الباحث القرآني

﴿لِيُبَيِّنَ لَهُمُ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِما دَلَّ عَلَيْهِ ﴿بَلى﴾ وهو يَبْعَثُهُمْ، والضَّمِيرُ لِمَن يَمُوتُ الشّامِلِ لِلْمُؤْمِنِينَ والكافِرِينَ إذِ التَّبْيِينُ يَكُونُ لِلْمُؤْمِنِينَ أيْضًا فَإنَّهم وإنْ كانُوا عالِمِينَ بِذَلِكَ لَكِنَّهُ عِنْدَ مُعايَنَةِ حَقِيقَةِ الحالِ يَتَّضِحُ الأمْرُ فَيَصِلُ عِلْمُهم إلى مَرْتَبَةِ عَيْنِ اليَقِينِ أيْ يَبْعَثُهم لِيُبَيِّنَ لَهم بِذَلِكَ وبِما يَحْصُلُ لَهم بِمُشاهَدَةِ الأحْوالِ كَما هي ومُعايَنَتِها بِصُوَرِها الحَقِيقِيَّةِ الشَّأْنِ﴿الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ﴾ مِنَ الحَقِّ الشّامِلِ لِجَمِيعِ ما خالَفُوهُ مِمّا جاءَ بِهِ الرُّسُلُ المَبْعُوثُونَ فِيهِمْ ويَدْخُلُ فِيهِ البَعْثُ دُخُولًا أوَّلِيًّا، والتَّعْبِيرُ عَنْ ذَلِكَ بِالمَوْصُولِ لِلدَّلالَةِ عَلى فَخامَتِهِ ولِلْإشْعارِ بِعِلِّيَّةِ ما ذُكِرَ في حَيِّزِ الصِّلَةِ لِلتَّبْيِينِ، وتَقْدِيمُ الجارِّ والمَجْرُورِ لِرِعايَةِ رُؤُوسِ الآيِ ﴿ولِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بِاللَّهِ تَعالى بِالإشْراكِ وإنْكارِ البَعْثِ الجُسْمانِيِّ وتَكْذِيبِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ ﴿أنَّهم كانُوا كاذِبِينَ﴾ في كُلِّ ما يَقُولُونَهُ ويَدْخُلُ فِيهِ قَوْلُهُمْ: ﴿لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ﴾ دُخُولًا أوَّلِيًّا. ونُقِلَ في البَحْرِ القَوْلُ بِتَعَلُّقِ ﴿لِيُبَيِّنَ﴾ إلَخْ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولَقَدْ بَعَثْنا في كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولا﴾ أيْ بَعَثْناهُ لِيُبَيِّنَ لَهم ما اخْتَلَفُوا فِيهِ وأنَّهم كانُوا عَلى الضَّلالَةِ قَبْلَ بَعْثِهِ مُفْتَرِينَ عَلى اللَّهِ سُبْحانَهُ الكَذِبَ ولا يَخْفى بَعْدَ ذَلِكَ وتَبادَرَ ما تَقَدَّمَ، وجَعَلَ التَّبْيِينَ والعِلْمَ المَذْكُورَيْنِ غايَةً لِلْبَعْثِ كَما في إرْشادِ العَقْلِ السَّلِيمِ بِاعْتِبارِ وُرُودِهِ في مَعْرِضِ الرَّدِّ عَلى المُخالِفِينَ وإبْطالِ مَقالَةِ المُعانِدِينَ المُسْتَدْعِي لِلتَّعَرُّضِ لِما يَرْدَعُهم عَنِ المُخالَفَةِ ويَأْخُذُ بِهِمْ إلى الإذْعانِ لِلْحَقِّ فَإنَّ الكَفَرَةَ إذا عَلِمُوا أنَّ تَحَقُّقَ البَعْثِ إذا كانَ لِتَبْيِينِ أنَّهُ حَقٌّ ولِيَعْلَمُوا أنَّهم كاذِبُونَ في إنْكارِهِ كانَ أزْجَرَ لَهم عَنْ إنْكارِهِ (p-142)وأدْعى إلى الِاعْتِرافِ بِهِ ضَرُورَةَ أنَّهُ يَدُلُّ عَلى صِدْقِ العَزِيمَةِ عَلى تَحْقِيقِهِ كَما تَقُولُ لِمَن يُنْكِرُ أنَّكَ تُصَلِّي لَأُصَلِّيَنَّ رَغْمًا لِأنْفِكَ وإظْهارًا لِكَذِبِكَ، ولِأنَّ تَكَرُّرَ الغاياتِ أدَلُّ عَلى وُقُوعِ المُغَيّا بِها وإلّا فالغايَةُ الأصْلِيَّةُ لِلْبَعْثِ بِاعْتِبارِ ذاتِهِ إنَّما هو الجَزاءُ الَّذِي هو الغايَةُ القُصْوى لِلْخَلْقِ المُغَيّا بِمَعْرِفَتِهِ عَزَّ وجَلَّ وعِبادَتِهِ، وإنَّما لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ لِتُكَرِّرِ ذِكْرِهِ في مَواضِعِ وشُهْرَتِهِ، وفِيهِ أنَّهُ إنَّما لَمْ يُدْرَجْ عَلى الكَفّارِ بِكَذِبِهِمْ تَحْتَ التَّبْيِينِ بِأنْ يُقالَ مَثَلًا: وإنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا كانُوا كاذِبِينَ بَلْ جِيءَ بِصِيغَةِ العِلْمِ لِأنَّ ذَلِكَ لَيْسَ مِمّا يَتَعَلَّقُ بِهِ التَّبْيِينُ الَّذِي هو عِبارَةٌ عَنْ إظْهارِ ما كانَ مُبْهَمًا قَبْلَ ذَلِكَ بِأنْ يُخْبِرَ بِهِ فَيَخْتَلِفَ فِيهِ كالبَعْثِ الَّذِي نَطَقَ بِهِ القُرْآنُ فاخْتَلَفَ فِيهِ المُخْتَلِفُونَ، وأمّا كَذِبُ الكافِرِينَ فَلَيْسَ مِن هَذا القَبِيلِ، ويُسْتَفادُ مِن تَحْقِيقِهِ في نَظِيرِ ما هُنا أنَّهُ لَمّا كانَ مَدْلُولُ الخَبَرِ هو الصِّدْقَ والكَذِبَ احْتِمالٌ عَقْلِيٌّ وكانَ مَعْنى تَبْيِينِ الصِّدْقِ إظْهارَ ذَلِكَ المَدْلُولِ وقَطْعَ احْتِمالِ نَقِيضِهِ بَعْدَ ما كانَ مُحْتَمِلًا لَهُ عَقْلِيًّا ناسَبَ أنْ يُعَلِّقَ التَّبْيِينَ بِالَّذِي فِيهِ يَخْتَلِفُونَ مِنَ الحَقِّ، ولَيْسَ بَيْنَ الصِّدْقِ والحَقِّ كَثِيرُ فَرْقٍ، ولِما كانَ الكَذِبُ أمْرًا حادِثًا لا دَلالَةَ الخَبَرِ عَلَيْهِ حَتّى يَتَعَلَّقَ بِهِ التَّبْيِينُ والإظْهارُ بَلْ هو نَقِيضُ مَدْلُولِهِ فَما يَتَعَلَّقُ بِهِ يَكُونُ عَلَمًا مُسْتَأْنِفًا ناسَبَ أنْ يُعَلِّقَ العِلْمَ بِأنَّهم كانُوا كاذِبِينَ فَلْيُتَدَبَّرْ. قِيلَ: ولِكَوْنِ العِلْمِ بِما ذُكِرَ مِن رَوادِفِ ذَلِكَ التَّبْيِينِ قِيلَ ﴿ولِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ دُونَ ولِيَجْعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا عالِمِينَ، وخَصَّ الإسْنادَ بِهِمْ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ ولِيَعْلَمُوا أنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا كانُوا كاذِبِينَ تَنْبِيهًا عَلى أنَّ الأهَمَّ عِلْمُهم وقِيلَ: لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ لِأنَّ عِلْمَ المُؤْمِنِينَ بِما ذُكِرَ حاصِلٌ قَبْلَ ذَلِكَ أيْضًا. وتُعُقِّبَ بِأنَّ حُصُولَ مَرْتَبَةٍ مِن مَراتِبِ العِلْمِ لا يَأْبى حُصُولَ مَرْتَبَةٍ أعْلى مِنها فَلِمَ لَمْ يَقُلْ ذَلِكَ إيذانًا بِحُصُولِ هَذِهِ المَرْتَبَةِ مِنَ العِلْمِ لَهم حِينَئِذٍ؟ ولَعَلَّ فِيهِ غَفْلَةً عَنْ مُرادِ القائِلِ، وجُوِّزَ أنْ يُرادَ مِن عِلْمِ الكَفَرَةِ بِأنَّهم كانُوا كاذِبِينَ تَعْذِيبُهم عَلى كَذِبِهِمْ فَكَأنَّهُ قِيلَ: لِيَظْهَرَ لِلْمُؤْمِنِينَ والكافِرِينَ الحَقُّ ولِيُعَذَّبَ الكافِرُونَ عَلى كَذِبِهِمْ فِيما كانُوا يَقُولُونَهُ مِن أنَّهُ تَعالى لا يَبْعَثُ مَن يَمُوتُ ونَحْوِهِ، وهَذا كَما يُقالُ لِلْجانِي: غَدًا تَعْلَمُ جِنايَتَكَ، وحِينَئِذٍ وجْهُ تَخْصِيصِ الإسْنادِ بِهِمْ ظاهِرٌ، وهو كَما تَرى. وزَعَمَ بَعْضُ الشِّيعَةِ أنَّ الآيَةَ في عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ والأئِمَّةِ مِن بَنِيهِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم وأنَّها مِن أدِلَّةِ الرَّجْعَةِ الَّتِي قالَ بِها أكْثَرُهُمْ، وهو زَعْمٌ باطِلٌ، والقَوْلُ بِالرَّجْعَةِ مَحْضُ سَخافَةٍ لا يَكادُ يَقُولُ بِها مَن يُؤْمِنُ بِالبَعْثِ، وقَدْ بُيِّنَ ذَلِكَ عَلى أتَمِّ وجْهٍ في التُّحْفَةِ الِاثْنَيْ عَشْرِيَّةٍ، ولَعَلَّ النَّوْبَةَ تُفْضِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى إلى بَيانِهِ، وما أخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ أنَّهُ قالَ: إنَّ قَوْلَهُ تَعالى ﴿وأقْسَمُوا بِاللَّهِ﴾ الآيَةَ نَزَلَتْ في غَيْرِ مُسَلَّمِ الصِّحَّةِ، وعَلى فَرْضِ التَّسْلِيمِ لا دَلِيلَ فِيهِ عَلى ما يَزْعُمُونَهُ مِنَ الرَّجْعَةِ بِأنْ يُقالَ: إنَّهُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ أرادَ أنَّها نَزَلَتْ بِسَبَبِي، ويَكُونُ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ هو الرَّجُلَ الَّذِي تَقاضى دَيْنًا لَهُ عَلى رَجُلٍ مِنَ المُشْرِكِينَ فَقالَ ما قالَ كَما مَرَّ عَنِ ابْنِ الجَوْزِيِّ وأبِي العالِيَةِ، وأخْرَجَهُ عَنْ أبِي العالِيَةِ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وابْنُ أبِي حاتِمٍ واسْتَنْبَطَ الشَّيْخُ بَهاءُ الدِّينِ مِنَ الآيَةِ دَلِيلًا عَلى أنَّ الكَذِبَ مُخالَفَةُ الواقِعِ ولا عِبْرَةَ بِالِاعْتِقادِ وهو ظاهِرٌ فافْهَمْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب