الباحث القرآني

﴿ثُمَّ أوْحَيْنا إلَيْكَ أنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْراهِيمَ﴾ وهي عَلى ما رُوِيَ عَنْ قَتادَةَ الإسْلامُ المُعَبَّرُ عَنْهُ آنِفًا بِالصِّراطِ المُسْتَقِيمِ، وفي رِوايَةٍ أُخْرى عَنْهُ أنَّها جَمِيعُ شَرِيعَتِهِ إلّا ما أُمِرَ ﷺ بِتَرْكِهِ، وفي التَّفْسِيرِ الخازِنِيِّ حِكايَةُ هَذا عَنْ أهْلِ الأُصُولِ، وعَنِ ابْنِ عَمْرِو بْنِ العاصِ أنَّها مَناسِكُ الحَجِّ. وقالَ الإمامُ: قالَ قَوْمٌ: إنَّ النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ كانَ عَلى مِلَّةِ إبْراهِيمَ وشَرِيعَتِهِ ولَيْسَ لَهُ شَرْعٌ مُتَفَرِّدٌ بِهِ بَلْ بُعِثَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لِإحْياءِ شَرِيعَةِ إبْراهِيمَ لِهَذِهِ الآيَةِ، فَحَمَلُوا المِلَّةَ عَلى الشَّرِيعَةِ أُصُولًا وفُرُوعًا وهو قَوْلٌ ضَعِيفٌ، والمُرادُ مِن ﴿مِلَّةَ إبْراهِيمَ﴾ التَّوْحِيدُ ونَفْيُ الشِّرْكِ المَفْهُومِ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما كانَ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ فَإنْ قِيلَ: إنَّهُ ﷺ إنَّما نَفى الشِّرْكَ وأثْبَتَ التَّوْحِيدَ لِلْأدِلَّةِ القَطْعِيَّةِ فَلا يُعَدُّ ذَلِكَ مُتابَعَةً فَيَجِبُ حَمْلُ المِلَّةِ عَلى الشَّرائِعِ الَّتِي يَصِحُّ حُصُولُ المُتابَعَةِ فِيها، قُلْنا: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ الأمْرَ بِمُتابَعَتِهِ في كَيْفِيَّةِ الدَّعْوَةِ إلى التَّوْحِيدِ وهي أنْ يَدْعُوَ إلَيْهِ بِطَرِيقِ الرِّفْقِ والسُّهُولَةِ وإيرادِ الدَّلائِلِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرى بِأنْواعٍ كَثِيرَةٍ عَلى ما هو الطَّرِيقَةُ المَأْلُوفَةُ في القُرْآنِ اه. وتَعَقَّبَهُ أبُو حَيّانَ بِأنَّهُ لا يُحْتاجُ إلَيْهِ لِأنَّ المُعْتَقَدَ الَّذِي تَقْتَضِيهِ دَلائِلُ العُقُولِ لا يَمْتَنِعُ أنْ يُوحِيَ لِيَتَضافَرَ المَعْقُولُ والمَنقُولُ عَلى اعْتِقادِهِ، ألا تَرى قَوْلَهُ تَعالى: ﴿قُلْ إنَّما يُوحى إلَيَّ أنَّما إلَهُكم إلَهٌ واحِدٌ﴾ كَيْفَ تَضَمَّنَ الوَحْيُ بِما اقْتَضاهُ الدَّلِيلَ العَقْلِيَّ، فَلا يَمْتَنِعُ أنْ يُؤْمَرَ النَّبِيُّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِاتِّباعِ مِلَّةِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ بِنَفْيِ الشِّرْكِ والتَّوْحِيدِ وإنْ كانَ ذَلِكَ مِمّا ثَبَتَ عِنْدَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِالدَّلِيلِ العَقْلِيِّ لِيَتَضافَرَ الدَّلِيلانِ العَقْلِيُّ والنَّقْلِيُّ عَلى هَذا المَطْلَبِ الجَلِيلِ، وآخَرُ بِأنَّهُ ظاهِرٌ في حَمْلِ المِلَّةِ عَلى كَيْفِيَّةِ الدَّعْوَةِ ولا شَكَّ أنَّ ذَلِكَ لَيْسَ داخِلًا في مَفْهُومِها فَإنَّها ما شَرَعَهُ اللَّهُ تَعالى لِعِبادِهِ عَلى لِسانِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ مِن أمَلَلْتُ الكِتابَ إذا أمْلَيْتَهُ وهي الدِّينُ بِعَيْنِهِ لَكِنْ بِاعْتِبارِ الطّاعَةِ لَهُ، وتَحْقِيقُهُ أنَّ الوَضْعَ الإلَهِيَّ مَهْما نُسِبَ إلى مَن يُؤَدِّيهِ عَنِ اللَّهِ تَعالى يُسَمّى مِلَّةً ومَهْما نُسِبَ إلى مَن يُقِيمُهُ يُسَمّى دِينًا، قالَ الرّاغِبُ: الفَرْقُ بَيْنَها وبَيْنَ الدِّينِ أنَّها لا تُضافُ إلّا لِلنَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ الَّذِي يُسْنَدُ إلَيْهِ ولا تَكادُ تُوجَدُ مُضافَةً إلى اللَّهِ تَعالى ولا إلى آحادِ أُمَّةِ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلامُ ولا تُسْتَعْمَلُ إلّا في جُمْلَةِ الشَّرائِعِ دُونَ آحادِها ولا كَذَلِكَ الدِّينُ، وأكْثَرُ المُفَسِّرِينَ عَلى أنَّ المُرادَ بِها هُنا أُصُولُ الشَّرائِعِ، ويُحْمَلُ عَلَيْهِ ما رُوِيَ عَنْ قَتادَةَ أوَّلًا ولا بَأْسَ بِما رُوِيَ عَنْهُ ثانِيًا. واسْتِدْلالُ بَعْضِ الشّافِعِيَّةِ عَلى وُجُوبِ الخِتانِ وما كانَ مِن شَرْعِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ ولَمْ يَرِدْ بِهِ ناسِخٌ مَبْنِيٌّ عَلى ذَلِكَ كَما لا يَخْفى. وما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَمْرِو بْنِ العاصِ ذَكَرَهُ في البَحْرِ والَّذِي أخْرَجَهُ ابْنُ المُنْذِرِ والبَيْهَقِيُّ في الشَّعْبِ وجَماعَةٌ عَنْهُ أنَّهُ قالَ: «صَلّى جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِإبْراهِيمَ الظُّهْرَ والعَصْرَ بِعَرَفاتٍ ثُمَّ وقَفَ حَتّى إذا غابَتِ الشَّمْسُ دَفَعَ بِهِ ثُمَّ صَلّى المَغْرِبَ والعِشاءَ بِجَمْعٍ ثُمَّ صَلّى بِهِ الفَجْرَ كَأسْرَعِ ما يُصَلِّي أحَدٌ مِنَ المُسْلِمِينَ ثُمَّ وقَفَ بِهِ حَتّى إذا كانَ كَأبْطَأِ ما يُصَلِّي أحَدٌ مِنَ المُسْلِمِينَ دَفَعَ بِهِ ثُمَّ رَمى الجَمْرَةَ ثُمَّ ذَبَحَ وحَلَقَ ثُمَّ أفاضَ بِهِ إلى البَيْتِ فَطافَ بِهِ فَقالَ اللَّهُ تَعالى لِنَبِيِّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ﴿ثُمَّ أوْحَيْنا إلَيْكَ أنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْراهِيمَ﴾» ولَعَلَّ ما ذُكِرَ أوَّلًا مَأْخُوذٌ مِنهُ. وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّهُ لَيْسَ نَصًّا فِيهِ ولا أظُنُّ أنَّ أحَدًا يُوافِقُ عَلى تَخْصِيصِ مِلَّتِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ بِمَناسِكِ الحَجِّ. (p-252)(وأنِ) تَفْسِيرِيَّةٌ أوْ مَصْدَرِيَّةٌ ومَرَّ الكَلامُ في وصْلِها بِالأمْرِ، (وثُمَّ) قِيلَ: لِلتَّراخِي الزَّمانِيِّ لِظُهُورِ أنَّ أيّامَهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ بَعْدَ أيّامِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ بِكَثِيرٍ، واخْتارَ المُحَقِّقُونَ أنَّها لِلتَّراخِي الرُّتْبِيِّ لِأنَّهُ أبْلَغُ وأنْسَبُ بِالمَقامِ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إنَّ في ( ثُمَّ ) هَذِهِ إيذانًا بِأنَّهُ أشْرَفُ ما أُوتِيَ خَلِيلُ اللَّهِ عَلَيْهِ السَّلامُ مِنَ الكَرامَةِ وأجَلُّ ما أُوتِيَ مِنَ النِّعْمَةِ اتِّباعُ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِلَّتَهُ وتَعْظِيمًا لِمَنزِلَةِ نَبِيِّنا عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وإجْلالًا لِمَحَلِّهِ، أمّا الأوَّلُ فَمِن دَلالَةِ ثُمَّ عَلى تَبايُنِ هَذا المُؤْتى وسائِرِ ما أُوتِيَ عَلَيْهِ السَّلامُ مِنَ الرُّتَبِ والمَآثِرِ، وأمّا الثّانِي فَمِن حَيْثُ إنَّ الخَلِيلَ مَعَ جَلالَةِ مَحَلِّهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى أجَلُّ رُتْبَتِهِ أنْ أوْحى إلى الحَبِيبِ اتِّباعَ مِلَّتِهِ، وفي لَفْظِ ( أوْحَيْنا ) ثُمَّ الأمْرُ بِاتِّباعِ المِلَّةِ لا اتِّباعِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ ما يَدُلُّ كَما في الكَشْفِ عَلى أنَّهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ لَيْسَ بِتابِعٍ لَهُ بَلْ هو مُسْتَقِلٌّ بِالأخْذِ عَمَّنْ أخَذَ إبْراهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ عَنْهُ ﴿حَنِيفًا﴾ حالٌ مِن إبْراهِيمَ المُضافِ إلَيْهِ لِما أنَّ المُضافَ لِشِدَّةِ اتِّصالِهِ بِهِ جَرى مِنهُ مَجْرى البَعْضِ فَعُدَّ بِذَلِكَ مِن قَبِيلِ رَأيْتُ وجْهَ هِنْدٍ قائِمَةً. ونَقَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ مَكِّيٍّ عَدَمَ جَوازِ كَوْنِهِ حالًا مِنهُ مُعَلِّلًا ذَلِكَ بِأنَّهُ مُضافٌ إلَيْهِ، وتَعَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: لَيْسَ كَما قالَ لِأنَّ الحالَ قَدْ يَعْمَلُ فِيها حُرُوفُ الخَفْضِ إذا عَمِلَتْ في ذِي الحالِ نَحْوَ مَرَرْتُ بِزَيْدٍ قائِمًا، وفي كِلا الكَلامَيْنِ بَحْثٌ لا يَخْفى. ومَنَعَ أبُو حَيّانَ مَجِيءَ الحالِ مِنَ المُضافِ إلَيْهِ في مِثْلِ هَذِهِ الصُّورَةِ أيْضًا، وزَعَمَ أنَّ الجَوازَ فِيها مِمّا تَفَرَّدَ بِهِ ابْنُ مالِكٍ والتَزَمَ كَوْنَ ( حَنِيفًا ) حالًا مِن ( مِلَّةَ ) لِأنَّها والدِّينَ بِمَعْنًى أوْ مِنَ الضَّمِيرِ في ( اتَّبِعْ ) ولَيْسَ بِشَيْءٍ ولَمْ يَتَفَرَّدْ بِذَلِكَ ابْنُ مالِكٍ بَلْ سَبَقَهُ إلَيْهِ الأخْفَشُ وتَبِعَهُ جَماعَةٌ ﴿وما كانَ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ بَلْ كانَ قُدْوَةَ المُحَقِّقِينَ وهَذا تَكْرِيرٌ لِما سَبَقَ لِزِيادَةِ تَأْكِيدٍ وتَقْرِيرٍ لِنَزاهَتِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ عَمّا هم عَلَيْهِ مِن عَقْدٍ وعَمَلٍ،
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب