الباحث القرآني
﴿فَإذا سَوَّيْتُهُ﴾ فَعَلْتُ فِيهِ ما يَصِيرُ بِهِ مُسْتَوِيًا مُعْتَدِلًا مُسْتَعِدًّا لِفَيَضانِ الرُّوحِ وقِيلَ: صَوَّرْتُهُ بِالصُّوَرِ الإنْسانِيَّةِ والخِلْقَةِ البَشَرِيَّةِ ﴿ونَفَخْتُ فِيهِ مِن رُوحِي﴾ النَّفْخُ في العُرْفِ إجْراءُ الرِّيحِ مِنَ الفَمِ أوْ غَيْرِهِ في تَجْوِيفِ جِسْمٍ صالِحٍ لِإمْساكِها والِامْتِلاءِ بِها، والمُرادُ هُنا تَمْثِيلُ إفاضَةِ ما بِهِ الحَياةُ بِالفِعْلِ عَلى المادَّةِ القابِلَةِ لَها ولَيْسَ هُناكَ نَفْخٌ حَقِيقَةً.
وقالَ حُجَّةَ الإسْلامِ: عُبِّرَ بِالنَّفْخِ الَّذِي يَكُونُ سَبَبًا لِاشْتِعالِ فَتِيلَةِ القابِلِ مِنَ الطِّينِ الَّذِي تَعاقَبَتْ عَلَيْهِ الأطْوارُ حَتّى اعْتَدَلَ واسْتَوى واسْتَعَدَّ اسْتِعْدادًا تامًّا بِنُورِ الرُّوحِ كَما يَكُونُ سَبَبًا لِاشْتِعالِ الحَطَبِ القابِلِ (p-37)مَثَلًا بِالنّارِ عَنْ نَتِيجَتِهِ ومُسَبِّبِهِ وهو ذَلِكَ الِاشْتِعالُ. وقَدْ يُكَنّى بِالسَّبَبِ عَنِ الفِعْلِ المُسْتَفادِ الَّذِي يَحْصُلُ مِنهُ عَلى سَبِيلِ المَجازِ وإنْ لَمْ يَكُنِ الفِعْلُ المُسْتَفادُ عَلى صُورَةِ الفِعْلِ المُسْتَفادِ مِنهُ. ثُمَّ هَذا الرُّوحُ عِنْدَهُ وكَذا عِنْدَ جَماعَةٍ مِنَ المُحَقِّقِينَ لَيْسَ بِجِسْمٍ يَحِلُّ البَدَنُ حُلُولَ الماءِ في الإناءِ مَثَلًا، ولا هو عَرَضٌ يَحِلُّ القَلْبَ أوِ الدِّماغَ حُلُولَ السَّوادِ في الأسْوَدِ والعِلْمِ في العالِمِ بَلْ هو جَوْهَرٌ مُجَرَّدٌ لَيْسَ داخِلَ البَدَنِ ولا خارِجَهُ ولا مُتَّصِلًا بِهِ ولا مُنْفَصِلًا عَنْهُ، ولَهم عَلى ذَلِكَ عِدَّةُ أدِلَّةٍ.
الدَّلِيلُ الأوَّلُ: أنَّ الإنْسانَ يُمْكِنُهُ إدْراكُ الأُمُورِ الكُلِّيَّةِ وذَلِكَ بِارْتِسامِ صُوَرِ المُدْرَكاتِ في المُدْرَكِ فَمَحَلُّ تِلْكَ الصُّوَرِ إنْ كانَ جِسْمًا فَإمّا أنْ يَحُلَّ غَيْرَ مُنْقَسِمٍ أوْ مُنْقَسِمًا، والأوَّلُ مُحالٌ لِأنَّ الَّذِي لا يَنْقَسِمُ مِنَ الجِسْمِ طَرَفٌ نُقَطِيٌّ والنُّقْطَةُ تَمْتَنِعُ أنْ تَكُونَ مَحَلًّا لِلصُّوَرِ العَقْلِيَّةِ لِأنَّها مِمّا لا يَعْقِلُ حُصُولُ المَزاجِ لَها حَتّى يَخْتَلِفَ حالُ اسْتِعْدادِها في القابِلِيَّةِ وعَدَمِها بَلْ إنْ كانَتْ قابِلَةً لِلصُّوَرِ المَذْكُورَةِ وجَبَ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ القَبُولُ حاصِلًا أبَدًا ولَوْ كانَ كَذَلِكَ لَكانَ المَقْبُولُ حاصِلًا أبَدًا لِما أنَّ المَبادِئَ الفَعّالَةَ المُفارِقَةَ عامَّةُ الفَيْضِ فَلا يَتَخَصَّصُ إلّا لِاخْتِلافِ أحْوالِ القَوابِلِ فَلَوْ كانَ القابِلُ تامَّ الِاسْتِعْدادِ لَكانَ المَقْبُولُ واجِبَ الحُصُولِ وحِينَئِذٍ يَكُونُ جَمِيعُ الأجْسامِ ذَواتَ النُّقَطِ عاقِلَةً، ويَجِبُ أيْضًا أنْ يَبْقى البَدَنُ بَعْدَ المَوْتِ عاقِلًا لِبَقاءِ مَحَلِّ الصُّوَرِ عَلى اسْتِعْدادِهِ ولَيْسَ كَذَلِكَ، والثّانِي أيْضًا مُحالٌ لِأنَّ الحالَ في المُنْقَسِمِ مُنْقَسِمٌ فَيَلْزَمُ أنْ تَكُونَ تِلْكَ الصُّورَةُ مُنْقَسِمَةً أبَدًا وذَلِكَ مُحالٌ لِوُجُوهٍ مُقَرَّرَةٍ فِيما بَيْنَهم.
الدَّلِيلُ الثّانِي: ما عَوَّلَ عَلَيْهِ الشَّيْخُ وزَعَمَ أنَّهُ أجَلُّ ما عِنْدَهُ في هَذا البابِ وهو أنَّهُ يُمْكِنُنا أنْ نَعْقِلَ ذَواتَنا وكُلُّ مَن عَقَلَ ذاتًا فَلَهُ ماهِيَّةُ ذَلِكَ الذّاتِ فَإذًا لَنا ماهِيَّةُ ذاتِنا فَلا يَخْلُو إمّا أنْ يَكُونَ تَعَقُّلُنا لِذاتِنا لِأجْلِ صُورَةٍ أُخْرى مُساوِيَةٍ لَها تَحْصُلُ فِيها وإمّا أنْ لا يَكُونَ بَلْ لِأجْلِ أنَّ نَفْسَها حاضِرَةٌ لَها، والأوَّلُ مُحالٌ لِأنَّهُ يُفْضِي إلى الجَمْعِ بَيْنَ المِثْلَيْنِ فَتَعَيَّنَ الثّانِي، وكُلُّ ما ذاتَهُ حاصِلٌ لِذاتِهِ كانَ قائِمًا بِذاتِهِ، فَإذَنِ القُوَّةُ العاقِلَةُ وهي الرُّوحُ والنَّفْسُ النّاطِقَةُ قائِمَةً بِنَفْسِها، وكُلُّ جِسْمٍ أوْ جُسْمانِيٍّ فَإنَّهُ غَيْرُ قائِمٍ بِنَفْسِهِ، وأكْثَرَ تَلامِذَتُهُ مِنَ الِاعْتِراضاتِ وأجابَ عَنْها.
الدَّلِيلُ الثّالِثُ: ما عَوَّلَ عَلَيْهِ أفْلاطُونُ وهو أنّا نَتَخَيَّلُ صُوَرًا لا وُجُودَ لَها في الخارِجِ ونُمَيِّزُ بَيْنَها وبَيْنَ غَيْرِها فَهَذِهِ الصُّوَرُ أُمُورٌ وُجُودِيَّةٌ ومَحَلُّها يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ جُسْمانِيًّا فَإنَّ جُمْلَةَ بَدَنِنا بِالنِّسْبَةِ إلى الأُمُورِ المُتَخَيَّلَةِ لَنا قَلِيلٌ مِن كَثِيرٍ فَكَيْفَ يَنْطَبِقُ الصُّوَرُ العَظِيمَةُ عَلى المَقادِيرِ الصَّغِيرَةِ؟ ولَيْسَ يُمْكِنُ أنْ يُقالَ: إنَّ بَعْضَ تِلْكَ الصُّوَرِ مُنْطَبِعَةٌ في أبْدانِنا وبَعْضَها في الهَواءِ المُحِيطِ بِنا إذِ الهَواءُ لَيْسَ مِن جُمْلَةِ أبْدانِنا ولا آلَةَ لِنُفُوسِنا في أفْعالِها أيْضًا وهو ظاهِرٌ، فَإذَنْ مَحَلُّ هَذِهِ الصُّوَرِ شَيْءٌ غَيْرُ جُسْمانِيٍّ وذَلِكَ هو النَّفْسُ النّاطِقَةُ.
الدَّلِيلُ الرّابِعُ: لَوْ كانَ مَحَلُّ الإدْراكاتِ شَيْئًا جُسْمانِيًّا لَصَحَّ أنْ يَقُومَ بِبَعْضِ ذَلِكَ الجِسْمِ عِلْمٌ وبِالبَعْضِ الآخَرِ جَهْلٌ فَيَكُونُ الشَّيْءُ الواحِدُ عالِمًا جاهِلًا بِشَيْءٍ واحِدٍ في حالَةٍ واحِدَةٍ.
الدَّلِيلُ الخامِسُ: أنَّ الرُّوحَ لَوْ كانَ مُنْطَبِعًا في جِسْمٍ مِثْلِ قَلْبٍ أوْ دِماغٍ لَكانَ إمّا أنْ يَعْقِلَ دائِمًا ذَلِكَ الجِسْمَ أوْ لا يَعْقِلَهُ كَذَلِكَ أوْ يَعْقِلَهُ في وقْتٍ دُونَ وقْتٍ والأقْسامُ باطِلَةٌ فالقَوْلُ بِانْطِباعِهِ باطِلٌ، وبَيانُ ذَلِكَ أنَّ تَعَقُّلَ الرُّوحِ لِذَلِكَ الجِسْمِ إمّا أنْ يَكُونَ لِأجْلِ أنَّ الآلَةَ حاضِرَةٌ عِنْدَهُ أوْ لِأنَّ صُورَةً أُخْرى مِن تِلْكَ الآلَةِ تَحْصُلُ لَهُ فَإنْ كانَ الأوَّلَ فالرُّوحُ إنْ أمْكَنَهُ إدْراكُ تِلْكَ الآلَةِ وإدْراكُ نَفْسِ مُقارَنَتِها لَهُ فَما دامَتِ الآلَةُ مُقارَنَةً وجَبَ (p-38)أنْ يَعْقِلَها الرُّوحُ فَيَكُونَ دائِمَ الإدْراكِ لِتِلْكَ الآلَةِ وإنِ امْتَنَعَ عَلى الرُّوحِ إدْراكُ الآلَةِ وجَبَ أنْ لا يُدْرِكَها أبَدًا فَظاهِرُ أنَّهُ لَوْ كانَ تَعَقُّلُ الرُّوحِ لِتِلْكَ الآلَةِ لِأجْلِ المُقارَنَةِ لَوَجَبَ أنْ يَعْقِلَها دائِمًا أوْ لا يَعْقِلَها كَذَلِكَ وكِلا القِسْمَيْنِ باطِلٌ، وأمّا إنْ كانَ تَعَقُّلُهُ لَها لِأجْلِ حُصُولِ صُورَةٍ أُخْرى مِنها فالرُّوحُ إنْ كانَتْ في تِلْكَ الآلَةِ والصُّورَةُ الثّانِيَةُ حاصِلَةٌ فِيهِ يَكُونُ الصُّورَةُ الثّانِيَةُ لِلْآلَةِ حالَةً أيْضًا في الآلَةِ لِأنَّ الحالَّ في الحالِّ في الشَّيْءِ حالٌّ في ذَلِكَ الشَّيْءِ فَيَلْزَمُ الجَمْعُ بَيْنَ المِثْلَيْنِ وإنْ لَمْ يَكُنِ الرُّوحُ في تِلْكَ الحالَّةِ بَلْ مُجَرَّدَةً فَذَلِكَ المَطْلُوبُ واسْتُدِلَّ بِغَيْرِ ذَلِكَ أيْضًا.
وقَدْ ذَكَرَ الإمامُ في المَباحِثِ مِنَ الأدِلَّةِ اثْنَيْ عَشَرَ دَلِيلًا مِنها ما ذَكَرَ وأطالَ الكَلامَ في ذَلِكَ جَرْحًا وتَعْدِيلًا وعَوَّلَ في إثْباتِ هَذا المَطْلَبِ عَلى غَيْرِ ذَلِكَ فَقالَ: والَّذِي نُعَوِّلُ عَلَيْهِ أنْ نَقُولَ: إنَّ كُلَّ عاقِلٍ يَجِدُ مِن نَفْسِهِ أنَّهُ الَّذِي كانَ قَبْلُ فَهَوِيَّتُهُ إمّا أنْ تَكُونَ جِسْمًا وإمّا أنْ تَكُونَ قائِمَةً بِالجِسْمِ وإمّا أنْ لا تَكُونُ شَيْئًا مِنَ الأمْرَيْنِ والأوَّلِ بِالباطِلِ، أمّا أوَّلًا فَلِأنَّ الإنْسانَ قَدْ يَكُونُ عالِمًا بِهَوِيَّتِهِ عِنْدَ ذُهُولِهِ عَنْ جُمْلَةِ أعْضائِهِ الظّاهِرَةِ والباطِنَةِ، وأمّا ثانِيًا فَلِأنَّ الأبْعاضَ الجُسْمانِيَّةَ دائِمَةُ التَّحَلُّلِ والتَّبَدُّلِ لِأنَّ الأسْبابَ المُحالَّةَ مِنَ الحَرارَةِ الخارِجِيَّةِ والدّاخِلِيَّةِ والحَرَكاتِ النَّفْسانِيَّةِ والبَدَنِيَّةِ مِمّا لا تَخْتَصُّ بِجُزْءٍ دُونَ جُزْءٍ والبَدَنُ مُرَكَّبٌ مِنَ الأعْضاءِ المُرَكَّبَةِ وهي مُرَكَّبَةٌ مِنَ الأعْضاءِ البَسِيطَةِ مِثْلَ اللَّحْمِ والعَظْمِ فَيَكُونُ كُلُّ جُزْءٍ مِنَ اللَّحْمِ مِثْلَ الآخَرِ في الِاسْتِعْدادِ لِلتَّحَلُّلِ فَإذا كانَتِ الأجْزاءُ كُلُّها مُتَساوِيَةً في ذَلِكَ كانَتْ نِسْبَةُ المُحَلَّلاتِ إلى كُلِّ واحِدٍ مِنَ الأجْزاءِ كَنِسْبَتِهِ إلى الجَزاءِ الآخَرِ فَلَمْ يَكُنْ عُرُوضُ التَّحَلُّلِ لِبَعْضٍ أوْلى مِن عُرُوضِهِ لِلْبَعْضِ الآخَرِ فَثَبَتَ أنَّ هُوِيَّةَ الإنْسانِ لَيْسَتْ جِسْمًا ولَيْسَتْ أيْضًا قائِمَةً بِالجِسْمِ لِأنَّ القائِمَ بِهِ يَجِبُ أنْ يَتَبَدَّلَ عِنْدَ تَبَدُّلِهِ لِاسْتِحالَةِ انْتِقالِ الأعْراضِ فَكانَ يَلْزَمُ أنْ لا يَجِدَ الإنْسانُ مِن نَفْسِهِ أنَّهُ الَّذِي كانَ مَوْجُودًا قَبْلُ، ولَمّا كانَ هَذا العِلْمُ مِنَ العُلُومِ البَدِيهِيَّةِ عَلِمْنا أنَّ هُوِيَّةَ الإنْسانِ لَيْسَتْ جِسْمًا ولا مُحْتاجَةً إلَيْهِ فَهو جَوْهَرٌ مُجَرَّدٌ وهو المَطْلُوبُ. ولا يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ لِسائِرِ الحَيَواناتِ هَذا الجَوْهَرُ لِأنّا وإنْ عَرَفْنا أنَّها تَعْلَمُ هُوِيّاتِ أنْفُسَها لَكِنْ لا نَعْرِفُ أنَّها تَعْلَمُ مِن أنْفُسِها أنَّها هي الَّتِي كانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلُ ويُمْكِنُ أنْ يُحْتَجَّ أيْضًا عَلى هَذا المَطْلَبِ بِأنّا قَدْ دَلَلْنا عَلى أنَّ المُدْرَكَ بِجَمِيعِ أصْنافِ الإدْراكاتِ لِجَمِيعِ المُدْرَكاتِ شَيْءٌ واحِدٌ في الإنْسانِ فَنَقُولُ: ذَلِكَ المُدْرَكُ إمّا أنْ يَكُونَ جِسْمًا أوْ قائِمًا بِهِ ولا، والأوَّلُ ظاهِرُ الفَسادِ لِأنَّ الجِسْمَ مِن حَيْثُ هو جِسْمٌ لا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ مُدْرَكًا، والثّانِي أيْضًا باطِلٌ لِأنَّ تِلْكَ الصِّفَةَ إمّا أنْ تَكُونَ قائِمَةً بِجَمِيعِ أجْزاءِ البَدَنِ أوْ بِبَعْضٍ دُونِ بَعْضٍ والأوَّلُ باطِلٌ وإلّا لَكانَ كُلُّ جُزْءٍ مِن أجْزاءِ البَدَنِ مُبْصِرًا سامِعًا مُتَخَيِّلًا مُتَفَكِّرًا عاقِلًا ولَيْسَ كَذَلِكَ، وبَطَلَ أيْضًا أنْ يُقالَ: إنَّ بَعْضَ الأعْضاءِ قامَتْ بِهِ القُوَّةُ المُدْرَكَةُ لِجَمِيعِ هَذِهِ المُدْرَكاتِ لِأنَّهُ يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ في البَدَنِ عُضْوٌ واحِدٌ سامِعٌ مُبْصِرٌ مُتَخَيِّلٌ مُتَفَكِّرٌ عاقِلٌ ولَسْنا نَجْدُ ذَلِكَ فِينا، وبِهَذا ظَهَرَ أيْضًا فَسادُ ما قِيلَ: لَعَلَّ القُوَّةَ المُدْرَكَةَ لِجَمِيعِ المُدْرَكاتِ قائِمَةٌ بِجِسْمٍ لَطِيفٍ مَحْصُورٍ في بَعْضِ الأعْضاءِ لِظُهُورِ أنّا لا نَجْدُ مِن أبْدانِنا مَوْضِعًا مُشْتَمِلًا عَلى هَذا الجِسْمِ اللَّطِيفِ السّامِعِ المُبْصِرِ المُتَخَيِّلِ المُتَفَكِّرِ العاقِلِ، ولَيْسَ لِأحَدٍ أنْ يَقُولَ: هَبْ أنَّكم لا تَعْرِفُونَ هَذا المَوْضِعَ لَكِنْ ذَلِكَ لا يَدُلُّ عَلى عَدَمِهِ لِأنّا نَقُولُ: إنّا قَدْ دَلَّلْنا عَلى أنّا السّامِعُونَ المُبْصِرُونَ المُتَخَيِّلُونَ العاقِلُونَ فَلَوْ كانَ بَعْضُ الأجْسامِ سَواءٌ كانَ جُزْءًا مِنَ البَدَنِ أوْ مَحْصُورًا في جُزْءٍ مِنهُ مَوْصُوفًا بِالقُوَّةِ المُتَعَلِّقَةِ بِجَمِيعِ هَذِهِ المُدْرَكاتِ لَمْ يَكُنْ حَقِيقَتُنا وهُوِيَّتُنا إلّا ذَلِكَ الجِسْمَ فَلَوْ لَمْ نَعْرِفْهُ لَكُنّا لا نَعْرِفُ حَقِيقَةَ أنْفُسِنا وذَلِكَ باطِلٌ فَثَبَتَ أنَّ المَوْصُوفَ بِالقُوَّةِ المُدْرَكَةِ لِجَمِيعِ المُدْرَكاتِ لَيْسَ جِسْمًا أصْلًا ولا قائِمًا بِهِ (p-39)فَهُوَ جَوْهَرٌ مُجَرَّدٌ وهو المَطْلُوبُ، وذَكَرَ هَؤُلاءِ الذّاهِبُونَ إلى التَّجَرُّدِ أنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِالبَدَنِ كَتَعَلُّقِ العاشِقِ عِشْقًا جَبَلِيًّا إلْهامِيًّا بِالمَعْشُوقِ حَتّى أنَّهُ لا يَنْقَطِعُ ذَلِكَ التَّعَلُّقُ ما دامَ البَدَنُ مُسْتَعِدًّا لِأنْ يَتَعَلَّقَ بِهِ بَلْ تَعَلُّقُ الرُّوحِ أقْوى مِن هَذا التَّعَلُّقِ بِكَثِيرٍ وهو تَعَلُّقُ التَّدْبِيرِ والتَّصْرِيفِ وإضافَتُهُ إلى ضَمِيرِهِ تَعالى في الآيَةِ لِأنَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى خَلَقَهُ مِن غَيْرِ واسِطَةٍ تَجْرِي مَجْرى الأصْلِ والمادَّةِ أوْ لِلتَّشْرِيفِ، وسُئِلَ حُجَّةُ الإسْلامِ عَنْ ذَلِكَ فَقالَ: لَوْ نَطَقَتِ الشَّمْسُ وقالَتْ: أفْضْتُ عَلى الأرْضِ مِن نُورِي يَكُونُ ذَلِكَ صِدْقًا ويَكُونُ مَعْنى النِّسْبَةِ أنَّ النُّورَ الحاصِلَ لِلْأرْضِ مِن جِنْسِ نُورِ الشَّمْسِ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ. وإنْ كانَ في غايَةٍ مِنَ الضَّعْفِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ وقَدْ عَرَفْتُ أنَّ الرُّوحَ مُنَزَّهٌ عَنِ الجِهَةِ والمَكانِ وفي قُوَّتِهِ العِلْمُ بِجَمِيعِ الأشْياءِ وذَلِكَ مُضاهاةٌ ومُناسَبَةٌ ولِذَلِكَ خُصَّ بِالإضافَةِ وهَذِهِ المُضاهاةُ لَيْسَتْ لِلْجُسْمانِيّاتِ أصْلًا، ولَيْسَ لِأحَدٍ أنْ يَقُولَ: إنَّ في تَنْزِيهِ الرُّوحِ عَنِ المَكانِ وصْفًا لَهُ بِصِفَةِ اللَّهِ تَعالى شَأْنُهُ وتَقَدَّسَتْ صِفاتُهُ بَلْ بِأخَصِّ صِفاتِهِ سُبْحانَهُ ويَلْزَمُ مِن ذَلِكَ عَدَمُ التَّمَيُّزِ فَقَدْ قالُوا: كَما يَسْتَحِيلُ اجْتِماعُ جِسْمَيْنِ في مَكانٍ واحِدٍ يَسْتَحِيلُ أنْ يَجْتَمِعَ اثْنانِ لا في مَكانٍ لِأنَّهُ إنَّما اسْتَحالَ اجْتِماعُ جِسْمَيْنِ في مَكانٍ لِأنَّهُ لَوِ اجْتَمَعا لَمْ يَتَمَيَّزْ أحَدُهُما عَنِ الآخَرِ فَكَذَلِكَ لَوْ وُجِدَ اثْنانِ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما لَيْسَ في مَكانٍ لَمْ يَحْصُلِ التَّمَيُّزُ والفَرْقُ بَيْنَهُما ولِذا قالُوا: لا يَجْتَمِعُ سِوادانِ في مَحَلٍّ واحِدٍ حَتّى قِيلَ المِثْلانِ كالضِّدَّيْنِ لِأنّا نَقُولُ: التَّمَيُّزُ غَيْرُ مُنْحَصِرٍ بِالمَكانِ بَلْ يَكُونُ بِهِ لِجِسْمَيْنِ في مَكانَيْنِ وبِالزَّمانِ كَسِوادَيْنِ في جَوْهَرٍ واحِدٍ في زَمانَيْنِ وبِالحَدِّ والحَقِيقَةِ كالأعْراضِ المُخْتَلِفَةِ في مَحَلٍّ واحِدٍ مِثْلِ الطَّعْمِ واللَّوْمِ والبُرُودَةِ والرُّطُوبَةِ في جِسْمٍ واحِدٍ فَإنَّ تَمَيُّزَ كُلٍّ مِنها عَنِ الآخَرِ بِذاتِهِ لا بِمَكانٍ ولا زَمانٍ ومِثْلُ ذَلِكَ العِلْمُ والإرادَةُ والقُدْرَةُ فَإنَّ تَمَيُّزَ كُلٍّ أيْضًا بِذاتِهِ وإنْ كانَ الجَمِيعُ لِشَيْءٍ واحِدٍ فَإذا تُصُوِّرَ أعْراضٌ مُخْتَلِفَةُ الحَقائِقِ في مَحَلٍّ واحِدٍ فَبِأنْ يُتَصَوَّرَ أشْياءَ مُخْتَلِفَةَ الحَقائِقِ بِذَواتِها في غَيْرِ مَكانٍ أوْلى، وكَوْنُ الوُجُودِ لا في مَكانٍ أخَصَّ صِفاتِهِ سُبْحانَهُ في حَيِّزِ المَنعِ بَلِ الأخَصُّ أنَّهُ جَلَّ شَأْنُهُ قَيُّومٌ أيْ قائِمٌ بِذاتِهِ وكُلُّ ما سِواهُ قائِمٌ بِهِ وأنَّهُ تَبارَكَ وتَعالى مَوْجُودٌ بِذاتِهِ وكُلُّ ما سِواهُ تَعالى مَوْجُودٌ لا بِذاتِهِ بَلْ لَيْسَ لِلْأشْياءِ مِن ذَواتِها إلّا العَدَمُ وإنَّما لَها الوُجُودُ مِن غَيْرِها عَلى سَبِيلِ العارِيَةِ والوُجُودُ لَهُ سُبْحانَهُ ذاتِيٌّ غَيْرُ مُسْتَعارٍ فالقَيُّومِيَّةُ لَيْسَ إلّا لِلَّهِ عَزَّ وجَلَّ انْتَهى.
وهَذا الَّذِي قالُوهُ مِن تَجَرُّدِ الرُّوحِ خِلافُ ما عَلَيْهِ جُمْهُورُ أهْلِ السُّنَّةِ. قالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الرَّؤُوفِ المَناوِيُّ: قَدْ خاضَ سائِرُ الفِرَقِ غَمْرَةَ الكَلامِ في الرُّوحِ فَما ظَفِرُوا بِطائِلٍ ولا رَجَعُوا بِنائِلٍ وفِيها أكْثَرُ مِن ألْفِ قَوْلٍ ولَيْسَ فِيها- عَلى ما قالَ ابْنُ جَماعَةٍ - قَوْلٌ صَحِيحٌ بَلْ كُلُّها قِياساتٌ وتَجَلِّياتٌ عَقْلِيَّةٌ، وجُمْهُورُ أهْلِ السُّنَّةِ عَلى أنَّها جِسْمٌ لَطِيفٌ يُخالِفُ الأجْسامَ بِالماهِيَّةِ والصِّفَةِ مُتَصَرِّفٌ في البَدَنِ حالٌّ فِيهِ حُلُولَ الزَّيْتِ في الزَّيْتُونِ والنّارِ في الفَحْمِ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِأنا وأنْتَ.
وإلى ذَلِكَ ذَهَبَ إمامُ الحَرَمَيْنِ، وقالَ اللَّقّانِيُّ: جُمْهُورُ المُتَكَلِّمِينَ عَلى أنَّها جِسْمٌ مُخالِفٌ بِالماهِيَّةِ لِلْجِسْمِ الَّذِي تَتَوَلَّدُ مِنهُ الأعْضاءُ نُورانِيٌّ عُلْوِيٌّ خَفِيفٌ حَيٌّ لِذاتِهِ نافِذٌ في جَوْهَرِ الأعْضاءِ سارَ فِيهِ سَرَيانَ ماءِ الوَرْدِ في الوَرْدِ والنّارِ في الفَحْمِ لا يَتَطَرَّقُ إلَيْهِ تَبَدُّلٌ ولا انْحِلالٌ بَقاؤُهُ في الأعْضاءِ حَياةٌ وانْفِصالُهُ عَنْها إلى عالَمِ الأرْواحِ مَوْتٌ.
وزَعَمَ بَعْضُهم أنَّ الإنْسانَ هو هَذا الهَيْكَلُ المَحْسُوسُ ورُوحَهُ عَرَضٌ قائِمٌ بِهِ وعَزاهُ بَعْضُ المُتَأخِّرِينَ مِنَ المُعاصِرِينَ إلى جُمْهُورِ المُتَكَلِّمِينَ وجَعَلَهُ وامْتِناعَ اتِّحادِ القابِلِ والفاعِلِ دَلِيلًا عَلى إبْطالِ كَوْنِ العَبْدِ خالِقًا لِأفْعالِهِ، وقَدْ رَدَّ الإمامُ في التَّفْسِيرِ ذَلِكَ الزَّعْمَ وارْتَضى ما نَقَلْناهُ عَنِ الجُمْهُورِ فَقالَ: إنَّهم قالُوا لا يَجُوزُ أنَّ يَكُونَ الإنْسانُ (p-40)عِبارَةً عَنْ هَذا الهَيْكَلِ المَحْسُوسِ لِأنَّ أجْزاءَهُ أبَدًا في الذُّبُولِ والنُّمُوِّ والزِّيادَةِ والنُّقْصانِ والِاسْتِكْمالِ والذَّوَبانِ ولا شَكَّ أنَّ الإنْسانَ مِن حَيْثُ هُوَ- هُوَ- أمْرٌ باقٍ مِن أوَّلِ عُمْرِهِ إلى آخِرِهِ وغَيْرُ الباقِي غَيْرُ الباقِي فالمُشارُ إلَيْهِ عِنْدَ كُلِّ أحَدٍ بُقُولِهِ أنا وجَبَ أنْ يَكُونَ مُغايِرًا لِهَذا الهَيْكَلِ.
ثُمَّ اخْتَلَفُوا عِنْدَ ذَلِكَ في أنَّ المُشارَ إلَيْهِ بِأنا أيُّ شَيْءٍ هُوَ؟ والأقْوالُ فِيهِ كَثِيرَةٌ إلى أنَّ أسَدَّها تَحْصِيلًا وتَلْخِيصًا أنَّها أجْزاءٌ جُسْمانِيَّةٌ سارِيَةٌ في هَذا الهَيْكَلِ سَرَيانَ الماءِ في الوَرْدِ والدُّهْنِ في السِّمْسِمِ ثُمَّ إنَّ المُحَقِّقِينَ مِنهم قالُوا إنَّ الأجْسامَ الَّتِي هي باقِيَةٌ مِن أوَّلِ العُمُرِ إلى آخِرِهِ مُخالِفَةٌ بِالماهِيَّةِ لِما تَرَكَّبَ مِنهُ الهَيْكَلُ وهي حَيَّةٌ لِذاتِها مُدْرَكَةٌ لِذاتِها نُورانِيَّةٌ لِذاتِها فَإذا خالَطَتْ ذَلِكَ وصارَتْ سارِيَةً فِيهِ صارَ مُسْتَنِيرًا بِنُورِها مُتَحَرِّكًا بِتَحْرِيكِها ثُمَّ إنَّهُ أبَدًا في الذَّوَبانِ والتَّحَلُّلِ والتَّبَدُّلِ وتِلْكَ الأجْزاءُ لِمُخالَفَتِها لَهُ بِالماهِيَّةِ باقِيَةٌ بِحالِها وإذا فَسَدَ انْفَصَلَتْ عَنْهُ إلى عالَمِ القُدْسِ إنْ كانَتْ سَعِيدَةً أوْ عالَمِ الآفاتِ إنْ كانَتْ شَقِيَّةً اه، ومِنهُ يُعْلَمُ بُطْلانُ الِاسْتِدْلالِ عَلى تَجَرُّدِ الرُّوحِ بِإبْطالِ كَوْنِ الإنْسانِ عِبارَةً عَنِ الهَيْكَلِ المَحْسُوسِ كَما يَقْتَضِيهِ كَلامُ صاحِبِ الهَياكِلِ حَسْبَما يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلامُ شارِحِهِ الجَلالُ حَيْثُ قالَ في الهَيْكَلِ الثّانِي: أنْتَ لا تَغْفُلُ عَنْ ذاتِكَ أبَدًا وما جُزْءٌ مِن أجْزاءِ بَدَنِكَ إلّا تَنْساهُ أحْيانًا ولا يُدْرَكُ الكُلُّ إلّا بِأجْزائِهِ فَلَوْ كُنْتَ أنْتَ هَذِهِ الجُمْلَةَ ما كانَ يَسْتَمِرُّ شُعُورُكَ بِذاتِكَ مَعَ نِسْيانِها فَأنْتَ وراءَ هَذا البَدَنِ وقالَ الجَلالُ: فَلا تَكُونُ النَّفْسُ جِسْمًا أصْلًا لِأنَّ غايَةَ ذَلِكَ إثْباتُ النَّفْسِ وراءَ هَذا البَدَنِ لا إثْباتُ أنَّها مَعَ ذَلِكَ مُجَرَّدَةٌ لِجَوازِ أنْ تَكُونَ جِسْمًا لَطِيفًا كَما عَلِمْتَ. وزَعَمَ القاضِي أنَّ مَذْهَبَ أكْثَرِ المُتَكَلِّمِينَ أنَّ الرُّوحَ عَرَضٌ وأنَّها هي الحَياةُ واخْتارَهُ الأُسْتاذُ أبُو إسْحاقَ ولَمْ يُبالِ بِلُزُومِ قِيامِ العَرَضِ بِالعَرَضِ. واعْتَرَضَ هَذا الزّاعِمُ القَوْلَ بِالجِسْمِيَّةِ بِأنَّها لَوْ كانَتْ جِسْمًا لَجازَ عَلَيْها الحَرَكَةُ والسُّكُونُ كَسائِرِ الأجْسامِ فَيَلْزَمُ أنْ تَكُونَ كُلُّها أرْواحًا ولَوَجَبَ أنْ يَكُونَ لِلرُّوحِ رُوحٌ أُخْرى لا إلى نِهايَةٍ، وفِيهِ أنَّهُ إنَّما يَلْزَمُ ما ذُكِرَ أنْ لَوْ كانَ الجِسْمُ إنَّما كانَ رُوحًا لِكَوْنِهِ جِسْمًا ولَيْسَ فَلَيْسَ فَإنَّهُ إنَّما كانَ رُوحًا لِمَعْنًى خَصَّهُ اللَّهُ تَعالى بِهِ وقَدْ عَلِمْتَ أنَّ القائِلَ بِالجِسْمِيَّةِ يَقُولُ: إنَّهُ حَيٌّ لِذاتِهِ فَلا يَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ وبَيْنَهُ وبَيْنَ الجِسْمِ عِنْدَهُ عَلاقَةٌ بِحَسَبِ بُخارٍ لَطِيفٍ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالرُّوحِ الحَيَوانِيِّ، وعَرَّفَهُ في الهَياكِلِ بِأنَّهُ جِسْمٌ لَطِيفٌ بُخارِيٌّ يَتَوَلَّدُ مِن لَطائِفِ الأخْلاطِ ويَنْبَعِثُ مِنَ التَّجْوِيفِ الأيْسَرِ مِنَ القَلْبِ ويَنْبَثُّ في البَدَنِ بَعْدَ أنْ يَكْتَسِبَ السُّلْطانَ النُّورِيَّ مِنَ النَّفْسِ النّاطِقَةِ ولَوْلا لُطْفُهُ لَما سَرى وهو مَطِيَّةُ تَصَرُّفاتِ النَّفْسِ ومَتى انْقَطَعَ انْقَطَعَ تَصَرُّفُها، وقالَ بَعْضُهُمْ: إنَّهُ اعْتِدالُ مَزاجِ دَمِ القَلْبِ والأمْرُ في ذَلِكَ سَهَلٌ، وذَهَبَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ إلى أنَّ الرُّوحَ تُطْلَقُ عَلى الرُّوحِ الَّتِي ذُكِرَ أنَّها جِسْمٌ لَطِيفٌ سارَ في البَدَنِ سَرَيانَ ماءِ الوَرْدِ في الوَرْدِ وهو غَيْرُ الرُّوحِ الحَيَوانِيِّ وعَلى أمْرٍ رَبّانِيٍّ شَرِيفٍ لَهُ إشْراقٌ عَلى ذَلِكَ الجِسْمِ اللَّطِيفِ ولَعَلَّ ذَلِكَ هو سَبَبُ حَياةِ الرُّوحِ بِالمَعْنى الأوَّلِ وإدْراكِها ونُورانِيَّتِها ويُعَبَّرُ عَنْهُ بِالرُّوحِ الأمْرِيِّ وهو المُرادُ مِنَ الرُّوحِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ويَسْألُونَكَ عَنِ الرُّوحِ﴾ الآيَةَ، ويُطْلِقُونَ كَثِيرًا عَلى الرُّوحِ بِالمَعْنى الأوَّلِ النَّفْسَ الإنْسانِيَّةَ وعَلَيْها بِالمَعْنى الثّانِي النَّفْسَ النّاطِقَةَ والَّذِي يُقالُ فِيهِ: إنَّهُ جَوْهَرٌ مُجَرَّدٌ لَيْسَ جِسْمًا ولا جُسْمانِيًّا ولا مُتَّصِلًا ولا مُنْفَصِلًا ولا داخِلَ العالَمِ ولا خارِجَهُ وأنَّهُ نُورٌ مِن أنْوارِ اللَّهِ تَعالى القائِمَةِ لا في أيْنَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ مَشْرِقُهُ وإلَيْهِ سُبْحانُهُ مَغْرِبُهُ هو الرُّوحُ بِهَذا الإطْلاقِ، واخْتَلَفُوا في أنَّ حُدُوثَها هَلْ هو قَبْلَ الأبْدانِ أوْ بَعْدَها فَقالَ حُجَّةُ الإسْلامِ: الحَقُّ أنَّ الأرْواحَ حَدَثَتْ عِنْدَ اسْتِعْدادِ الجَسَدِ لِلْقَبُولِ كَما حَدَثَتِ الصُّورَةُ في (p-41)المِرْآةِ بِحُدُوثِ الصِّقالَةِ وإنْ كانَ ذُو الصُّورَةِ سابِقَ الوُجُودِ عَلى الصَّقِيلِ، وقَدْ قالَ بِذَلِكَ مِنَ الفَلاسِفَةِ أرِسْطُو ومُتَّبِّعُوهُ، واسْتَدَلُّوا عَلَيْهِ بِأنَّها لَوْ كانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ الأبْدانِ فَإمّا أنْ تَكُونَ واحِدَةً أوْ كَثِيرَةً وعَلى الأوَّلِ إمّا أنْ تَتَكَثَّرَ عِنْدَ التَّعَلُّقِ بِالبَدَنِ أوْ لا فَإنْ لَمْ تَتَكَثَّرْ كانَتِ الرُّوحُ الواحِدَةُ رُوحًا لِكُلِّ بَدَنٍ ولَوْ كانَ كَذَلِكَ لَكانَ ما عَلِمَهُ إنْسانٌ عَلِمَهُ الكُلُّ وما جَهِلَهُ جَهِلَهُ وذَلِكَ مُحالٌ، وإنْ تَكَثَّرَتْ لَزِمَ انْقِسامُ ما لَيْسَ لَهُ حَجْمٌ وهو أيْضًا مُحالٌ، وعَلى الثّانِي لا بُدَّ أنْ يَمْتازَ كُلُّ واحِدَةٍ مِنها عَنْ صاحِبَتِها إمّا بِالماهِيَّةِ أوْ لَوازِمِها أوْ عَوارِضِها، والأوَّلانِ مُحالانِ لِأنَّ الأرْواحَ مُتَّحِدَةٌ بِالنَّوْعِ والواحِدُ بِالنَّوْعِ يَتَساوى جَمِيعُ أفْرادِهِ بِالذّاتِيّاتِ ولَوازِمِها، وأمّا العَوارِضُ فَحُدُوثُها إنَّما هو بِسَبَبِ المادَّةِ وهي هُنا البَدَنُ فَقَبْلَهُ لا مادَّةَ فَلا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ هُناكَ عَوارِضُ مُخْتَلِفَةٌ وبَعْدَ أنْ ساقَ حُجَّةُ الإسْلامِ الدَّلِيلَ عَلى هَذا الطَّرْزِ قِيلَ لَهُ: ما تَقُولُ في خَبَرِ ««إنَّ اللَّهَ تَعالى خَلَقَ الأرْواحَ قَبْلَ الأجْسامِ بِألْفَيِّ عامٍ»»؟ وقَوْلِهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ««أنا أوَّلُ الأنْبِياءِ خَلْقًا وآخِرُهم بَعْثًا وكُنْتُ نَبِيًّا وآدَمُ بَيْنَ الماءِ والطِّينِ»»
فَقالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى: نَعَمْ هَذا يَدُلُّ بِظاهِرِهِ عَلى تَقَدُّمِ وُجُودِ الرُّوحِ عَلى الجَسَدِ ولَكِنَّ أمْرَ الظَّواهِرِ هَيِّنٌ لِسِعَةِ بابِ التَّأْوِيلِ، وقَدْ قالُوا: إنَّ البُرْهانَ القاطِعَ لا يُدْرَأُ بِالظّاهِرِ بَلْ يُؤَوَّلُ لَهُ الظّاهِرُ كَما في ظَواهِرِ الكِتابِ والسُّنَّةِ في حَقِّ اللَّهِ تَعالى المُنافِيَةِ لِما يَدُلُّ عَلَيْهِ البُرْهانُ القَطْعِيُّ، وحِينَئِذٍ يُقالُ: لَعَلَّ المُرادَ مِنَ الأرْواحِ في الخَبَرِ الأوَّلِ المَلائِكَةُ عَلَيْهِمُ السَّلامُ وبِالأجْسادِ أجْسادُ العالَمِ مِنَ العَرْشِ والكُرْسِيِّ والسَّماواتِ ونَحْوِها، وإذا تَفَكَّرْتَ في عِظَمِ هَذِهِ الأجْسادِ لَمْ تَكَدْ تَسْتَحْضِرُ أجْسادَ الآدَمِيِّينَ ولَمْ تَفْهَمْها مِن مُطْلَقِ لَفْظِ الأجْسادِ، ونِسْبَةُ أرْواحِ البَشَرِ إلى أرْواحِ المَلائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ كَنِسْبَةِ أجْسادِهِمْ إلى أجْسادِ العالَمِ ولَوِ انْفَتَحَ عَلَيْكَ بابُ مَعْرِفَةِ أرْواحِ المَلائِكَةِ لَرَأيْتَ الأرْواحَ البَشَرِيَّةَ كَسِراجٍ اقْتُبِسَ مِن نارٍ عَظِيمَةٍ طَبَّقَتِ العالَمَ وتِلْكَ النّارُ هي الرُّوحُ الأخِيرَةُ مِن أرْواحِ المَلائِكَةِ.
وأمّا قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ««أنا أوَّلُ الأنْبِياءِ خَلْقًا»» فالخَلْقُ فِيهِ بِمَعْنى التَّقْدِيرِ دُونَ الإيجادِ فَإنَّهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَبْلَ أنْ يُولَدَ لَمْ يَكُنْ مَخْلُوقًا مَوْجُودًا ولَكِنَّ الغاياتِ سابِقَةٌ في التَّقْدِيرِ ولاحِقَةٌ في الوُجُودِ، وهو مَعْنى قَوْلِهِ الحَكِيمِ: أوَّلُ الفِكْرِ آخِرُ العَمَلِ، فالدّارُ الكامِلَةُ أوَّلُ الأشْياءِ في حَقِّ المُهَنْدِسِ مَثَلًا تَقْدِيرًا وآخِرُها وجُودًا وما يَتَقَدَّمُ عَلى وُجُودِها مِن ضَرْبِ اللَّبَنِ ونَحْوِهِ وسِيلَةٌ إلَيْها ومَقْصُودٌ لِأجْلِها، ولَمّا كانَ المَقْصُودُ مِن فِطْرَةِ الآدَمِيِّينَ إدْراكَهم لِسَعادَةِ القُرْبِ مِنَ الحَضْرَةِ الإلَهِيَّةِ ولَمْ يُمْكِنْهم ذَلِكَ إلّا بِتَعْرِيفِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ كانَتِ النُّبُوَّةُ مَقْصُودَةً والمَقْصُودُ كَمالُها وغايَتُها لا أوَّلُها وتَمْهِيدُ أوَّلِها وسِيلَةٌ إلى ذَلِكَ وكَمالُها بِهِ ﷺ فَلِذَلِكَ كانَ أوَّلًا في التَّقْدِيرِ وآخِرًا في الوُجُودِ، وقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ««كُنْتُ نَبِيًّا وآدَمُ بَيْنَ الماءِ والطِّينِ»» إشارَةٌ إلى هَذا أيْضًا وإنَّهُ لَمْ يَشَأْ سُبْحانَهُ خَلْقَ آدَمَ إلّا لِيَنْتَزِعَ الصّافِيَ مِن ذُرِّيَّتِهِ ولَمْ يَزَلْ يَسْتَصْفِي تَدْرِيجًا إلى أنْ بَلَغَ كَمالَ الصَّفاءِ، ولا يُفْهَمُ هَذا إلّا بِأنْ يُعْلَمَ أنَّ لِلدّارِ مَثَلًا وُجُودَيْنِ وُجُودًا في ذِهْنِ المُهَنْدِسِ حَتّى كَأنَّهُ يَنْظُرُ إلى صُورَتِها ووُجُودًا خارِجَ الذِّهْنِ مُسَبَّبًا عَنِ الوُجُودِ الأوَّلِ فَهو سابِقٌ عَلَيْهِ لا مَحالَةَ.
وحِينَئِذٍ يُقالُ: إنَّ اللَّهَ تَعالى يُقَدِّرُ أوَّلًا ثُمَّ يُوجِدُ عَلى وفْقِ التَّقْدِيرِ ثانِيًا والتَّقْدِيرُ يُرْسَمُ في اللَّوْحِ المَحْفُوظِ كَما يُرْسَمُ تَقْدِيرُ المُهَنْدِسِ أوَّلًا في لَوْحٍ أوْ قِرْطاسٍ فَتَصِيرُ الدّارُ مَوْجُودَةً بِكَمالِ صُورَتِها نَوْعًا مِنَ الوُجُودِ يَكُونُ سَبَبًا لِلْوُجُودِ الحَقِيقِيِّ، وكَما أنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ تُرْتَسَمُ في لَوْحِ المُهَنْدِسِ بِواسِطَةِ القَلَمِ والقَلَمُ يَجْرِي عَلى وفْقِ العِلْمِ بَلِ العِلْمُ يُجْرِيهِ كَذَلِكَ تَقْرِيرُ صُورَةِ الأُمُورِ الإلَهِيَّةِ تُرْتَسَمُ أوَّلًا في اللَّوْحِ المَحْفُوظِ بِواسِطَةِ القَلَمِ الإلَهِيِّ والقَلَمُ يَجْرِي (p-42)عَلى وفْقِ العِلْمِ السّابِقِ الأزَلِيِّ، واللَّوْحُ عِبارَةٌ عَنْ مَوْجُودٍ قابِلٍ لِنَقْشِ الصُّوَرِ، والقَلَمُ عِبارَةٌ عَنْ مَوْجُودٍ مِنهُ تَفِيضُ الصُّوَرُ عَلى اللَّوْحِ ولَيْسَ مِن شَرْطِهِما أنْ يَكُونا جِسْمَيْنِ ولا يَبْعُدُ أنْ يَكُونَ قَلَمُ اللَّهِ تَعالى ولَوْحُهُ لائِقَيْنِ لِأُصْبُعِهِ ويَدِهِ وكُلُّ ذَلِكَ عَلى ما يَلِيقُ بِذاتِهِ الإلَهِيَّةِ ويُقَدَّسُ عَنْ حَقِيقَةِ الجِسْمِيَّةِ، وقَدْ يُقالُ: إنَّهُما جَوْهَرانِ رَوْحانِيّانِ أحَدُهُما مُتَعَلَّمٌ وهو اللَّوْحُ والآخَرُ مُعَلِّمٌ وهو القَلَمُ، وقَدْ أُشِيرَ إلى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿عَلَّمَ بِالقَلَمِ﴾ فَإذا فَهِمْتَ مَعْنَيَيِ الوُجُودِ فَقَدْ كانَ نَبِيُّنا صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَبْلُ بِالمَعْنى الأوَّلِ مِنهُما دُونَ المَعْنى الثّانِي اه.
واعْتُرِضَ عَلى الِاسْتِدْلالِ مِن وُجُوهٍ مِنها ما هو جارٍ عَلى رَأْيِ الفَلاسِفَةِ المُسْتَدِلِّينَ بِذَلِكَ أيْضًا ومِنها ما لا اخْتِصاصَ لَهُ بِرَأْيِهِمْ. الأوَّلُ لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: إنَّها كانَتْ قَبْلَ الأبْدانِ واحِدَةً ثُمَّ تَكَثَّرَتْ ولا يُقالُ: الكُلُّ لَوْ كانَ واحِدًا وكانَ قابِلًا لِلِانْقِسامِ يَلْزَمُ أنْ تَكُونَ وحْدَتُهُ اتِّصالِيَّةً فَيَكُونَ جِسْمًا لِأنّا نَقُولُ: مُسَلَّمٌ أنَّ كُلَّ ما وحْدَتُهُ اتِّصالِيَّةٌ فَإنَّهُ واحِدٌ قابِلٌ لِلِانْقِسامِ ولا نُسَلِّمُ أنَّ كُلَّ واحِدٍ قابِلٌ لِلِانْقِسامِ فَوَحْدَتُهُ اتِّصالِيَّةٌ لِأنَّ المُوجِبَةَ الكُلِّيَّةَ لا تَنْعَكِسُ كَنَفْسِها.
الثّانِي سَلَّمْنا أنَّها كانَتْ مُتَكَثِّرَةً لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ لا بُدَّ أنْ يَخْتَصَّ كُلٌّ بِصِفَةٍ مُمَيَّزَةٍ لِأنَّهُ لَوْ كانَ التَّمَيُّزُ لِلِاخْتِصاصِ بِأمْرٍ ما لَكانَ ذَلِكَ الأمْرُ أيْضًا مُتَمَيِّزًا عَنْ غَيْرِهِ فَإمّا أنْ يَكُونَ تَمَيُّزُهُ بِما بِهِ تَمَيُّزُهُ فَيَلْزَمُ الدَّوْرُ أوْ بِثالِثٍ فَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ ولِأنَّ التَّمَيُّزَ لا يَخْتَصُّ بِشَيْءٍ بِعَيْنِهِ إلّا بَعْدَ تَمَيُّزِهِ فَلَوْ كانَ تَمَيُّزُ الشَّيْءِ عَنْ غَيْرِهِ بِاخْتِصاصِهِ بِشَيْءٍ لَزِمَ الدَّوْرُ. الثّالِثُ سَلَّمْنا أنَّهُ لا بُدَّ مِن مُمَيِّزٍ فَلِمَ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ بِذاتِيٍّ، وبَيانُهُ ما بَيَّنُوهُ مِنَ اخْتِلافِ النُّفُوسِ بِالنَّوْعِ. الرّابِعُ سَلَّمْنا أنَّها لا تَتَمَيَّزُ بِشَيْءٍ مِنَ الذّاتِيّاتِ فَلِمَ لا يَجُوزُ أنْ تَتَمَيَّزَ بِالعَوارِضِ قَوْلُكُمْ: إنَّ حُدُوثَها بِسَبَبِ المادَّةِ وهي هُنا البَدَنُ ولا بَدَنَ فَنَقُولُ لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ هُناكَ بَدَنٌ تَتَعَلَّقُ بِهِ وقَبْلَهُ آخَرُ وهَكَذا ولا مُخَلِّصَ مِن هَذا إلّا بِإبْطالِ التَّناسُخِ فَتُوقَفُ حُجَّةُ إثْباتِ حُدُوثِ الأرْواحِ عَلى ذَلِكَ الإبْطالِ مَعَ أنَّ الحُكَماءَ بَنَوْا ذَلِكَ عَلى الحُدُوثِ حَيْثُ قالُوا بَعْدَ الفَراغِ مِن دَلِيلِهِ: إذا ثَبَتَ حُدُوثُ النَّفْسِ فَلا بُدَّ وأنْ يَكُونَ لِحُدُوثِها سَبَبٌ وذَلِكَ هو حُدُوثُ البَدَنِ فَإذا حَدَثَ البَدَنُ وتَعَلَّقَتْ بِهِ نَفْسٌ عَلى سَبِيلِ التَّناسُخِ وثَبَتَ أنَّ حُدُوثَ النَّفْسِ سَبَبٌ لِأنْ يَحْدُثَ عَنِ المَبادِئِ المُفارِقَةِ نَفْسٌ أُخْرى فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ اجْتِماعُ نَفْسَيْنِ في بَدَنٍ فَيَجِيءُ الدَّوْرُ. الخامِسُ سَلَّمْنا عَدَمَ تَعَلُّقِها بِبَدَنٍ قَبْلُ لَكِنْ لِمَ لا يَجُوزُ أنْ تَكُونَ مَوْصُوفَةً بِعارِضٍ بِاعْتِبارِهِ كانَتْ مُتَمَيِّزَةً ثُمَّ يَكُونُ كُلُّ عارِضٍ بِسَبَبٍ عارِضٍ آخَرَ لا إلى أوَّلٍ.
السّادِسُ: المُعارَضَةُ وهي أنَّ الأرْواحَ عِنْدَ الفَرِيقَيْنِ باقِيَةٌ بَعْدَ المُفارَقَةِ ولا يَكُونُ تَمايُزُها بِالماهِيَّةِ ولَوازِمِها بَلْ بِالعَوارِضِ لَكِنَّ الأرْواحَ الهُيُولانِيَّةَ الَّتِي لَمْ تَكْتَسِبْ شَيْئًا مِنَ العَوارِضِ إذا فارَقَتْ لا يَكُونُ فِيها شَيْءٌ مِنَ العَوارِضِ سِوى أنَّها كانَتْ مُتَعَلِّقَةً بِأبْدانٍ فَإنْ كَفى هَذا القَدْرُ في وُقُوعِ التَّمايُزِ فَلْيَكْفِ أيْضًا كَوْنُها بِحَيْثُ يَحْدُثُ لَها بَعْدُ التَّعَلُّقُ بِأبْدانٍ مُتَمايِزَةٍ، قَوْلُهُمْ: لِمَ لا يَجُوزُ أنْ تَكُونَ قَبْلُ واحِدَةً فَتَكَسَّرَتْ، قُلْنا: لا يَجُوزُ لِأنَّ كُلَّ ما انْقَسَمَ وجَبَ أنْ يَكُونَ جُزْؤُهُ مُخالِفًا لِكُلِّهِ ضَرُورَةَ أنَّ الشَّيْءَ مَعَ غَيْرِهِ لَيْسَ هو لا مَعَ غَيْرِهِ فَتِلْكَ المُخالَفَةُ إنْ كانَتْ بِالماهِيَّةِ أوْ لَوازِمِها وجَبَ أنْ يَكُونَ كُلُّ واحِدٍ مِنَ الأجْزاءِ مُخالِفًا لِلْآخَرِ بِالماهِيَّةِ فَتَكُونُ تِلْكَ الأجْزاءِ قَدْ كانَتْ مُتَمَيِّزَةً أبَدًا وكانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ التَّعَلُّقِ.
فَهَذِهِ الأُمُورُ المُتَعَلِّقَةُ الآنَ بِالأبْدانِ كانَتْ مُتَمَيِّزَةً قَبْلَ التَّعَلُّقِ بِها وإنْ كانَتِ المُخالَفَةُ لا بِالماهِيَّةِ ولا بِلَوازِمِها فَلا بُدَّ أنْ يَكُونَ الجُزْءُ أصْغَرَ مِقْدارًا مِنَ الكُلِّ وإلّا لَمْ يَكُنْ أحَدُهُما أوْلى بِأنْ يَكُونَ جُزْءُ الآخَرِ مِنَ العَكْسِ، فَثَبَتَ أنَّ كُلَّ واحِدٍ قابِلٌ لِلِانْقِسامِ فَلا بُدَّ أنْ يَكُونَ ذا مِقْدارٍ. سَلَّمْنا أنَّ المُجَرَّدَ لا يُمْكِنُ أنْ يَنْقَسِمَ بَعْدَ وحْدَتِهِ (p-43)لَكِنَّ تَعْيِناتِ تِلْكَ الأجْزاءِ إنَّما تَحْدُثُ بَعْدَ الِانْقِسامِ الحاصِلِ بَعْدَ التَّعَلُّقِ بِالبَدَنِ فَيَكُونُ تَعَيِّنُ كُلِّ واحِدٍ مِن تِلْكَ الأجْزاءِ بَعْدَ التَّعَلُّقِ بِالبَدَنِ فَيَكُونُ تَعَيِّنُ كُلِّ واحِدَةٍ مِن تِلْكَ النُّفُوسِ مِن حَيْثُ هي حادِثًا وهو المَطْلُوبُ.
وقَوْلُهُمْ: لِمَ قُلْتُمْ إنَّ الِامْتِيازَ لا يُوجَدُ إلّا عِنْدَ الِاخْتِصاصِ بِوَصْفٍ، قُلْنا: يُجابُ بِنَحْوِ ما ذَكَرُوهُ في تَشَخُّصِ التَّشَخُّصِ، وقَوْلُهم لِمَ قُلْتُمْ: إنَّ النُّفُوسَ لا يَجُوزُ أنْ تَتَمايَزَ بِالصِّفاتِ المُقَوِّمَةِ؟ قُلْنا: هَبْ أنَّ الأمْرَ كَما قُلْتُمُوهُ إلّا أنّا لا نَعْرِفُ بِالبَدِيهَةِ أنَّ كُلَّ نَوْعٍ مِن أنْواعِها فَإنَّها مَقُولَةٌ عَلى أشْخاصٍ عِدَّةٍ بِالضَّرُورَةِ فَإنّا نَعْلَمُ أنَّهُ لَيْسَ يَجِبُ أنْ يَكُونَ كُلُّ إنْسانٍ مُخالِفًا لِجَمِيعِ النّاسِ في الماهِيَّةِ، وإذا وُجِدَ في كُلِّ نَوْعٍ مِن أنْواعِها شَخْصٌ فَقَدْ تَمَّتِ الحُجَّةُ.
وقَوْلُهُمْ: إنَّ هَذِهِ الحُجَّةَ مَبْنِيَّةٌ عَلى إبْطالِ التَّناسُخِ. قُلْنا: لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأنّا إذا وجَدْنا مِنَ النَّوْعِ الواحِدِ شَخْصَيْنِ عَلِمْنا أنَّ تِلْكَ الشَّخْصِيَّةَ لَيْسَتْ مَعْلُولَةً لِتِلْكَ الماهِيَّةِ لِأنَّ كُلَّ ما كانَ كَذَلِكَ كانَ نَوْعُهُ في شَخْصِهِ، ولَمّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ عَلِمْنا أنَّ شَخْصِيَّتَهُ لَيْسَتْ مِن لَوازِمِ ماهِيَّتِهِ فَهي إذَنْ لِعِلَّةٍ خارِجِيَّةٍ، وقَدْ عَرَفْتَ أنَّ العِلَّةَ هي المادَّةُ ومادَّةُ النَّفْسِ هي البَدَنُ فَإذَنْ تَعَيُّنُها لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ لِلتَّعَلُّقِ بِبَدَنِ مُعَيَّنٍ فَتَكُونُ لا مَحالَةَ غَيْرَ مُتَعَيِّنَةٍ قَبْلَ ذَلِكَ البَدَنِ فَهي مَعْدُومَةٌ قَبْلَهُ.
وبِهَذا يَظْهَرُ أنَّ كُلَّ ما نَوْعُهُ مَقُولٌ عَلى كَثِيرِينَ بِالفِعْلِ فَهو مُحْدَثٌ، فاتَّضَحَ مِن هَذا أنَّهُ مَتى سُلِّمَ كَوْنُ النُّفُوسِ مُتَّحِدَةً في النَّوْعِ يَلْزَمُ حُدُوثُها وأنَّهُ لا يَحْتاجُ في ذَلِكَ إلى إبْطالِ التَّناسُخِ لِيَجِيءَ الدَّوْرُ السّابِقُ. قَوْلُهُمْ: لِمَ لا يَجُوزُ أنْ تَكُونَ مَوْصُوفَةً بِعارِضٍ إلَخْ؟ قُلْنا: لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ امْتِيازُها بِذَلِكَ لِأنَّ النَّفْسَ المُعَيَّنَةَ عَنْ غَيْرِها حُكْمٌ مُعَيَّنٌ لا بُدَّ لَهُ مِن عِلَّةٍ مُعَيَّنَةٍ، وتِلْكَ العِلَّةُ لا يُمْكِنُ أنْ تَكُونَ حالَّةً فِيها لِأنَّ ذَلِكَ مُتَوَقِّفٌ عَلى امْتِيازِها عَنْ غَيْرِها فَلَوْ تَوَقَّفَ ذَلِكَ الِامْتِيازُ عَلى حُلُولِ ذَلِكَ الحالِ لَزِمَ الدَّوْرُ، فَإذَنْ تِلْكَ العِلَّةُ أمْرٌ عائِدٌ إلى القابِلِ وقَبْلَ البَدَنِ لا قابِلَ فَلا تَمَيُّزَ. والمُتَكَلِّمُونَ يُبْطِلُونَ مِثْلَ ما ذُكِرَ بِلُزُومِ التَّسَلْسُلِ الَّذِي يُبْطِلُهُ بُرْهانُ التَّطْبِيقِ.
وأمّا المُعارِضَةُ فالجَوابُ عَنْها بِأنَّ النُّفُوسَ الهُيُولانِيَّةَ يَتَمَيَّزُ بَعْضُها عَنِ البَعْضِ أوَّلًا بِسَبَبِ تَعَلُّقِها بِالقابِلِ المُعَيَّنِ ثُمَّ إنَّهُ يَلْزُمُ مِن تَعَيُّنِ كُلِّ واحِدٍ مِنها شُعُورُها بِذاتِها الخاصَّةِ وقَدْ بُيِّنَ أنَّ شُعُورَ الشَّيْءِ بِذاتِهِ حالَةٌ زائِدَةٌ عَلى ذاتِهِ ثُمَّ إنَّ ذَلِكَ الشُّعُورَ يَسْتَمِرُّ فَلا جَرَمَ يَبْقى الِامْتِيازُ.
والحاصِلُ أنَّ الِامْتِيازَ لا بُدَّ وأنْ يَحْصُلَ أوَّلًا بِسَبَبٍ آخَرَ حَتّى يَحْصُلَ لِكُلٍّ مِنَ النُّفُوسِ شُعُورٌ بِذاتِهِ الخاصِّ وذَلِكَ السَّبَبُ في النُّفُوسِ الهُيُولانِيَّةِ تَعَلُّقُها بِالأبْدانِ، وأمّا الَّتِي قَبْلَ الأبْدانِ فَلَوْ تَمَيَّزَتْ لَكانَ المُمَيَّزُ سِوى الشُّعُورِ حَتّى يَتَرَتَّبَ هو عَلَيْهِ، وقَدْ بُيِّنَ أنَّهُ لَيْسَ هُناكَ مُمَيَّزٌ فَلا جَرَمَ اسْتَحالَ حُصُولُ التَّمَيُّزِ وظَهَرَ الفَرْقُ واللَّهُ تَعالى المُوَفِّقُ.
وقَدِ اسْتَدَلَّ صاحِبُ المُعْتَبَرِ عَلى حُدُوثِها بِأنَّها لَوْ كانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ الأبْدانِ لَكانَتْ إمّا مُتَعَلِّقَةً بِأبْدانٍ أُخَرَ أوَّلًا والأوَّلُ باطِلٌ لِأنَّهُ قَوْلٌ بِالتَّناسُخِ وهو باطِلٌ لِأنَّ أنْفُسَنا لَوْ كانَتْ مِن قَبْلُ في بَدَنٍ آخَرَ لَكُنّا نَعْلَمُ الآنَ شَيْئًا مِنَ الأحْوالِ الماضِيَةِ ونَتَذَكَّرُ ذَلِكَ البَدَنَ ولَيْسَ فَلَيْسَ، والثّانِي كَذَلِكَ لِأنَّها تَكُونُ حِينَئِذٍ مُعَطَّلَةً ولا مُعَطَّلَ في الطَّبِيعَةِ وهو دَلِيلٌ بِجَمِيعِ مُقَدِّماتِهِ ضَعِيفٌ جِدًّا فَلا تَعْتَبِرْهُ، وزَعَمَ قَوْمٌ مِن قُدَماءِ الفَلاسِفَةِ قَدَّمَها وأوْرَدُوا لِذَلِكَ أُمُورًا.
الأوَّلُ: أنَّ كُلَّ ما يَحْدُثُ فَلا بُدَّ أنْ يَكُونَ لَهُ مادَّةٌ تَكُونُ سَبَبًا لِأنْ يَصِيرَ أوْلى بِالوُجُودِ بَعْدَ أنْ كانَ أوْلى بِالعَدَمِ فَلَوْ كانَتِ النُّفُوسُ حادِثَةً لَكانَتْ مادِّيَّةً ولَيْسَ فَلَيْسَ. الثّانِي: أنَّها لَوْ كانَتْ حادِثَةً لَكانَ حُدُوثُها لِحُدُوثِ (p-44)الأبْدانِ لَكِنَّ الأبْدانَ الماضِيَةَ غَيْرُ مُتَناهِيَةٍ فالنُّفُوسُ الآنَ غَيْرُ مُتَناهِيَةٍ لَكِنَّ ذَلِكَ مُحالٌ لِكَوْنِها قابِلَةً لِلزِّيادَةِ والنُّقْصانِ والقابِلُ لَهُما مُتَناهٍ فَهي الآنَ مُتَناهِيَةٌ، فَإذَنْ لَيْسَ حُدُوثُ الأبْدانِ عِلَّةً لِحُدُوثِها فَلا يَتَوَقَّفُ صُدُورُها عَنْ عِلَلِها عَلى حُدُوثِ أمْرٍ فَتَكُونُ قَدِيمَةً.
الثّالِثُ: أنَّها لَوْ لَمْ تَكُنْ أزَلِيَّةً لَمْ تَكُنْ أبَدِيَّةً لِما ثَبَتَ أنَّ كُلَّ كائِنٍ فاسِدٌ لَكِنَّها أبَدِيَّةٌ إجْماعًا فَهي أزَلِيَّةٌ، ويُرَدُّ عَلَيْهِمْ أنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِكَوْنِها مادِّيَّةً أنَّ حُدُوثَها يَكُونُ مُتَوَقِّفًا عَلى حُدُوثِ البَدَنِ فالأمْرُ كَذَلِكَ، وإنْ أُرِيدَ بِهِ أنَّها تَكُونُ مُنْطَبِعَةً في البَدَنِ فِلَمَ قُلْتُمْ: إنَّهُ لَوْ تَوَقَّفَ حُدُوثُها عَلى حُدُوثِ البَدَنِ وجَبَ أنْ تَكُونَ مُنْطَبِعَةً فِيهِ، وأيْضًا لِلْمانِعِ أنْ يَمْنَعَ فَسادَ لُزُومِ كَوْنِ النُّفُوسِ الآنَ غَيْرَ مُتَناهِيَةٍ، والمُقَدِّمَةُ القائِلَةُ إنَّ كُلَّ قابِلٍ لِلزِّيادَةِ والنُّقْصانِ مُتَناهٍ لَيْسَتْ مِنَ الأوَّلِيّاتِ قَطْعًا كَما هو ظاهِرٌ فَإذَنْ لا تَصِحُّ إلّا بِبُرْهانٍ وهو لا يَتَقَرَّرُ إلّا فِيما يَحْتَمِلُ الِانْطِباقَ عَلى ما بُيِّنَ في مَحَلِّهِ، وقَوْلُهُمْ: لَوْ لَمْ تَكُنْ أزَلِيَّةً لَمْ تَكُنْ أبَدِيَّةً قَضِيَّةٌ لا حُجَّةَ لَهم عَلى تَصْحِيحِها فَلا تُقْبَلُ، ثُمَّ إنَّ كَوْنَ النُّفُوسِ مُتَّحِدَةٌ بِالنَّوْعِ مِمّا قَدْ صَرَّحَ بِهِ جَماعَةٌ مِنَ المُتَكَلِّمِينَ كالغَزالِيِّ وغَيْرِهِ، وإلَيْهِ ذَهَبَ الشَّيْخُ مِنَ الفَلاسِفَةِ إلّا أنَّهُ لَمْ يَأْتِ لِذَلِكَ بِشُبْهَةٍ فَضْلًا عَنْ حُجَّةٍ واسْتَدَلَّ غَيْرُهُ بِأُمُورٍ:
الأوَّلُ: أنَّ النُّفُوسَ مُشْتَرِكَةٌ في أنَّها نُفُوسٌ بَشَرِيَّةٌ فَلَوِ انْفَصَلَ بَعْضُها عَنْ بَعْضٍ بِمُقَوِّمٍ ذاتِيٍّ مَعَ هَذا الِاشْتِراكِ لَزِمَ التَّرْكِيبُ فَكانَتْ جُسْمانِيَّةً.
الثّانِي: أنّا نَرى النّاسَ مُشْتَرِكِينَ في صِحَّةِ العِلْمِ بِالمَعْلُوماتِ، وفي صِحَّةِ التَّخَلُّقِ بِالأخْلاقِ فالنُّفُوسُ مُتَساوِيَةٌ في صِحَّةِ اتِّصافِها بِالأفْعالِ الإدْراكِيَّةِ والتَّحْرِيكِيَّةِ، وذَلِكَ يُوجِبُ أنْ تَكُونَ مُتَساوِيَةً مُطْلَقًا لِأنّا لا نَعْقِلُ مِن صِفاتِها إلّا كَوْنَها مُدْرَكَةً ومُتَحَرِّكَةً بِالإرادَةِ وهي مُتَساوِيَةٌ فِيهِما فَهي إذَنْ مُتَساوِيَةٌ في جَمِيعِ صِفاتِها المَعْقُولَةِ فَلَوِ اخْتَلَفَتْ بَعْدَ ذَلِكَ لَكانَ اخْتِلافُها في صِفاتٍ غَيْرَ مَعْقُولَةٍ، ولَوْ فَتَحْنا هَذا البابَ لَزِمَ تَعَذُّرُ الحُكْمِ بِتَماثُلِ شَيْئَيْنِ لِجَوازِ اخْتِلافِهِما في غَيْرِ مَعْقُولٍ عِنْدَنا وذَلِكَ يُؤَدِّي إلى القَدْحِ في تَماثُلِ المُتَماثِلاتِ.
الثّالِثُ: أنَّهُ بُيِّنَ في مَحَلِّهِ أنَّ كُلَّ ماهِيَّةٍ مُجَرَّدَةٍ لا بُدَّ وأنْ تَكُونَ عاقِلَةً لِحَقِيقَةِ ذاتِها لَكِنَّ نَفْسَ زَيْدٍ مَثَلًا مُجَرَّدَةٌ فَهي عاقِلَةٌ لِذَلِكَ ثُمَّ إنَّها لا تَعْقِلُ إلّا ماهِيَّةً قَوِيَّةً عَلى الإدْراكِ والتَّحْرِيكِ فَإذَنْ ماهِيَّتُهُ هَذا القَدْرُ وهو مُشْتَرِكٌ بَيْنَهُ وبَيْنَ سائِرِ النُّفُوسِ بِالأدِلَّةِ الَّتِي ذَكَرُوها في بَيانِ أنَّ الوُجُودَ مُشْتَرِكٌ فَيَكُونُ حِينَئِذٍ تَمامُ ماهِيَّتِهِ مَقُولًا عَلى سائِرِ النُّفُوسِ، ويَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ هَذا المُشْتَرِكُ فَصْلَ مُقَوِّمٍ في غَيْرِهِ إذْ هو غَيْرُ مُحْتاجٍ إلَيْهِ في زَيْدٍ إلى فَصْلٍ يُمَيِّزُهُ عَنْ غَيْرِهِ فَلا يُحْتاجُ في غَيْرِهِ أيْضًا إلى فَصْلٍ فَإنَّ الطَّبِيعَةَ الواحِدَةَ لا تَكُونُ مُحْتاجَةً غَنِيَّةً مَعًا، فَثَبَتَ الِاتِّفاقُ في النَّوْعِ وهي أدِلَّةٌ واهِيَةٌ.
أمّا الأوَّلُ فَلِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: لِمَ لا يَجُوزُ أنَّ هَذِهِ النُّفُوسَ وإنْ كانَتْ مُخْتَلِفَةً بِالنَّوْعِ فَهي غَيْرُ مُتَشارِكَةٍ في الجِنْسِ فَلا يَلْزَمُ مِن ذَلِكَ الِاخْتِلافِ كَوْنُها مُرَكَّبَةً والِاشْتِراكُ في كَوْنِها نُفُوسًا بَشَرِيَّةً ونَحْوَهُ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ اشْتِراكًا في أُمُورٍ لازِمَةٍ لِجَوْهَرِها ولا تَكُونُ مُقَوِّمَةً لَها فَتَكُونُ مُخْتَلِفَةً في تَمامِ ماهِيّاتِها، ومُشْتَرِكَةً في اللَّوازِمِ الخارِجِيَّةِ مِثْلَ اشْتِراكِ الفُصُولِ المُقَوِّمَةِ لِأنْواعِ جِنْسٍ واحِدٍ في ذَلِكَ الجِنْسِ فَلا يَلْزَمُ التَّرْكِيبُ، ولَوْ سَلَّمْنا أنَّ هَذِهِ الأوْصافَ ذاتِيَّةٌ فَلِمَ لا يَجُوزُ أنْ تَكُونَ النُّفُوسُ مُرَكَّبَةً في ماهِيّاتِها مَعَ عَدَمِ كَوْنِها جُسْمانِيَّةً (p-45)فالسَّوادُ والبَياضُ مَثَلًا مُنْدَرِجانِ تَحْتَ جِنْسٍ وهو اللَّوْنُ فَيَكُونُ كُلٌّ مِنهُما مُرَكَّبًا لا تَرْكِيبًا جُسْمانِيًّا، ومِثْلُ هَذا يُقالُ هُنا كَيْفَ لا وقَدْ قالُوا: الجَوْهَرُ مَقُولٌ عَلى النَّفْسِ والجِسْمِ.
وأمّا الثّانِي فَمَدارُهُ الِاسْتِقْراءُ، ويَضْعُفُ ذَلِكَ لِوَجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّهُ لا يُمْكِنُنا أنْ نَحْكُمَ عَلى كُلِّ إنْسانٍ بِكَوْنِهِ قابِلًا لِجَمِيعِ المُدْرَكاتِ. وثانِيهُما أنَّهُ لا يُمْكِنُنا أنْ نَحْكُمَ عَلى النَّفْسِ الَّتِي عَلِمْنا قَبُولَها لِصِفَةٍ أنَّها قابِلَةٌ لِجَمِيعِ الصِّفاتِ كَيْفَ وضَبْطُ الصِّفاتِ غَيْرُ مُمْكِنٍ.
وأمّا الثّالِثُ: فَهو يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ جَمِيعُ المُفارَقاتِ نَوْعًا واحِدًا وهو مِمّا لا سَبِيلَ إلَيْهِ، وذَهَبَ شِرْذِمَةٌ إلى اخْتِلافِها بِالنَّوْعِ، وهَذا المُعْتَبَرُ عِنْدَ صاحِبِ المُعْتَبَرِ وطَوَّلَ الكَلامَ في ذَلِكَ، وأحْسَنُ ما عَوَّلَ عَلَيْهِ في الِاسْتِدْلالِ لَهُ اخْتِلافُ النّاسِ في العِلْمِ والجَهْلِ والقُوَّةِ والضَّعْفِ والغَضَبِ والتَّحَمُّلِ وغَيْرِ ذَلِكَ فَقالَ: لَيْسَ ذَلِكَ لِاخْتِلافِ المَزاجِ لِما أنّا نَجْدُ مُتَساوِيَيْنِ مَزاجًا مُخْتَلَفَيْنِ أخْلاقًا وبِالعَكْسِ، وأيْضًا أنَّ نَفْسَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ تَبْلُغُ قُوَّتَها إلى حَيْثُ تَكُونُ قَوِيَّةً عَلى التَّصَرُّفِ في هَيُولى هَذا العالَمِ ومَعْلُومٌ أنَّ ذَلِكَ لَيْسَ لِقُوَّةِ مَزاجِهِ فَلَيْسَ ذَلِكَ الِاخْتِلافُ إلّا لِاخْتِلافِ الجَواهِرِ، وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ هَذا لَيْسَ في الحَقِيقَةِ مِنَ البَراهِينِ بَلْ هو مِنَ الإقْناعاتِ الضَّعِيفَةِ فَتَدَبَّرْ جَمِيعَ ما ذَكَرْناهُ وسَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى تَتِمَّةٌ لِلْكَلامِ في هَذا المَقامِ وهو لَعَمْرُ اللَّهِ تَعالى طَوِيلُ الذَّيْلِ، وبِالجُمْلَةِ إنَّ الوُقُوفَ عَلى حَقِيقَةِ الرُّوحِ أمْرٌ عُسْرٌ والطَّرِيقُ إلَيْهِ وعِرٌ، وقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحانَهُ ذَلِكَ مِن أعْظَمِ آياتِهِ الدّالَّةِ عَلى جَلالِ ذاتِهِ وكَمالِ صِفاتِهِ فَسُبْحانَهُ مِن إلَهٍ ما أجَّلَهُ ومِن رَبٍّ ما أكْمَلَهُ.
﴿فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ﴾ أمْرٌ لِلْمَلائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ بِالسُّجُودِ لِآدَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ عَلى وجْهِ التَّحِيَّةِ والتَّعْظِيمِ أوْ لِلَّهِ تَعالى وهو عَلَيْهِ السَّلامُ بِمَنزِلَةِ القِبْلَةِ حَيْثُ ظَهَرَتْ فِيهِ تَعاجِيبُ آثارِ قُدْرَتِهِ عَزَّ وجَلَّ كَقَوْلِ حَسّانَ:
؎ألَيْسَ أوَّلَ مَن صَلّى لِقِبْلَتِكم وأعْلَمَ النّاسِ بِالقُرْآنِ والسُّنَنِ
وفِي أمْرِهِمْ بِالوُقُوعِ أيِ السُّقُوطِ دَلِيلٌ عَلى أنْ لَيْسَ المَأْمُورُ بِهِ مُجَرَّدَ الِانْحِناءِ كَما قِيلَ بَلِ السُّجُودَ بِالمَعْنى المُتَبادِرِ.
{"ayah":"فَإِذَا سَوَّیۡتُهُۥ وَنَفَخۡتُ فِیهِ مِن رُّوحِی فَقَعُوا۟ لَهُۥ سَـٰجِدِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق