقُهُ وأمّا ولَدُ الإنْسانِ فَإنَّهُ حِينَ انْفِصالِهِ مِن بَطْنِ أُمِّهِ لا يُمَيِّزُ بَيْنَ العَدُوِّ والصَّدِيقِ ولا بَيْنَ الضّارِّ والنّافِعِ ثُمَّ إنَّهُ بَعْدَ كِبَرِهِ يَقْوى عَقْلُهُ ويَعْظُمُ فَهْمُهُ ويَصِيرُ بِحَيْثُ يَقْوى عَلى مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعالى وعَلى مَعْرِفَةِ أصْنافِ المَخْلُوقاتِ العُلْوِيَّةِ والسُّفْلِيَّةِ والِاطِّلاعِ عَلى كَثِيرٍ مِن أحْوالِها الدَّقِيقَةِ وعَلى الخُصُوماتِ والمُباحَثاتِ فانْتِقالُ نَفْسِهِ مِن تِلْكَ البَلادَةِ المُفْرِطَةِ إلى هَذِهِ الكِياسَةِ المُفْرِطَةِ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ بِتَدْبِيرِ إلَهٍ مُخْتارٍ حَكِيمٍ يَنْقُلُها مِن نُقْصانِها إلى كَمالِها ومِن جَهالَتِها إلى مَعْرِفَتِها بِحَسَبِ الحِكْمَةِ والِاخْتِيارِ، والثّانِي قِيلَ: أنْسَبُ بِمَقامِ تَعْدادِ هَنّاتِ الكَفَرَةِ فَإنَّهُ قَدِ اشْتَمَلَ مِن بَيانِ جَراءَةِ مَن كَفَرَ عَلى اللَّهِ تَعالى وعَدَمِ اسْتِحْيائِهِ مِنهُ سُبْحانَهُ ووَقاحَتِهِ بِتَمادِيهِ في الكُفْرِ. وذَكَرَ بَعْضُهم أنَّهُ يُؤَيِّدُ هَذا الوَجْهَ قَوْلُهُ تَعالى في سُورَةِ يس بَعْدَ ما ذَكَرَ مِثْلَهُ: ﴿قالَ مَن يُحْيِي العِظامَ وهي رَمِيمٌ﴾ فَإنَّهُ نَصَّ فِيما ذَكَرَ فَيَكُونُ صَدْرُ الآيَةِ لِلِاسْتِدْلالِ وعَجُزُها لِتَقْرِيرِ الوَقاحَةِ، وتُعِقِّبَ بِأنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ لِأنَّ مَدارَ ما قَبْلَها في تِلْكَ السُّورَةِ عَلى ذِكْرِ الحَشْرِ والنَّشْرِ ومُكابَرَتِهِمْ فِيهِ بِخِلافِ هَذِهِ ولِكُلِّ مَقامٍ مَقالٌ، وأمّا كَوْنُ الآيَةِ مُسَوِّقَةً لِتَقْرِيرِ وقاحَةِ الإنْسانِ لِانْتِفاءِ التَّنافِي بَيْنَ الِاسْتِدْلالِ عَلى الوَحْدانِيَّةِ والقُدْرَةِ وتَقْرِيرِ وقاحَةِ المُنْكِرِينَ ولِذا جُعِلَ التَّتْمِيمُ لِما قَبْلَهُ ﴿تَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ﴾ فَعَدَمُ المُنافِي لا يَقْتَضِي وُجُودَ المُناسِبِ، وعِنْدِي لِكُلٍّ وُجْهَةٌ. وفِي الكَشْفِ المَعْنَيانِ مُلائِمانِ لِلْمَقامِ إلّا أنَّ في الثّانِي زِيادَةً مُلائِمَةً مَعَ قَوْلِهِ: ﴿تَعالى عَمّا يُشْرِكُونَ﴾ ثُمَّ إنَّهُ أُدْمِجَ فِيهِ المَعْنى الأوَّلُ، ورَوى الواحِدِيُّ «أنَّ أُبَيَّ بْنَ خَلَفٍ أتى النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِعَظْمٍ رَمِيمٍ وقالَ: يا مُحَمَّدُ أتَرى أنَّ اللَّهَ تَعالى يُحْيِي هَذا بَعْدَ ما قَدْ رَمَّ فَنَزَلَتْ نَظِيرَ ما في آخِرِ يس،» والمَشْهُورُ أنَّ تِلْكَ هي النّازِلَةُ في تِلْكَ القِصَّةِ، ثُمَّ وجْهُ التَّعْقِيبِ وإذا الفُجائِيَّةُ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿فَإذا هُوَ﴾ إلى آخِرِهِ مَعَ أنَّ كَوْنَهُ خَصِيمًا مُبِينًا بِأيِّ مَعْنًى أُرِيدَ لَمْ يُعْقِبْ خَلْقَهُ مِن نُطْفَةٍ إذْ بَيْنَهُما وسائِطُ أنَّهُ بَيانٌ لِأطْوارِهِ إلى كَمالِ عَقْلِهِ فالتَّعْقِيبُ بِاعْتِبارِ آخِرِها فَلا وجْهَ لِتَقْدِيرِ الوَسائِطِ ولا لِلْقَوْلِ بِأنَّهُ مِن بابِ التَّعْبِيرِ عَنْ حالِ الشَّيْءِ بِما يُؤَوَّلُ إلَيْهِ فافْهَمْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب