الباحث القرآني
﴿الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الحَياةَ الدُّنْيا عَلى الآخِرَةِ﴾ أيْ يَخْتارُونَها عَلَيْها فَإنَّ المُخْتارَ لِلشَّيْءِ يَطْلُبُ مِن نَفْسِهِ أنْ يَكُونَ أحَبَّ إلَيْهِ مِن غَيْرِهِ فالسِّينُ لِلطَّلَبِ والمَحَبَّةُ مَجازٌ مُرْسَلٌ عَنِ الِاخْتِيارِ والإيثارُ بِعَلامَةِ اللُّزُومِ في الجُمْلَةِ فَلا يَضُرُّ وُجُودُ أحَدِهِما بِدُونِ الآخَرِ كاخْتِيارِ المَرِيضِ الدَّواءَ المُرَّ لِنَفْعِهِ وتَرْكِ ما يُحِبُّهُ ويَشْتَهِيهِ مِنَ الأطْعِمَةِ اللَّذِيذَةِ لِضَرَرِهِ ولِاعْتِبارِ التَّجَوُّزِ عَدّى الفِعْلَ بِعَلى ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ اسْتَفْعَلْ بِمَعْنى أفْعَلَ كاسْتَجابَ بِمَعْنى أجابَ والفِعْلُ مُضَمَّنٌ مَعْنى الِاخْتِيارِ والتَّعْدِيَةُ بِعَلى لِذَلِكَ ﴿ويَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ يَعُوقُونَ النّاسَ ويَمْنَعُونَهم عَنْ دِينِ اللَّهِ تَعالى والإيمانِ بِهِ وهو الصِّراطُ الَّذِي بَيَّنَ شَأْنَهُ والِاقْتِصارُ عَلى الإضافَةِ إلى الِاسْمِ الجَلِيلِ المُنْطَوِي عَلى كُلِّ وصْفٍ جَمِيلٍ لُزُومُ الِاخْتِصارِ.
وقَرَأ الحَسَنُ ( يَصُدُّونَ ) مِن أصَدَّ المَنقُولِ مِن صَدَّهُ صُدُودًا إذا تَنَكَّبَ وحادَ وهو لَيْسَ بِفَصِيحٍ بِالنِّسْبَةِ إلى القِراءَةِ الأُخْرى لِأنَّ في صَدِّهِ مَندُوحَةً عَنْ تَكَلُّفِ النَّقْلِ ولا مَحْذُورَ في كَوْنِ القِراءَةِ المُتَواتِرَةِ أفْصَحَ مِن غَيْرِها ومِن مَجِيءِ أصُدُّ قَوْلُهُ: .
؎أُناسٌ أصَدُّوا النّاسَ بِالسَّيْفِ عَنْهم صُدُودَ السَّواقِي عَنْ أُنُوفِ الحَوائِمِ
ونَظِيرُ هَذا وقَفَهُ وأوْقَفَهُ ﴿ويَبْغُونَها﴾ أيْ يَبْغُونَ لَها فَحُذِفَ الجارُّ وأُوصِلَ الفِعْلُ إلى الضَّمِيرِ أيْ يَطْلُبُونَ لَها ﴿عِوَجًا﴾ أيْ زَيْغًا واعْوِجاجًا وهي أبْعَدُ شَيْءٍ عَنْ ذَلِكَ أيْ يَقُولُونَ لِمَن يُرِيدُونَ صَدَّهُ وإضْلالَهُ عَنِ السَّبِيلِ هي سَبِيلٌ ناكِبَةٌ وزائِغَةٌ غَيْرُ مُسْتَقِيمَةٍ وقِيلَ: المَعْنى يَطْلُبُونَ أنْ يَرَوْا فِيها ما يَكُونُ عِوَجًا قادِحًا فِيها كَقَوْلِ مَن لَمْ يَصِلْ إلى العُنْقُودِ ولَيْسُوا بِواجِدِينَ ذَلِكَ وكِلا المَعْنَيَيْنِ أنْسَبُ مِمّا قِيلَ: إنَّ المَعْنى يَبْغُونَ أهْلَها أنْ يُعَرِّجُوا بِالرِّدَّةِ ومَحَلُّ مَوْصُولِ هَذِهِ الصِّلاتِ الجَرُّ عَلى أنَّهُ بَدَلٌ كَما قِيلَ مِنَ ( الكافِرِينَ ) فَيُعْتَبَرُ كُلُّ وصْفٍ مِن أوْصافِهِمْ بِما يُناسِبُهُ مِنَ المَعانِي المُعْتَبَرَةِ في الصِّراطِ فالكُفْرُ المُنْبِئُ عَنِ السَّتْرِ بِإزاءِ كَوْنِهِ نُورًا واسْتِحْبابُ (p-184)الحَياةِ الدُّنْيا الفانِيَةِ المُفْصِحَةِ عَنْ وخامَةِ العاقِبَةِ بِمُقابَلَةِ كَوْنِ مَسْلُوكِهِ مَحْمُودَ العاقِبَةِ والصَّدُّ عَنْهُ بِإزاءِ كَوْنِهِ سالِكَهُ عَزِيزًا.
وقالَ الحَوْفِيُّ وأبُو البَقاءِ: إنَّهُ صِفَةُ ( الكافِرِينَ ) ورَدَّ ذَلِكَ أبُو حَيّانَ بِأنَّ فِيهِ الفَصْلَ بَيْنَ الصِّفَةِ والمَوْصُوفِ بِأجْنَبِيٍّ وهو ﴿مِن عَذابٍ شَدِيدٍ﴾ سَواءٌ كانَ في مَوْضِعِ الصِّفَةِ لِوَيْلٍ أوْ مُتَعَلِّقًا بِمَحْذُوفٍ ونَظِيرُ ذَلِكَ عَلى الوَصْفِيَّةِ قَوْلُكَ: الدّارُ لِزَيْدٍ الحَسَنَةُ القُرَشِيِّ وهو لا يَجُوزُ لِأنَّكَ قَدْ فَصَلْتَ بَيْنَ زَيْدٍ وصِفَتِهِ بِأجْنَبِيٍّ عَنْهُما والتَّرْكِيبُ الصَّحِيحُ فِيهِ أنْ يُقالَ: الدّارُ الحَسَنَةُ لِزَيْدٍ القُرَشِيِّ أوِ الدّارُ لِزَيْدٍ القُرَشِيِّ الحَسَنَةُ وقِيلَ إذا جُعِلَ ﴿مِن عَذابٍ شَدِيدٍ﴾ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ والجُمْلَةُ اعْتِراضِيَّةٌ لا يَضُرُّ الفَصْلُ بِها وهو كَما تَرى وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ مَحَلُّهُ النَّصْبَ عَلى الذَّمِّ أوِ الرَّفْعَ عَلَيْهِ بِأنْ يُقَدَّرَ أنَّهُ كانَ نَعْتًا فَقُطِعَ أيْ هُمُ الَّذِينَ وجُوِّزَ أنْ لا يُقَدَّرَ ذَلِكَ ويُجْعَلَ مُبْتَدَأً خَبَرُهُ قَوْلُهُ تَعالى ﴿أُولَئِكَ في ضَلالٍ﴾ أيْ بُعْدٍ عَنِ الحَقِّ ﴿بَعِيدٍ﴾ . (3) . وهو عَلى غَيْرِ هَذا الوَجْهِ اسْتِئْنافٌ في مَوْضِعِ التَّعْلِيلِ وفِيهِ تَأْكِيدٌ لَما أشْعَرَ بِهِ بِناءُ الحُكْمِ عَلى المَوْصُولِ والمُرادُ أنَّهم قَدْ ضَلُّوا عَنِ الحَقِّ ووَقَعُوا عَنْهُ بِمَراحِلَ وفي الآيَةِ مِنَ المُبالَغَةِ في ضَلالِهِمْ ما لا يَخْفى حَيْثُ أُسْنِدَ فِيها إلى المَصْدَرِ ما هو لِصاحِبِهِ مَجازًا كَجَدِّ جَدِّهِ إلّا أنَّ الفَرْقَ بَيْنَ ما نَحْنُ فِيهِ وذاكَ أنَّ المُسْنَدَ إلَيْهِ في الأوَّلِ مَصْدَرٌ غَيْرُ المُسْنَدِ وفي ذاكَ مَصْدَرُهُ ولَيْسَ بَيْنَهُما بُعْدٌ.
ويَجُوزُ أنْ يُقالَ: إنَّهُ أسْنَدَ فِيها ما لِلشَّخْصِ إلى سَبَبِ اتَّصافِهِ بِما وُصِفَ بِهِ بِناءً عَلى أنَّ البُعْدَ في الحَقِيقَةِ صِفَةٌ لَهُ بِاعْتِبارِ بُعْدِ مَكانِهِ عَنْ مَقْصِدِهِ وسَبَبُ بُعْدِهِ ضَلالُهُ لِأنَّهُ لَوْ لَمْ يَضِلَّ لَمْ يَبْعُدْ عَنْهُ فَيَكُونُ كَقَوْلِكَ: قَتَلَ فُلانًا عِصْيانُهُ والإسْنادُ مَجازِيٌّ وفِيهِ المُبالَغَةُ المَذْكُورَةُ أيْضًا وفي الكَشّافِ هو مِنَ الإسْنادِ المَجازِيِّ والبُعْدُ في الحَقِيقَةِ لِلضّالِّ فَوُصِفَ بِهِ فِعْلُهُ ويَجُوزُ أنْ يُرادَ في ضَلالٍ ذِي بُعْدٍ أوْ فِيهِ بُعْدٌ لِأنَّ الضّالَّ قَدْ يَضِلُّ عَنِ الطَّرِيقِ مَكانًا قَرِيبًا وبَعِيدًا وكَتَبَ عَلَيْهِ في الكَشْفِ أنَّ الإسْنادَ المَجازِيَّ عَلى جَعْلِ البُعْدِ لِصاحِبِ الضَّلالِ لِأنَّهُ الَّذِي يَتَباعَدُ عَنْ طَرِيقِ الضَّلالِ فَوَصَفَ ضَلالَهُ بِوَصْفِهِ مُبالَغَةً ولَيْسَ المُرادُ إبْعادَهم في الضَّلالِ وتَعَمُّقَهم فِيهِ.
وأمّا قَوْلُهُ: فَيَجُوزُ أنْ يُرادَ في ضَلالٍ ذِي بُعْدٍ فَعَلى هَذا البُعْدُ صِفَةٌ لِلضَّلالِ حَقِيقَةً بِمَعْنى بُعْدِ غَوْرِهِ وأنَّهُ هاوِيَةٌ لا نِهايَةَ لَها وقَوْلُهُ: أوْ فِيهِ بُعْدٌ عَلى جَعْلِ الضَّلالِ مُسْتَقَرًّا لِلْبُعْدِ بِمَنزِلَةِ مَكانٍ بَعِيدٍ عَنِ الجادَّةِ وهو مَعْنى بُعْدِهِ في نَفْسِهِ عَنِ الحَقِّ لِتَضادِّهِما وإلَيْهِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ: لِأنَّ الضّالَّ قَدْ يَضِلُّ مَكانًا بَعِيدًا وقَرِيبًا والغَرَضُ بَيانُ غايَةِ التَّضادِّ وأنَّهُ بُعْدٌ لا يُوازَنُ وِزانُهُ وعَلى جَمِيعِ التَّقادِيرِ البُعْدُ مُسْتَفادٌ مِنَ البُعْدِ المَسافِيِّ إلى تَفاوُتِ ما بَيْنَ الحَقِّ والباطِلِ أوْ ما بَيْنَ أهْلِهِما وجازَ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ذِي بُعْدٍ أوْ فِيهِ بُعْدٌ وجْهًا واحِدًا إشارَةً إلى المُلابَسَةِ بَيْنَ الضَّلالِ والبُعْدِ لا بِواسِطَةِ صاحِبِ الضَّلالِ لَكِنَّ الأوَّلَ أوْلى تَكْثِيرًا لِلْفائِدَةِ ثُمَّ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أُولَئِكَ في ضَلالٍ﴾ دُونَ أنْ يَقُولَ سُبْحانَهُ: أُولَئِكَ ضالُّونَ ضَلالًا بَعِيدًا لِلدَّلالَةِ عَلى تَمَكُّنِهِمْ فِيهِ تَمَكُّنَ المَظْرُوفِ في الظَّرْفِ وتَصْوِيرِ اشْتِمالِ الضَّلالِ عَلَيْهِمُ اشْتِمالَ المُحِيطِ عَلى المُحاطِ ولِيَكُونَ كِنايَةً بالِغَةً في إثْباتِ الوَصْفِ أعْنِي الضَّلالَ عَلى الأوْجُهِ فافْهَمْ
{"ayah":"ٱلَّذِینَ یَسۡتَحِبُّونَ ٱلۡحَیَوٰةَ ٱلدُّنۡیَا عَلَى ٱلۡـَٔاخِرَةِ وَیَصُدُّونَ عَن سَبِیلِ ٱللَّهِ وَیَبۡغُونَهَا عِوَجًاۚ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ فِی ضَلَـٰلِۭ بَعِیدࣲ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق