الباحث القرآني

ولِما بَيَّنَ سُبْحانَهُ أنَّ الأُمَمَ المُهْلَكَةَ كانَ لِكُلٍّ مِنهم ومِن غَيْرِهِمْ لَهم كِتابٌ لا يُمْكِنُ التَّقَدُّمُ عَلَيْهِ ولا التَّأخُّرُ عَنْهُ فَقالَ عَزَّ قائِلًا: ﴿ما تَسْبِقُ مِن أُمَّةٍ﴾ مِنَ الأُمَمِ المُهْلَكَةِ وغَيْرِهِمْ- فَمِن- مَزِيدَةٌ لِلِاسْتِغْراقِ، وقِيلَ: إنَّها لِلتَّبْعِيضِ ولَيْسَ بِذاكَ ﴿أجَلَها﴾ المَكْتُوبُ في كِتابِها أيْ لا يَجِيءُ هَلاكُها قَبْلَ مَجِيءِ كِتابِها أوْ لا تَمْضِي أُمَّةٌ قَبْلَ مُضِيِّ أجَلِها، فَإنَّ السَّبْقَ كَما نَقَلَ الإمامُ عَنِ الخَلِيلِ إذا كانَ واقِعًا عَلى زَمانِي فَمَعْناهُ المُجاوَزَةُ والتَّخْلِيفُ فَإذا قُلْتَ: سَبَقَ زَيْدٌ عَمْرًا فَمَعْناهُ أنَّهُ جاوَزَهُ وخَلَّفَهُ وراءَهُ وأنَّ عَمْرًا قَصْرًا عَنْهُ ولَمْ يَبْلُغْهُ وإذا كانَ واقِعًا عَلى زَمانِهِ كانَ عَلى عَكْسِ ذَلِكَ، فَإذا قُلْتَ سَبَقَ فُلانٌ عامَ كَذا كانَ مَعْناهُ مَضى قَبْلَ إتْيانِهِ ولَمْ يَبْلُغْهُ والسِّرُّ في ذَلِكَ عَلى ما في إرْشادِ العَقْلِ السَّلِيمِ أنَّ الزَّمانَ يُعْتَبَرُ فِيهِ الحَرَكَةُ والتَّوَجُّهُ فَما سَبَقَهُ يَتَحَقَّقُ قَبْلَ تَحَقُّقِهِ، وأمّا الزَّمانِيُّ فَإنَّما يُعْتَبَرُ فِيهِ الحَرَكَةُ والتَّوَجُّهُ إلى ما سَيَأْتِي مِنَ الزَّمانِ فالسّابِقُ ما تَقَدَّمَ إلى المَقْصِدِ، وإيرادُهُ بِعُنْوانِ الأجَلِ بِاعْتِبارِ ما يَقْتَضِيهِ مِنَ السَّبْقِ كَما أنَّ إيرادَهُ بِعُنْوانِ الكِتابِ بِاعْتِبارِ ما يُوجِبُهُ مِنَ الإهْلاكِ ﴿وما يَسْتَأْخِرُونَ﴾ أيْ وما يَتَأخَّرُونَ. وصِيغَةُ الِاسْتِفْعالِ لِلْإشْعارِ بِعَجْزِهِمْ عَنْ ذَلِكَ مَعَ طَلَبِهِمْ لَهُ، وإيثارُ صِيغَةِ المُضارِعِ في الفِعْلَيْنِ بَعْدَ ما ذُكِرَ نَفْيُ الإهْلاكِ بِصِيغَةِ الماضِي لِأنَّ المَقْصُودَ بَيانُ دَوامِهِما فِيما بَيْنَ الأُمَمِ الماضِيَةِ والباقِيَةِ، ولَهُ نَظائِرُ في كِتابِ الكَرِيمِ وإسْنادُهُما إلى الأُمَّةِ بَعْدَ إسْنادِ الإهْلاكِ إلى القَرْيَةِ لِما أنَّ السَّبْقَ والِاسْتِئْخارَ حالُ الأُمَّةِ بِدُونِ القَرْيَةِ مَعَ ما في الأُمَّةِ مِنَ العُمُومِ لِأهْلِ تِلْكَ القُرى وغَيْرِهِمْ مِمَّنْ أُخِّرَتْ عُقُوباتُهم إلى الآخِرَةِ، وتَأْخِيرُ عَدَمِ سَبْقِهِمْ مَعَ كَوْنِ المَقامِ مَقامَ المُبالِغَةِ في بَيانِ تَحَقُّقِ عَذابِهِمْ إمّا بِاعْتِبارِ تَقَدُّمِ السَّبْقِ في الوُجُودِ وإمّا بِاعْتِبارِ أنَّ المُرادَ بَيانُ سِرِّ تَأْخِيرِ عَذابِهِمْ مَعَ اسْتِحْقاقِهِمْ لِذَلِكَ، وأوْرَدَ الفِعْلَ عَلى صِيغَةِ جَمْعِ المُذَكَّرِ رِعايَةً لِمَعْنى ( أُمَّةٍ ) مَعَ التَّغْلِيبِ كَما رُوعِيَ لَفْظُها أوَّلًا مَعَ رِعايَةِ الفَواصِلِ ولِهَذا حُذِفَ الجارُّ والمَجْرُورُ والجُمْلَةُ مُبَيِّنَةٌ لِما سَبَقَ ولِذا فُصِلَتْ، والمَعْنى أنَّ تَأْخِيرَ عَذابِهِمْ إلى يَوْمِ الوِدادَةِ حَسْبَما أُشِيرَ إلَيْهِ إنَّما هو لِتَأْخِيرِ أجَلِهِمُ المُقَدِّرِ لِما يَقْتَضِيهِ مِنَ الحِكَمِ ومِن جُمْلَةِ ذَلِكَ ما عَلِمَ اللَّهُ تَعالى مِن إيمانِ بَعْضِ مَن يَخْرُجُ مِنهم قالَهُ شَيْخُ الإسْلامِ واسْتَدَلَّ بِالآيَةِ عَلى أنَّ كُلَّ مَن ماتَ أوْ قُتِلَ فَإنَّما هو مَيِّتٌ بِأجَلِهِ وقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ الإمامُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب