الباحث القرآني

﴿وأنْذِرِ النّاسَ﴾ خِطابٌ لِسَيِّدِ المُخاطَبِينَ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ بَعْدَ إعْلامِهِ أنَّ تَأْخِيرَ عَذابِهِمْ لِماذا وأمْرٌ لَهُ بِإنْذارِهِمْ وتَخْوِيفِهِمْ مِنهُ فالمُرادُ بِالنّاسِ الكُفّارُ المُعَبَّرُ عَنْهم بِالظّالِمِينَ كَما يَقْتَضِيهِ ظاهِرُ إتْيانِ العَذابِ وإلى ذَلِكَ ذَهَبَ أبُو حَيّانَ وغَيْرُهُ. ونُكْتَةُ العُدُولِ إلَيْهِ مَنِ الإضْمارِ عَلى ما قالَهُ شَيْخُ الإسْلامِ الإشْعارُ بِأنَّ المُرادَ بِالإنْذارِ هو الزَّجْرُ عَمّا هم عَلَيْهِ مِنَ الظُّلْمِ شَفَقَةً عَلَيْهِمْ لا التَّخْوِيفُ لِلْإزْعاجِ والإيذاءِ فالمُناسِبُ عَدَمُ ذِكْرِهِمْ بِعُنْوانِ الظُّلْمِ وقالَ الجُبّائِيُّ: وأبُو مُسْلِمٍ: المُرادُ بِالنّاسِ ما يَشْمَلُ أُولَئِكَ الظّالِمِينَ وغَيْرَهم مِنَ المُكَلَّفِينَ والإنْذارُ كَما يَكُونُ لِلْكُفّارِ يَكُونُ لِغَيْرِهِمْ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ﴾ والإتْيانُ يَعُمُّ الفَرِيقَيْنِ مِن كَوْنِهِما في المَوْقِفِ وإنْ كانَ (p-248)لُحُوقُهُ بِالكُفّارِ وخاصَّةً وأيًّا ما كانَ فالنّاسُ مَفْعُولٌ أوَّلُ لِأنْذِرْ وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العَذابُ﴾ مَفْعُولُهُ الثّانِي عَلى مَعْنى أنْذِرْهم هَوْلُهُ وما فِيهِ فالإيقاعُ عَلَيْهِ مَجازِيٌّ أوْ هو بِتَقْدِيرِ مُضافٍ ولا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ ظَرْفًا لِلْإنْذارِ لِأنَّهُ في الدُّنْيا والمُرادُ بِهَذا اليَوْمِ اليَوْمُ المَعْهُودُ وهو اليَوْمُ الَّذِي وُصِفَ بِما يُذْهِلُ الألْبابَ وهو يَوْمُ القِيامَةِ وقِيلَ: هو يَوْمُ مَوْتِهِمْ مُعَذَّبِينَ بِالسَّكَراتِ ولِقاءِ المَلائِكَةِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ بِلا بُشْرى ورُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أبِي مُسْلِمٍ أوْ يَوْمَ هَلاكِهِمْ بِالعَذابِ العاجِلِ وتُعُقِّبَ بِأنَّهُ يَأْباهُ القَصْرُ السّابِقُ وأُجِيبَ بِما فِيهِ ما فِيهِ. ﴿فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ أيْ فَيَقُولُونَ والعُدُولُ عَنْهُ إلى ما في النَّظْمِ الجَلِيلِ لِلتَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ بِالظُّلْمِ والإشْعارِ بِعِلِّيَتِهِ لِما يَنالُهم مِنَ الشِّدَّةِ المُنْبِئِ عَنْها القَوْلُ وفي العُدُولِ عَنِ الظّالِمِينَ المُتَكَفِّلِ بِما ذُكِرَ مَعَ اخْتِصارِهِ وسَبْقِ الوَصْفِ بِهِ لِلْإيذانِ عَلى ما قِيلَ بِأنَّ الظُّلْمَ في الجُمْلَةِ كافٍ في الإفْضاءِ إلى ما أفْضَوْا إلَيْهِ مِن غَيْرِ حاجَةٍ إلى الِاسْتِمْرارِ عَلَيْهِ كَما يُنْبِئُ عَنْهُ صِيغَةُ اسْمِ الفاعِلِ والمَعْنى عَلى ما قالَ الجُبّائِيُّ وأبُو مُسْلِمٍ الَّذِينَ ظُلِمُوا مِنهم وهُمُ الكُفّارُ وقِيلَ: يَقُولُ كُلُّ مَن ظَلَمَ بِالشِّرْكِ والتَّكْذِيبِ مِنَ المُنْذَرِينَ وغَيْرِهِمْ مِنَ الأُمَمِ الخالِيَةِ: ﴿رَبَّنا أخِّرْنا﴾ أيْ عَنِ العَذابِ أوْ أخِّرْ عَذابَنا فَفي الكَلامِ تَقْدِيرُ مُضافٍ أوْ تَجُوُّزٌ في النِّسْبَةِ قالَ الضَّحّاكُ ومُجاهِدٌ: إنَّهم طَلَبُوا الرَّدَّ إلى الدُّنْيا والإمْهالَ إلى أجَلٍ قَرِيبٍ أيْ أمَدٍ وحَدٍّ مِنَ الزَّمانِ قَرِيبٍ وقِيلَ: إنَّهم طَلَبُوا رَفْعَ العَذابِ والرُّجُوعَ إلى حالِ التَّكْلِيفِ مُدَّةً يَسِيرَةً يَعْمَلُونَ فِيها ما يُرْضِيهِ سُبْحانَهُ. والمَعْنى عَلى ما رُوِيَ عَنْ أبِي مُسْلِمٍ أخِّرْ آجالَنا وأبْقِنا أيّامًا ﴿نُجِبْ دَعْوَتَكَ﴾ أيِ الدَّعْوَةَ إلَيْكَ وإلى تَوْحِيدِكَ أوْ دَعْوَتَكَ لَنا عَلى ألْسِنَةِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ فَفِيهِ إيماءٌ إلى أنَّهم صَدَّقُوهم في أنَّهم رُسُلُ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى. ﴿ونَتَّبِعِ الرُّسُلَ﴾ فِيما جاءُوا بِهِ أيْ نَتَدارَكُ ما فَرَّطْنا بِهِ مِن إجابَةِ الدَّعْوَةِ واتِّباعِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلامُ ولا يَخْلُو ذِكْرُ الجُمْلَتَيْنِ عَنْ تَأْكِيدٍ والمَقامُ حَرِيٌّ بِهِ وجُمِعَ إمّا بِاعْتِبارِ اتِّفاقِ الجَمِيعِ عَلى التَّوْحِيدِ وكَوْنِ عِصْيانِهِمْ لِلرَّسُولِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ عِصْيانًا لَهم جَمِيعًا عَلَيْهِمُ السَّلامُ وإمّا بِاعْتِبارِ أنَّ المَحْكِيَّ كَلامُ ظالِمِي الأُمَمِ جَمِيعًا والمَقْصُودُ بَيانُ وعْدِ كُلِّ أُمَّةٍ بِالتَّوْحِيدِ واتِّباعِ رَسُولِها عَلى ما قِيلَ. ﴿أوَلَمْ تَكُونُوا أقْسَمْتُمْ مِن قَبْلُ﴾ عَلى تَقْدِيرِ القَوْلِ مَعْطُوفًا عَلى فَيَقُولُ والمَعْطُوفُ عَلَيْهِ هَذِهِ الجُمْلَةُ أيْ فَيُقالُ لَهم تَوْبِيخًا وتَبْكِيتًا: ألَمْ تُؤَخَّرُوا في الدُّنْيا ولَمْ تَكُونُوا حَلَفْتُمْ إذْ ذاكَ بِألْسِنَتِكم بَطَرًا وأشَرًا وسَفَهًا وجَهْلًا ﴿ما لَكم مِن زَوالٍ﴾ . (44) مِمّا أنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ التَّمَتُّعِ بِالحُظُوظِ الدُّنْياوِيَّةِ أوْ بِألْسِنَةِ الحالِ ودَلالَةِ الأفْعالِ حَيْثُ بَنَيْتُمْ مَشِيدًا وأمَّلْتُمْ بَعِيدًا ولَمْ تُحَدِّثُوا أنْفُسَكم بِالِانْتِقالِ إلى هَذِهِ الأحْوالِ والأهْوالِ وفِيهِ إشْعارٌ بِامْتِدادِ زَمانِ التَّأْخِيرِ وبُعْدِ مَداهُ أوْ ما لَكم مِن زَوالٍ وانْتِقالٍ مِن دارِ الدُّنْيا إلى دارٍ أُخْرى لِلْجَزاءِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَن يَمُوتُ﴾ ورُوِيَ هَذا عَنْ مُجاهِدٍ وأيًّا ما كانَ ( فَما لَكم ) .. إلَخْ جَوابُ القَسَمِ و( مِن ) صِلَةٌ لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ وصِيغَةُ الخِطابِ فِيهِ لِمُراعاةِ حالِ الخِطابِ فِي﴿أقْسَمْتُمْ﴾ كَما في حَلَفَ بِاللَّهِ تَعالى لَيَخْرُجَنَّ وهو أدْخَلُ في التَّوْبِيخِ مِن أنْ يُقالَ ما لَنا مُراعاةٌ لِحالِ المَحْكِيِّ الواقِعِ في جَوابِ قَسَمِهِمْ وقِيلَ هو ابْتِداءُ كَلامٍ مِن قِبَلِ اللَّهِ تَعالى جَوابًا لِقَوْلِهِمْ: ﴿رَبَّنا أخِّرْنا﴾ أيْ ما لَكم مِن زَوالٍ عَنْ هَذِهِ الحالِ وجَوابُ القَسَمِ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَن في القُبُورِ مَحْذُوفًا وهو خِلافُ المُتَبادَرِ. (p-249)وهَذا أحَدُ أجْوِبَةٍ يُجابُ بِها أهْلُ النّارِ عَلى ما في بَعْضِ الآثارِ فَقَدْ ذَكَرَ البَيْهَقِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ القُرَظِيِّ أنَّهُ قالَ: لِأهْلِ النّارِ خَمْسُ دَعَواتٍ يُجِيبُهُمُ اللَّهُ تَعالى في أرْبَعٍ مِنها فَإذا كانَتِ الخامِسَةُ لَمْ يَتَكَلَّمُوا بَعْدَها أبَدًا يَقُولُونَ: ﴿رَبَّنا أمَتَّنا اثْنَتَيْنِ وأحْيَيْتَنا اثْنَتَيْنِ فاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مِن سَبِيلٍ﴾ فَيُجِيبُهُمُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ ﴿ذَلِكم بِأنَّهُ إذا دُعِيَ اللَّهُ وحْدَهُ كَفَرْتُمْ وإنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فالحُكْمُ لِلَّهِ العَلِيِّ الكَبِيرِ﴾ ثُمَّ يَقُولُونَ: ﴿رَبَّنا أبْصَرْنا وسَمِعْنا فارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحًا إنّا مُوقِنُونَ﴾ فَيُجِيبُهم جَلَّ شَأْنُهُ ﴿فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكم هَذا﴾ الآيَةَ ثُمَّ يَقُولُونَ: ﴿رَبَّنا أخِّرْنا إلى أجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ ونَتَّبِعِ الرُّسُلَ﴾ فَيُجِيبُهم تَبارَكَ وتَعالى ﴿أوَلَمْ تَكُونُوا أقْسَمْتُمْ مِن قَبْلُ﴾ الآيَةَ ثُمَّ يَقُولُونَ: ﴿رَبَّنا أخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنّا نَعْمَلْ﴾ فَيُجِيبُهم جَلَّ جَلالُهُ ﴿أوَلَمْ نُعَمِّرْكم ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظّالِمِينَ مَن نَصِيرٍ﴾ فَيَقُولُونَ: ﴿رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وكُنّا قَوْمًا ضالِّينَ﴾ فَيُجِيبُهم جَلَّ وعَلا ﴿اخْسَئُوا فِيها ولا تُكَلِّمُونِ﴾ فَلا يَتَكَلَّمُونَ بَعْدَها إنْ هو إلّا زَفِيرٌ وشَهِيقٌ وعِنْدَ ذَلِكَ انْقَطَعَ رَجاؤُهم وأقْبَلَ بَعْضُهم يَنْبَحُ في وجْهِ بَعْضٍ وأطْبَقَتْ عَلَيْهِمْ جَهَنَّمُ اللَّهُمَّ إنّا نُعُوذُ بِكَ مِن غَضَبِكَ ونَلُوذُ بِكَنَفِكَ مِن عَذابِكَ ونَسْألُكَ التَّوْفِيقَ لِلْعَمَلِ الصّالِحِ في يَوْمِنا لِغَدِنا والتَّقَرُّبَ إلَيْكَ بِما يُرْضِيكَ قَبْلَ أنْ يَخْرُجَ الأمْرُ مِن يَدِنا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب