الباحث القرآني

﴿إلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ﴾ مُتَّصِلٌ، وأمّا المَنعُ عَنْ دُخُولِها والِاخْتِلاطِ مَعَ أهْلِها عَلى نَحْوِ الِاخْتِلاطِ مَعَ أهْلِ الأرْضِ فَهو حِينَئِذٍ مُنْقَطِعٌ، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ مَحَلُّ ( مَنِ ) النَّصْبُ عَلى الِاسْتِثْناءِ، وجَوَّزَ أبُو البَقاءِ والحَوْفِيُّ كَوْنَهُ في مَحَلِّ جَرٍّ عَلى أنَّهُ بَدَلُ ﴿مِن كُلِّ شَيْطانٍ﴾ بَدَلَ بَعْضٍ مِن كُلٍّ واسْتَغْنى عَنِ الضَّمِيرِ الرّابِطِ بِإلا. واعْتُرِضَ بِأنَّهُ يُشْتَرَطُ في البَدَلِيَّةِ أنْ تَكُونَ في كَلامٍ غَيْرِ مُوجِبٍ وهَذا الكَلامُ مُثَبْتٌ. ودُفِعَ بِأنَّهُ في تَأْوِيلِ المَنفِي أيْ لَمْ نُمَكِّنْ مِنها كُلَّ شَيْطانٍ أوْ نَحْوَهُ وأُورِدَ أنَّ تَأْوِيلَ المُثْبَتِ في غَيْرِ أبى ومُتَصَرِّفاتِهِ غَيْرُ مَقِيسٍ ولا حَسُنَ فَلا يُقالُ ماتَ القَوْمُ إلّا زِيدٌ بِمَعْنى لَمْ يَعِيشُوا، ولَعَلَّ القائِلَ بِالبَدَلِيَّةِ لا يَسْلَمُ ذَلِكَ، وقَدْ أوَّلُوا بِالمَنفِي قَوْلَهُ تَعالى: ﴿فَشَرِبُوا مِنهُ إلا قَلِيلا﴾ وقَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ««العالَمُ هَلْكى إلّا العالِمُونَ»» الخَبَرَ وغَيْرَ ذَلِكَ مِمّا لَيْسَ فِيهِ أبى ولا شَيْءٌ مِن مُتَصَرِّفاتِهِ لَكِنَّ الإنْصافَ ضَعَّفَ هَذِهِ البَدَلِيَّةَ كَما لا يَخْفى. وجَوَّزَ أبُو البَقاءِ أيْضًا أنْ يَكُونَ في مَحَلِّ رَفْعٍ عَلى الِابْتِداءِ والخَبَرُ جُمْلَةُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَأتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ﴾ وذَكَرَ أنَّ الفاءَ مِن أجْلِ أنْ ( مَنِ ) مَوْصُولٌ أوْ شَرْطٌ والِاسْتِراقُ افْتِعالٌ مِنَ السَّرِقَةِ وهو أخْذُ الشَّيْءِ بِخُفْيَةٍ شَبَّهَ بِهِ خَطَفْتَهُمُ اليَسِيرَةَ مِنَ المَلَأِ الأعْلى وهو المَذْكُورُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إلا مَن خَطِفَ الخَطْفَةَ﴾ والمُرادُ بِالسَّمْعِ المَسْمُوعُ، والشِّهابُ - عَلى ما قالَ الرّاغِبُ - الشُّعْلَةُ السّاطِعَةُ مِنَ النّارِ المُوقَدَةِ ومِنَ العارِضِ في الجَوِّ ويُطْلَقُ عَلى الكَوْكَبِ لِبَرِيقِهِ كَشُعْلَةِ النّارِ. وأصْلُهُ مِنَ الشِّهْبَةِ وهي بَياضٌ مُخْتَلِطٌ بِسَوادٍ ولَيْسَتِ البَياضَ الصّافِيَ كَما يَغْلَطُ فِيهِ العامَّةُ فَيَقُولُونَ فَرَسٌ أشْهَبُ لِلْقِرْطاسِيِّ، والمُرادُ- بِمُبِينٍ- ظاهِرٌ أمْرُهُ لِلْمُبْصِرِينَ ومَعْنى اتْبَعَهُ تَبِعَهُ عِنْدَ الأخْفَشِ نَحْوَ رَدِفْتُهُ وأرْدَفَتْهُ فَلَيْسَتِ الهَمْزَةُ فِيهِ لِلتَّعْدِيَةِ، وقِيلَ: أتْبَعَهُ أخَصُّ مِن تَبِعَهُ لِما قالَ الجَوْهَرِيُّ: تَبِعْتُ القَوْمَ تَبَعًا وتَباعَةً بِالفَتْحِ إذا مَشَيْتَ خَلْفَهم أوْ مَرُّوا بِكَ فَمَضَيْتَ مَعَهم وأتْبَعْتَ القَوْمَ عَلى أفْعَلْتَ إذا كانُوا قَدْ سَبَقُوكَ فَلَحِقْتَهم واسْتَحْسَنَّ الفَرْقَ بَيْنَهُما الشِّهابُ، ولَمّا كانَ الِاتِّباعُ مُحْتَمَلًا لِلْإهْلاكِ وغَيْرِهِ اخْتَلَفَ العُلَماءُ في ذَلِكَ فَحَكى القُرْطُبِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ الشِّهابَ يَجْرَحُ ويَحْرِقُ ولا يَقْتُلُ، وعَنِ الحَسَنِ وطائِفَةٍ أنَّهُ يَقْتُلُ، وادَّعى أنَّ الأوَّلَ أصَحُّ، ونَقَلَ غَيْرُ واحِدٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما أنَّهُ قالَ: إنِ الشَّياطِينَ يَرْكَبُ بَعْضُهم بَعْضًا إلى السَّماءِ الدُّنْيا يَسْتَرِقُونَ (p-24)السَّمْعَ مِنَ المَلائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ فَيَرْمُونَ بِالكَواكِبِ فَلا تُخْطِئُ أبَدًا فَمِنهم مَن تَقْتُلُهُ ومِنهم مَن تَحْرِقُ وجْهَهُ أوْ جَنْبَهُ أوْ يَدَهُ أوْ حَيْثُ يَشاءُ اللَّهُ تَعالى ومِنهم مَن تَخْبِلُهُ فَيَصِيرُ غُولًا فَيَضِلُّ النّاسُ في البَرارِي، ومِمّا لا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ ما يُرْوى مِن أنَّ مِنهم مَن يَقَعُ في البَحْرِ فَيَكُونُ تِمْساحًا ومِنَ النّاسِ مَن طَعَنَ كَما قالَ الإمامُ في أمْرِ هَذا الِاسْتِراقِ والرَّمْيُ مِن وُجُوهٍ. أحُدُّها أنَّ انْقِضاضَ الكَواكِبِ مَذْكُورٌ في كُتُبِ قُدَماءِ الفَلاسِفَةِ وذَكَرُوا فِيهِ أنَّ الأرْضَ إذا سُخِّنَتْ بِالشَّمْسِ ارْتَفَعَ مِنها بُخارٌ يابِسٌ فَإذا بَلَغَ كُرَةَ النّارِ الَّتِي دُونَ الفَلَكِ احْتَرَقَ بِها فَتِلْكَ الشُّعْلَةُ هي الشِّهابُ. وقَدْ يَبْقى زَمانًا مُشْتَعِلًا إذا كانَ كَثِيفًا ورُبَّما حَمِيَتِ الأدْخِنَةُ في بَرْدِ الهَواءِ لِلتَّعاقُبِ فانْضَغَطَتْ مُشْتَعِلَةً، وجاءَ أيْضًا في شِعْرِ الجاهِلِيَّةِ قالَ بِشْرُ بْنُ أبِي حازِمٍ: ؎والعِيرُ يَلْحَقُها الغُبارُ وجَحْشُها يَنْقَضُّ خَلْفَهُما انْقِضاضَ الكَوْكَبِ وقالَ أوْسُ بْنُ حَجَرٍ: ؎وانْقَضَّ كالدُّرِّيِّ يَتْبَعُهُ ∗∗∗ نَقْعٌ يَثُورُ تَخالُهُ طُنْبا إلى غَيْرِ ذَلِكَ. وثانِيها أنَّ هَؤُلاءِ الشَّياطِينَ كَيْفَ يَجُوزُ فِيهِمْ أنْ يُشاهِدُوا أُلُوفًا مِن جِنْسِهِمْ يَسْتَرِقُونَ السَّمْعَ فَيَحْتَرِقُونَ ثُمَّ إنَّهم مَعَ ذَلِكَ يَعُودُونَ لِصَنِيعِهِمْ فَإنَّ مَن لَهُ أدْنى عَقْلٍ إذا رَأى هَلاكَ أبْناءِ جِنْسِهِ مِن تَعاطِي شَيْءٍ مِرارًا امْتَنَعَ مِنهُ. وثالِثُها أنْ يُقالَ: إنَّ ثَخَنَ السَّماءِ خَمْسُمِائَةِ عامٍ فَهَؤُلاءِ الشَّياطِينُ إنْ نَفَذُوا في جِرْمِها وخَرَقُوها فَهو باطِلٌ لِنَفْيِ أنْ يَكُونَ لَها فُطُورٌ عَلى ما قالَ سُبْحانَهُ: ﴿فارْجِعِ البَصَرَ هَلْ تَرى مِن فُطُورٍ﴾ وإنْ كانُوا لا يَنْفُذُونَ فَكَيْفَ يُمْكِنُهم سَماعُ أسْرارِ المَلائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ مَعَ هَذا البُعْدِ العَظِيمِ. ورابِعُها أنَّ المَلائِكَةَ عَلَيْهِمُ السَّلامُ إنَّما اطَّلَعُوا عَلى الأحْوالِ المُسْتَقْبَلَةِ إمّا لِأنَّهم طالَعُوها مِنَ اللَّوْحِ المَحْفُوظِ أوْ لِأنَّهم تَلَقَّفُوها بِالوَحْيِ، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ لِمَ لَمْ يَسْكُتُوا عَنْ ذِكْرِها حَتّى لا تَتَمَكَّنَ الشَّياطِينُ مِنَ الوُقُوفِ عَلَيْها؟ وخامِسُها أنَّ الشَّياطِينَ مَخْلُوقُونَ مِنَ النّارِ والنّارُ لا تَحْرِقُ النّارَ بَلْ تُقَوِّيها فَكَيْفَ يُعْقَلُ زَجْرُهم بِهَذِهِ الشُّهُبِ؟ وسادِسُها أنَّكم قُلْتُمْ: إنَّ هَذا القَذْفَ لِأجْلِ النُّبُوَّةِ فَلِمَ دامَ بَعْدَ وفاةِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ؟ وسابِعُها أنَّ هَذِهِ الشُّهُبَ إنَّما تَحْدُثُ بِقُرْبِ الأرْضِ بِدَلِيلِ أنّا نُشاهِدُ حَرَكاتِها ولَوْ كانَتْ قَرِيبَةً مِنَ الفَلَكِ لِما شاهَدْناها كَما لَمْ نُشاهِدْ حَرَكاتِ الأفْلاكِ والكَواكِبِ، وإذا ثَبَتَ أنَّها تَحْدُثُ بِالقُرْبِ مِنَ الأرْضِ فَكَيْفَ يُقالُ: إنَّها تَمْنَعُ الشَّياطِينَ مِنَ الوُصُولِ إلى الفَلَكِ؟ وثامِنُها أنَّ هَؤُلاءِ الشَّياطِينَ لَوْ كانَ يُمْكِنُهم أنْ يَنْقُلُوا أخْبارَ المَلائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ عَنِ المُغَيَّباتِ إلى الكَهَنَةِ فَلِمَ لَمْ يَنْقُلُوا أسْرارَ المُؤْمِنِينَ إلى الكَفّارِ حَتّى يَتَوَصَّلُوا بِواسِطَةِ وُقُوفِهِمْ عَلى أسْرارِهِمْ إلى إلْحاقِ الضَّرَرِ بِهِمْ؟ وتاسِعُها لِمَ لَمْ يَمْنَعْهُمُ اللَّهُ تَعالى مِنَ الصُّعُودِ ابْتِداءً حَتّى لا يَحْتاجَ في دَفْعِهِمْ إلى هَذِهِ الشُّهُبِ؟ وقالَ بَعْضُهُمْ: أيْضًا: إنَّ السَّماعَ إنَّما يُفِيدُهم إذا عَرَفُوا لُغَةَ المَلائِكَةِ فَلِمَ لَمْ يَجْعَلْهُمُ اللَّهُ سُبْحانَهُ جاهِلِينَ بِلُغَتِهِمْ لِئَلّا يُفِيدَهُمُ السَّماعُ شَيْئًا، وأيْضًا إنِ انْقَطَعَ الهَواءُ دُونَ مُقَعَّرِ فَلَكِ القَمَرِ لَمْ يَحْدُثْ هُناكَ صَوْتٌ إذْ هو مِن تَمَوُّجِ الهَواءِ والمَفْرُوضُ عَدَمُهُ وإنْ لَمْ يَنْقَطِعْ كانَ دُونَ ذَلِكَ أصْواتٌ هائِلَةٌ مَن تَمَوُّجِ الهَواءِ بِحَرَكَةِ الأجْرامِ العَظِيمَةِ وهي تُمْنَعُ مِن سَماعِ أصْواتِ المَلائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ في مُحاوَراتِهِمْ ولا يَكادُ يُظَنُّ أنَّ أصْواتَهم في المُحاوَراتِ تَغْلِبُ هاتِيكَ الأصْواتَ لِتَسْمَعَ مَعَها، وأيْضًا لَيْسَ في السَّماءِ الدُّنْيا إلّا القَمَرُ ولا نَراهُ يُرْمى بِهِ وسائِرُ السَّيّاراتِ فَوْقَ ﴿كُلٌّ في فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ والثَّوابِتُ في الفَلَكِ الثّامِنِ والرَّمْيُ بِشَيْءٍ مِن ذَلِكَ يَسْتَدْعِي خَرْقُ السَّماءِ وتَشَقُّقُها لِيَصِلَ الشِّهابُ إلى الشَّيْطانِ وهو مِمّا لا يَكادُ يُقالُ. وأجابَ الإمامُ عَنِ الأوَّلِ أوَّلًا بِأنَّ الشُّهُبَ لَمْ تَكُنْ مَوْجُودَةً قَبْلَ البَعْثَةِ وهَذا (p-25)قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ أنَّهُ قالَ: ««كانَ الجِنُّ يَصْعَدُونَ إلى السَّماءِ فَيَسْتَمِعُونَ الوَحْيَ فَإذا سَمِعُوا الكَلِمَةَ زادُوا فِيها أشْياءَ مِن عِنْدِ أنْفُسِهِمْ فَلَمّا بُعِثَ النَّبِيُّ ﷺ مُنِعُوا مَقاعِدَهم ولَمْ يَكُنِ النُّجُومُ يُرْمى بِها قَبْلَ ذَلِكَ فَقالَ لَهم إبْلِيسُ: ما هَذا إلّا لِأمْرٍ حَدَثَ»» الخَبَرَ. ورُوِيَ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أنَّهُ قالَ: ««لَمْ يُرْمَ بِنَجْمٍ مُنْذُ رُفِعَ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ حَتّى بُعِثَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَرَمى بِها فَرَأتْ قُرَيْشٌ ما لَمْ تَرَ قَبْلُ فَجَعَلُوا يُسَيِّبُونَ أنْعامَهم ويُعْتِقُونَ رِقابَهم يَظُنُّونَ أنَّهُ الفَناءُ فَبَلَغَ ذَلِكَ كَبِيرَهم فَقالَ: لِمَ تَفْعَلُونَ؟ فَقالُوا: رُمِيَ بِالنُّجُومِ فَقالَ: اعْتَبِرُوا فَإنْ تَكُنْ نُجُومٌ مَعْرُوفَةٌ فَهو وقْتُ فَناءِ النّاسِ وإلّا فَهو أمْرٌ حَدَثَ فَنَظَرُوا فَإذا هي لا تُعْرَفُ فَأخْبَرُوهُ فَقالَ: في الأمْرِ مُهْلَةٌ وهَذا عِنْدَ ظُهُورِ نَبِيٍّ»» الخَبَرَ. وكُتُبُ الأوائِلِ قَدْ تَوالَتْ عَلَيْها التَّحْرِيفاتُ فَلَعَلَّ المُتَأخِّرِينَ ألْحَقُوا هَذِهِ المَسْألَةَ بِها طَعْنًا في هَذِهِ المُعْجِزَةِ، وكَذا الأشْعارُ المَنسُوبَةُ إلى أهْلِ الجاهِلِيَّةِ لَعَلَّها مُخْتَلِفَةٌ عَلَيْهِمْ. وثانِيًا وهو الحَقُّ بِأنَّها كانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ البَعْثَةِ لِأسْبابٍ أُخَرَ ولا نُنْكِرُ ذَلِكَ إلّا أنَّهُ لا يُنافِي أنَّها بَعْدَ البَعْثَةِ قَدْ تُوجَدُ بِسَبَبِ دَفْعِ الشَّياطِينِ وزَجْرِهِمْ. يُرْوى أنَّهُ قِيلَ لِلزُّهْرِيِّ: أكانَ يُرْمى في الجاهِلِيَّةِ؟ قالَ: نَعَمْ قِيلَ: أفَرَأيْتَ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وأنّا كُنّا نَقْعُدُ مِنها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهابًا رَصَدًا﴾ قالَ: غُلِّظَ وشُدِّدَ أمْرُها حَيْثُ بُعِثَ النَّبِيُّ ﷺ، وعَلى نَحْوِ هَذا يُخَرَّجُ ما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. وأُبَيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم إنْ صَحَّ. وعَنِ الثّانِي بِأنَّهُ إذا جاءَ القَدَرُ عَمِيَ البَصَرُ فَإذا قَضى اللَّهُ تَعالى عَلى طائِفَةٍ مِنهُمُ الحَرْقَ لِطُغْيانِهِمْ وضَلالِهِمْ قَيَّضَ لَهم مِنَ الدَّواعِي ما تَقَدَّمَ مَعَهُ عَلى الفِعْلِ المُفْضِي إلى الهَلاكِ. وعَنِ الثّالِثِ بِأنَّ البُعْدَ بَيْنَ الأرْضِ والسَّماءِ خَمْسُمِائَةِ عامٍ فَأمّا ثَخَنُ الفَلَكِ فَإنَّهُ لا يَكُونُ عَظِيمًا. وعَنِ الرّابِعِ بِأنَّهُ رُوِيَ عَنِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: «بَيْنا النَّبِيُّ ﷺ جالِسٌ في نَفَرٍ مِن أصْحابِهِ إذْ رُمِيَ بِنَجْمٍ فاسْتَنارَ فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «ما كُنْتُمْ تَقُولُونَ في الجاهِلِيَّةِ إذا حَدَثَ مِثْلُ هَذا؟» قالُوا: كُنّا نَقُولُ يُولَدُ عَظِيمٌ أوْ يَمُوتُ عَظِيمٌ قالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «فَإنَّها لا تُرْمى لِمَوْتِ أحَدٍ ولا لِحَياتِهِ ولَكِنَّ رَبَّنا تَعالى إذا قَضى الأمْرَ في السَّماءِ سَبَّحَتْ حَمَلَةُ العَرْشِ ثُمَّ سَبَّحَ أهْلُ السَّماءِ وسَبَّحَ أهْلُ كُلِّ سَماءٍ حَتّى يَنْتَهِيَ التَّسْبِيحُ إلى هَذِهِ السَّماءِ ويَسْتَخْبِرُ أهْلُ السَّماءِ حَمَلَةَ العَرْشِ ماذا قالَ رَبُّكُمْ؟ فَيُخْبِرُونَهم ولا يَزالُ يَنْتَهِي الخَبَرُ إلى هَذِهِ السَّماءِ فَيَتَخَطَّفُهُ الجِنُّ فَيَرْمُونَ فَما جاؤُوا بِهِ فَهو حَقٌّ ولَكِنَّهم يَزِيدُونَ فِيهِ»». وعَنِ الخامِسِ بِأنَّ النّارَ قَدْ تَكُونُ أقْوى مِن نارٍ أُخْرى فالأقْوى تُبْطِلُ ما دُونَها. وعَنِ السّادِسِ بِأنَّهُ إنَّما دامَ لِأنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أخْبَرَ بِبُطْلانِ الكِهانَةِ فَلَوْ لَمْ يَدُمْ هَذا القَذْفُ لَعادَتِ الكِهانَةُ وذَلِكَ يَقْدَحُ في خَبَرِ الرَّسُولِ ﷺ عَنْ بُطْلانِها. وعَنِ السّابِعِ بِأنَّ البُعْدَ عَلى مَذْهَبِنا غَيْرُ مانِعٍ مِنَ السَّماعِ فَلَعَلَّهُ سُبْحانَهُ وتَعالى أجْرى عادَتَهُ بِأنَّهم إذا وقَفُوا في تِلْكَ المَواضِعِ سَمِعُوا كَلامَ المَلائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ. وعَنِ الثّامِنِ بِأنَّهُ لَعَلَّ اللَّهَ تَعالى أقْدَرَهم عَلى اسْتِماعِ الغُيُوبِ مِنَ المَلائِكَةِ وأعْجَزَهم عَنْ إيصالِ أسْرارِ المُؤْمِنِينَ إلى الكُفّارِ. وعَنِ التّاسِعِ بِأنَّهُ عَزَّ وجَلَّ يَفْعَلُ ما يَشاءُ ويَحْكُمُ ما يُرِيدُ، وبِهَذا يُجابُ عَنِ الأوَّلِ فِيما قِيلَ. وأُجِيبَ عَنِ الثّانِي بِأنّا نَخْتارُ انْقِطاعَ الهَواءِ والسَّماعِ عِنْدَنا بِخَلْقِ اللَّهِ تَعالى ولا يَتَوَقَّفُ عَلى وُجُودِ الهَواءِ وتَمَوُّجِهِ، وقَدْ يُخْتارُ عَدَمُ الِانْقِطاعِ ويُقالُ: إنَّهُ تَعالى شَأْنُهُ (p-26)قادِرٌ عَلى مَنعِ الهَواءِ مِنَ التَّمَوُّجِ بِحَرَكَةِ هاتِيكَ الأجْرامِ، وكَذا هو سُبْحانَهُ قادِرٌ عَلى إسْماعِهِمْ مَعَ هاتِيكَ الأصْواتِ الهائِلَةِ السِّرِّ وأخْفى. وعَنِ الثّالِثِ بِأنَّ كَوْنَ الثَّوابِتِ في الفَلَكِ الثّامِنِ هو الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ الفَلاسِفَةُ واحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِأنَّ بَعْضَها فِيهِ فَيَجِبُ أنْ يَكُونَ كُلُّها كَذَلِكَ، أمّا الأوَّلُ فَلِأنَّ الثَّوابِتَ الَّتِي تَكُونُ قَرِيبَةً مِنَ المِنطَقَةِ تَنْكَسِفُ بِالسَّيّاراتِ فَوَجَبَ أنْ تَكُونَ الثَّوابِتُ المُنْكَسِفَةُ فَوْقَ السَّيّاراتِ الكاسِفَةِ، وأمّا الثّانِي فَلِأنَّها بِأسْرِها مُتَحَرِّكَةٌ حَرَكَةً واحِدَةً بَطِيئَةً كُلَّ مِائَةٍ سَنَةٍ أوْ أقَلَّ عَلى الخِلافِ دَرَجَةً فَلا بُدَّ أنْ تَكُونَ مَرْكُوزَةً في كَرَّةٍ واحِدَةٍ، وهو احْتِجاجٌ ضَعِيفٌ لِأنَّهُ لا يَلْزَمُ مِن كَوْنِ بَعْضِ الثَّوابِتِ فَوْقَ السَّيّاراتِ كَوْنُ كُلِّها هُنا لِأنَّهُ لا يَبْعُدُ وُجُودُ كَرَّةٍ تَحْتَ كَرَّةِ القَمَرِ وتَكُونُ في البُطْءِ مُساوِيَةً لِكَرَّةِ الثَّوابِتِ وتَكُونُ الكَواكِبُ المَرْكُوزَةُ فِيما يُقارِبُ القُطْبَيْنِ مَرْكُوزَةً في هَذِهِ الكَرَّةِ السُّفْلِيَّةِ إذْ لا يَبْعُدُ وُجُودُ كَرَّتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ بِالصِّغَرِ والكِبَرِ مَعَ كَوْنِهِما مُتَشابِهَتَيْنِ في الحَرَكَةِ، وعَلى هَذا لا يَمْتَنِعُ أنْ تَكُونَ هَذِهِ النُّجُومُ في السَّماءِ الدُّنْيا، وقَدْ ذَكَرَ الجَلالُ السُّيُوطِيُّ وغَيْرُهُ أنَّهُ جاءَ في بَعْضِ الآثارِ أنَّ الكَواكِبَ مُعَلَّقَةٌ بِسَلاسِلَ مِن نُورٍ بِأيْدِي مَلائِكَةٍ في السَّماءِ الدُّنْيا يُسَيِّرُونَها حَيْثُ شاءَ اللَّهُ تَعالى وكَيْفَ شاءَ إلّا أنَّ في صِحَّةِ ذَلِكَ ما فِيهِ، عَلى أنَّ ما ذُكِرَ في السُّؤالِ مِن أنَّ ذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ الخَرْقَ وهو مِمّا لا يَكادُ يُقالُ إمّا أنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا عَلى القَوْلِ بِامْتِناعِ الخَرْقِ والِالتِئامِ عَلى الفَلَكِ المُحَدَّدِ وغَيْرِهِ فَقَدْ تُقَرِّرَ فَسادُ ذَلِكَ وحُقِّقَ إمْكانُ الخَرْقِ والِالتِئامِ بِما لا مَزِيدَ عَلَيْهِ في غَيْرِ كِتابٍ مِن كُتُبِ الكَلامِ، وإمّا أنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا عَلى مُجَرَّدِ الِاسْتِبْعادِ فَهو مِمّا لا يُفِيدُ شَيْئًا لِأنَّ أكْثَرَ المُمْكِناتِ مُسْتَبْعَدَةٌ وهي واقِعَةٌ ولا أظُنُّكَ في مِرْيَةٍ مِن ذَلِكَ بَلْ قَدْ يُقالُ: نَحْنُ لا نَلْتَزِمُ أنَّ الكَوْكَبَ نَفْسَهُ يَتْبَعُ الشَّيْطانَ فَيَحْرُقُهُ، والشِّهابُ لَيْسَ نَصًّا في الكَوْكَبِ لِما عَلِمْتَ ما قِيلَ في مَعْناهُ وإنْ قِيلَ: إنَّهُ بِنَفْسِهِ يَنْقَضُّ ويَرْمِي الشَّيْطانَ ثُمَّ يَعُودُ إلى مَكانٍ لِظاهِرِ إطْلاقِ الرُّجُومِ عَلى النُّجُومِ وقَوْلِهِمْ رُمِيَ بِالنَّجْمِ مَثَلًا. وكَذا لا نَلْتَزِمُ القَوْلَ بِأنَّهُ يَنْفَصِلُ عَنِ الكَوْكَبِ شُعْلَةٌ كالقَبَسِ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنَ النّارِ فَيُرْمى بِها كَما قالَهُ غَيْرُ واحِدٍ لِنَحْتاجَ في الجَوابِ عَنِ السُّؤالِ بِما تَقَدَّمَ إذْ يَجُوزُ أنْ يُقالَ: إنَّهُ يُؤَثِّرُ حِينَ كانَ بِإذْنِ اللَّهِ تَعالى هَذِهِ الشُّعْلَةُ المُسَمّاةُ بِالشِّهابِ ويَحْرِقُ بِها مَن شاءَ اللَّهُ تَعالى مِنَ الشَّياطِينِ، وإطْلاقُ الرُّجُومِ عَلى النُّجُومِ وقَوْلُهُمْ: رُمِيَ بِالنَّجْمِ يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا عَلى الظّاهِرِ لِلرّائِي كَما في قَوْلِهِ تَعالى في الشَّمْسِ: ﴿تَغْرُبُ في عَيْنٍ حَمِئَةٍ﴾ وقالَ الإمامُ: إنَّ هَذِهِ الشُّهُبَ لَيْسَتْ هي الثَّوابِتَ المَرْكُوزَةَ في الفَلَكِ والإظْهارُ نُقْصانٌ كَثِيرٌ في أعْدادِها مَعَ أنَّهُ لَمْ يُوجَدْ نُقْصانٌ أصْلًا. وأيْضًا إنَّ في جَعْلِها رُجُومًا ما يُوجِبُ النُّقْصانَ في زِينَةِ السَّماءِ بَلْ هي جِنْسٌ آخَرُ غَيْرُها يُحْدِثُها اللَّهُ تَعالى ويَجْعَلُها رُجُومًا لِلشَّياطِينِ، ولا يَأْباهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولَقَدْ زَيَّنّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وجَعَلْناها رُجُومًا لِلشَّياطِينِ﴾ حَيْثُ أفادَ أنَّ تِلْكَ المَصابِيحَ هي الرُّجُومُ بِأعْيانِها لِأنّا نَقُولُ: كُلُّ نَيِّرٍ يَحْصُلُ في الجَوِّ العالِي فَهو مِصْباحٌ لِأهْلِ الأرْضِ إلّا أنَّ المَصابِيحَ مِنها باقِيَةٌ عَلى وجْهِ الدَّهْرِ أمِنَةٌ مِنَ التَّغَيُّرِ والفَسادِ ومِنها ما لا يَكُونُ كَذَلِكَ والشِّهابُ مِن هَذا القِسْمِ وحِينَئِذٍ يَزُولُ الإشْكالُ انْتَهى. والجَرْحُ والتَّعْدِيلُ بَيْنَ القَوْلَيْنِ مُفَوَّضانِ إلى شِهابِ ذِهْنِكَ الثّاقِبِ، وفي أجْوِبَتِهِ السّابِقَةِ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى ما لا يَخْفى ضَعْفُهُ، وكَذا شاهِدَةٌ عَلَيْهِ بِقِلَّةِ الِاطِّلاعِ عَلى الأخْبارِ الصَّحِيحِ المَشْهُورَةِ، ألا تَرى قَوْلَهُ في الجَوابِ عَنْ ثالِثِ الأسْئِلَةِ التِّسْعَةِ: إنَّ البُعْدَ بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ خَمْسُمِائَةِ عامٍ وأمّا ثَخَنُ الفَلَكِ فَإنَّهُ لا يَكُونُ عَظِيمًا فَإنَّهُ مُخالِفٌ لِما نَطَقَتْ بِهِ الشَّرِيعَةُ وهَذَتْ بِهِ الفَلْسَفَةُ، أمّا مُخالَفَتُهُ لِلْأوَّلِ فَلِأنَّهُ قَدْ صَحَّ أنَّ سُمْكَ كُلِّ سَماءٍ خَمْسُمِائَةِ عامٍ كَما صَحَّ أنْ بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ كَذَلِكَ، وأمّا مُخالَفَتُهُ لِلثّانِي (p-27)فَلِأنَّهُ لَمْ يُقِلْ أحَدٌ مِنَ الفَلاسِفَةِ: أنَّ بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ هَذِهِ المَسافَةَ الَّتِي ذَكَرَها، والأفْلاكُ عِنْدَهم مُخْتَلِفَةٌ في الثَّخَنِ، وقَدْ بَيَّنُوا ثَخَنَ كُلٍّ بِالفَراسِخِ حَسْبَما ذُكِرَ في كُتُبِ الأجْرامِ والأبْعادِ، وذَكَرُوا في ثَخَنِ المُحَدَّدِ ما يَشْهَدُ بِمَزِيدِ عَظَمَةِ اللَّهِ جَلَّ جَلالُهُ لَكِنْ لا مُسْتَنَدَ لَهم قَطْعِيٌّ في ذَلِكَ بَلْ إنَّ قَوْلَهُمْ: لا فَضْلَ في الفَلَكِيّاتِ مَعَ كَوْنِهِ أشْبَهَ شَيْءٍ بِالخَطابِيّاتِ يُعَكِّرُ عَلَيْهِ. وقَوْلُهُ في الجَوابِ عَنِ السّادِسِ: إنَّهُ إنَّما دامَ لِئَلّا يَقْدَحَ انْقِطاعُهُ في خَبَرِ الرَّسُولِ ﷺ عَنْ بُطْلانِ الكِهانَةِ فَإنَّهُ مُسْتَلْزِمٌ لِلدَّوْرِ إذِ الظّاهِرُ أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إنَّما أُخْبِرَ بِذَلِكَ لِعِلْمِهِ بِدَوامِ القَذْفِ المانِعِ مِن تَحَقُّقِ ما تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الكِهانَةُ. وقَوْلُهُ في الجَوابِ عَنِ الخامِسِ: إنَّ النّارَ قَدْ تَكُونُ أقْوى مِن نارٍ أُخْرى فَتُبْطِلُها ظاهِرٌ في أنَّ الشَّياطِينَ نارٌ صِرْفَةً ولَيْسَ كَذَلِكَ بَلِ الحَقُّ أنَّهم يَغْلِبُ عَلَيْهِمُ العُنْصُرُ النّارِيُّ وقَدْ حَصَلَ لَهم بِالتَّرْكِيبِ ولَوْ مَعَ غَلَبَةِ هَذا العُنْصُرِ ما لَيْسَ لِلنّارِ الصِّرْفَةُ وهو ظاهِرٌ. هَذا ثُمَّ اعْلَمْ أنَّهُ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ اسْتِراقُ السَّمْعِ مِنَ المَلائِكَةِ الَّذِينَ عِنْدَ السَّماءِ لا مِنَ المَلائِكَةِ الَّذِينَ بَيْنَ كُلِّ سَماءٍ وسَماءٍ لِيَجِيءَ حَدِيثُ الثَّخَنِ واسْتِبْعادُ السَّماعِ مَعَهُ، ويَشْهَدُ لِهَذا ما رَواهُ البُخارِيُّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ عَنْ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم قالَتْ: ««سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: إنَّ المَلائِكَةَ تَنْزِلُ في العِنانِ وهو السَّحابُ فَتَذْكُرُ الأمْرَ قُضِيَ في السَّماءِ فَتَسْتَرِقُ الشَّياطِينُ السَّمْعَ فَتَسْمَعُهُ فَتُوحِيهِ إلى الكُهّانِ فَيَكْذِبُونَ مَعَ الكَلِمَةِ مِائَةَ كِذْبَةٍ مِن عِنْدِ أنْفُسِهِمْ»» ولا يُنافِيهِ ما رَواهُ أيْضًا عَنْ عِكْرِمَةَ أنَّهُ قالَ: ««سَمِعْتُ أبا هُرَيْرَةَ يَقُولُ: إنَّ النَّبِيَّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ قالَ: إذا قَضى اللَّهُ تَعالى الأمْرُ في السَّماءِ ضَرَبَتِ المَلائِكَةُ أجْنِحَتَها خُضْعانًا لِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ كَأنَّهُ سِلْسِلَةٌ عَلى صَفْوانٍ فَإذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا: ماذا قالَ رَبُّكُمْ؟ قالُوا: الحَقُّ وهو العَلِيُّ الكَبِيرُ فَيَسْمَعُها مُسْتَرِقُ السَّمْعِ»» الخَبَرَ. إذْ لَيْسَ فِيهِ أكْثَرُ مِن سَماعِ المُسْتَرِقِ الكَلِمَةَ بَعْدَ قَوْلِ المَلائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، وعَدَمُ مُنافاةِ هَذا لِذاكَ ظاهِرٌ عِنْدَ مَن أُلْقِيَ السَّمْعُ وهو شَهِيدٌ، وأنَّهُ لَيْسَ في الآياتِ ما هو نَصٌّ في أنَّ ما نَراهُ مِنَ الشُّهُبِ لا يَكُونُ إلّا لِرَمْيِ شَيْطانٍ يَسْتَرِقُ بَلْ غايَةُ ما فِيها أنَّهُ إذا اسْتَرَقَ شَيْطانٌ أتْبَعَهُ شِهابٌ ورُمِيَ بِنَجْمٍ وأيْنَ هَذا مِن ذاكَ؟ نَعَمْ في خَبَرِ الزُّهْرِيِّ ما يَحْتاجُ مَعَهُ إلى تَأمُّلٍ، وعَلى هَذا فَيَجُوزُ أنْ يَكُونَ حُدُوثُ بَعْضِ ما نَراهُ مِنَ الشُّهُبِ لِتَصاعُدِ البُخارِ حَسْبَما تَقَدَّمَ عَنِ الفَلاسِفَةِ، وكَذا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ صُعُودُ الشَّياطِينِ لِلِاسْتِراقِ في كُلِّ سَنَةٍ مَثَلًا مَرَّةً، ولا يَخْفى نَفْعُ هَذا في الجَوابِ عَنِ السُّؤالِ الثّانِي. ومِنَ النّاسِ مَن أجابَ عَنْهُ بِأنَّهُ لا يَبْعُدُ أنْ يَكُونَ المُسْتَرِقُونَ صِنْفًا مِنَ الشَّياطِينِ تَقْتَضِي ذَواتُهُمُ التَّصاعُدَ نَظِيرَ تَصاعُدِ الأبْخِرَةِ، بَلْ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ أُولَئِكَ الشَّياطِينُ أبْخِرَةً تَعَلَّقَتْ بِها أنْفُسٌ خَبِيثَةٌ عَلى نَحْوِ ما ذَكَرَ الفَلاسِفَةُ مِن أنَّهُ قَدْ يَتَعَلَّقُ بِذَواتِ الأذْنابِ نَفْسٌ فَتَغِيبُ وتَطْلُعُ بِنَفْسِها وفِيهِ بَحْثٌ. ونَقَلَ الإمامُ عَنِ الجَبائِيِّ أنَّهُ قالَ في الجَوابِ عَنْ ذَلِكَ: إنَّ الحالَةَ الَّتِي تَعْتَرِيهِمْ لَيْسَ لَها مَوْضِعٌ مُعَيَّنٌ وإلّا لِمَ يَذْهَبُوا إلَيْهِ وإنَّما يُمْنَعُونَ مِنَ المَصِيرِ إلى مَواضِعِ المَلائِكَةِ ومَواضِعُها مُخْتَلِفَةٌ فَرُبَّما صارُوا إلى مَوْضِعِهِمْ فَتُصِيبُهُمُ الشُّهُبُ ورُبَّما صارُوا إلى غَيْرِهِ ولا يُصادِفُونَ المَلائِكَةَ فَلا يُصِيبُهم شَيْءٌ فَلَمّا هَلَكُوا في بَعْضِ الأوْقاتِ وسَلِمُوا في بَعْضِها جازَ أنْ يَصِيرُوا إلى مَوْضِعٍ يَغْلِبُ عَلى ظُنُونِهِمْ أنَّها لا تُصِيبُهم فِيهِ كَما يَجُوزُ فِيمَن يَسْلُكُ البَحْرَ أنْ يَسْلُكَهُ في مَوْضِعٍ يَغْلِبُ عَلى ظَنِّهِ حُصُولُ النَّجاةِ فِيهِ. وتَعَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: ولِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: إنَّهم إنْ صَعِدُوا فَإمّا أنْ يَصِلُوا إلى مَواضِعِ المَلائِكَةِ أوْ إلى غَيْرِها فَإنْ وصَلُوا إلى الأوَّلِ احْتَرَقُوا وإنْ إلى الثّانِي لَمْ يَظْفَرُوا بِمَقْصُودٍ أصْلًا، فَعَلى كِلا التَّقْدِيرَيْنِ المَقْصُودُ غَيْرُ حاصِلٍ فَإذا حَصَلَتْ هَذِهِ التَّجْرِبَةُ وثَبَتَ بِالِاسْتِقْراءِ أنَّ الفَوْزَ بِالمَقْصُودِ مُحَقَّقٌ وجَبَ أنْ يَمْتَنِعُوا، وهَذا بِخِلافِ حالِ (p-28)المُسافِرِ في البَحْرِ فَإنَّ الغالِبَ عَلى المُسافِرِينَ فِيهِ الفَوْزُ بِالمَقْصُودِ، ثُمَّ قالَ: فالأقْرَبُ في الجَوابِ أنْ نَقُولَ: هَذِهِ الواقِعَةُ إنَّما تَتَّفِقُ في النُّدْرَةِ فَلَعَلَّها لا تَشْتَهِرُ بِسَبَبِ كَوْنِها نادِرَةً فِيما بَيْنَ الشَّياطِينِ اه. وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ هَذا لا يَكادُ يَتِمُّ إلّا مَعَ القَوْلِ بِأنَّهُ لَيْسَ كُلُّ ما نَراهُ مِنَ الشُّهُبِ يُحْرَقُ بِهِ الشَّياطِينُ والأمْرُ مَعَ هَذا القَوْلِ سَهْلٌ كَما لا يَخْفى. وذَكَرَ البَيْضاوِيُّ أنَّ اسْتِراقَ السَّمْعِ خَطْفَتُهُمُ اليَسِيرَةُ مِن قُطّانِ السَّماواتِ لِما بَيْنَهم مِنَ المُناسَبَةِ في الجَوْهَرِ. أوْ بِالِاسْتِدْلالِ مِن أوْضاعِ الكَواكِبِ وحَرَكاتِها، وذُكِرَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّهم عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ﴾ أنَّ السَّمْعَ مَشْرُوطٌ بِمُشارَكَتِهِمْ في صِفاتِ الذّاتِ وقَبُولُ فَيَضانِ الحَقِّ والِانْتِقاشُ بِالصُّورَةِ المَلَكُوتِيَّةِ ونُفُوسُهم خَبِيثَةٌ ظَلْمانِيَّةٌ شِرِّيرَةٌ بِالذّاتِ لا تَقْبَلُ ذَلِكَ، ولا يَخْفى ما فِيهِ، فَإنَّهُ ظاهِرٌ في أنَّ الِاسْتِراقَ يَقْتَضِي مُناسِبَةَ الجَوْهَرِ والسَّمْعَ التّامَّ يَقْتَضِي المُشارَكَةَ المَذْكُورَةَ وهو لا يَتَمَشّى عَلى أُصُولِ الشَّرْعِ، وفي أنَّ تَلَقِّيَهم يَكُونُ مِنَ الأوْضاعِ الفَلَكِيَّةِ وهو مُخالِفٌ لِصَرِيحِ النَّظْمِ والأحادِيثِ مَعَ أنَّهُ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ قُطّانُ السَّماءِ بِمَعْنى الكَواكِبِ وشُمُولُ ( مَنِ ) شَياطِينَ الإنْسِ مِنَ المُنَجِّمِينَ وهو كَما تَرى. وذَكَرَ هو وغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما أنَّ الشَّياطِينَ كانُوا لا يُحْجَبُونَ عَنِ السَّماواتِ فَلَمّا وُلِدَ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ مُنِعُوا مِن ثَلاثِ سَماواتٍ ولَمّا وُلِدَ النَّبِيُّ ﷺ مُنِعُوا مِنَ السَّماواتِ كُلِّها اه. ومِنَ النّاسِ مَن ذَهَبَ أخْذًا بِبَعْضِ الظَّواهِرِ إلى أنَّ المَنعَ عِنْدَ البَعْثَةِ واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ «بَقِيَ هاهُنا إشْكالٌ» ذَكَرَهُ الإمامُ مَعَ جَوابِهِ فَقالَ: ولِقائِلٍ أنْ يَقُولَ: إذا جَوَّزْتُمْ في الجُمْلَةِ أنْ يَصْعَدَ الشَّيْطانُ إلى السَّماءِ ويَسْمَعَ أخْبارَ الغُيُوبِ مِنَ المَلائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ ثُمَّ يُلْقِيها إلى الكَهَنَةِ وجَبَ أنْ يُخْرِجَ الأخْبارَ عَنِ المُغَيَّباتِ عَنْ كَوْنِهِ مُعْجِزًا دالًّا عَلى الصِّدْقِ لِأنَّ كُلَّ غَيْبٍ يُخْبِرُ عَنْهُ الرَّسُولُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ يَقُومُ فِيهِ هَذا الِاحْتِمالُ، ولا يُقالُ: إنَّ اللَّهَ تَعالى أخْبَرَ أنَّهم عَجَزُوا عَنْ ذَلِكَ بَعْدَ مَوْلِدِهِ ﷺ لِأنّا نَقُولُ: هَذا المُعْجِزُ لا يُمْكِنُ إثْباتُهُ إلّا بَعْدَ القَطْعِ بِكَوْنِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ رَسُولًا وبِكَوْنِ القُرْآنِ حَقًّا والقَطْعُ بِهَذا لا يُمْكِنُ إلّا بِواسِطَةِ المُعْجِزِ، وكَوْنُ الإخْبارِ عَنِ الغُيُوبِ مُعْجِزًا لا يَثْبُتُ إلّا بَعْدَ إبْطالِ هَذا الِاحْتِمالِ وحِينَئِذٍ يَلْزَمُ الدَّوْرُ وهو مُحالٌ. ويُمْكِنُ أنْ يُجْلَبَ عَنْهُ بِأنّا نُثْبِتُ كَوْنَهُ ﷺ رَسُولًا بِسائِرِ المُعْجِزاتِ ثُمَّ بَعْدَ العِلْمِ بِثُبُوتِ ذَلِكَ نَقْطَعُ بِأنَّ اللَّهَ تَعالى أعْجَزَ الشَّياطِينَ عَنْ تَلَقُّفِ الغَيْبِ بِهَذا الطَّرِيقِ وعِنْدَ ذَلِكَ يَصِيرُ الإخْبارُ عَنِ الغُيُوبِ مُعْجِزًا ولا يَلْزَمُ الدَّوْرُ اه فَتَدَبَّرْ واللَّهُ سُبْحانَهُ ولِيُّ التَّوْفِيقِ وبِيَدِهِ أزْمَةُ التَّحْقِيقِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب