الباحث القرآني

﴿ولَقَدْ أرْسَلْنا مُوسى﴾ شُرُوعٌ في تَفْصِيلِ ما أُجْمِلَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وما أرْسَلْنا مِن رَسُولٍ إلا بِلِسانِ قَوْمِهِ﴾ الآيَةَ ﴿بِآياتِنا﴾ أيْ مُلْتَبِسًا بِها وهي كَما أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وغَيْرُهُ عَنْ مُجاهِدٍ وعَطاءٍ وعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ الآياتُ التِّسْعُ الَّتِي أجْراها اللَّهُ تَعالى عَلى يَدِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ وقِيلَ: يَجُوزُ أنْ يُرادَ بِها آياتُ التَّوْراةِ ﴿أنْ أخْرِجْ قَوْمَكَ﴾ بِمَعْنى أيْ أخْرِجْ فَأنْ تَفْسِيرِيَّةٌ لِأنَّ في الإرْسالِ مَعْنى القَوْلِ دُونَ حُرُوفِهِ أوْ بِأنْ أخْرِجْ فَهي مَصْدَرِيَّةٌ حُذِفَ قَبْلَها حَرْفُ الجَرِّ لِأنَّ أرْسَلَ يَتَعَدّى بِالباءِ والجارُّ يَطَّرِدُ حَذْفُهُ قَبْلَ أنْ وأنْ واتِّصالُ المَصْدَرِيَّةِ بِالأمْرِ أمْرٌ مَرَّ تَحْقِيقُهُ. وزَعَمَ بَعْضُهم أنَّ ( أنْ ) هُنا زائِدَةٌ ولا يَخْفى ضَعْفُهُ والمُرادُ مِن قَوْمِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ كَما هو الظّاهِرُ بَنُو إسْرائِيلَ ومِن إخْراجِهِمْ إخْراجُهم بَعْدَ مَهْلِكِ فِرْعَوْنَ ﴿مِنَ الظُّلُماتِ﴾ مِنَ الكُفْرِ والجَهالاتِ الَّتِي كانُوا فِيها وأدَّتْ بِهِمْ إلى أنْ يَقُولُوا: ﴿يا مُوسى اجْعَلْ لَنا إلَهًا كَما لَهم آلِهَةٌ﴾ . ﴿إلى النُّورِ﴾ إلى الأيْمانِ بِاللَّهِ تَعالى وتَوْحِيدِهِ وسائِرِ ما أُمِرُوا بِهِ وقِيلَ: أخْرِجْهم مِن ظُلُماتِ النَّقْصِ إلى نُورِ الكَمالِ ﴿وذَكِّرْهم بِأيّامِ اللَّهِ﴾ أيْ بِنَعْمائِهِ وبَلائِهِ كَما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما واخْتارَهُ الطَّبَرِيُّ لِأنَّهُ الأنْسَبُ بِالمَقامِ والأوْفَقُ بِما سَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى مِنَ الكَلامِ والعَطْفِ عَلى ﴿أخْرِجْ﴾ وجُوِّزَ أنْ تَكُونَ الجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةً والِالتِفاتُ مِنَ التَّكَلُّمِ إلى الغَيْبَةِ بِإضافَةِ الأيّامِ إلى الِاسْمِ الجَلِيلِ لِلْإيذانِ بِفَخامَةِ شَأْنِها والإشْعارِ عَلى ما قِيلَ بِعَدَمِ اخْتِصاصِ ما فِيها مِنَ المُعامَلَةِ بِالمُخاطَبِ وقَوْمِهِ كَما يُوهِمُهُ الإضافَةُ إلى ضَمِيرِ المُتَكَلِّمِ وحاصِلُ المَعْنى عِظْهم بِالتَّرْغِيبِ والتَّرْهِيبِ والوَعْدِ والوَعِيدِ وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أيْضًا والرَّبِيعِ ومُقاتِلٍ وابْنِ زَيْدٍ المُرادُ بِأيّامِ اللَّهِ وقائِعُهُ سُبْحانَهُ ونِقَماتِهِ في الأُمَمِ الخالِيَةِ ومِن ذَلِكَ أيّامُ العَرَبِ لِحُرُوبِها ومَلاحِمِها كَيَوْمِ ذِي قارٍ ويَوْمِ الفِجارِ ويَوْمِ قَضَّةَ وغَيْرِها واسْتَظْهَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ لِلْغَلَبَةِ العُرْفِيَّةِ وأنَّ العَرَبَ اسْتَعْمَلَتْهُ لِلْوَقائِعِ وأنْشَدَ الطَّبَرْسِيُّ (p-188)لِذَلِكَ قَوْلَ عَمْرِو بْنِ كُلْثُومٍ: . ؎وأيّامٌ لَنا غُرَرٌ طِوالٌ عَصَيْنا المَلِكَ فِيها أنْ نَدِينا وأنْشَدَهُ الشِّهابُ لِلْمَعْنى السّابِقِ وأنْشَدَ لِهَذا قَوْلَهُ: ؎وأيّامُنا مَشْهُورَةٌ في عَدُوِّنا وأخْرَجَ النَّسائِيُّ وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أحْمَدَ في زَوائِدِ المُسْنَدِ والبَيْهَقِيُّ في شُعَبِ الإيمانِ وغَيْرُهم عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ أنَّهُ فَسَّرَ الأيّامَ في الآيَةِ بِنِعَمِ اللَّهِ تَعالى وآلائِهِ ورَوى ذَلِكَ ابْنُ المُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ ومُجاهِدٍ وجَعَلَ أبُو حَيّانَ مِن ذَلِكَ بَيْتَ عَمْرٍو والأظْهَرُ فِيهِ ما ذَكَرَهُ الطَّبَرْسِيُّ. وأنْتَ تُعْلَمُ أنَّهُ إنْ صَحَّ الحَدِيثُ فَعَلَيْهِ الفَتْوى لَكِنْ ذَكَرَ شَيْخُ الإسْلامِ في تَرْجِيحِ التَّفْسِيرِ المَرْوِيِّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما أوَّلًا عَلى ما رُوِيَ ثانِيًا بِأنَّهُ يَرُدُّ الثّانِيَ ما تَصَدّى لَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ بِصَدَدِ الِامْتِثالِ مِنَ التَّذْكِيرِ بِكُلٍّ مِنَ السَّرّاءِ والضَّرّاءِ مِمّا جَرى عَلَيْهِمْ وعَلى غَيْرِهِمْ حَسْبَما يُتْلى بَعْدُ وهو يُبْعِدُ صِحَّةَ الحَدِيثِ والقَوْلَ بِأنَّ النِّقَمَ بِالنِّسْبَةِ إلى قَوْمٍ نِعَمٌ بِالنِّسْبَةِ إلى آخَرِينَ كَما قِيلَ: ؎مَصائِبُ قَوْمٍ عِنْدَ قَوْمٍ فَوائِدُ مِمّا لا يَنْبَغِي أنَّ يَلْتَفِتَ إلَيْهِ عاقِلٌ في هَذا المَقامِ نَعَمْ إنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ﴾ ظاهِرٌ في تَفْسِيرِ الأيّامِ بِالنِّعَمِ وما يَسْتَدْعِي غَيْرَ ذَلِكَ سَتَسْمَعُ فِيهِ أقْوالًا لا يَسْتَدْعِيهِ عَلى بَعْضِها. وزَعَمَ بَعْضُهم أنَّ المُرادَ مِن قَوْمِهِ عَلَيْهِ السَّلامُ القِبْطُ ( والظُّلُماتِ والنُّورِ ) الكُفْرِ والإيمانِ لا غَيْرَ وقِيلَ: قَوْمُهُ عَلَيْهِ السَّلامُ القِبْطُ وبَنُو إسْرائِيلَ وكانَ عَلَيْهِ السَّلامُ مَبْعُوثًا إلَيْهِمْ جَمِيعًا إلّا أنَّهُ بُعِثَ إلى القِبْطِ بِالِاعْتِرافِ بِوَحْدانِيَّةِ اللَّهِ تَعالى وأنْ لا يُشْرِكُوا بِهِ سُبْحانَهُ شَيْئًا وإلى بَنِي إسْرائِيلَ بِذَلِكَ وبِالتَّكْلِيفِ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ. وقِيلَ: هم بَنُو إسْرائِيلَ فَقَطْ إلّا أنَّ المُرادَ مِنَ ( الظُّلُماتِ والنُّورِ ) إنْ كانُوا كُلُّهم مُؤْمِنِينَ ظُلُماتِ ذُلِّ العُبُودِيَّةِ ونُورِ عِزَّةِ الدِّينِ وظُهُورِ أمْرِ اللَّهِ تَعالى ونَحْنُ نَقُولُ: نَسْألُ اللَّهَ تَعالى أنْ يُخْرِجَنا وأهْلَ هَذِهِ الأقْوالِ مِن ظُلُماتِ الجَهْلِ إلى نُورِ العِلْمِ ﴿إنَّ في ذَلِكَ﴾ أيْ في التَّذْكِيرِ بِأيّامِ اللَّهِ تَعالى أوْ في الأيّامِ ﴿لآياتٍ﴾ عَظِيمَةً أوْ كَثِيرَةً دالَّةً عَلى وحْدانِيَّةِ اللَّهِ تَعالى وقُدْرَتِهِ وعِلْمِهِ وحِكْمَتِهِ وهي عَلى الأوَّلِ الأيّامُ ومَعْنى كَوْنِ التَّذْكِيرِ ظَرْفًا لَها كَوْنُهُ مُناطًا لِظُهُورِها وعَلى الثّانِي كَذَلِكَ أيْضًا إلّا أنَّ كَلِمَةَ ( في ) تَجْرِيدِيَّةٌ أوْ هي عَلَيْهِ كُلُّ واحِدَةٍ مِنَ النَّعْماءِ والبَلاءِ والمُشارُ إلَيْهِ المَجْمُوعُ المُشْتَمِلُ عَلَيْها مِن حَيْثُ هو مَجْمُوعٌ وجُوِّزَ أنْ يُرادَ بِالأيّامِ فِيما سَبَقَ أنْفُسُها المُنْطَوِيَةُ عَلى النِّعَمِ والنِّقَمِ فَإذا كانَتِ الإشارَةُ إلَيْها وحُمِلَتِ الآياتُ عَلى النَّعْماءِ والبَلاءِ فَأمْرُ الظَّرْفِيَّةِ ظاهِرٌ ﴿لِكُلِّ صَبّارٍ﴾ كَثِيرِ الصَّبْرِ عَلى بَلائِهِ تَعالى ﴿شَكُورٍ﴾ . (5) . كَثِيرِ الشُّكْرِ لِنَعْمائِهِ عَزَّ وجَلَّ. وقِيلَ: المُرادُ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ فَعَلى الأوَّلِ الوَصْفانِ عِبارَتانِ لِمَعْنَيَيْنِ وعَلى هَذا عِبارَةٌ عَنْ مَعْنًى واحِدٍ عَلى طَرِيقِ الكِنايَةِ كَحَيٍّ مُسْتَوِي القامَةِ بادِيَ البَشَرَةِ في الكِنايَةِ عَنِ الإنْسانِ والتَّعْبِيرُ عَنِ المُؤْمِنِ بِذَلِكَ لِلْإشْعارِ بِأنَّ الصَّبْرَ والشُّكْرَ عُنْوانُ المُؤْمِنِ الدّالُّ عَلى ما في باطِنِهِ والمُرادُ عَلى ما قِيلَ لِكُلِّ مَن يَلِيقُ بِكَمالِ الصَّبْرِ والشُّكْرِ أوِ الإيمانِ ويَصِيرُ أمْرُهُ إلى ذَلِكَ لا لِمَنِ اتَّصَفَ بِهِ بِالفِعْلِ لِأنَّ الكَلامَ تَعْلِيلٌ لِلْأمْرِ بِالتَّذْكِيرِ المَذْكُورِ السّابِقِ عَلى التَّذْكِيرِ المُؤَدِّي إلى تِلْكَ المَرْتَبَةِ فَإنَّ مَن تَذَكَّرَ ما فاضَ أوْ نَزَلَ عَلَيْهِ أوْ عَلى ما قَبْلَهُ مِنَ النِّعْمَةِ والنِّقْمَةِ وتَنَبَّهَ لِعاقِبَةِ الصَّبْرِ والشُّكْرِ أوِ الإيمانِ لا يَكادُ يُفارِقُ ذَلِكَ وتَخْصِيصُ الآياتِ بِالصَّبّارِ الشَّكُورِ لِأنَّهُ المُنْتَفِعُ بِها لا لِأنَّها خافِيَةٌ عَنْ غَيْرِهِ فَإنَّ التَّبْيِينَ حاصِلٌ بِالنِّسْبَةِ إلى الكُلِّ وتَقْدِيمُ الصَّبْرِ عَلى الشُّكْرِ لِما أنَّ الصَّبْرَ مِفْتاحُ (p-189)الفَرَجِ المُقْتَضِي لِلشُّكْرِ وقِيلَ: لِأنَّهُ مِن قَبِيلِ التُّرُوكِ يُقالُ: صَبَرْتُ الدّابَّةَ إذا حَبَسْتُها بِلا عَلَفٍ والشُّكْرُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَإنَّهُ كَما قالَ الرّاغِبُ تَصَوُّرُ النِّعْمَةِ وإظْهارُها قِيلَ: وهو مَقْلُوبُ الكُشْرِ أيِ الكَشْفِ وقِيلَ: أصْلُهُ مِن عَيْنٍ شُكْرى أيْ مُمْتَلِئَةٍ فالشُّكْرُ عَلى هَذا هو الِامْتِلاءُ مِن ذِكْرِ المُنْعِمِ عَلَيْهِ وهو عَلى ثَلاثَةِ أضْرُبٍ: شُكْرُ القَلْبِ وشُكْرُ اللِّسانِ وشُكْرُ الجَوارِحِ وذَكَرَ أنَّ تَوْفِيَةَ شُكْرِ اللَّهِ تَعالى صَعْبَةٌ ولِذَلِكَ لَمْ يُثْنِ سُبْحانَهُ بِالشُّكْرِ عَلى أحَدٍ مِن أوْلِيائِهِ إلّا عَلى اثْنَيْنِ نُوحٍ وإبْراهِيمَ عَلَيْهِما السَّلامُ وقَدْ يَكُونُ انْقِسامُ الشُّكْرِ عَلى النِّعْمَةِ وعَدَمُ انْقِسامِ الصَّبْرِ عَلى النِّقْمَةِ وجْهًا لِلتَّقْدِيمِ والتَّأْخِيرِ وقِيلَ: ذَلِكَ لِتَقَدُّمِ مُتَعَلِّقِ الصَّبْرِ أعْنِي البَلاءَ عَلى مُتَعَلِّقِ الشُّكْرِ أعْنِي النَّعْماءَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب