الباحث القرآني

﴿مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ﴾ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ أيْ فِيما يُتْلى عَلَيْكم صِفَتُهُمُ الَّتِي هي في الغَرابَةِ كالمَثَلِ كَما ذَهَبَ إلَيْهِ سِيبَوَيْهِ وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿أعْمالُهم كَرَمادٍ﴾ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبَيانِ مَثَلِهِمْ ورَجَّحَ ابْنُ عَطِيَّةَ كَوْنَهُ مُبْتَدَأً وهَذِهِ الجُمْلَةُ خَبَرُهُ وتَعَقَّبَهُ الحَوْفِيُّ بِأنَّهُ لا يَجُوزُ لِخُلُوِّ الجُمْلَةِ عَمّا يَرْبُطُها بِالمُبْتَدَأِ ولَيْسَتْ نَفْسَهُ في المَعْنى لِتَسْتَغْنِيَ عَنْ ذَلِكَ لِظُهُورِ أنَّ لَيْسَ المَعْنى مِثْلُهم هَذِهِ الجُمْلَةُ وأجابَ عَنْهُ السَّمِينُ بِالتِزامِ أنَّها نَفْسُهُ لِأنَّ ﴿مَثَلُ الَّذِينَ﴾ في تَأْوِيلِ ما يُقالُ فِيهِمْ ويُوصَفُونَ بِهِ إذا وُصِفُوا فَلا حاجَةَ إلى الرّابِطِ كَما في قَوْلِكَ: صِفَةُ زَيْدٍ عِرْضُهُ مَصُونٌ ومالُهُ مَبْذُولٌ قِيلَ: ولا يَخْفى حُسْنُهُ إلّا أنَّ المَثَلَ عَلَيْهِ بِمَعْنى الصِّفَةِ والمُرادُ بِالصِّفَةِ اللَّفْظُ المَوْصُوفُ بِهِ كَما يُقالُ: صِفَةُ زَيْدٍ أسْمَرُ أيِ اللَّفْظُ الَّذِي يُوصَفُ بِهِ هو هَذا وهَذا وإنْ كانَ مَجازًا عَلى مَجازٍ لَكِنَّهُ يُغْتَفَرُ لِأنَّ الأوَّلَ مُلْحَقٌ بِالحَقِيقَةِ لِشُهْرَتِهِ ولَيْسَ مِنَ الِاكْتِفاءِ بِعَوْدِ الضَّمِيرِ عَلى المُضافِ إلَيْهِ لِأنَّ المُضافَ ذُكِرَ تَوْطِئَةً لَهُ فَإنَّ ذَلِكَ أضْعُفْ مِن بَيْتِ العَنْكَبُوتِ كَما عَلِمْتَ. وذَهَبَ الكِسائِيُّ والفَرّاءُ إلى أنَّ ﴿مَثَلُ﴾ مُقْحَمٌ وتَقَدَّمَ عَلَيْهِ ولَهُ وقالَ الحَوْفِيُّ: هو مُبْتَدَأٌ و﴿كَرَمادٍ﴾ خَبَرُهُ وأعْمالُهم بَدَلٌ مِنَ المُبْتَدَأِ بَدَلَ اشْتِمالٍ كَما في قَوْلِهِ: . ؎ما لِلْجِمالِ مَشْيُها وئِيدًا أجَنْدَلًا يَحْمِلْنَ أمْ حَدِيدا وفِيهِ خَفاءٌ ولَعَلَّهُ اعْتُبِرَ المُضافَ إلَيْهِ وفي الكَشّافِ جَوازُ كَوْنِهِ بَدَلًا مِن ﴿مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ لَكِنْ عَلى تَقْدِيرِ ( مَثَلُ أعْمالِهِمْ ) فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا مَثَلُ أعْمالِهِمْ كَرَمادٍ قالَ في الكَشْفِ: وهو بَدَلُ الكُلِّ مِنَ الكُلِّ وذَلِكَ لِأنَّ مَثَلَهم ومَثَلَ أعْمالِهِمْ مُتَّحِدانِ بِالذّاتِ وفِيهِ تَفْخِيمٌ. اهَـ. وقِيلَ: إنَّهُ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ أيْضًا بَدَلُ اشْتِمالٍ (p-204)لِأنَّ مَثَلَ أعْمالِهِمْ كَوْنُها كَرَمادٍ ومَثَلَهم كَوْنُ أعْمالِهِمْ كَرَمادٍ فَلا اتِّحادَ لَكِنَّ الأوَّلَ سَبَبٌ لِلثّانِي فَتَأمَّلْ والرَّمادُ مَعْرُوفٌ وعَرَّفَهُ ابْنُ عِيسى بِأنَّهُ جِسْمٌ يَسْحَقُهُ الإحْراقُ سَحْقَ الغُبارِ ويُجْمَعُ عَلى رُمُدٍ في الكَثْرَةِ وأرْمُدٌ في القِلَّةِ وشَذَّ جَمْعُهُ عَلى أفْعِلاءَ قالُوا أرْمِداءَ كَذا في البَحْرِ وذَكَرَ في القامُوسِ أنَّ الأرْمِداءَ كالأرْبِعاءِ الرَّمادُ ولَمْ يَذْكُرْ أنَّهُ جَمْعٌ والمُرادُ بِأعْمالِهِمْ ما هو مِن بابِ المَكارِمِ كَصِلَةِ الأرْحامِ وعِتْقِ الرِّقابِ وفِداءِ الأسارى وقِرى الأضْيافِ وإغاثَةِ المَلْهُوفِينَ وغَيْرِ ذَلِكَ وقِيلَ: ما فَعَلُوهُ لِأصْنامِهِمْ مِنَ القُرْبِ بِزَعْمِهِمْ وقِيلَ: ما يَعُمُّ هَذا وذاكَ ولَعَلَّهُ الأوْلى وجِيءَ بِالجُمْلَةِ عَلى ما اخْتارَهُ بَعْضُهم جَوابًا لِما يُقالُ: ما بالُ أعْمالِهِمُ الَّتِي عَمِلُوها حَتّى آلَ أمْرُهم إلى ذَلِكَ المَآلِ إذْ بَيَّنَ فِيها أنَّها كَرَمادٍ ﴿اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ﴾ أيْ حَمَلَتْهُ وأسْرَعَتِ الذَّهابَ بِهِ فاشْتَدَّ بِمَعْنى عَدا والباءُ لِلتَّعْدِيَةِ أوْ لِلْمُلابَسَةِ وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ مِنَ الشِّدَّةِ بِمَعْنى القُوَّةِ أيْ قَوِيَتْ بِمُلابَسَةِ حَمْلِهِ ﴿فِي يَوْمٍ عاصِفٍ﴾ العَصْفُ اشْتِدادُ الرِّيحِ وُصِفَ بِهِ زَمانُ هُبُوبِها عَلى الإسْنادِ المَجازِيِّ كَنَهارِهِ صائِمٌ ولَيْلِهِ قائِمٌ لِلْمُبالَغَةِ وقالَ الهَرَوِيُّ: التَّقْدِيرُ في يَوْمٍ عاصِفِ الرِّيحِ فَحُذِفَ الرِّيحُ لِتَقَدُّمِ ذِكْرِهِ كَما في قَوْلِهِ: ؎إذْ جاءَ يَوْمٌ مُظْلِمُ الشَّمْسِ كاسِفُ والتَّنْوِينُ عَلى هَذا عِوَضٌ مِنَ المُضافِ إلَيْهِ وضَعْفُ هَذا القَوْلُ ظاهِرٌ وقِيلَ: إنَّ ﴿عاصِفٍ﴾ صِفَةُ الرِّيحِ إلّا أنَّهُ جُرَّ عَلى الجِوارِ وفِيهِ أنَّهُ لا يَصِحُّ وصْفُ الرِّيحَ بِهِ لِاخْتِلافِهِما تَعْرِيفًا وتَنْكِيرًا وقَرَأ نافِعٌ وأبُو جَعْفَرٍ ( الرِّياحُ ) عَلى الجَمْعِ وبِهِ يَشْتَدُّ فَسادُ الوَصْفِيَّةِ وقَرَأ ابْنُ أبِي إسْحاقَ وإبْراهِيمُ بْنُ أبِي بَكْرٍ عَنِ الحَسَنِ ( في يَوْمِ عاصِفٍ ) عَلى الإضافَةِ وذَلِكَ عِنْدَ أبِي حَيّانَ مِن حَذْفِ المَوْصُوفِ وإقامَةِ الصِّفَةِ مَقامَهُ والتَّقْدِيرُ في يَوْمِ رِيحٍ عاصِفٍ وقَدْ يُقالُ: إنَّهُ مِن إضافَةِ المَوْصُوفِ إلى الصِّفَةِ مِن غَيْرِ حاجَةٍ إلى حَذْفٍ عِنْدَ مَن يَرى جَوازَ ذَلِكَ ﴿لا يَقْدِرُونَ﴾ أيْ يَوْمَ القِيامَةِ ﴿مِمّا كَسَبُوا﴾ في الدُّنْيا مِن تِلْكَ الأعْمالِ ﴿عَلى شَيْءٍ﴾ ما أيْ لا يَرَوْنَ لَهُ أثَرًا مِن ثَوابٍ أوْ تَخْفِيفِ عَذابٍ. ويُؤَيِّدُ التَّعْمِيمُ ما ورَدَ في الصَّحِيحِ عَنْ عائِشَةَ أنَّها قالَتْ: «يا رَسُولَ اللَّهِ إنَّ ابْنَ جُدْعانَ في الجاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ ويُطْعِمُ المِسْكِينَ هَلْ ذَلِكَ نافِعُهُ قالَ: لا يَنْفَعُهُ لِأنَّهُ لَمْ يَقُلْ رَبِّي اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ» وقِيلَ: الكَلامُ عَلى حَذْفِ مُضافٍ أيْ لا يَقْدِرُونَ مِن ثَوابِ ما كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ما والأوَّلُ أوْلى وقُدِّمَ المُتَعَلِّقُ الأوَّلُ لِلايَقْدِرُونَ عَلى الثّانِي وعَكْسُ في البَقَرَةِ لِأهَمِّيَّةِ كُلٍّ في آيَتِهِ وذَلِكَ ظاهِرٌ لِمَن لَهُ أدْنى بَصِيرَةٍ وحاصِلُ التَّمْثِيلِ تَشْبِيهُ أعْمالِهِمْ في حُبُوطِها وذَهابِها هَباءً مَنثُورًا لِابْتِنائِها عَلى غَيْرِ أساسٍ مِن مَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعالى والإيمانِ بِهِ وكَوْنِها لِوَجْهِهِ بِرَمادٍ طَيَّرَتْهُ الرِّيحُ العاصِفُ وفَرَّقَتْهُ وهَذِهِ الجُمْلَةُ فَذْلَكَةُ ذَلِكَ والمَقْصُودُ مِنهُ قِيلَ: والِاكْتِفاءُ بِبَيانِ عَدَمِ رُؤْيَةِ الأثَرِ لِأعْمالِهِمْ لِلْأصْنامِ مَعَ أنَّ لَها عُقُوباتٍ لِلتَّصْرِيحِ بِبُطْلانِ اعْتِقادِهِمْ وزَعْمِهِمْ أنَّها شُفَعاءُ لَهم عِنْدَ اللَّهِ تَعالى وفِيهِ تَهَكُّمٌ بِهِمْ ﴿ذَلِكَ﴾ أيْ ما دَلَّ عَلَيْهِ التَّمْثِيلُ دَلالَةً واضِحَةً مِن ضَلالِهِمْ مَعَ حُسْبانِهِمْ أنَّهم عَلى شَيْءٍ ﴿هُوَ الضَّلالُ البَعِيدُ﴾ . (18) . عَنْ طَرِيقِ الحَقِّ والصَّوابِ وقَدْ تَقَدَّمَ تَمامُ الكَلامِ في ذَلِكَ غَيْرَ بَعِيدٍ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب