الباحث القرآني

وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿يُنَزِّلُ المَلائِكَةَ﴾ إلَخْ تَفْصِيلٌ لِما أُجْمِلَ في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ وتَعالى أيْقَظَ أوَّلًا ثُمَّ نَعى عَلَيْهِمْ ما هم فِيهِ مِنَ الشِّرْكِ ثُمَّ أرْدَفَهُ بِدَلائِلِ السَّمْعِ والعَقْلِ، وقَدَّمَ السَّمْعِيَّ لِأنَّ صاحِبَهُ هو القائِمُ بِتَحْرِيرِ العَقْلِيِّ وتَهْذِيبِهِ أيْضًا فَلَيْسَ النَّظَرُ إلى دَلِيلِ السَّمْعِ بَلْ إلى مَن قامَ بِهِ مِنَ المَلائِكَةِ والرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ وهُمُ القائِمُونَ بِالأمْرَيْنِ جَمِيعًا فافْهَمْ. وأخَذَ سِيبَوَيْهِ مِنهُ أنَّ جَعْلَ ( يُنَزِّلُ ) حالًا مِن ضَمِيرِ ( يُشْرِكُونَ ) لا يُطابِقُ المَقامَ البَتَّةَ انْتَهى. وما ذَكَرَهُ مِن أمْرِ الحالِيَّةِ إشارَةٌ إلى الِاعْتِراضِ عَلى شَيْخِهِ العَلّامَةِ الطَّيِّبِيِّ حَيْثُ جَعَلَ ذَلِكَ أحَدَ احْتِمالَيْنِ في (p-93)الجُمْلَةِ، ثانِيهُما كَوْنُها مُسْتَأْنِفَةً وهو الظّاهِرُ، وما أشارَ إلَيْهِ مِن وجْهِ الرَّبْطِ وادَّعى أنَّهُ التَّحْقِيقُ لا يَخْلُو عَمّا هو خِلافُ المُتَبادَرِ، والتَّعْبِيرُ بِصِيغَةِ الِاسْتِقْبالِ لِلْإشارَةِ إلى أنَّ التَّنْزِيلَ عادَةٌ مُسْتَمِرَّةٌ لَهُ تَعالى، والمُرادُ بِالمَلائِكَةِ عِنْدَ الجُمْهُورِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ ويُسَمّى الواحِدُ بِالجَمْعِ- كَما قالَ الواحِدِيُّ- إذا كانَ رَئِيسًا، وعِنْدَ بَعْضٍ هو عَلَيْهِ السَّلامُ ومِن مَعَهُ مِن حَفَظَةِ الوَحْيِ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وأبُو عَمْرٍو «يُنْزِلُ» مُخَفَّفًا مِنَ الإنْزالِ، وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما والأعْمَشُ وأبُو بَكْرٍ يُنَزَّلُ مُشَدِّدًا مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ، والمَلائِكَةُ بِالرَّفْعِ عَلى أنَّهُ نائِبُ الفاعِلِ والجَحْدَرِيُّ كَذَلِكَ إلّا أنَّهُ خَفَّفَ، وأبُو العالِيَةِ والأعْرَجُ والمُفَضَّلُ عَنْ عاصِمٍ «( تَنَزَّلُ )» بِتاءٍ فَوْقِيَّةٍ مَفْتُوحَةٍ وتَشْدِيدِ الزّايِ مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ وقَدْ حُذِفَ مِنهُ أحَدُ التّاءَيْنِ وأصْلُهُ تَتَنَزَّلُ، وابْنُ أبِي عَبْلَةَ «نُنَزِّلَ» بِنُونِ العَظَمَةِ والتَّشْدِيدِ، وقَتادَةُ بِالنُّونِ والتَّخْفِيفِ، وفي هاتَيْنِ القِراءَتَيْنِ كَما في البَحْرِ التِفاتٌ ﴿بِالرُّوحِ﴾ أيِ الوَحْيِ كَما أخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ويَدْخُلُ في ذَلِكَ القُرْآنُ، ورُوِيَ عَنِ الضَّحّاكِ والرَّبِيعِ بْنِ أنَسٍ الِاقْتِصارُ عَلَيْهِ، وأيًّا ما كانَ فَإطْلاقُ «الرُّوحِ» عَلى ذَلِكَ بِطَرِيقِ الِاسْتِعارَةِ المُصَرَّحَةِ المُحَقَّقَةِ، ووَجْهُ الشَّبَهِ أنَّ الوَحْيَ يُحْيِي القُلُوبَ المَيِّتَةَ بِداءِ الجَهْلِ والضَّلالِ أوْ أنَّهُ يَكُونُ بِهِ قِوامُ الدِّينِ كَما أنَّ بِالرُّوحِ يَكُونُ قِوامُ البَدَنِ، ويَلْزَمُ ذَلِكَ اسْتِعارَةٌ مَكْنِيَّةٌ وتَخْيِيلِيَّةٌ وهي تَشْبِيهُ الجَهْلِ والضَّلالِ بِالمَوْتِ وضِدَّ ذَلِكَ بِالحَياةِ أوْ تَشْبِيهُ الدِّينِ بِإنْسانٍ ذِي جَسَدٍ ورُوحٍ، وهَذا كَما إذا قُلْتَ: رَأيْتُ بَحْرًا يَغْتَرِفُ النّاسُ مِنهُ وشَمْسًا يَسْتَغِيثُونَ بِها فَإنَّهُ يَتَضَمَّنُ تَشْبِيهَ عِلْمِ المَمْدُوحِ بِالماءِ العَظِيمِ والنُّورِ السّاطِعِ لَكِنَّهُ جاءَ مِن عَرْضٍ فَلَيْسَ- كَأظْفارِ المَنِيَّةِ- ولَيْسَ غَيْرَ كَوْنِهِ اسْتِعارَةً مُصَرَّحَةً، وجَعْلُ ذَلِكَ في الكَشْفِ مِن قَبِيلِ الِاسْتِعارَةِ بِالكِنايَةِ ولَيْسَ بِذاكَ، والباءُ مُتَعَلِّقَةٌ بِالفِعْلِ السّابِقِ أوْ بِما هو خالٍ مِن مَفْعُولِهِ أيْ يُنَزِّلُ المَلائِكَةَ مُلْتَبِسِينَ بِالرُّوحِ، وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿مِن أمْرِهِ﴾ بَيانٌ لِلرُّوحِ المُرادُ بِهِ الوَحْيُ، والأمْرُ بِمَعْنى الشَّأْنِ واحِدُ الأُمُورِ، ولا يُخْرِجُ ذَلِكَ الرُّوحَ مِنَ الِاسْتِعارَةِ إلى التَّشْبِيهِ كَما قِيلَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿حَتّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأبْيَضُ مِنَ الخَيْطُ الأسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ﴾ لِما قالُوا: مِن أنَّ بَيْنَهُما بَوْنًا بَعِيدًا لِأنَّ نَفْسَ الفَجْرِ عَيْنُ المُشَبَّهِ شُبِّهَ بِخَيْطٍ، ولَيْسَ مُطْلَقُ الأمْرِ بِالمَعْنى السّابِقِ مُشَبَّهًا بِهِ ولِذا بُيِّنَتْ بِهِ الرُّوحُ الحَقِيقِيَّةُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿قُلِ الرُّوحُ مِن أمْرِ رَبِّي﴾ كَما تَبَيَّنَ بِهِ المَجازِيَّةُ، ولَوْ قِيلَ: يُلْقِي أمْرَهُ الَّذِي هو الرُّوحُ لَمْ يَخْرُجْ عَنِ الِاسْتِعارَةِ فَلَيْسَ وِزانُ ﴿مِن أمْرِهِ﴾ وِزانَ ﴿مِنَ الفَجْرِ﴾ ولَيْسَ كُلُّ بَيانٍ مانِعًا مِنَ الِاسْتِعارَةِ كَما يُتَوَهَّمُ مِن كَلامِ المُحَقِّقِ في شَرْحِ التَّلْخِيصِ. وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ الجارُّ والمَجْرُورُ مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ وقَعَ حالًا مِنَ الرُّوحِ عَلى مَعْنى حالِ كَوْنِهِ ناشِئًا ومُبْتَدَأً مِنهُ أوْ صِفَةً لَهُ عَلى رَأْيِ مَن جَوَّزَ حَذْفَ المَوْصُولِ مَعَ بَعْضِ صِلَتِهِ أيْ بِالرُّوحِ الكائِنِ مِن أمْرِهِ أوْ مُتَعَلِّقًا- بِيُنَزِّلُ- ( ومِن ) سَبَبِيَّةٌ أوْ تَعْلِيلِيَّةٌ أوْ يُنَزِّلُ المَلائِكَةَ بِسَبَبِ أمْرِهِ أوْ لِأجْلِهِ، والأمْرُ عَلى هَذا واحِدُ الأوامِرِ، وعَلى ما قَبْلَهُ قِيلَ: فِيهِ احْتِمالانِ. وذَهَبَ بَعْضُهم إلى أنَّ «الرُّوحَ» هو جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ وأيَّدَهُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأمِينُ﴾ وجَعْلِ الباءَ بِمَعْنى مَعَ، وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما أنَّ «الرُّوحَ» خَلْقٌ مِن خَلْقِ اللَّهِ تَعالى كَصُوَرِ بَنِي آدَمَ لا يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ مَلَكٌ إلّا ومَعَهُ واحِدٌ مِنهُمْ، ورُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ وعَلَيْهِ حَمْلُ بَعْضِهِمْ ما في الآيَةِ هُنا. وتَعَقَّبَ ذَلِكَ ابْنُ عَطِيَّةَ بِأنَّ هَذا قَوْلٌ ضَعِيفٌ لَمْ يَأْتِ لَهُ سَنَدٌ يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وأضْعَفُ مِنهُ بَلْ لا يَكادُ يُقَدَّمُ عَلَيْهِ في الآيَةِ أحَدُ ما رُوِيَ عَنْ مُجاهِدٍ أنَّ المُرادَ بِالرُّوحِ أرْواحُ الخَلْقِ لا يَنْزِلُ مَلَكٌ إلّا ومَعَهُ (p-94)رُوحٌ مِن تِلْكَ الأرْواحِ ﴿عَلى مَن يَشاءُ مَن عِبادِهِ﴾ أيْ أنْ يُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ لا لِاخْتِصاصِهِمْ بِصِفاتٍ تُؤَهِّلُهم لِذَلِكَ. والآيَةُ دَلِيلٌ عَلى أنَّ النُّبُوَّةَ عَطائِيَّةٌ كَما هو المَذْهَبُ الحَقُّ، ويُرَدُّ بِها أيْضًا عَلى بَعْضِ المُتَصَوِّفَةِ القائِلِينَ بِأنَّهُ لا حاجَةَ لِلْخَلْقِ إلى إرْسالِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ قالُوا: الرُّسُلُ سِوى اللَّهِ تَعالى وكُلُّ ما سِواهُ سُبْحانَهُ حِجابٌ عَنْهُ جَلَّ شَأْنُهُ فالرُّسُلُ حِجابٌ عَنْهُ تَعالى وكُلُّ ما هو حِجابٌ لا حاجَةَ لِلْخَلْقِ فالرُّسُلُ لا حاجَةَ إلَيْهِمْ، وهَذا جَهْلٌ ظاهِرٌ، ولَعَمْرِي إنَّهُ زَنْدَقَةٌ وإلْحادٌ، وفَسادُهُ مِثْلُ كَوْنِهِ زَنْدَقَةً في الظُّهُورِ، ويَكْفِي في ذَلِكَ مَنعُ الكُبْرى القائِلَةِ بِأنَّ كُلَّ ما سِواهُ سُبْحانَهُ إلَخْ فَإنَّ الرُّسُلَ وسِيلَةٌ إلى اللَّهِ تَعالى والوُصُولُ إلَيْهِ عَزَّ وجَلَّ لا حِجابٌ، وهَلْ يَقْبَلُ ذُو عَقْلٍ أنَّ نائِبَ السُّلْطانِ في بِلادِهِ حِجابٌ عَنْهُ؟ وهَبْ هَذا القائِلُ أمْكَنَهُ الوُصُولُ إلَيْهِ سُبْحانَهُ بِلا واسِطَةٍ بِقُوَّةِ الرِّياضَةِ والِاسْتِعْدادِ والقابِلِيَّةِ فالسَّوادُ الأعْظَمُ الَّذِينَ لا يُمْكِنُهم ما أمْكَنَهُ كَيْفَ يَصْنَعُونَ. ومِمَّنْ يَنْتَظِمُ في سَلْكِ هَؤُلاءِ المُلْحِدِينَ البَراهِمَةُ فَإنَّهم أيْضًا نَفَوْا النُّبُوَّةَ لَكِنَّهُمُ اسْتَدَلُّوا بِأنَّ العَقْلَ كافٍ فِيما يَنْبَغِي أنْ يَسْتَعْمِلَهُ المُكَلَّفُ فَيَأْتِي بِالحُسْنِ ويَجْتَنِبُ القَبِيحَ ويَحْتاطُ في المُشْتَبَهِ بِفِعْلٍ أوْ تَرْكٍ، فالأنْبِياءُ عَلَيْهِمُ السَّلامُ إمّا أنْ يَأْتُوا بِما يُوافِقُ العَقْلَ فَلا حاجَةَ مَعَهُ إلَيْهِمْ أوْ بِما يُخالِفُهُ فَلا التِفاتَ إلَيْهِمْ، وجَوابُهُ أنَّ هَذا مَبْنِيٌّ عَلى القَوْلِ بِالحُسْنِ والقُبْحِ العَقْلِيِّينَ، وقَدْ رُفِعَتِ الأقْلامُ وجَفَّتِ الصُّحُفُ وتَمَّ الأمْرُ في إبْطالِهِ، وعَلى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِهِ لا نُسَلِّمُ أنَّ العَقْلَ يَسْتَقِلُّ بِجَمِيعِ ما يَنْبَغِي، ولا نُسَلِّمُ أيْضًا أنَّهم إنْ جاؤُوا بِما يُوافِقُ العَقْلَ لا حاجَةَ إلَيْهِمْ لِجَوازِ أنْ يُعَرِّفُوا المُكَلَّفَ بَعْضَ ما يَخْفى عَلَيْهِ مِمّا يَنْبَغِي لَهُ أوْ يُؤَكِّدُوا حُكْمَهُ بِحُكْمِهِمْ، ودَلِيلانِ أقْوى مِن دَلِيلٍ، ولا نُسَلِّمُ أيْضًا أنَّهم إنْ جاؤُوا بِما يُخالِفُ العَقْلَ لا يَلْتَفِتُ إلَيْهِمْ لِجَوازِ أنْ يُخالِفُوهُ فِيما يَخْفى عَلَيْهِ، عَلى أنَّ ذَلِكَ فَرْضٌ مُحالٌ لِإجْماعِ النّاسِ عَلى أنَّ الشَّرْعَ لا يَأْتِي بِخِلافِ العَقْلِ في نَفْسِ الأمْرِ وإنَّما يَأْتِي بِما يُقَصِّرُ عَنْ إدْراكِهِ بِنَفْسِهِ كَوُجُوبِ صَوْمِ آخِرَ يَوْمٍ مِن رَمَضانَ وحُرْمَةِ صَوْمِ أوَّلِ يَوْمٍ مِن شَوّالَ، وتَمامُ الكَلامِ في ذَلِكَ يُطْلَبُ مِن مَحَلِّهِ ﴿أنْ أنْذِرُوا﴾ بَدَلٌ مِنَ الرُّوحِ عَلى أنَّ ( أنْ ) هي الَّتِي مِن شَأْنِها أنْ تَنْصِبَ المُضارِعَ وُصِّلَتْ بِالأمْرِ كَما وُصِّلَتْ بِهِ في قَوْلِهِمْ: كَتَبْتُ إلَيْهِ بِأنْ قُمْ، ولا ضَيْرَ في ذَلِكَ كَما حُقِّقَ في مَوْضِعِهِ أيْ يُنْزِلُهم مُلْتَبِسِينَ بِطَلَبِ الإنْذارِ مِنهم. وجَوَّزَ ابْنُ عَطِيَّةَ وأبُو البَقاءِ وصاحِبُ الغَنِيّانِ كَوْنَ ( أنْ ) مُفَسِّرَةً فَلا مَوْضِعَ لَها مِنَ الإعْرابِ، وذَلِكَ لِما في تَنْزِيلِ المَلائِكَةِ بِالوَحْيِ مِن مَعْنى القَوْلِ كَأنَّهُ قِيلَ: يَقُولُ بِواسِطَةِ المَلائِكَةِ لِمَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ أنْ أنْذِرُوا، وجَوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ ذَلِكَ وكَوْنَ (أنِ) المُخَفَّفَةَ مِنَ المُثَقَّلَةِ وأمْرَ البَدَلِيَّةِ عَلى حالٍ قالَ: والتَّقْدِيرُ بِأنَّهُ أنْذِرُوا أيْ بِأنَّ الشَّأْنَ أقُولُ لَكم أنْذِرُوا. وتَعَقَّبَهُ أبُو حَيّانَ بِأنَّ جَعْلَها مُخَفَّفَةً وإضْمارَ اسْمِها وهو ضَمِيرُ الشَّأْنِ وتَقْدِيرَ القَوْلِ حَتّى يَكُونَ الخَبَرُ جُمْلَةً خَبَرِيَّةً تَكَلُّفٌ لا حاجَةَ إلَيْهِ مَعَ سُهُولَةِ جَعْلِها الثُّنائِيَّةَ الَّتِي مِن شَأْنِها نَصْبُ المُضارِعِ، وفِيهِ بَحْثٌ، فَفي الكَشْفِ أنَّ تَحْقِيقَ وصْلِ الأمْرِ بِهَذا الحَرْفِ ناصِبَةً كانَتْ أوْ مُخَفَّفَةً وإضْمارَ القَوْلِ قَدْ سَلَفَ إنَّما الكَلامُ في إيثارِ المُخَفَّفَةِ هاهُنا وفي يُونُسَ والنّاصِبَةِ في نُوحٍ وهي الأصْلُ لِقِلَّةِ التَّقْدِيرِ، وذَلِكَ لِأنَّ مَقامَ المُبالِغَةِ يَقْتَضِي إيثارَ المُخَفَّفَةِ، ولِهَذا جُعِلَ بَدَلًا والمُبْدَلُ مِنهُ ما عُرِفَ شَأْنُهُ، وكَذاكَ في يُونُسَ مَعْناهُ أُعْجِبُوا مِن هَذا الأمْرِ المُحَقَّقِ وهو أنَّ الشَّأْنَ كَذا، وأمّا في نُوحٍ فَكَلامٌ ابْتِدائِيٌّ، وجَعْلُهم فائِدَةَ القَوْلِ أنْ لا يَقَعَ الطَّلَبِيُّ خَبَرًا مِن ضِيقِ العَطَنِ فَذَلِكَ في ضَمِيرِ الشَّأْنِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ لِأنَّهُ مُتَّحِدٌ بِما بَعْدَهُ وهو كَما تَقُولُ: كَلامِي اضْرِبْ زَيْدًا انْتَهى. وقُرِئَ لِيُنْذِرُوا والإنْذارُ الإعْلامُ كَما قِيلَ خَلا أنَّهُ مُخْتَصٌّ بِإعْلامِ المَحْذُورِ أيِ اعْلَمُوا ( أنَّهُ لا إلَهَ إلّا أنا ) فالضَّمِيرُ لِلشَّأْنِ وهو مِن خِلافِ (p-95)مُقْتَضى الظّاهِرِ، وفائِدَةُ تَصْدِيرِ الجُمْلَةِ بِهِ الإيذانُ مِن أوَّلِ الأمْرِ بِفَخامَةِ مَضْمُونِها مَعَ ما في ذَلِكَ مِن زِيادَةِ تَقْرِيرٍ في الذِّهْنِ، ( وأنْ ) وما بَعْدَها في مَوْضِعِ المَفْعُولِ الثّانِي- لِأنْذِرُوا- دُونَ تَقْدِيرِ جارٍّ فِيهِ والمَفْعُولُ الأوَّلُ مَحْذُوفٌ. والمُرادُ العُمُومُ أيْ أعْلِمُوا النّاسَ أنَّ الشَّأْنَ الخَطِيرَ هَذا، ووَجْهُ إنْباءِ مَضْمُونِهِ عَنِ المَحْذُورِ بِأنَّهُ لَيْسَ لِذاتِهِ بَلْ مِن حَيْثُ اتِّصافُ المُنْذِرِينَ بِما يُضادُّهُ مِنَ الإشْراكِ، ولا يُشْتَرَطُ تَحَقُّقُ المَحْذُورِ كالِاتِّصافِ المَذْكُورِ بِالفِعْلِ في تَحَقُّقِ ماهِيَّةِ الإنْذارِ، وإنْ أبَيْتَ إلّا الِاشْتِراطَ فَتَحَقُّقُ الِاتِّصافِ في بَعْضِ أفْرادِ المُنْذِرِينَ لا سِيَّما الأكْثَرُ بِالفِعْلِ كافٍ. وقالَ الرّاغِبُ: الإنْذارُ إخْبارٌ فِيهِ تَخْوِيفٌ كَما أنَّ التَّبْشِيرَ إخْبارٌ فِيهِ سُرُورٌ وهو قَرِيبٌ مِمّا تَقَدَّمَ، ومُحَصِّلُهُ عَلى العِبارَتَيْنِ التَّخْوِيفُ، ومِن هُنا جَوَّزَ بَعْضُهم تَفْسِيرَهُ بِذَلِكَ وقُدِّرَ المَفْعُولُ الأوَّلُ خاصًّا ( وأنْ ) وما بَعْدَها في مَوْضِعِ المَفْعُولِ الثّانِي بِتَقْدِيرِ الجارِّ أيْ خَوِّفُوا أهْلَ الكُفْرِ والمَعاصِي بِأنَّ الشَّأْنَ الخَطِيرَ هَذا، وذَلِكَ كَما جُوِّزَ تَفْسِيرُهُ بِالإعْلامِ، وجُعِلَ المَفْعُولُ الأوَّلُ عامًّا ولَمْ يُقَدِّرْ جارًّا في الثّانِي، وذُكِرَ أنَّ ذَلِكَ أصْلُ مَعْناهُ وأنَّ تَخْصِيصَهُ بِإعْلامِ المَحْذُورِ طارِئٌ فَإنْ أُرِيدَ ذَلِكَ الأصْلُ كانَ تَعَلُّقُهُ بِما بَعْدَهُ ظاهِرًا غايَةَ الظُّهُورِ، وإنْ أُرِيدَ غَيْرُهُ احْتاجَ إلى التَّوْجِيهِ، وقَدْ عَلِمْتَهُ فِيما إذا كانَ المَفْعُولُ الأوَّلُ عامًّا، والأمْرُ فِيما إذا كانَ خاصًّا بَعْدَ ذَلِكَ أظْهَرُ مِن أنْ يُذْكُرَ. وذَكَرَ بَعْضُ الفُضَلاءِ أنَّ الثّابِتَ في اللُّغَةِ أنَّ نَذَرَ بِالشَّيْءِ كَفَرِحَ بِهِ فَحَذَّرَهُ وأنْذَرَهُ إذا أعْلَمَهُ بِما يُحَذِّرُهُ ولَيْسَ فِيها مَجِيئُهُ بِمَعْنى التَّخْوِيفِ فَأصْلُهُ الإعْلامُ مَعَ التَّخْوِيفِ فاسْتَعْمَلُوهُ بِكُلٍّ مِن جُزْأيْ مَعْنَيَيْهِ الإعْلامِ والتَّخْوِيفِ انْتَهى وفِيهِ غَفْلَةٌ عَمّا أشَرْنا إلَيْهِ، وكَأنَّهُ لِهَذا قِيلَ: إنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِشَيْءٍ يُعْتَدُّ بِهِ ﴿فاتَّقُونِ﴾ جَعَلَهُ أبُو السُّعُودِ خِطابًا لِلْمُسْتَعْجِلِينَ عَلى طَرِيقَةِ الِالتِفاتِ والفاءُ فَصِيحَةٌ أيْ إذا كانَ الأمْرُ كَما ذُكِرَ مِن جَرَيانِ عادَتِهِ تَعالى بِتَنْزِيلِ المَلائِكَةِ عَلى مَن يَشاءُ تَنْزِيلُهم عَلَيْهِ مِن عِبادِهِ وأمَرَ المُنَزَّلِ عَلَيْهِمْ بِأنْ يُنْذِرُوا النّاسَ بِأنَّهُ تَعالى لا شَرِيكَ لَهُ في الأُلُوهِيَّةِ فاتَّقَوْنِ في الإخْلالِ بِمَضْمُونِهِ ومُباشَرَةِ ما يُنافِيهِ وفُرُوعِهِ الَّتِي مِن جُمْلَتِها الِاسْتِعْجالُ والِاسْتِهْزاءُ انْتَهى. وهُوَ عَلى ما يَقْتَضِيهِ الظّاهِرُ مَبْنِيٌّ عَلى ما مالَ إلَيْهِ مِنَ اخْتِصاصِ الخِطابِ السّابِقِ بِكَفَرَةٍ، وجَعَلَ بَعْضُهم هَذا الخِطابَ رُجُوعًا أيْضًا إلى خِطابِ قُرَيْشٍ لَكِنَّهُ مُتَفَرِّعٌ عَلى التَّوْحِيدِ، ووَجْهُ تَفَرُّعِهِ عَلَيْهِ أنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى إذا كانَ واحِدًا لَمْ يُتَصَوَّرْ تَخْلِيصُ أحَدٍ لِأحَدٍ مِن عَذابِهِ إذا أرادَ ذَلِكَ ولَمْ يُجَوَّزْ جَعْلُهُ مِن جُمْلَةِ المُوحى بِهِ عَلى مَعْنى أعْلِمُوهم قَوْلِي أنَّ الشَّأْنَ لا إلَهَ إلّا أنا فاتَّقَوْنِ أوْ خَوِّفُوهم بِذَلِكَ مُعَلِّلًا بِأنَّهُ لَوْ كانَ ذَلِكَ لَقِيلَ- إنَّ- بِالكَسْرِ لا بِالفَتْحِ. وتُعِقِّبَ بِمَنعِ اللُّزُومِ فَإنَّ أنَّ لَيْسَتْ بَعْدَ قَوْلٍ صَرِيحٍ أوْ مُقَدَّرٍ وإنَّما ذَكَرُوا ذَلِكَ في بَيانِ المَعْنى لِتَصْوِيرِهِ، واخْتِيرَ أنَّهُ إذا كانَ الإنْذارُ بِمَعْنى التَّخْوِيفِ فالظّاهِرُ دُخُولُ هَذا الأمْرِ في المُنْذِرِ بِهِ لِأنَّهُ هو المُنْذِرُ بِهِ في الحَقِيقَةِ وهو المَقْصُودُ بِالذِّكْرِ، وإذا كانَ بِمَعْنى الإعْلامِ فالمَقْصُودُ بِالإعْلامِ هو الجُمْلَةُ الأُولى وهو مُتَفَرِّعٌ عَلَيْها عَلى طَرِيقِ الِالتِفاتِ، ولا يَخْلُو عَنْ مُناقَشَةٍ فَتَأمَّلْ، والَّذِي يَمِيلُ إلَيْهِ القَلْبُ أنَّ المَجْمُوعَ داخِلٌ في حَيِّزِ الإنْذارِ وهو مُشْتَمِلٌ عَلى التَّوْحِيدِ الَّذِي هو مُنْتَهى كَمالِ القُوَّةِ العِلْمِيَّةِ والأمْرِ بِالتَّقْوى الَّتِي هي أقْصى كَمالِ القُوَّةِ العَمَلِيَّةِ فَإنَّ النُّفُوسَ البَشَرِيَّةَ لَها نِسْبَةٌ إلى عالَمِ الغَيْبِ تَسْتَعِدُّ بِها لِقَبُولِ الصُّوَرِ والتَّحَلِّي بِالمَعارِفِ والإدْراكاتِ مِن ذَلِكَ العالَمِ، ونِسْبَةٌ إلى عالَمِ الشَّهادَةِ تَسْتَعِدُّ بِها لِأنْ تَتَصَرَّفَ في أجْسامِ هَذا العالِمِ ويُسَمّى اسْتِعْدادُها الحاصِلُ لَها بِاعْتِبارِ النِّسْبَةِ الأُولى قُوَّةً نَظَرِيَّةً واسْتِعْدادُها بِاعْتِبارِ النِّسْبَةِ الثّانِيَةِ قُوَّةً عَمَلِيَّةً، وأشْرَفُ كِمالاتِ القُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ مَعْرِفَةُ أنْ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ تَعالى، وأشْرَفُ كِمالاتِ القُوَّةِ العَمَلِيَّةِ الإتْيانُ بِالأعْمالِ الصّالِحَةِ الواقِيَةِ عَنْ خِزْيِ يَوْمِ القِيامَةِ. (p-96)وقُدِّمَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا إلَهَ إلا أنا﴾ عَلى قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿فاتَّقُونِ﴾ لِلْإشارَةِ إلى أنَّ ما يَسْتَنِدُ إلى القُوَّةِ النَّظَرِيَّةِ أعْلى كَمالًا مِمّا يَسْتَنِدُ إلى القُوَّةِ العَمَلِيَّةِ، والكَمالُ الإنْسانِيُّ بِاعْتِبارِ هاتَيْنِ القُوَّتَيْنِ يُسَمّى كَمالًا نَفْسانِيًّا، ولَهُ كِمالاتٌ أُخَرُ هي كِمالاتُهُ البَدَنِيَّةُ وقُواهُ الحَيَوانِيَّةُ، وقَدْ فُصِّلَ ذَلِكَ في مَوْضِعِهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب