الباحث القرآني
وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿وقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ﴾ حالٌ مِنَ الضَّمِيرِ الأوَّلِ في ﴿فَعَلْنا بِهِمْ﴾ أوْ مِنَ الثّانِي أوْ مِنهُما جَمِيعًا وقَدَّمَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وضَرَبْنا لَكُمُ الأمْثالَ﴾ لِشِدَّةِ ارْتِباطِهِ عَلى ما قِيلَ بِما قَبْلَهُ أيْ فَعَلْنا بِهِمْ ما فَعَلْنا والحالُ أنَّهم قَدْ مَكَرُوا في إبْطالِ الحَقِّ وتَقْرِيرِ الباطِلِ مَكْرَهُمُ العَظِيمَ الَّذِي اسْتَفْرَغُوا في عَمَلِهِ المَجْهُودَ وجاوَزُوا فِيهِ كُلَّ حَدٍّ مَعْهُودٍ بِحَيْثُ لا يَقْدِرُ عَلَيْهِ غَيْرُهم والمُرادُ بَيانُ تَناهِيهِمْ في اسْتِحْقاقِ ما فُعِلَ بِهِمْ أوْ وقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمُ المَذْكُورَ في تَرْتِيبِ مَبادِي البَقاءِ ومُدافِعَةِ أسْبابِ الزَّوالِ فالمَقْصُودُ إظْهارُ عَجْزِهِمْ واضْمِحْلالِ قُدْرَتِهِمْ وحَقارَتِها عِنْدَ قُدْرَةِ اللَّهِ سُبْحانَهُ قالَهُ شَيْخُ الإسْلامِ وهو ظاهِرٌ في أنَّ هَذا مِن تَتِمَّةِ ما يُقالُ لِأُولَئِكَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وهو المَرْوِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرَظِيِّ فَقَدْ أخْرَجَ عَنْهُ ابْنُ جَرِيرٍ أنَّهُ قالَ: بَلَغَنِي أنَّ أهْلَ النّارِ يُنادُونَ ﴿رَبَّنا أخِّرْنا إلى أجَلٍ قَرِيبٍ﴾ .. إلَخْ فَيُرَدُّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿أوَلَمْ تَكُونُوا أقْسَمْتُمْ﴾ إلى قَوْلِهِ ﴿لِتَزُولَ مِنهُ الجِبالُ﴾ وذَكَرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ احْتِمالًا وقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ مِمّا سَتَعْلَمُهُ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى قَرِيبًا وظاهِرُ كَلامِ غَيْرِ واحِدٍ أنَّ اسْتِفادَةَ المُبالَغَةِ في ﴿مَكَرُوا مَكْرَهُمْ﴾ مِنَ الإضافَةِ وفي الحَواشِي الشِّهابِيَّةِ أنَّ ﴿مَكْرَهُمْ﴾ مَنصُوبٌ عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِأنَّهُ لازِمٌ فَدَلالَتُهُ عَلى المُبالَغَةِ لِقَوْلِهِ تَعالى الآتِي: ﴿وإنْ كانَ مَكْرُهُمْ﴾ .. إلَخْ لا لِأنَّ إضافَةَ المَصْدَرِ تُفِيدُ العُمُومَ أيْ أظْهَرُوا كُلَّ مَكْرٍ لَهم أوْ لِأنَّ إضافَتَهُ وأصْلَهُ التَّنْكِيرُ لِإفادَةِ أنَّهم مَعْرُوفُونَ بِذَلِكَ ولِلْبَحْثِ فِيهِ مَجالٌ ﴿وعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ﴾ أيْ جَزاءُ مَكْرِهِمْ عَلى أنَّ الكَلامَ عَلى حَذْفِ مُضافٍ وجُوِّزَ أنْ لا يَكُونَ هُناكَ مُضافٌ مَحْذُوفٌ والمَعْنى مَكْتُوبٌ عِنْدَهُ تَعالى مَكْرُهم ومَعْلُومٌ لَهُ سُبْحانَهُ وذَلِكَ كِنايَةً عَنْ مَجازاتِهِ تَعالى لَهم عَلَيْهِ وأيًّا ما كانَ فَإضافَةُ ( مَكْرٍ ) إلى الفاعِلِ وهو الظّاهِرُ المُتَبادَرُ وقِيلَ: إنَّهُ مُضافٌ إلى مَفْعُولِهِ عَلى مَعْنى عِنْدَهُ تَعالى مَكْرُهُمُ الَّذِي يَمْكُرُهم بِهِ وتَعَقَّبَهُ أبُو حَيّانَ بِأنَّ المَحْفُوظَ أنَّ ( مَكْرَ ) لازِمٌ ولَمْ يُسْمَعْ مُتَعَدِّيًا وأُجِيبَ بِأنَّهُ يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المَكْرُ مُتَجَوَّزًا بِهِ أوْ مُضَمَّنًا مَعْنى الكَيْدِ أوِ الجَزاءِ والكَلامُ في نِسْبَةِ المَكْرِ إلَيْهِ تَعالى وأنَّهُ إمّا بِاعْتِبارِ المُشاكَلَةِ أوِ الِاسْتِعارَةِ مَشْهُورٌ وذَكَرَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ أنَّ المُرادَ بِهَذا المَكْرِ ما أفادَهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ﴾ لا أنَّهُ وعِيدٌ مُسْتَأْنَفٌ والجُمْلَةُ حالٌ مِنَ الضَّمِيرِ في ﴿مَكَرُوا﴾ أيْ مَكَرُوا مَكْرَهم وعِنْدَ اللَّهِ تَعالى جَزاؤُهُ أوْ هو ما أعْظَمَ مِنهُ والمَقْصُودُ بَيانُ فَسادِ رَأْيِهِمْ حَيْثُ باشَرُوا فِعْلًا مَعَ تَحَقُّقِ ما يُوجِبُ تَرْكَهُ ﴿وإنْ كانَ مَكْرُهم لِتَزُولَ مِنهُ الجِبالُ﴾ . (46) أيْ وإنْ كانَ مَكْرُهم في غايَةِ الشِّدَّةِ والمَتانَةِ وعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِكَوْنِهِ مُعَدّى لِإزالَةِ الجِبالِ عَنْ مَقارِّها لِكَوْنِهِ مَثَلًا في ذَلِكَ ( وإنْ ) شَرْطِيَّةٌ وصْلِيَّةٌ عِنْدَ جَمْعٍ والمُرادُ أنَّهُ سُبْحانَهُ مَجازِيهِمْ عَلى مَكْرِهِمْ ومُبْطِلُهُ إنْ لَمْ يَكُنْ في هَذِهِ الشِّدَّةِ وإنْ كانَ فِيها ولا بُدَّ عَلى هَذا الوَجْهِ مِن مُلاحَظَةِ الإبْطالِ وإلّا فالجَزاءُ المُجَرَّدُ عَنْ ذَلِكَ لا يَكادُ يَتَأتّى مَعَهُ النُّكْتَةُ الَّتِي يَدُورُ عَلَيْها ما في إنَّ الوَصْلِيَّةِ (p-251)مِنَ التَّأْكِيدِ المَعْنَوِيِّ وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ المَعْنى أنَّهُ تَعالى يُقابِلُهم بِمَكْرِهِمْ ولا يَمْنَعُ مِن ذَلِكَ كَوْنُ مَكْرِهِمْ في غايَةِ الشِّدَّةِ فَهو سُبْحانَهُ وتَعالى أشَدُّ مَكْرًا ولا حاجَةَ حِينَئِذٍ إلى مُلاحَظَةِ الإبْطالِ فَتَدَبَّرْ وعَنِ الحَسَنِ وجَماعَةٍ أنَّ ( إنْ ) نافِيَةٌ واللّامُ لامُ الجَحُودِ وكانَ تامَّةٌ والمُرادُ بِالجِبالِ آياتُ اللَّهِ تَعالى وشَرائِعُهُ ومُعْجِزاتُهُ الظّاهِرَةُ عَلى أيْدِي الرُّسُلِ السّالِفَةِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ الَّتِي هي كالجِبالِ في الرُّسُوخِ والثَّباتِ والقَصْدُ إلى تَحْقِيرِ مَكْرِهِمْ وأنَّهُ ما كانَ لِتَزُولَ مِنهُ الآياتُ والنُّبُوّاتُ وجُوِّزَ أنْ تَكُونَ كانَ ناقِصَةً وخَبَرُها إمّا مَحْذُوفٌ أوِ الفِعْلُ الَّذِي دَخَلَتْ عَلَيْهِ اللّامُ عَلى الخِلافِ الَّذِي بَيْنَ البَصْرِيِّينَ والكُوفِيِّينَ وأُيِّدَ هَذا الوَجْهُ بِما رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِن أنَّهُ قَرَأ ( وما كانَ ) بِما النّافِيَةِ وتُعُقِّبَ بِأنَّ فِيهِ مُعارَضَةً لِلْقِراءَةِ الدّالَّةِ عَلى عِظَمِ مَكْرِهِمْ كَقِراءَةِ الجُمْهُورِ وأُجِيبَ بِأنَّ الجِبالَ في تِلْكَ القِراءَةِ يُشارُ بِها إلى ما رامُوا إبْطالَهُ مِنَ الحَقِّ كَما أشَرْنا إلَيْهِ وفي هَذِهِ عَلى حَقِيقَتِها فَلا تَعارُضَ إذْ لَمْ يَتَوارَدا عَلى مَحَلٍّ واحِدٍ نَفْيًا وإثْباتًا ورُدَّ بِأنَّهُ إذا جَعَلَ الحَقَّ شَبِيهًا بِالجِبالِ في الثَّباتِ كانَ مِثْلَها بَلْ أدْوَنَ مِنها في هَذا المَعْنى فَإذا نَفى إزالَتَهُ جِبالَ الدُّنْيا وحِينَئِذٍ يَجِيءُ الإشْكالُ.
وتَعَقَّبَهُ الشِّهابُ بِأنَّ هَذا غَيْرُ وارِدٍ لِأنَّ المُشَبَّهَ لا يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ أدْوَنَ مِنَ المُشَبَّهِ بِهِ في وجْهِ الشَّبَهِ بَلْ قَدْ يَكُونُ بِخِلافِهِ ولَوْ سُلِّمَ فَقَدْ يُقَدَّرُ عَلى إزالَةِ الأقْوى دُونَ الآخَرِ لِمانِعٍ كالشُّجاعِ يَقْدِرُ عَلى قَتْلِ أسَدٍ ولا يَقْدِرُ عَلى قَتْلِ رَجُلٍ مُشَبَّهٍ بِهِ لِامْتِناعِهِ بِعُدَّةٍ أوْ حِصْنٍ ولا حِصْنَ أحْصَنَ وأحْمى مِن تَأْيِيدِ اللَّهِ تَعالى شَأْنُهُ لِلْحَقِّ بِحَيْثُ تَزُولُ الجِبالُ يَوْمَ تُنْسَفُ نَسْفًا ولا يَزُولُ انْتَهى وإلى تَفْسِيرِ ﴿الجِبالُ﴾ عَلى هَذِهِ القِراءَةِ بِما ذَكَرْنا ذَهَبَ شَيْخُ الإسْلامِ ثُمَّ قالَ: وأمّا كَوْنُها عِبارَةً عَنْ أمْرِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ وأمَرَ القُرْآنِ العَظِيمِ كَما قِيلَ فَلا مَجالَ لَهُ إذِ الماكِرُونَ هُمُ المُهْلَكُونَ لا السّاكِنُونَ في مَساكِنِهِمْ مِنَ المُخاطَبِينَ وإنْ خُصَّ الخِطابُ بِالمُنْذَرِينَ وسَيَظْهَرُ لَكَ قَرِيبًا إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى جَوازُ ذَلِكَ عَلى بَعْضِ الأقْوالِ في الآيَةِ والجُمْلَةُ حالٌ مِنَ الضَّمِيرِ في ﴿مَكَرُوا﴾ لا مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ﴾ وجَوَّزَ أبُو البَقاءِ وغَيْرُهُ أنْ تَكُونَ مُخَفَّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ والمَعْنى إنْ كانَ مَكْرُهم لِيَزُولَ مِنهُ ما هو كالجِبالِ في الثَّباتِ مِنَ الآياتِ والشَّرائِعِ والمُعْجِزاتِ والجُمْلَةُ أيْضًا حالٌ مِنَ الضَّمِيرِ المَذْكُورِ أيْ ﴿مَكَرُوا مَكْرَهُمْ﴾ المَعْهُودَ وأنَّ الشَّأْنَ كانَ مَكْرُهم لِإزالَةِ الحَقِّ مِنَ الآياتِ والشَّرائِعِ عَلى مَعْنى أنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَصِحُّ أنْ يَكُونَ مِنهم مَكْرٌ كَذَلِكَ وكانَ شَأْنُ الحَقِّ مانِعًا مِن مُباشَرَةِ المَكْرِ لِإزالَتِهِ.
وقَرَأ ابْنُ عَبّاسٍ ومُجاهِدٌ وابْنُ وثّابٍ والكِسائِيُّ ﴿لِتَزُولَ﴾ بِفَتْحِ اللّامِ الأُولى ورَفْعِ الفِعْلِ فَإنْ عَلى ذَلِكَ عِنْدَ البَصْرِيِّينَ مُخَفَّفَةٌ واللّامُ هي الفارِقَةُ وعِنْدَ الكُوفِيِّينَ نافِيَةٌ واللّامُ بِمَعْنى إلّا والقَصْدُ إلى تَعْظِيمِ مَكْرِهِمْ فالجُمْلَةُ حالٌ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ﴾ أيْ عِنْدَهُ تَعالى جَزاءُ مَكْرِهِمْ أوِ المَكْرُ بِهِمْ والحالُ أنَّ مَكْرَهم بِحَيْثُ تَزُولُ مِنهُ الجِبالُ أيْ في غايَةِ الشِّدَّةِ وقُرِئَ ﴿لِتَزُولَ﴾ بِالفَتْحِ والنَّصْبِ وخُرِّجَ ذَلِكَ عَلى لُغَةٍ جاءَتْ في فَتْحِ لامِ كَيْ وقَرَأ عُمَرُ وعَلِيٌّ وأُبَيٌّ وعَبْدُ اللَّهِ وأبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ وأبُو إسْحاقَ السَّبِيعِيُّ وزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهم ورَحِمَهم ( وإنْ كادَ ) بِدالٍ مَكانَ النُّونِ و﴿لِتَزُولَ﴾ بِالفَتْحِ والرَّفْعِ وهي رِوايَةٌ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما ونَقَلَ أبُو حاتِمٍ عَنْ أُبَيٍّ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ أنَّهُ قَرَأ ( ولَوْلا كَلِمَةُ اللَّهِ لَزالَ مِن مَكْرِهِمُ الجِبالُ ) وحَمَلَ ذَلِكَ بَعْضُهم عَلى التَّفْسِيرِ لِمُخالَفَتِهِ لِسَوادِ المُصْحَفِ مُخالَفَةً ظاهِرَةً هَذا ومِنَ النّاسِ مَن قالَ: إنَّ الضَّمِيرَ في ﴿مَكَرُوا﴾ لِلْمُنْذَرِينَ والمُرادُ بِمَكْرِهِمْ ما أفادَهُ قَوْلُهُ عَزَّ وجَلَّ: ﴿وإذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أوْ يَقْتُلُوكَ أوْ يُخْرِجُوكَ﴾ وغَيْرُهُ مِن أنْواعِ مَكْرِهِمْ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ قالَ (p-252)شَيْخُ الإسْلامِ: ولَعَلَّ الوَجْهَ حِينَئِذٍ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وقَدْ مَكَرُوا﴾ .. إلَخْ حالًا مِنَ القَوْلِ المُقَدَّرِ أيْ فَيُقالُ لَهم ما يُقالُ والحالُ أنَّهم مَعَ ما فَعَلُوا مِنَ الإقْسامِ المَذْكُورِ مَعَ ما يُنافِيهِ قَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمُ العَظِيمَ أيْ لَمْ يَكُنِ الصّادِرُ عَنْهم مُجَرَّدَ الإقْسامِ الَّذِي وُبِّخُوا بِهِ بَلِ اجْتَرَؤُوا عَلى مِثْلِ هَذِهِ العَظِيمَةِ وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿وعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ﴾ حالٌ مِن ضَمِيرِ ﴿مَكَرُوا﴾ حَسْبَما ذُكِرَ مِن قَبْلُ وقَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإنْ كانَ مَكْرُهُمْ﴾ إلى آخِرِهِ مَسُوقٌ لِبَيانِ عَدَمِ تَفاوُتِ الحالِ في تَحْقِيقِ الجَزاءِ بَيْنَ كَوْنِ مَكْرِهِمْ قَوِيًّا أوْ ضَعِيفًا كَما مَرَّتِ الإشارَةُ إلَيْهِ وعَلى تَقْدِيرِ كَوْنِ ( إنْ ) نافِيَةً فَهو حالٌ مِن ضَمِيرِ ﴿مَكَرُوا﴾ والجِبالُ عِبارَةٌ عَنْ أمْرِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ أيْ وقَدْ مَكَرُوا والحالُ أنَّ مَكْرَهم ما كانَ لِتَزُولَ مِنهُ هاتِيكَ الشَّرائِعُ والآياتُ الَّتِي هي كالجِبالِ في القُوَّةِ وعَلى تَقْدِيرِ كَوْنِها مُخَفَّفَةً مِنَ الثَّقِيلَةِ واللّامَ مَكْسُورَةً يَكُونُ حالًا مِنهُ أيْضًا عَلى مَعْنى أنَّ ذَلِكَ المَكْرَ العَظِيمَ مِنهم كانَ لِهَذا الغَرَضِ والقَصْدِ إلى أنَّهُ لَمْ يَصْحَّ أنْ يَكُونَ مِنهم مَكْرٌ كَذَلِكَ لِما أنَّ شَأْنَ الشَّرائِعِ أعْظَمُ مِن أنْ يَمْكُرَ بِها وعَلى تَقْدِيرِ فَتْحِ اللّامِ فَهو حالٌ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ﴾ كَما ذُكِرَ سابِقًا. اهَـ. ويَجُوزُ أنْ يُرادَ بِمَكْرِهِمْ شِرْكُهم كَما أخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ والجِبالُ عَلى حَقِيقَتِها وأمْرُ الجُمْلَةِ عَلى ما قالَ.
وحاصِلُ المَعْنى لَمْ يَكُنِ الصّادِرُ عَنْهم مُجَرَّدَ الإقْسامِ مَعَ ما لا يُنافِيهِ بَلِ اجْتَرَؤُوا عَلى الشِّرْكِ وقالُوا: ﴿اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ ولَدًا﴾ ﴿لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إدًّا﴾ ﴿تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنهُ وتَنْشَقُّ الأرْضُ وتَخِرُّ الجِبالُ هَدًّا﴾ وقَدْ رُوِيَ عَنِ الضَّحّاكِ أنَّهُ صَرَّحَ بِأنَّ ما نَحْنُ فِيهِ كَهَذِهِ الآيَةِ ثُمَّ إنَّ القَوْلَ بِجَعْلِ الضَّمِيرِ لِلْمُنْذَرِينَ قَوْلٌ بِعَدَمِ دُخُولِ هَذا الكَلامِ في حَيِّزِ ما يُقالُ وهو الظّاهِرُ كَما قِيلَ وكَذا حَمَلَ الجِبالَ عَلى مَعْناها الحَقِيقِيِّ وفي البَحْرِ الَّذِي يَظْهَرُ أنَّ زَوالَ الجِبالِ مَجازٌ ضُرِبَ مَثَلًا لِمَكْرِ قُرَيْشٍ وعِظَمِهِ والجِبالُ لا تَزُولُ وفِيهِ مِنَ المُبالَغَةِ في ذَمِّ مَكْرِهِمْ ما لا يَخْفى.
وأمّا ما رُوِيَ أنَّ جَبَلًا زالَ بِحَلِفِ امْرَأةٍ اتَّهَمَها زَوْجُها وكانَ ذَلِكَ الجَبَلُ مَن حَلَفَ عَلَيْهِ كاذِبًا ماتَ فَحَمَلَها لِلْحَلِفِ فَمَكَرَتْ بِأنْ رَمَتْ نَفْسَها مِنَ الدّابَّةِ وكانَتْ وعَدَتْ مَنِ اتُّهِمَتْ بِهِ أنْ يَكُونَ في المَكانِ الَّذِي وقَعَتْ فِيهِ مِنَ الدّابَّةِ فَأرْكَبَها زَوْجَها وذَلِكَ الرَّجُلَ وحَلَفَتْ عَلى الجَبَلِ أنَّها ما مَسَّها غَيْرُهُما فَنَزَلَتْ سالِمَةً وأصْبَحَ الجَبَلُ قَدِ انْدَكَّ وكانَتِ المَرْأةُ مِن عَدْنانَ.
وما رُوِيَ مِن قِصَّةِ نَمْرُوذَ بْنِ كُوشِ بْنِ كَنْعانَ أوْ بَخْتُنَصَّرَ واتِّخاذِ الأنْسُرِ وصُعُودِهِما إلى قُرْبِ السَّماءِ في قِصَّةٍ طَوِيلَةٍ مَشْهُورَةٍ وما فَعَلَ بَعْضُهم مِن حَمْلِ الجِبالِ عَلى دِينِ الإسْلامِ والقُرْآنِ وحَمْلِ المَكْرِ عَلى اخْتِلافِهِمْ فِيهِ مِن قَوْلِهِمْ: هَذا سِحْرٌ هَذا شِعْرٌ هَذا إفْكٌ فَأقْوالٌ يَنْبُو عَنْها ظاهِرُ اللَّفْظِ وبَعِيدٌ جِدًّا قِصَّةُ الأنْسُرِ. اهَـ.
واسْتُبْعِدَ ذَلِكَ أيْضًا كَما نَقَلَ الإمامُ القاضِي وقالَ: إنَّ الخَطَرَ في ذَلِكَ عَظِيمٌ ولا يَكادُ العاقِلُ يُقْدِمُ عَلَيْهِ وما جاءَ خَبَرٌ صَحِيحٌ مُعْتَمَدٌ ولا حاجَةَ في تَأْوِيلِ الآيَةِ إلَيْهِ ونَعَمْ ما قالَ في خَبَرِ النُّسُورِ فاهٍ وإنْجاءٌ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ وعَنْ مُجاهِدٍ وابْنِ جُبَيْرٍ وأبِي عُبَيْدَةَ والسُّدِّيَّ وغَيْرِهِمْ إلّا أنَّ في الأسانِيدِ ما لا يَخْفى عَلى مَن نُقِرُّ.
وقَدْ شاعَ ذَلِكَ مِن أخْبارِ القُصّاصِ وخَبَرُهم واقِعٌ عَنْ دَرَجَةِ القَبُولِ ولَوْ طارُوا إلى النَّسْرِ الطّائِرِ ومِثْلُ ذَلِكَ فِيما أرى خَبَرُ المُتَّهَمَةِ فافْهَمْ واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ
{"ayah":"وَقَدۡ مَكَرُوا۟ مَكۡرَهُمۡ وَعِندَ ٱللَّهِ مَكۡرُهُمۡ وَإِن كَانَ مَكۡرُهُمۡ لِتَزُولَ مِنۡهُ ٱلۡجِبَالُ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق