الباحث القرآني
﴿ثُمَّ إنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا﴾ إلى دارِ الإسْلامِ وهم عَمّارٌ وأضْرابُهُ أيْ لَهم بِالوِلايَةِ والنَّصْرِ لا عَلَيْهِمْ كَما يَقْتَضِيهِ ظاهِرُ أعْمالِهِمُ السّابِقَةِ فالجارُّ والمَجْرُورُ في مَوْضِعِ الخَبَرِ لِإنَّ، وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ خَبَرُها مَحْذُوفًا لِدَلالَةِ خَبَرِ إنَّ الثّانِيَةِ عَلَيْهِ، والجارُّ والمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِذَلِكَ المَحْذُوفِ، وقالَ أبُو البَقاءِ: الخَبَرُ هو الآتِي وإنَّ الثّانِيَةَ واسْمُها تَكْرِيرٌ لِلتَّأْكِيدِ ولا تُطْلَبُ خَبَرًا مِن حَيْثُ الإعْرابُ، والجارُّ والمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِأحَدِ المَرْفُوعَيْنِ عَلى الأعْمالِ، وقِيلَ: بِمَحْذُوفٍ عَلى جِهَةِ البَيانِ كَأنَّهُ قِيلَ: أعْنِي لِلَّذِينِ أيِ الغُفْرانَ ولَيْسَ بِشَيْءٍ، وقِيلَ: لا خَبَرَ لِأنَّ هَذِهِ في اللَّفْظِ لِأنَّ خَبَرَ الثّانِي أغْنى عَنْهُ ولَيْسَ بِجَيِّدٍ كَما لا يَخْفى (وثُمَّ) لِلدَّلالَةِ عَلى تَباعُدِ رُتْبَةِ حالِهِمْ هَذِهِ عَنْ رُتْبَةِ حالِهِمُ الَّتِي يُفِيدُها الِاسْتِثْناءُ مِن مُجَرَّدِ الخُرُوجِ عَنْ حُكْمِ الغَضَبِ والعَذابِ لا عَنْ رُتْبَةِ حالِ الكَفَرَةِ ﴿مِن بَعْدِ ما فُتِنُوا﴾ أيْ عُذِّبُوا عَلى الِارْتِدادِ، وأصْلُ الفِتَنِ إدْخالُ الذَّهَبِ النّارِ لِتَظْهَرَ جَوْدَتُهُ مِن رَداءَتِهِ ثُمَّ تُجُوِّزَ بِهِ عَنِ البَلاءِ وتَعْذِيبِ الإنْسانِ.
وقَرَأ ابْنُ عامِرٍ «فَتَنُوا» مَبْنِيًّا لِلْفاعِلِ، وهو ضَمِيرُ المُشْرِكِينَ عِنْدَ غَيْرِ واحِدٍ أيْ عَذَّبُوا المُؤْمِنِينَ كالحَضْرَمِيِّ أكْرَهَ مَوْلاهُ جَبْرًا حَتّى ارْتَدَّ ثُمَّ أسْلَما وهاجَرا أوْ وقَعُوا في الفِتْنَةِ فَإنَّ فَتَنَ جاءَ مُتَعَدِّيًا ولازِمًا وتُسْتَعْمَلُ الفِتْنَةُ فِيما يَحْصُلُ عِنْدَ العَذابِ.
وقالَ أبُو حَيّانَ: الظّاهِرُ أنَّ الضَّمِيرَ عائِدٌ عَلى الَّذِينَ هاجَرُوا والمَعْنى فَتَنُوا أنْفُسَهم بِما أعْطَوُا المُشْرِكِينَ مِنَ القَوْلِ كَما فَعَلَ عَمّارٌ أوْ لِما كانُوا صابِرِينَ عَلى الإسْلامِ وعُذِّبُوا بِسَبَبِ ذَلِكَ صارُوا كَأنَّهم عَذَّبُوا أنْفُسَهم ﴿ثُمَّ جاهَدُوا﴾ الكَفّارَ ﴿وصَبَرُوا﴾ عَلى مَشاقِّ الجِهادِ أوْ عَلى ما أصابَهم مِنَ المَشاقِّ مُطْلَقًا ﴿إنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِها﴾ أيْ المَذْكُوراتِ مِنَ الفِتْنَةِ والهِجْرَةِ (p-240)والجِهادِ والصَّبْرِ، وهو تَصْرِيحٌ بِما أشْعَرَ بِهِ بِناءُ الحُكْمِ عَلى المَوْصُولِ مِن عِلِّيَّةِ الصِّلَةِ.
وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ لِلْفِتْنَةِ المَفْهُومَةِ مِنَ الفِعْلِ السّابِقِ ويَكُونَ ما ذُكِرَ بَيانًا لِعَدَمِ إخْلالِ ذَلِكَ بِالحُكْمِ، وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ لِلتَّوْبَةِ والكَلامُ يُعْطِيها وإنْ لَمْ يَجْرِ لَها ذِكْرٌ صَرِيحٌ ﴿لَغَفُورٌ﴾ لِما فَعَلُوا مِن قَبْلُ ﴿رَحِيمٌ﴾ يُنْعِمُ عَلَيْهِمْ مُجازاةً لِما صَنَعُوا مِن بَعْدُ، وفي التَّعَرُّضِ لِعُنْوانِ الرُّبُوبِيَّةِ في المَوْضِعَيْنِ إيماءٌ إلى عِلَّةِ الحُكْمِ وما في إضافَةِ الرَّبِّ إلى ضَمِيرِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مَعَ ظُهُورِ الأثَرِ في الطّائِفَةِ المَذْكُورَةِ إظْهارٌ لِكَمالِ اللُّطْفِ بِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ بِأنَّ إفاضَةَ آثارِ الرُّبُوبِيَّةِ عَلَيْهِمْ مِنَ المَغْفِرَةِ والرَّحْمَةِ بِواسِطَتِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ولِكَوْنِهِمْ أتْباعًا لَهُ.
هَذا وكَوْنُ الآيَةِ في عَمّارٍ وأضْرابِهِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم مِمّا ذَكَرَهُ غَيْرُ واحِدٍ، وصَرَّحَ ابْنُ إسْحاقَ بِأنَّها نَزَلَتْ فِيهِ وفي عَيّاشِ بْنِ أبِي رَبِيعَةَ والوَلِيدِ بْنِ أبِي رَبِيعَةَ والوَلِيدِ بْنِ الوَلِيدِ، وتَعَقَّبَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ بِأنَّ ذِكْرَ عَمّارٍ في ذَلِكَ غَيْرُ قَوِيمٍ فَإنَّهُ أرْفَعَ طَبَقَةَ هَؤُلاءِ، وهَؤُلاءِ مِمَّنْ شَرَحَ بِالكُفْرِ صَدْرًا فَتَحَ اللَّهُ تَعالى لَهم بابَ التَّوْبَةِ في آخِرِ الآيَةِ، وذَكَرَ أنَّ الآيَةَ مَدَنِيَّةٌ وأنَّهُ لا يَعْلَمُ في ذَلِكَ خِلافًا، ونُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما أنَّها نَزَلَتْ فَكَتَبَ بِها المُسْلِمُونَ إلى مَن كانَ أسْلَمَ بِمَكَّةَ إنَّ اللَّهَ تَعالى قَدْ جَعَلَ لَكم مَخْرَجًا فَخَرَجُوا فَلَحِقَهُمُ المُشْرِكُونَ فَقاتَلُوهم حَتّى نَجا مَن نَجا وقُتِلَ مَن قُتِلَ، وأخْرَجَ ذَلِكَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، وفي رِوايَةٍ أنَّهم خَرَجُوا واتَّبَعُوا وقاتَلُوا فَنَزَلَتْ، وأخْرَجَ هَذا ابْنُ المُنْذِرِ وغَيْرُهُ عَنْ قَتادَةَ، فالمُرادُ بِالجِهادِ قِتالُهم لِمُتَّبِعِيهِمْ، وأخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الحَسَنِ وعِكْرِمَةَ أنَّها نَزَلَتْ في عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أبِي سَرْحٍ الَّذِي كانَ يَكْتُبُ لِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَأزَلَّهُ الشَّيْطانُ فَلَحِقَ بِالكَفّارِ فَأمَرَ بِهِ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أنْ يُقْتَلَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ فاسْتَجارَ لَهُ عُثْمانُ بْنُ عَفّانَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ فَأجارَهُ النَّبِيُّ ﷺ، والمُرادُ نَزَلَتْ فِيهِ وفي أشْباهِهِ كَما صَرَّحَ بِهِ في بَعْضِ الرِّواياتِ، وفَسَّرُوا ( فُتِنُوا) عَلى هَذا بِفَتْنِهِمُ الشَّيْطانُ وأزَلَّهم حَتّى ارْتَدَوْا بِاخْتِيارِهِمْ، وما ذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ فِيمَن ذَكَرَ مَعَ عَمّارٍ غَيْرُ مُسَلَّمٍ، فَقَدْ أخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ قَتادَةَ أنَّ عَيّاشًا رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ كانَ أخا أبِي جَهْلٍ لِأُمِّهِ وكانَ يَضْرِبُهُ سَوْطًا وراحِلَتَهُ سَوْطًا لِيَرْتَدَّ عَنِ الإسْلامِ. وفي التَّفْسِيرِ الخازِنِيِّ أنَّ عَيّاشًا وكانَ أخا أبِي جَهْلٍ مِنَ الرَّضاعَةِ، وقِيلَ: لِأُمِّهِ وأبا جَنْدَلِ بْنَ سَهْلِ بْنِ عَمْرٍو وسَلَمَةَ بْنَ هِشامٍ والوَلِيدَ بْنَ المُغِيرَةِ وعَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَلَمَةَ الثَّقَفِيَّ فَتَنَهُمُ المُشْرِكُونَ وعَذَّبُوهم فَأعْطَوْهم بَعْضَ ما أرادُوا لِيَسْلَمُوا مِن شَرِّهِمْ ثُمَّ إنَّهم بَعْدَ ذَلِكَ هاجَرُوا وجاهَدُوا والآيَةُ نَزَلَتْ فِيهِمْ، واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الحالِ
{"ayah":"ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِینَ هَاجَرُوا۟ مِنۢ بَعۡدِ مَا فُتِنُوا۟ ثُمَّ جَـٰهَدُوا۟ وَصَبَرُوۤا۟ إِنَّ رَبَّكَ مِنۢ بَعۡدِهَا لَغَفُورࣱ رَّحِیمࣱ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











