الباحث القرآني

﴿لِيَحْمِلُوا﴾ مُتَعَلِّقٌ- بِقالُوا- كَما هو الظّاهِرُ أيْ قالُوا ذَلِكَ لِأنْ يَحْمِلُوا ﴿أوْزارَهُمْ﴾ أيْ آثامَهُمُ الخاصَّةَ بِهِمْ وهي آثامُ ضَلالِهِمْ، وهو جَمْعُ وِزْرٍ ويُقالُ لِلثِّقْلِ تَشْبِيهًا بِوِزْرِ الجَبَلِ، ويُعَبَّرُ بِكُلٍّ مِنهُما عَنِ الإثْمِ كَما في هَذِهِ الآيَةِ، وقَوْلُهُ تَعالى: لِيَحْمِلُوا أثْقالَهُمْ: ﴿كامِلَةً﴾ لَمْ يَنْقُصْ مِنها شَيْءٌ ولَمْ يَكْفُرْ بِنَحْوِ نَكْبَةٍ تُصِيبُهم في الدُّنْيا أوْ طاعَةٍ مَقْبُولَةٍ فِيها كَما تُكَفَّرُ بِذَلِكَ أوْزارُ المُؤْمِنِينَ، وقالَ الإمامُ: مَعْنى ذَلِكَ أنَّهُ لا يُخَفَّفُ مِن عَذابِهِمْ شَيْءٌ بَلْ يُوصَلُ إلَيْهِمْ بِكُلِّيَّتِهِ، وفِيهِ دَلِيلٌ عَلى أنَّهُ تَعالى قَدْ يُسْقِطُ بَعْضَ العِقابِ عَنِ المُؤْمِنِينَ إذْ لَوْ كانَ هَذا المَعْنى حاصِلًا لِلْكُلِّ لَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ هَؤُلاءِ الكُفّارِ بِهِ فائِدَةٌ، وحَمْلُ الأوْزارِ مَجازٌ عَنِ العِقابِ عَلَيْها. وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أسْلَمَ أنَّهُ بَلَّغَهُ أنَّ الكافِرَ يَتَمَثَّلُ عَمَلُهُ في صُورَةِ أقْبَحِ ما خَلَقَ اللَّهُ تَعالى وجْهًا وأنْتَنَهُ رِيحًا فَيَجْلِسُ إلى جَنْبِهِ كُلَّما أفْزَعَهُ شَيْءٌ زادَهُ وكُلَّما يَخافُ شَيْئًا زادَهُ خَوْفًا فَيَقُولُ: بِئْسَ الصّاحِبُ أنْتَ ومَن أنْتَ؟ فَيَقُولُ: وما تَعْرِفُنِي؟ فَيَقُولُ: لا. فَيَقُولُ: أنا عَمَلُكَ كانَ قَبِيحًا فَلِذَلِكَ تَرانِي قَبِيحًا وكانَ مُنْتِنًا فَلِذَلِكَ تَرانِي مُنْتِنًا طاطِئْ إلَيَّ أرْكَبْكَ فَطالَما رَكِبْتَنِي في الدُّنْيا فَيَرْكَبُهُ وهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لِيَحْمِلُوا أوْزارَهم كامِلَةً) (يَوْمَ القِيامَةِ﴾ ظَرْفٌ لِيَحْمِلُوا ﴿ومِن أوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ﴾ أيْ وبَعْضِ أوْزارِ مَن ضَلَّ (p-124)بِإضْلالِهِمْ عَلى مَعْنى ومِثْلَ بَعْضِ أوْزارِهِمْ- فَمِن- تَبْعِيضِيَّةٌ لِأنَّ مُقابَلَتَهُ لِقَوْلِهِ تَعالى: ( كامِلَةً ) يُعَيِّنُ ذَلِكَ. والمُرادُ بِهَذا البَعْضِ حِصَّةُ التَّسَبُّبِ فالمُضِلُّ والضّالُّ شَرِيكانِ هَذا يُضِلُّهُ وهَذا يُطاوِعُهُ فَيَتَحامَلانِ الوِزْرَ ولِلضّالِّ أوْزارٌ غَيْرُ ذَلِكَ ولَيْسَتْ تِلْكَ مَحْمُولَةً، وقالَ الأخْفَشُ: إنَّ ( مِن ) زائِدَةٌ أيْ وأوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهم عَلى مَعْنى أنَّهم يُعاقَبُونَ عِقابًا يَكُونُ مُساوِيًا لِعِقابِ كُلِّ مَنِ اقْتَدى بِهِمْ، وإلى الزِّيادَةِ ذَهَبَ أبُو البَقاءِ واعْتَرَضَ عَلى التَّبْعِيضِ بِأنَّهُ يَقْتَضِي أنَّ المُضِلَّ غَيْرُ حامِلٍ كُلَّ أوْزارِ الضّالِّ وهو مُخالِفٌ لِلْمَأْثُورِ: ««مَن سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُها ووِزْرُ مَن عَمِلَ بِها مِن غَيْرِ أنْ يَنْقُصَ ذَلِكَ مِن أوْزارِهِمْ شَيْئًا»» وفِيهِ أنَّ المَأْثُورَ يَدُلُّ عَلى التَّبْعِيضِ لا أنَّ بَيْنَهُما مُخالَفَةً كَما لا يَخْفى، ولِتَوَهُّمِ هَذِهِ المُخالَفَةِ قالَ الواحِدِيُّ: إنَّ مِن لِلْجِنْسِ أيْ لِيَحْمِلُوا مِن جِنْسِ أوْزارِ الِاتِّباعِ، وتَعَقَّبَهُ أبُو حَيّانَ بِأنَّ مِنَ الَّتِي لِبَيانِ الجِنْسِ لا تُقَدَّرُ بِما ذُكِرَ وإنَّما تُقَدَّرُ بِقَوْلِنا الأوْزارُ الَّتِي هي أوْزارُ الَّذِينَ يُضِلُّونَهم فَيُؤَوَّلُ مِن حَيْثُ المَعْنى إلى قَوْلِ الأخْفَشِ وإنِ اخْتَلَفا في التَّقْدِيرِ، ولامُ ﴿لِيَحْمِلُوا﴾ لِلْعاقِبَةِ لِأنَّ الحَمْلَ مُتَرَتِّبٌ عَلى فِعْلِهِمْ ولَيْسَ باعِثًا ولا غَرَضًا لَهُمْ، وعَنِ ابْنِ عَطِيَّةَ أنَّها تَحْتَمِلُ أنْ تَكُونَ لامَ التَّعْلِيلِ ومُتَعَلِّقَةٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ لا بِقالُوا أيْ قَدَّرَ صُدُورَ ذَلِكَ لِيَحْمِلُوا، ويَجِيءُ حَدِيثُ تَعْلِيلِ أفْعالِ اللَّهِ تَعالى بِالأغْراضِ وأنْتِ تَدْرِي أنَّ فِيهِ خِلافًا. وجُوِّزَ في البَحْرِ كَوْنُها لامَ الأمْرِ الجازِمَةَ عَلى مَعْنى أنَّ ذَلِكَ الحَمْلَ مُتَحَتِّمٌ عَلَيْهِمْ فَيَتِمُّ الكَلامُ عِنْدَ قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿أساطِيرُ الأوَّلِينَ﴾ والظّاهِرُ العاقِبَةُ، وصِيغَةُ الِاسْتِقْبالِ في ﴿يُضِلُّونَهُمْ﴾ لِلدَّلالَةِ عَلى اسْتِمْرارِ الإضْلالِ أوْ بِاعْتِبارِ حالِ قَوْلِهِمْ لا حالِ الحَمْلِ. ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ حالٌ مِنَ المَفْعُولِ كَأنَّهُ قِيلَ: يُضِلُّونَ مَن لا يَعْلَمُ أنَّهم ضُلّالٌ عَلى الباطِلِ، وفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلى أنَّ كَيْدَهم لا يَرُوجُ عَلى ذِي لُبٍّ وإنَّما يُقَلِّدُهُمُ الجَهَلَةُ الأغْبِياءُ وفِيهِ زِيادَةُ تَعْيِيرٍ لَهم وذَمٌّ إذْ كانَ عَلَيْهِمْ إرْشادُ الجاهِلِينَ لا إضْلالُهُمْ، وقِيلَ: إنَّهُ حالٌ مِنَ الفاعِلِ أيْ يُضِلُّونَ غَيْرَ عالِمِينَ بِأنَّ ما يَدْعُونَ إلَيْهِ طَرِيقُ الضَّلالِ، وقِيلَ: المَعْنى حِينَئِذٍ يُضِلُّونَ جَهْلًا مِنهم بِما يَسْتَحِقُّونَهُ مِنَ العَذابِ الشَّدِيدِ عَلى ذَلِكَ الإضْلالِ، ونُقِلَ القَوْلُ بِالحالِيَّةِ عَنِ الفاعِلِ بِنَحْوِ هَذا المَعْنى عَنِ الواحِدِيِّ، وزَعَمَ بَعْضُهم أنَّهُ الوَجْهُ لا الحالِيَّةُ مِنَ المَفْعُولِ، وأُيِّدَ بِأنَّ التَّذْيِيلَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ألا ساءَ ما يَزِرُونَ﴾ وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿مِن حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ﴾ يُقَوِّيهِ، ولَيْسَ بِذاكَ، وما ذُكِرَ ظُنَّ مِن هَذا المُؤَيِّدِ أنَّهُ إذا جُعِلَ حالًا مِنَ المَفْعُولِ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَعَلُّقٌ بِما سِيقَ لَهُ الكَلامُ مِن حالِ المُضِلِّينَ وقَدْ هُدِيتَ إلى وجْهِهِ. ورَجَّحَهُ أبُو حَيّانَ بِأنَّ المُحَدَّثَ عَنْهُ هو المُسْنَدُ إلَيْهِ الإضْلالُ عَلى جِهَةِ الفاعِلِيَّةِ فاعْتِبارُهُ ذا الحالِ أوْلى، ويَرُدُّ عَلَيْهِ مَعَ ما يَعْلَمُ مِمّا ذُكِرَ أنَّ القُرْبَ يُعارِضُهُ فَلا يَصْلُحُ مُرَجِّحًا، وقِيلَ: هو حالٌ مِن ضَمِيرِ الفاعِلِ في ( قالُوا ) عَلى مَعْنى قالُوا ذَلِكَ غَيْرَ عالِمَيْنِ بِأنَّهم يَحْمِلُونَ يَوْمَ القِيامَةِ أوْزارَ الضَّلالِ والإضْلالِ وأُيِّدَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأتاهُمُ العَذابُ مِن حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ﴾ مِن حَيْثُ إنَّ حَمْلَ ما ذُكِرَ مِن أوْزارِ الضَّلالِ والإضْلالِ مِن قَبِيلِ إتْيانِ العَذابِ مِن حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ، ويَرُدُّهُ أنَّ الحَمْلَ المَذْكُورَ كَما هو صَرِيحُ الآيَةِ إنَّما هو يَوْمَ القِيامَةِ والعَذابُ المَذْكُورُ إنَّما هو العَذابُ الدُّنْيَوِيُّ كَما سَتَسْمَعُهُ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ حالًا مِنَ الفاعِلِ والمَفْعُولِ كَما قالَ ذَلِكَ ابْنُ جِنِّيٍّ في قَوْلِهِ: ﴿فَأتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ﴾ [مَرْيَمَ: 27] وهو خِلافُ الظّاهِرِ، واسْتُدِلَّ بِالآيَةِ عَلى أنَّ المُقَلِّدَ يَجِبُ عَلَيْهِ أنْ يَبْحَثَ ويُمَيِّزَ بَيْنَ المُحِقِّ والمُبْطِلِ ولا يُعْذُرَ بِالجَهْلِ، وهو ظاهِرٌ عَلى ما قَدَّمْناهُ مِنَ الوَجْهِ الأوْجَهِ ﴿ألا ساءَ ما يَزِرُونَ﴾ أيْ بِئْسَ شَيْئًا يَزِرُونَهُ ويَرْتَكِبُونَهُ مِنَ الإثْمِ فِعْلُهُمُ المَذْكُورُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب