الباحث القرآني
ثُمَّ إنَّهُ سُبْحانَهُ لَمّا بَيَّنَ شَأْنَ الآياتِ لِتَوْجِيهِ المُخاطَبِينَ إلى حُسْنِ تَلَقِّي ما فِيها مِنَ الأحْكامِ والقَصَصِ والمَواعِظِ شَرَعَ جَلَّ شَأْنُهُ في بَيانِ المُتَضَمِّنِ فَقالَ عَزَّ قائِلًا: ﴿رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بِما يَجِبُ الإيمانُ بِهِ ﴿لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ﴾ مُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ، وقِيلَ: المُرادُ (p-4)كُفْرُهم بِالكِتابِ والقُرْآنِ وبِكَوْنِهِ مِن عِنْدِ اللَّهِ تَعالى ووِدادَتُهُمُ الِانْقِيادُ لِحُكْمِهِ والإذْعانِ لِأمْرِهِ، وفِيهِ إيذانٌ بِأنَّ كُفْرَهم إنَّما كانَ بِالجُحُودِ، وفِيهِ نَظَرٌ، وهَذِهِ الوِدادَةُ يَوْمَ القِيامَةِ عِنْدَ رُؤْيَتِهِمْ خُرُوجَ العُصاةِ مِنَ النّارِ.
أخْرَجَ ابْنُ المُبارَكِ، وابْنُ أبِي شَيْبَةَ، والبَيْهَقِيُّ وغَيْرُهم عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ وأنْسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم أنَّهُما تَذاكَرا هَذِهِ الآيَةَ فَقالا: هَذا حَيْثُ يَجْمَعُ اللَّهُ تَعالى بَيْنَ أهْلِ الخَطايا مِنَ المُسْلِمِينَ والمُشْرِكِينَ في النّارِ فَيَقُولُ المُشْرِكُونَ: ما أغْنى عَنْكم ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ فَيَغْضَبُ اللَّهُ تَعالى لَهم فَيُخْرِجُهم بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ.
وأخْرَجَ الطَّبَرانِيُّ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ جابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قالَ: ««قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: إنَّ ناسًا مِن أُمَّتِي يُعَذَّبُونَ بِذُنُوبِهِمْ فَيَكُونُونَ في النّارِ ما شاءَ اللَّهُ تَعالى أنْ يَكُونُوا ثُمَّ يُعَيِّرُهم أهْلُ الشِّرْكِ فَيَقُولُونَ: ما نَرى ما كُنْتُمْ فِيهِ مِن تَصْدِيقِكم نَفْعَكم فَلا يَبْقى مُوَحِّدٌ إلّا أخْرَجَهُ اللَّهُ تَعالى مِنَ النّارِ ثُمَّ قَرَأ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الآيَةَ»».
وأخْرَجَ غَيْرُ واحِدٍ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ وأبِي مُوسى الأشْعَرِيِّ وأبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ نَحْوَ ذَلِكَ يَرْفَعُهُ كُلٌّ إلى رَسُولِ اللَّهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، ورُوِيَ ذَلِكَ عَنْ كَثِيرٍ مِنَ السَّلَفِ الصّالِحِ، فَقَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ: إنَّ القَوْلَ بِهِ بابٌ مِنَ الوِدادَةِ بَيْتٌ مِنَ السَّفاهَةِ قَعِيدَتُهُ عَقِيدَتُهُ الشَّوْهاءُ، وقالَ الضَّحّاكُ: إنَّ ذَلِكَ في الدُّنْيا عِنْدَ المَوْتِ وانْكِشافَ وخامَةِ الكُفْرِ لَهُمْ، وعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أنَّ الآيَةَ في كُفّارِ قُرَيْشٍ ودُّوا ذَلِكَ يَوْمَ بَدْرٍ حِينَ رَأوُا الغَلَبَةَ لِلْمُسْلِمِينَ، وفي رِوايَةٍ عَنْهُ وعَنْ أُناسٍ مِنَ الصَّحابَةِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم أنَّ ذَلِكَ حِينَ ضُرِبَتْ أعْناقُهم فَعُرِضُوا عَلى النّارِ.
وذَكَرَ ابْنُ الأنْبارِيِّ أنَّ هَذِهِ الوِدادَةَ مِنَ الكُفّارِ عِنْدَ كُلِّ حالَةٍ يُعَذَّبُ فِيها الكافِرُ ويَسْلَمُ المُسْلِمُ، «ورُبَّ» عَلى كَثْرَةِ وُقُوعِها في كَلامِ العَرَبِ لَمْ تَقَعْ في القُرْآنِ إلّا في هَذِهِ الآيَةِ، ويُقالُ فِيها رُبَّ بِضَمِّ الرّاءِ وتَشْدِيدِ الباءِ وفَتْحِها ورَبَّ بِفَتْحِ الرّاءِ ورُبُّ بِضَمِّهِما ورُبَتَ بِالضَّمِّ وفَتْحِ الباءِ والتّاءِ ورُبْتَ بِسُكُونِ التّاءِ ورَبَتَ بِفَتْحِ الثَّلاثَةِ ورَبَتْ بِفَتْحِ الأوَّلَيْنِ وسُكُونِ التّاءِ وتَخْفِيفِ الباءِ مِن هَذِهِ السَّبْعَةِ ورُبَّتا بِالضَّمِّ وفَتْحِ الباءِ المُشَدَّدَةِ ورُبْ بِالضَّمِّ والسُّكُونِ ورَبْ بِالفَتْحِ والسُّكُونِ فَهَذِهِ سَبْعَ عَشْرَةَ لُغَةً حَكاها ما عَدا رُبَّتا ابْنُ هِشامٍ في المُغْنِي وحَكى أبُو حَيّانَ إحْدى عَشْرَ مِنها- رُبَّتا- وإذا اعْتُبِرَ ضَمُّ الِاتِّصالِ بِما والتَّجَرُّدُ مِنها بَلَغَتِ اللُّغاتُ ما لا يَخْفى، وزَعَمَ ابْنُ فَضالَةَ في الهَوامِلِ والعَوامِلِ أنَّها ثُنائِيَّةُ الوَضْعِ كَقَدْ وأنَّ فَتْحَ الباءِ مُخَفَّفَةً دُونَ التّاءِ ضَرُورَةٌ وأنَّ فَتْحَ الرّاءِ مُطْلَقًا شاذٌّ، وهي حَرْفُ جَرٍّ خِلافًا لِلْكُوفِيَّةِ. والأخْفَشُ في أحَدِ قَوْلَيْهِ. وابْنُ الطَّراوَةِ زَعَمُوا أنَّها اسْمٌ مَبْنِيٌّ كَكَمْ واسْتَدَلُّوا عَلى اسْمِيَّتِها بِالإخْبارِ عَنْها في قَوْلِهِ:
؎إنْ يَقْتُلُوكَ فَإنَّ قَتْلَكَ لَمْ يَكُنْ عارًا عَلَيْكَ ورُبَّ قَتْلٍ عارُ
فَرُبَّ عِنْدَهم مُبْتَدَأٌ وعارٌ خَبَرُهُ، وتَقَعُ عِنْدَهم مَصْدَرًا كَرُبَّ ضَرْبَةٍ ضَرَبْتُ، وظَرْفًا كَرُبَّ يَوْمَ سِرْتُ، ومَفْعُولًا بِهِ كَرُبَّ رَجُلٍ ضَرَبْتُ، واخْتارَ الرَّضِيُّ اسْمِيَّتَها إلّا أنَّ إعْرابَها عِنْدَهُ رَفْعٌ أبَدًا عَلى أنَّها مُبْتَدَأٌ لا خَبَرَ لَهُ كَما اخْتارَ ذَلِكَ في قَوْلِهِمْ: أقَلُّ رَجُلٍ يَقُولُ ذَلِكَ إلّا زَيْدًا، وقالَ: إنَّها إنْ كُفَّتْ بِما فَلا مَحَلَّ لَها حِينَئِذٍ لِكَوْنِها كَحَرْفِ النَّفْيِ الدّاخِلِ عَلى الجُمْلَةِ ومَنَعَ ذَلِكَ البَصْرِيُّونَ بِأنَّها لَوْ كانَتِ اسْمًا لَجازَ أنْ يَتَعَدّى إلَيْها الفِعْلُ بِحَرْفِ الجَرِّ فَيُقالُ بِرُبَّ رَجُلٍ عالِمٌ مَرَرْتُ، وأنْ يَعُودَ عَلَيْها الضَّمِيرُ ويُضافَ إلَيْها وجَمِيعُ عَلاماتِ الِاسْمِ مُنْتَفِيَةٌ عَنْها، وأُجِيبَ عَنِ البَيْتِ بِأنَّ المَعْرُوفَ- وبَعْضٌ- بَدَلَ رُبَّ، وإنْ صَحَّتْ تِلْكَ الرِّوايَةُ فَعارٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أيْ هو عارٌ كَما صَرَّحَ بِهِ في قَوْلِهِ: يا رُبَّ هَيْجا هي خَيْرٌ مِن دَعَةٍ. والجُمْلَةُ صِفَةُ المَجْرُورِ أوْ خَبَرُهُ إذْ هو في مَوْضِعِ مُبْتَدَأٍ، ويُرَدُّ قِياسُها عَلى كَمْ كَما قالَ (p-5)أبُو عَلِيٍّ: إنَّهم لَمْ يَفْصِلُوا بَيْنَها وبَيْنَ المَجْرُورِ كَما فَصَلُوا بَيْنَ كَمْ وما تَعْمَلُ فِيهِ وفي مُفادِها أقْوالٌ: أحَدُها أنَّها لِلتَّقْلِيلِ دائِمًا وهو قَوْلُ الأكْثَرِينَ، وعُدَّ في البَسِيطِ مِنهُمُ الخَلِيلُ، وسِيبَوَيْهِ، والأخْفَشُ، والمازِنِيُّ، والفارِسِيُّ، والمُبَرِّدُ، والكِسائِيُّ، والفَرّاءُ، وهِشامٌ وخَلْقٌ آخَرُونَ ثانِيها أنَّها لِلتَّكْثِيرِ دائِمًا وعَلَيْهِ صاحِبُ العَيْنِ وابْنُ دَرَسْتَوَيْهِ وجَماعَةٌ، ورُوِيَ عَنِ الخَلِيلِ ثالِثُها واخْتارَهُ الجَلالُ السُّيُوطِيُّ وِفاقًا لِلْفارابِيِّ وطائِفَةٌ أنَّها لِلتَّقْلِيلِ غالِبًا والتَّكْثِيرِ نادِرًا. رابِعُها عَكْسُهُ وجُزِمَ بِهِ في التَّسْهِيلِ واخْتارَهُ ابْنُ هِشامٍ في المُغْنِي. وخامِسُها أنَّها لَهُما مِن غَيْرِ غَلَبَةٍ لِأحَدِهِما نَقَلَهُ أبُو حَيّانَ عَنْ بَعْضِ المُتَأخِّرِينَ.
سادِسُها أنَّها لَمْ تُوضَعْ لِواحِدٍ مِنهُما بَلْ هي حِرَفُ إثْباتٍ لا يَدُلُّ عَلى تَكْثِيرٍ ولا تَقْلِيلٍ وإنَّما يُفْهَمُ ذَلِكَ مِن خارِجٍ واخْتارَهُ أبُو حَيّانَ. سابِعُها أنَّها لِلتَّكْثِيرِ في المُباهاةِ ولِلتَّقْلِيلِ فِيما عَداهُ وهو قَوْلُ الأعْلَمِ. وابْنُ السَّيِّدِ. ثامِنُها أنَّها لِمُبْهَمِ العَدَدِ وهو قَوْلُ ابْنِ الباذَشِ وابْنِ طاهِرٍ وتُصَدَّرُ وُجُوبًا غالِبًا، ونَحْوَ قَوْلِهِ:
؎تَيَقَّنْتُ أنَّ رُبَّ امْرِئٍ خُيِّلَ خائِنًا ∗∗∗ أمِينٌ وخَوّانٌ يُخالِ أمِينا
وقَوْلِهِ:
؎ولَوْ عَلِمَ الأقْوامُ كَيْفَ خَلَّفْتُهم ∗∗∗ لَرُبَّ مُفْدٍ في القُبُورِ وحامِدُ
يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ كَما قالَ الشِّمْنِيُّ ضَرُورَةً، وقالَ أبُو حَيّانَ: المُرادُ تَصَدُّرُها عَلى ما تَتَعَلَّقُ بِهِ فَلا يُقالُ: لَقِيتُ رُبَّ رَجُلٍ عالِمٍ، وذَكَرُوا أنَّها قَدْ تُسْبَقُ بِألا كَقَوْلِهِ:
؎ألا رُبَّ مَأْخُوذٍ بِإجْرامِ غَيْرِهِ ∗∗∗ فَلا تَسْأمَنَّ هُجْرانَ مَن كانَ أجْرَما
وبِيا صُدِّرَ جَوابُ شَرْطٍ غالِبًا كَقَوْلِهِ: فَإنْ أمْسَ مَكْرُوبًا فَيا رُبَّ فِتْيَةٍ. ومِن غَيْرِ الغالِبِ يا رُبَّ كاسِيَةٍ الحَدِيثَ ولا تَجُرُّ غَيْرَ نَكِرَةٍ وأجازَ بَعْضُهم جَرَّها المُعَرَّفَ بِألِ احْتِجاجًا بِقَوْلِهِ:
؎رُبَّما الجامِلِ المُؤَبَّلِ فِيهِمْ ∗∗∗ وعَناجِيجَ بَيْنَهُنَّ المِهارُ
وأجابَ الجُمْهُورُ بِأنَّ الرِّوايَةَ بِالرَّفْعِ وإنْ صَحَّ الجَرُّ فَألْ زائِدَةٌ، وفي وُجُوبِ نَعْتِ مَجْرُورِها خُلْفٌ فَقالَ المُبَرِّدُ وابْنُ السَّرّاجِ، والفارِسِيُّ وأكْثَرُ المُتَأخِّرِينَ وعُزِّيَ لِلْبَصْرِيِّينَ يَجِبُ لِإجْرائِها مَجْرى حَرْفِ النَّفْيِ حَيْثُ لا تَقَعُ إلّا صَدْرًا ولا يُقَدَّمُ عَلَيْها ما يَعْمَلُ في الِاسْمِ بَعْدَها، وحُكْمُ حَرْفِ النَّفْيِ أنْ يَدْخُلَ عَلى جُمْلَةٍ فالأقْيَسُ في مَجْرُورِها أنْ يُوصَفَ بِجُمْلَةٍ لِذَلِكَ، وقَدْ يُوصَفُ بِما يَجْرِي مَجْراها مِن ظَرْفٍ أوْ مَجْرُورٍ أوِ اسْمِ فاعِلٍ أوْ مَفْعُولٍ وجَزَمَ بِهِ ابْنُ هِشامٍ في المُغْنِي وارْتَضاهُ الرَّضِيُّ، وقالَ الأخْفَشُ والفَرّاءُ والزَّجّاجُ وابْنُ طاهِرٍ وابْنُ خَرُوفٍ وغَيْرُهم لا يَجِبُ وتَضَمُّنُها القِلَّةَ أوِ الكَثْرَةَ يَقُومُ مَقامَ الوَصْفِ واخْتارَهُ ابْنُ مالِكٍ وتَبِعَهُ أبُو حَيّانَ ونَظَرَ في الِاسْتِدْلالِ المَذْكُورِ بِما لا يَخْفى، وتَجُرُّ مُضافًا إلى ضَمِيرِ مَجْرُورِها مَعْطُوفًا بِالواوِ كَرُبَّ رَجُلٍ وأخِيهِ ولا يُقاسُ عَلى ذَلِكَ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، وما حَكاهُ الأصْمَعِيُّ مِن مُباشَرَةِ رُبَّ لِلْمُضافِ إلى الضَّمِيرِ حَيْثُ قالَ لِأعْرابِيَّةٍ ألِفُلانٍ أبٌ أوْ أخٌ؟ فَقالَتْ: رُبَّ أبِيهِ رُبَّ أخِيهِ تُرِيدُ رُبَّ أبٍ لَهُ رُبَّ أخٍ لَهُ تَقْدِيرًا لِلِانْفِصالِ لِكَوْنِ ”أبٍ وأخٍ“ مِنَ الأسْماءِ الَّتِي يَجُوزُ الوَصْفُ بِها فَلا يُقاسُ عَلَيْهِ اتِّفاقًا، وتَجُرُّ ضَمِيرًا مُفْرَدًا مُذَكَّرًا يُفَسِّرُهُ نَكِرَةٌ مَنصُوبَةٌ مُطابِقَةٌ لِلْمَعْنى الَّذِي يَقْصِدُهُ المُتَكَلِّمُ غَيْرُ مَفْصُولَةٍ عَنْهُ وسُمِعَ جَرُّهُ في قَوْلِهِ:
؎ورُبَّهُ عَطَبٍ أنْقَذَتْ مِن عَطَبِهِ
عَلى نِيَّةِ مِن وهو شاذٌّ، وجَوَّزَ الكُوفِيَّةُ مُطابَقَةَ الضَّمِيرِ لِلنَّكِرَةِ المُفَسِّرَةِ تَثْنِيَةً وجَمْعًا وتَأْنِيثًا كَما في قَوْلِهِ:
؎رُبَّها فِتْيَةٍ دَعَوْتُ إلى ما ∗∗∗ يُورِثُ الحَمْدَ دائِمًا فَأجابُوا
والأصَحُّ أنَّ هَذا الضَّمِيرَ مَعْرِفَةٌ جَرى مَجْرى النَّكِرَةِ، واخْتارَ ابْنُ عُصْفُورٍ تَبَعًا لِجَماعَةٍ أنَّهُ نَكِرَةٌ وأنَّ جَرَّها إيّاها لَيْسَ قَلِيلًا ولا شاذًّا خِلافًا لِابْنِ مالِكٍ، وأنَّها زائِدَةٌ في الإعْرابِ لا المَعْنى، وأنَّ مَحَلَّ مَجْرُورِها عَلى حَسَبِ (p-6)العامِلِ لا لازِمِ النَّصْبِ بِالفِعْلِ الَّذِي بَعْدَ أوْ بِعامِلٍ مَحْذُوفٍ خِلافًا لِلزَّجّاجِ ومُتابِعِيهِ في قَوْلِهِمْ: بِذَلِكَ لِما يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِن تَعَدِّي الفِعْلِ المُتَعَدِّي بِنَفْسِهِ إلى مَفْعُولِهِ بِالواسِطَةِ وهو لا يَحْتاجُ إلَيْها فَيُعْطَفُ عَلى مَحَلِّهِ كَما يُعْطَفُ عَلى لَفْظِهِ كَقَوْلِهِ:
؎وسِنٍّ كَسُنَّيْقِ سَناءً وسَنَمًا ∗∗∗ ذُعِرَتْ بِمِدَلاحِ الهَجِيرِ نُهُوضِ
وأنَّها تَتَعَلَّقُ كَسائِرِ حُرُوفِ الجَرِّ وقالَ الرُّمّانِيُّ وابْنُ طاهِرٍ لا تَتَعَلَّقُ كالحِرَفِ الزّائِدَةِ وإنَّ التَّعَلُّقَ بِالعامِلِ الَّذِي يَكُونُ خَبَرًا لِمَجْرُورِها أوْ عامِلًا في مَوْضِعِهِ أوْ مُفَسِّرًا لَهُ قالَهُ أبُو حَيّانَ، وقالَ ابْنُ هِشامٍ: قَوْلُ الجُمْهُورِ أنَّها مُعَدِّيَةٌ لِلْعامِلِ إنْ أرادُوا المَذْكُورَ فَخَطَأٌ إنَّهُ يَتَعَدّى بِنَفْسِهِ أوْ مَحْذُوفًا يُقَدَّرُ بِحَصَلَ ونَحْوِهِ كَما صَرَّحَ بِهِ جَماعَةٌ فَفِيهِ تَقْدِيرُ ما مَعْنى الكَلامِ مُسْتَغْنًى عَنْهُ ولَمْ يَلْفَظْ بِهِ في وقْتٍ، ثُمَّ عَلى التَّعْلِيقِ قالَ لَكَذَهُ: حَذَفَهُ لَحْنٌ، والخَلِيلِ وسِيبَوَيْهِ نادِرٌ كَقَوْلِهِ:
؎ودَوِيَّةُ قَفْرٍ تَمَشّى نِعامُها ∗∗∗ كَمَشْيِ النَّصارى في خِفافِ اليَرَنْدَجِ
أيْ قَطَعَتَها ويَرُدُّ لَكِذَةُ هَذا وقَوْلَهُمْ: رُبَّ رَجُلٍ قائِمٍ ورُبَّ ابْنَةٍ خَيْرٍ مِنَ ابْنٍ، وقَوْلَهُ:
؎ألا رُبَّ مَن تَغْتَشُّهُ لَكَ ناصِحُ ∗∗∗ ومُؤْتَمَنٌ بِالغَيْبِ غَيْرُ أمِينِ
والفارِسِيُّ والجَزْوَلِيُّ كَثِيرٌ وبِهِ جَزَمَ ابْنُ الحاجِبِ. ورابِعُها واجِبٌ كَما نَقَلَهُ صاحِبُ البَسِيطِ عَنْ بَعْضِهِمْ وخامِسُها، ونُقِلَ عَنِ ابْنِ أبِي الرَّبِيعِ يَجِبُ حَذْفُهُ إنْ قامَتِ الصِّفَةُ مَقامَهُ وإلّا جازَ الأمْرانِ سَواءٌ كانَ دَلِيلٌ أمْ لا؟ ويَجِبُ عِنْدَ المُبَرِّدِ والفارِسِيُّ وابْنُ عُصْفُورٍ، وهو المَشْهُورُ كَما قالَ أبُو حَيّانَ: ورَأيُ الأكْثَرِينَ كَوْنُهُ ماضِيًا مَعْنًى، وقالَ ابْنُ السَّرّاجِ: يَأْتِي حالًا، وابْنُ مالِكٍ يَأْتِي مُسْتَقْبَلًا واخْتارَهُ في البَحْرِ إلّا أنَّهُ قالَ بِقِلَّتِهِ وكَثْرَةِ وُقُوعِ الماضِي، وأنْشَدَ لَهُ قَوْلَ سُلَيْمٍ القُشَيْرِيِّ:
؎ومُعْتَصِمٍ بِالجُبْنِ مِن خَشْيَةِ الرَّدى ∗∗∗ سَيَرْدى وغازٍ مُشْفِقٍ سَيَؤُبُ
وقَوْلَ هِنْدٍ:
؎يا رُبَّ قائِلَةٍ غَدًا ∗∗∗ يا لَهْفَ أُمِّ مُعاوِيَةَ
وجَعَلَ كابْنِ مالِكٍ الآيَةَ مِن ذَلِكَ وتَأوَّلَها الأكْثَرُونَ بِأنَّهُ وضَعَ فِيها المُضارِعَ مَوْضِعَ الماضِي عَلى حَدِّ ونُفِخَ في الصُّورِ وتَعَقَّبَهُ ابْنُ هِشامٍ بِأنَّ فِيهِ تَكَلُّفًا لِاقْتِضائِهِ أنَّ الفِعْلَ المُسْتَقْبَلَ عَبَّرَ بِهِ عَنْ ماضٍ مُتَجَوِّزٍ بِهِ عَنِ المُسْتَقْبَلِ، وأجابَ الشِّمْنِيُّ بِأنَّهُ لا تَكَلُّفَ فِيهِ لِأنَّهم قالُوا: إنَّ هَذِهِ الحالَةَ المُسْتَقْبِلَةَ جُعِلَتْ بِمَنزِلَةِ الماضِي المُتَحَقِّقِ فاسْتَعْمَلَ مَعَها رُبَما المُخْتَصَّةِ بِالماضِي وعَدَلَ إلى لَفْظِ المُضارِعِ لِأنَّهُ كَلامُ مَن لا خُلْفَ في أخْبارِهِ فالمُضارِعُ عِنْدَهُ بِمَنزِلَةِ الماضِي فَهو مُسْتَقْبَلٌ في التَّحْقِيقِ ماضٍ بِحَسَبِ التَّأْوِيلِ وهو كَما تَرى، وعَنْ أبِي حَيّانَ أنَّهُ أجابَ عَنْ بَيْتِ هِنْدٍ بِأنَّهُ مِن بابِ الوَصْفِ بِالمُسْتَقْبَلِ لا مِن بابِ تَعَلُّقِ رُبَّ بِما بَعْدَها وهو نَظِيرُ قَوْلِكَ، رُبَّ مُسِيءٍ اليَوْمَ يُحْسِنُ غَدًا أيْ رُبَّ رَجُلٍ يُوصَفُ بِهَذا الوَصْفِ. وتَأوَّلَ الكُوفِيُّونَ كَما في المُطَوَّلِ الآيَةَ بِأنَّها بِتَقْدِيرِ كانَ أيْ رُبَما كانَ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَحُذِفَ لِكَثْرَةِ اسْتِعْمالِ كانَ بَعْدَ رُبَما، وضَعَّفَ ذَلِكَ أبُو حَيّانَ بِأنَّ هَذا لَيْسَ مِن مَواضِعِ إضْمارِ كانَ، وفي جَمْعِ الجَوامِعِ وشَرْحِهِ أنَّ- ما- تُزادُ بَعْدَ رُبَّ فالغالِبُ الكَفُّ وإيلائُها حِينَئِذٍ الفِعْلَ الماضِيَ لِأنَّ (p-7)التَّكْثِيرَ أوِ التَّقْلِيلَ إنَّما يَكُونُ فِيما عُرِفَ حَدُّهُ والمُسْتَقْبَلُ مَجْهُولٌ كَقَوْلِهِ:
؎رُبَّما أوْفَيْتُ في عِلْمٍ ∗∗∗ تَرْفَعْنَ ثَوْبِي شِمالاتُ
وقَدْ يَلِيها المُضارِعُ كَ ﴿رُبَما يَوَدُّ﴾ الآيَةَ وقَدْ يَلِيها الجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ نَحْوَ: رُبَّما الجامِلُ المُؤَبَّلُ فِيهِمْ. وقَدْ لا تُكَفُّ نَحْوَ:
؎رُبَّما ضَرْبَةٍ بِسَيْفٍ صَقِيلٍ ∗∗∗ بَيْنَ بُصْرى وطَعْنَةٍ نَجْلاءَ
وقِيلَ: يَتَعَيَّنُ بَعْدَها الفِعْلِيَّةُ إذا كُفَّتْ وإلَيْهِ ذَهَبَ الفارِسِيُّ وأوَّلُ البَيْتِ عَلى أنَّ ما نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ بِجُمْلَةٍ حُذِفَ مُبْتَدَأُها أيْ رُبَّ شَيْءٍ هو الجامِلُ، وقَدْ يُحْذَفُ الفِعْلُ بَعْدَها كَقَوْلِهِ:
؎فَذَلِكَ إنْ يَلْقَ الكَرِيهَةَ يَلْقَها ∗∗∗ حَمِيدًا وإنْ يَسْتَغْنِ يَوْمًا فَرُبَّما
وقَدْ تَلْحَقُ بِها ما ولا تُكَفُّ كَقَوْلِهِ:
؎ماوِيُّ يا رُبَّتَما غارَةٍ ∗∗∗ شَعْواءَ كالكَيَّةِ بِالمِيسَمِ
انْتَهى. وبِنَحْوِ تَأْوِيلِ الفارِسِيِّ البَيْتَ أوَّلَ بَعْضُهُمُ الآيَةَ فَقالَ: إنَّ ما نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ بِجُمْلَةِ ( يَوَدُّ ) إلى آخِرِهِ والعائِدُ مَحْذُوفٌ، والفِعْلُ المُتَعَلِّقُ بِهِ رُبَّ مَحْذُوفٌ أيْ رُبَّ شَيْءٍ يَوَدُّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا تَحَقَّقَ وثَبَتَ ونَحْوَهُ قَوْلُ ابْنِ أبِي الصَّلْتِ:
؎رُبَّما تَجْزَعُ النُّفُوسُ مِنَ الأمْرِ ∗∗∗ لَهُ فُرْجَةٌ كَحَلِّ العِقالِ
والتَزَمَ كَوْنَ المُتَعَلِّقِ مَحْذُوفًا لِأنَّها حِينَئِذٍ لا يَجُوزُ تَعَلُّقُها بِيَوَدُّ ولا بُدَّ لَها مِن فِعْلٍ تَتَعَلَّقُ بِهِ عَلى ما صَحَّحَهُ جَمْعٌ، وأمّا عَلى ما اخْتارَهُ الرَّضِيُّ مِن كَوْنِها مُبْتَدَأً لا خَبَرَ لَهُ والمَعْنى قَلِيلٌ أوْ كَثِيرٌ وِدادُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا حاجَةَ إلَيْهِ، وهَذا التَّأْوِيلُ عَلى ما قالَ السَّمَرْقَنْدِيُّ أحَدُ قَوْلَيِ البَصْرِيِّينَ، وتَعَقَّبَهُ العَلّامَةُ التَّفْتازانِيُّ بِأنَّهُ لا يَخْفى ما فِيهِ مِنَ التَّعَسُّفِ وبَتْرِ النَّظْمِ الكَرِيمِ أيْ قَطْعِ ﴿لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ﴾ عَمّا قَبْلَهُ، ووَجْهُ التَّعَسُّفِ أنَّ المَعْنى عَلى تَقْلِيلٍ أوْ تَكْثِيرٍ وِدادُهم لا عَلى تَقْلِيلِ أوْ تَكْثِيرِ شَيْءٍ إلّا أنْ يُرادَ رُبَّ شَيْءٍ يَوَدُّونَهُ مِن حَيْثُ إنَّهم يَوَدُّونَهُ، والمُخْتارُ عِنْدِي ما اخْتارَهُ أبُو حَيّانَ وكَذا صاحِبُ اللُّبِّ مِن أنَّ رُبَّ تَدْخُلُ عَلى الماضِي والمُضارِعِ إلّا أنَّ دُخُولَها عَلى الماضِي أكْثَرُ، ومَن تَتَبَّعَ أشْعارَ العَرَبِ رَأى فِيها مِمّا دَخَلَتْ فِيهِ عَلى المُضارِعِ ما يَبْعُدُ ارْتِكابُ التَّأْوِيلِ مَعَهُ كَما لا يَخْفى عَلى المُنْصِفِ المُتَتَبِّعِ واخْتَلَفُوا في مُفادِها هُنا فَذَهَبَ جَمْعٌ كَثِيرٌ إلى أنَّهُ التَّقْلِيلُ وهو ظاهِرُ أكْثَرِ الآثارِ حَيْثُ دَلَّتْ عَلى أنَّ وِدادَهم ذَلِكَ عِنْدَ خُرُوجِ عُصاةِ المُسْلِمِينَ مِن جَهَنَّمَ وبَقائِهِمْ فِيها. نَعَمْ زَعَمَ بَعْضُهم أنَّ الحَقَّ أنَّ ما فِيها مَحْمُولٌ عَلى شِدَّةِ وِدادِهِمْ إذْ ذاكَ وأنَّ نَفْسَ الوِدادِ لَيْسَ مُخْتَصًّا بِوَقْتٍ دُونَ وقْتٍ بَلْ هو مُتَقَرِّرٌ مُسْتَمِرٌّ في كُلِّ آنٍ يَمُرُّ عَلَيْهِمْ.
ووَجْهُ الزَّمَخْشَرِيِّ الإتْيانُ بِأداةِ التَّقْلِيلِ عَلى هَذا بِأنَّهُ وارِدٌ عَلى مَذْهَبِ العَرَبِ في قَوْلِهِمْ: لَعَلَّكَ سَتَنْدَمُ عَلى فِعْلِكَ ورُبَّما نَدِمَ الإنْسانُ عَلى ما فَعَلَ ولا يَشُكُّونَ في تَنَدُّمِهِ ولا يَقْصِدُونَ تَقْلِيلَهُ ولَكِنَّهم أرادُوا لَوْ كانَ النَّدَمُ مَشْكُوكًا فِيهِ أوْ قَلِيلًا لَحَقَّ عَلَيْكَ أنْ لا تَفْعَلَ هَذا الفِعْلَ لَأنَّ العُقَلاءَ يَتَحَرَّزُونَ مِنَ التَّعَرُّضِ لِلْغَمِّ المَظْنُونِ كَما يَتَحَرَّزُونَ مِنَ التَّعَرُّضِ لِلْغَمِّ المُتَيَقَّنِ ومِنَ القَلِيلِ مِنهُ كَما مِنَ الكَثِيرِ، وكَذَلِكَ المَعْنى في الآيَةِ لَوْ كانُوا يَوَدُّونَ الإسْلامَ مَرَّةً واحِدَةً فَبِالحَرِيِّ أنْ يُسارِعُوا إلَيْهِ فَكَيْفَ وهَمَ يَوَدُّونَهُ في كُلِّ ساعَةٍ اهـ.
والكَلامُ عَلَيْهِ عَلى ما قِيلَ مِنَ الكِنايَةِ الإيمائِيَّةِ وفي ذَلِكَ مِنَ المُبالَغَةِ ما لا يَخْفى، قالَ ابْنُ المُنِيرِ: لا شَكَّ أنَّ العَرَبَ تُعَبِّرُ عَنِ المَعْنى بِما يُؤَدِّي عَكْسَ مَقْصُودِهِ كَثِيرًا، ومِنهُ واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ ﴿وقَدْ تَعْلَمُونَ أنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ﴾ المَقْصُودُ مِنهُ تَوْبِيخُهم عَلى أذاهم لِمُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ عَلى تَوَفُّرِ عِلْمِهِمْ بِرِسالَتِهِ ومُناصَحَتِهِ لَهُمْ، وقَوْلُهُ: قَدْ أتْرُكُ القَرْنَ مُصْفَرًّا أنامِلُهُ (p-8)فَإنَّهُ إنَّما يَتَمَدَّحُ بِالإكْثارِ مِن ذَلِكَ وقَدْ عَبَّرَ بِقَدِ المُفِيدَةِ لِلتَّقْلِيلِ، وقَدِ اخْتَلَفَ تَوْجِيهُ عُلَماءِ البَيانِ لِذَلِكَ فَمِنهم مَن وجَّهَهُ بِما ذُكِرَ عَنِ الزَّمَخْشَرِيِّ مِنَ التَّنْبِيهِ بِالأدْنى عَلى الأعْلى، ومِنهم مَن وجَّهَهُ بِأنَّ المَقْصُودَ في ذَلِكَ الإيذانُ بِأنَّ المَعْنى قَدْ بَلَغَ الغايَةَ حَتّى كادَ أنْ يَرْجِعَ إلى الضِّدِّ وذَلِكَ شَأْنُ كُلِّ ما بَلَغَ نِهايَتَهُ أنْ يَعُودَ إلى عَكْسِهِ، وقَدْ أفْصَحَ المُتَنَبِّي عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ:
؎ولَجُدْتَ حَتّى كِدْتَ تَبْخَلُ حائِلًا ∗∗∗ لِلْمُنْتَهى ومِنَ السُّرُورِ بُكاءُ
وكِلا الوَجْهَيْنِ يَحْمِلُ الكَلامَ عَلى المُبالَغَةِ بِنَوْعٍ مِنَ الإيقاظِ إلَيْها، والعُمْدَةُ في ذَلِكَ عَلى سِياقِ الكَلامِ لِأنَّهُ إذا اقْتَضى مَثَلًا تَكْثِيرًا فَدَخَلَتْ فِيهِ عِبارَةٌ يُشْعِرُ ظاهِرُها بِالتَّقْلِيلِ اسْتَيْقَظَ السّامِعُ لِأنَّ المُرادَ المُبالَغَةُ عَلى إحْدى الطَّرِيقَتَيْنِ المَذْكُورَتَيْنِ، وقالَ في الكَشْفِ: الأصْلُ في هَذا البابِ أنَّ اسْتِعارَةَ أحَدِ الضِّدَّيْنِ لِلْآخَرِ تُفِيدُ المُبالَغَةَ لِلتَّعْكِيسِ ولا تَخْتَصُّ بِالتَّهَكُّمِ والتَّمْلِيحِ عَلى ما يُوهِمُهُ ظاهِرُ لَفْظِ صاحِبِ المِفْتاحِ في مَوْضِعٍ فَهو الَّذِي عَدَّ المَفازَةَ مِن هَذا القَبِيلِ لِقَصْدِ التَّفاؤُلِ، ثُمَّ قَدْ يُخْتَصَرُ مَوْقِعُها بِفائِدَةٍ زائِدَةٍ كَما ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ في هَذا المَقامِ، ولَيْسَ في ذَلِكَ كِنايَةٌ إيمائِيَّةٌ وإنَّما ذَلِكَ مِن فَوائِدِ هَذِهِ الِاسْتِعارَةِ وسَيَجِيءُ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى فِيهِ كَلامٌ أتَمُّ بَسْطًا في سُورَةِ التَّكْوِيرِ اه.
والحَقُّ أنَّهُ لا مانِعَ مِنَ القَوْلِ بِالكِنايَةِ الإيمائِيَّةِ كَما لا يَخْفى، وقِيلَ: إنَّ التَّقْلِيلَ بِالنِّسْبَةِ إلى زَمانِ ذَهابِ عَقْلِهِمْ مِنَ الدَّهْشَةِ بِمَعْنى أنَّهُ تُدْهِشُهم أهْوالَ القِيامَةِ فَيُبْهَتُونَ فَإنْ وُجِدَتْ مِنهم إفاقَةٌ ما تَمَنَّوْا ذَلِكَ، وظاهِرُ صَنِيعِ العَلّامَةِ التَّفْتازانِيِّ في المُطَوَّلِ اخْتِيارُهُ، وجُوِّزَ أنْ تَكُونَ مُسْتَعارَةً لِلتَّكْثِيرِ والقَوْلُ بِالِاسْتِعارَةِ لَهُ لا يَحْتاجُ إلَيْهِ عَلى القَوْلِ المَحْكِيِّ عَنْ صاحِبِ العَيْنِ ومَن مَعَهُ حَسْبَما سَمِعْتُ، وذَكَرَ ابْنُ الحاجِبِ أنَّها نُقِلَتْ مِنَ التَّقْلِيلِ إلى التَّحْقِيقِ كَما تُنْقَلُ قَدْ إذا دَخَلَتْ عَلى المُضارِعِ مِنهُ إلَيْهِ. ومَفْعُولُ ( يَوَدُّ ) مَحْذُوفٌ أيِ الإسْلامَ بِدَلالَةِ ﴿لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ﴾ بِناءً عَلى أنَّ ( لَوْ ) لِلتَّمَنِّي والجُمْلَةُ في مَوْقِعِ الحالِ أيْ قائِلِينَ لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ، وتَقْدِيرُ المَفْعُولِ ما ذَكَرْنا هو الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ غَيْرُ واحِدٍ، وقالَ الشِّهابُ: تَقْدِيرُهُ النَّجاةُ ولا يَنْبَغِي تَقْدِيرُ الإسْلامِ لِأنَّهُ يَصِيرُ تَقْدِيرُهُ يَوَدُّوا الإسْلامُ لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ وهو حَشْوٌ وفِيهِ نَظَرٌ.
وقالَ صاحِبُ الفَرائِدِ: أنَّ ( لَوْ كانُوا ) إلى آخِرِهِ مُنَزَّلٌ مَنزِلَةَ المَفْعُولِ. وتُعِقِّبَ بِأنَّهُ غَيْرُ ظاهِرٍ إذْ لَيْسَ ذَلِكَ مِمّا يَعْمَلُ في الجُمَلِ إلّا أنْ يَكُونَ بِمَعْنى ذَكَرُوا التَّمَنِّيَ ويَجْرِي مَجْرى القَوْلِ عَلى مَذْهَبِ بَعْضِ النُّحاةِ. والغَيْبَةُ في حِكايَةِ وِدادَتِهِمْ كالغَيْبَةِ في قَوْلِكَ: حَلَفَ بِاللَّهِ تَعالى لَيَفْعَلْنَّ ولَوْ قُلْتَ لَأفْعَلَنَّ لَجازَ، وعَلى ذَلِكَ جاءَ قَوْلُهُ تَعالى ﴿تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ﴾ بِالنُّونِ والياءِ وإيثارُ الغَيْبَةِ أكْثَرُ لِئَلّا يَلْبَسَ والتَّعْلِيلُ بِقِلَّةِ التَّقْدِيرِ لَيْسَ بِشَيْءٍ كَما كَشَفَ ذَلِكَ في الكَشْفِ، وأنْكَرَ قَوْمٌ وُرُودَ (لَوْ) لِلتَّمَنِّي، وقالُوا: لَيْسَتْ قِسْمًا بِرَأْسِها وإنَّما هي الشَّرْطِيَّةُ أُشْرِبَتْ مَعْنى التَّمَنِّي وعَلى الأوَّلِ الأصَحُّ لا جَوابَ لَها عَلى الأصَحِّ. وقَدْ نَصَّ عَلى ذَلِكَ ابْنُ الضّائِعِ وابْنُ هِشامٍ الخَضْراوِيُّ، ونَقْلُ أنَّهُما قالا تَحْتاجُ إلى جَوابٍ كَجَوابِ الشَّرْطِ سَهْوٌ، وذَكَرَ أبُو حَيّانَ أنَّ الَّذِي يَظْهَرُ أنَّها لا بُدَّ لَها مِن جَوابٍ لَكِنَّهُ التَزَمَ حَذْفَهُ لِإشْرابِها مَعْنى التَّمَنِّي لِأنَّهُ مَتى أُمْكِنَ تَقْلِيلُ القَواعِدِ وجَعْلُ الشَّيْءِ مِن بابِ المَجازِ كانَ أوْلى مِن تَكْثِيرِ القَواعِدِ وادِّعاءِ الِاشْتِراكِ لِأنَّهُ يَحْتاجُ إلى وضْعَيْنِ والمَجازُ لَيْسَ فِيهِ إلّا وضْعٌ واحِدٌ وهو الحَقِيقَةُ، وقِيلَ: إنَّها هُنا امْتِناعِيَّةٌ شَرْطِيَّةٌ والجَوابُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ لَفازُوا ومَفْعُولُ ( يَوَدُّ ) ما عَلِمْتَ، وزَعَمَ بَعْضُهم مَصْدَرِيَّتَها فِيما إذا وقَعَتْ بَعْدَ ما يَدُلُّ عَلى التَّمَنِّي فالمَصْدَرُ حِينَئِذٍ هو المَفْعُولُ وهو عَلى القَوْلِ بِأنَّ ما نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ بَدَلٌ مِنها كَما في البَحْرِ. وقَرَأ عاصِمٌ ونافِعٌ «رُبَما» بِتَخْفِيفِ الباءِ وعَنْ أبِي عَمْرٍو التَّخْفِيفُ والتَّشْدِيدُ، وقَرَأ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ (p-9)وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما رُبَّتَما بِزِيادَةِ تاءٍ هَذا، وإنَّما أطْنَبْتُ الكَلامَ في هَذِهِ الآيَةِ لا سِيَّما فِيما يَتَعَلَّقُ- بِرُبَّ- لِما أنَّهُ قَدْ جَرى لِي بَحْثٌ في ذَلِكَ مَعَ بَعْضِ العِظامِيِّينَ فَأبانَ عَنْ جَهْلٍ عَظِيمٍ وحُمْقٍ جَسِيمٍ، ورَأيْتُهُ ورَبِّ الكَعْبَةِ أجْهَلَ مَن رَأيْتُ مِن صِغارِ الطَّلَبَةِ- بِرُبَّ- نَعَمْ لَهُ مِنَ العِظامِيِّينَ أمْثالٌ أصَمَّهُمُ اللَّهُ تَعالى وأعْمى بالَهَمْ وقَلَّلَهم ولا أكْثَرَ أمْثالَهم.
{"ayah":"رُّبَمَا یَوَدُّ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ لَوۡ كَانُوا۟ مُسۡلِمِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











