الباحث القرآني

﴿لا يُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ الضَّمِيرُ لِلذِّكْرِ أيْضًا، والجُمْلَةُ في مَوْضِعِ الحالِ مِن مَفْعُولِ ﴿نَسْلُكُهُ﴾ أيْ غَيْرُ مُؤْمِنٍ بِهِ، وهي إمّا مُقَدَّرَةٌ وإمّا مُقارَنَةٌ عَلى مَعْنى أنَّ الإلْقاءَ وقَعَ بَعْدَهُ الكُفْرُ مِن غَيْرِ تَوَقُّفٍ فَهُما في زَمانٍ واحِدٍ عُرْفًا، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ بَيانًا لِلْجُمْلَةِ السّابِقَةِ فَلا مَحَلَّ لَها مِنَ الإعْرابِ، قالَ في الكَشْفِ: وهو الأوْجَهُ لِأنَّ في طَرِيقَةِ الإبْهامِ والتَّفْسِيرِ لا سِيَّما في هَذا المَقامِ ما يُجِلُّ مَوْقِعَ الكَلامِ. وفي إرْشادِ العَقْلِ السَّلِيمِ أنَّهُ قَدْ جَعَلَ ضَمِيرَ ﴿نَسْلُكُهُ﴾ لِلِاسْتِهْزاءِ المَفْهُومِ مِن ﴿يَسْتَهْزِئُونَ﴾ فَتَتَعَيَّنُ البَيانِيَّةُ إلّا أنْ يُجْعَلَ ضَمِيرُ (بِهِ) لَهُ أيْضًا عَلى أنَّ الباءَ لِلْمُلابَسَةِ أيْ يَسْلُكُ الِاسْتِهْزاءُ في قُلُوبِهِمْ حالَ كَوْنِهِمْ غَيْرَ مُؤْمِنِينَ بِمُلابَسَةِ الِاسْتِهْزاءِ، وقَدْ ذَهَبَ إلى جَوازِ إرْجاعِ الضَّمِيرَيْنِ إلى الِاسْتِهْزاءِ ابْنُ عَطِيَّةَ إلّا أنَّهُ جَعَلَ الباءَ لِلسَّبَبِيَّةِ، وكَذا الفاضِلُ الجَلْبِيُّ، ولا يَخْفى أنَّ بَعْدَ ذَلِكَ يُغْنِي عَنْ رَدِّهِ. وذَهَبَ البَيْضاوِيُّ إلى كَوْنِ الضَّمِيرِ الأوَّلِ لِلِاسْتِهْزاءِ وضَمِيرِ (بِهِ) لِلذِّكْرِ، وتَفْرِيقُ الضَّمائِرِ المُتَعاقِبَةِ عَلى الأشْياءِ المُخْتَلِفَةِ إذا دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ لَيْسَ بِبِدَعٍ في القُرْآنِ، وجُوِّزَ عَلى هَذا كَوْنُ الجُمْلَةِ حالًا مِنَ ( المُجْرِمِينَ ) ولا يَتَعَيَّنُ كَوْنُها حالًا مِنَ الضَّمِيرِ لِيَتَعَيَّنَ رُجُوعُهُ لِلذِّكْرِ، وذُكِرَ أنَّ عَوْدَهُ عَلى الِاسْتِهْزاءِ لا يُنافِي كَوْنَها مُفَسِّرَةً بَلْ يُقَوِّيهِ إذْ عَدَمُ الإيمانِ بِالذِّكْرِ أنْسَبُ بِتَمَكُّنِ الِاسْتِهْزاءِ في قُلُوبِهِمْ، وجَعْلُ الآيَةِ دَلِيلًا عَلى أنَّهُ تَعالى يُوجِدُ الباطِلَ في قُلُوبِهِمْ فَفِيها رَدٌّ عَلى المُعْتَزِلَةِ في قَوْلِهِمْ: إنَّهُ قَبِيحٌ فَلا يَصْدُرُ مِنهُ سُبْحانَهُ، وكَأنَّهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى ظَنَّ أنَّ ما فَعَلَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مِن جَعْلِ الضَّمِيرَيْنِ لِلذِّكْرِ كانَ رِعايَةً لِمَذْهَبِهِ فَفَعَلَ ما فَعَلَ، ولا يَخْفى أنَّهُ لَمْ يُصِبِ المَحَزَّ وغَفَلَ عَنْ قَوْلِهِمُ: الدَّلِيلُ إذا طَرَقَهُ الِاحْتِمالُ بَطَلَ بِهِ الِاسْتِدْلالُ. وفِي الكَشْفِ بَعْدَ كَلامٍ أنَّ رَجْعَ الضَّمِيرِ إلى الِاسْتِهْزاءِ أوِ الكُفْرِ مَعَ ما فِيهِ مِن تَنافُرِ النَّظْمِ لا يُنْكِرُهُ أهْلُ الِاعْتِزالِ إلّا كَإنْكارِ سَلْكِ الذِّكْرِ بِصِفَةِ التَّكْذِيبِ والتَّأْوِيلِ كالتَّأْوِيلِ، وكَأنَّهم غَفَلُوا عَمّا ذَكَرَهُ جارُ اللَّهِ في الشُّعَراءِ حَيْثُ أجابَ عَنْ سُؤالِ إسْنادِ سَلْكِ الذِّكْرِ بِتِلْكَ الصِّفَةِ إلى نَفْسِهِ جَلَّ وعَلا بِأنَّ المُرادَ تَمَكُّنُهُ مُكَذَّبًا في قُلُوبِهِمْ أشَدَّ التَّمَكُّنِ كَشَيْءٍ جُبِلُوا عَلَيْهِ ولُخِّصَ المَعْنى هاهُنا بِأنَّهُ تَعالى يُلْقِيهِ في قُلُوبِهِمْ مُكَذَّبًا لا أنَّ التَّكْذِيبَ فِعْلُهُ سُبْحانَهُ. نَعَمْ أخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ عَنْ أنَسٍ والحَسَنِ تَفْسِيرَ ضَمِيرِ ﴿نَسْلُكُهُ﴾ إلى الشِّرْكِ، وأخْرَجَ هو وابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ أنَّهُ قالَ في الآيَةِ: هم كَما قالَ اللَّهُ تَعالى هو أضَلَّهم ومَنَعَهُمُ الإيمانَ لَكِنَّ هَذا أمْرٌ وما نَحْنُ فِيهِ آخَرُ، واعْتَرَضَ بَعْضُهم رُجُوعَ الضَّمِيرِ إلى ( الذِّكْرَ ) بِأنَّ نُونَ العَظَمَةِ لا تُناسِبُ ذَلِكَ فَإنَّها إنَّما تَحْسُنُ إذا كانَ فِعْلُ المُعَظِّمِ نَفْسَهُ فِعْلًا يَظْهَرُ لَهُ أثَرٌ قَوِيٌّ ولَيْسَ كَذَلِكَ هُنا فَإنَّهُ تَدافَعَ وتَنازَعَ فِيهِ. وأجابَ بِأنَّ المَقامَ إذا كانَ لِلتَّوْبِيخِ يَحْسُنُ ذَلِكَ، ولا يَلْزَمُ أنْ تَكُونَ العَظَمَةُ بِاعْتِبارِ القَهْرِ والغَلَبَةِ فَقَدْ تَكُونُ بِاعْتِبارِ اللُّطْفِ والإحْسانِ. وتَعَقَّبَ ذَلِكَ الشِّهابُ بِقَوْلِهِ: لا يَخْفى أنَّهُ بِاعْتِبارِ القَهْرِ والغَلَبَةِ يَقْتَضِي أنْ يُؤَثِّرَ ذَلِكَ في قُلُوبِهِمْ ولَيْسَ كَذَلِكَ لِعَدَمِ إيمانِهِمْ (p-19)بِهِ، وكَذا بِاعْتِبارِ اللُّطْفِ والإحْسانِ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ سَلْكُهُ في قُلُوبِهِمْ إنْعامًا عَلَيْهِمْ فَأيُّ إنْعامٍ عَلَيْهِمْ بِما يَقْتَضِي الغَضَبَ فَلا وجْهَ لِما ذُكِرَ، وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّهُ إذا كانَ المُرادُ سَلْكَ ذَلِكَ وتَمْكِينَهُ في قُلُوبِهِمْ مُكَذَّبًا بِهِ غَيْرُ مَقْبُولٍ فَكَوْنُ الإسْنادِ بِاعْتِبارِ القَهْرِ والغَلَبَةِ مِمّا لا يَنْبَغِي أنْ يَنْتَطِحَ فِيهِ كَبْشانِ، والأثَرُ الظّاهِرُ القَوِيُّ لِذَلِكَ بَقاؤُهم عَلى الكُفْرِ والإصْرارِ عَلى الضَّلالِ ولَوْ جاءَتْهم كُلُّ آيَةٍ، ولا يَخْفى ما في ( كَذَلِكَ ) مِمّا يُناسِبُ نُونَ العَظَمَةِ أيْضًا وقَدْ مَرَّ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ غَيْرَ مَرَّةٍ (وقَدْ خَلَتْ) مَضَتْ ﴿سُنَّةُ﴾ طَرِيقَةُ ﴿الأوَّلِينَ﴾ والمُرادُ عادَةُ اللَّهِ تَعالى فِيهِمْ عَلى أنَّ الإضافَةَ لِأدْنى مُلابَسَةٍ لا عَلى أنَّ الإضافَةَ بِمَعْنى فِي، والمُرادُ بِتِلْكَ العادَةِ عَلى تَقْدِيرِ أنْ يَكُونَ ضَمِيرُ ﴿نَسْلُكُهُ﴾ لِلِاسْتِهْزاءِ الخُذْلانُ وسَلْكُ الكُفْرِ في قُلُوبِهِمْ أنْ قَدْ مَضَتْ عادَتُهُ سُبْحانَهُ وتَعالى في الأوَّلِينَ مِمَّنْ بَعَثَ إلَيْهِمُ الرُّسُلَ عَلَيْهِمُ السَّلامُ أنْ يَخْذُلَهم ويَسْلُكَ الكُفْرَ والِاسْتِهْزاءَ في قُلُوبِهِمْ، وعَلى تَقْدِيرِ أنْ يَكُونَ لِلذِّكْرِ الإهْلاكُ، وعَلى هَذا قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ أيْ مَضَتْ طَرِيقَتُهُمُ الَّتِي سَنَّها اللَّهُ تَعالى في إهْلاكِهِمْ حِينَ كَذَّبُوا بِرُسُلِهِمْ والمُنَزَّلِ عَلَيْهِمْ، وذَكَرَ أنَّهُ وعِيدٌ لِأهْلِ مَكَّةَ عَلى تَكْذِيبِهِمْ، وإلى الأوَّلِ ذَهَبَ الزَّجّاجُ، وادَّعى الإمامُ أنَّهُ الألْيَقُ بِظاهِرِ اللَّفْظِ وبَيَّنَ ذَلِكَ الطَّيِّبِيُّ قائِلًا: إنَّ التَّعْرِيفَ في ( المُجْرِمِينَ ) لِلْعَهْدِ، والمُرادُ بِهِمُ المُكَذِّبُونَ مِن قَوْمِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لِأنَّهُمُ المَذْكُورُونَ بَعْدَ أنْ مَثَّلَ ذَلِكَ السَّلْكَ الَّذِي سَلَكْناهُ في قُلُوبِ أُولَئِكَ المُسْتَهْزِئِينَ المُكَذِّبِينَ لِلرُّسُلِ الماضِينَ نَسْلُكُهُ في قُلُوبِ هَؤُلاءِ المُجْرِمِينَ فَلَكَ أُسْوَةٌ بِالرُّسُلِ الماضِيَةِ مَعَ أُمَمِهِمُ المُكَذِّبَةِ، ولَسْتُ بِأوْحَدِيٍّ في ذَلِكَ وقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأوَّلِينَ، والمَقامُ يَقْتَضِي التَّقْرِيرَ والتَّأْكِيدَ فَيَكُونُ في هَذا مَزِيدُ تَسْلِيَةٍ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، والوَعِيدُ بِعِيدٌ لِأنَّهُ لَمْ يَسْبِقْ لِإهْلاكِ الأُمَمِ ذِكْرٌ، وإيثارُ ذَلِكَ لِأنَّهُ أقْرَبُ إلى مَذْهَبِ الِاعْتِزالِ اه. وفِيهِ غَفْلَةٌ عَنْ مَغْزى الزَّمَخْشَرِيِّ، وقَدْ تَفَطَّنَ لِذَلِكَ صاحِبُ الكَشْفِ ولِلَّهِ تَعالى دَرُّهُ حَيْثُ قالَ: أرادَ أنَّ مَوْقِعَ ( قَدْ خَلَتْ ) إلى آخِرِهِ مَوْقِعَ الغايَةِ في الشُّعَراءِ أعْنِي قَوْلَهُ تَعالى هُنالِكَ: ﴿حَتّى يَرَوُا العَذابَ الألِيمَ﴾ . فَإنَّهم لَمّا شُبِّهُوا بِهِمْ قِيلَ: لا يُؤْمِنُونَ وقَدْ هَلَكَ مَن قَبْلَهم ولَمْ يُؤْمِنُوا فَكَذَلِكَ هَؤُلاءِ، ومِنهُ يَظْهَرُ أنَّ الكَلامَ عَلى هَذا الوَجْهِ شَدِيدُ المُلاءَمَةِ، وأمّا أنَّ الوَعِيدَ بَعِيدٌ لِعَدَمِ سَبْقِ ذِكْرٍ لِإهْلاكِ الأُمَمِ فَفِيهِ أنَّ لَفْظَ السُّنَّةِ مُضافًا إلى ما أُضِيفَ إلَيْهِ يُنْبِئُ عَنْ ذَلِكَ أشَدَّ الإنْباءِ، ثُمَّ إنَّهُ لَيْسَ المَقْصُودُ مِنهُ الوَعِيدَ عَلى ما قَرَّرْناهُ، وقَدْ صَرَّحَ أيْضًا بَعْضُ الأجِلَّةِ أنَّ الجُمْلَةَ اسْتِئْنافِيَّةٌ جِيءَ بِها تَكْمِلَةً لِلتَّسْلِيَةِ وتَصْرِيحًا بِالوَعِيدِ والتَّهْدِيدِ، ثُمَّ ما ذَهَبَ إلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ مِنَ المُرادِ بِالسُّنَّةِ مَرْوِيٌّ عَنْ قَتادَةَ. فَقَدْ أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وابْنُ المُنْذِرِ وغَيْرُهُما عَنْهُ أنَّهُ قالَ في الآيَةِ: قَدْ خَلَتْ وقائِعُ اللَّهِ تَعالى فِيمَن خَلا مِنَ الأُمَمِ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ المُرادَ سُنَّتُهم في التَّكْذِيبِ، ولَعَلَّ الإضافَةَ عَلى هَذا عَلى ظاهِرِها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب