الباحث القرآني

ثُمَّ إنَّهُ سُبْحانَهُ طَيَّبَ نَفْسَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِطُلُوعِ تَباشِيرِ الظَّفَرِ فَقالَ جَلَّ شَأْنُهُ: ﴿أوَلَمْ يَرَوْا﴾ .. إلَخْ والِاسْتِفْهامُ لِلْإنْكارِ والواوُ لِلْعَطْفِ عَلى مُقَدَّرٍ بِقَضِيَّتِهِ المَقامُ أيْ أأنْكَرُوا نُزُولَ ما وعَدْناهم أوْ أشَكُّوا أوْ ألَمْ يَنْظُرُوا في ذَلِكَ ولَمْ يَرَوْا ﴿أنّا نَأْتِي الأرْضَ﴾ أيْ أرْضَ الكَفَرَةِ ﴿نَنْقُصُها مِن أطْرافِها﴾ مِن جَوانِبِها بِأنْ نَفْتَحَها شَيْئًا فَشَيْئًا ونُلْحِقَها بِدارِ الإسْلامِ ونُذْهِبَ مِنها أهْلَها بِالقَتْلِ والأسْرِ والإجْلاءِ ألَيْسَ هَذا مُقَدِّمَةً لِذَلِكَ. ومِثْلُ هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أفَلا يَرَوْنَ أنّا نَأْتِي الأرْضَ نَنْقُصُها مِن أطْرافِها أفَهُمُ الغالِبُونَ﴾ ورُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ والحَسَنِ والضَّحّاكِ وعَطِيَّةَ والسُّدِّيِّ وغَيْرِهِمْ ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أيْضًا وأخْرَجَهُ الحاكِمُ عَنْهُ وصَحَّحَهُ أنَّ انْتِقاصَ الأرْضِ مَوْتُ أشْرافِها وكُبَرائِها وذَهابُ العُلَماءِ مِنها وفي رِوايَةٍ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ إلى رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ الِاقْتِصارُ عَلى الأخِيرِ ورُوِيَ أيْضًا عَنْ مُجاهِدٍ فالمُرادُ مِنَ الأرْضِ جِنْسُها والأطْرافُ كَما قِيلَ بِمَعْنى الأشْرافِ ومَجِيءُ ذَلِكَ بِهَذا المَعْنى مَحْكِيٌّ عَنْ ثَعْلَبٍ واسْتَشْهَدَ لَهُ الواحِدِيُّ بِقَوْلِ الفَرَزْدَقِ: . ؎واسْألْ بِنا وبِكم إذا ورَدَتْ مِنِّي أطْرافُ كُلِّ قَبِيلَةٍ مَن يُمْنَعُ وقَرِيبٌ مِن ذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ الأعْرابِيِّ: الطَّرَفُ والطَّرْفُ الرَّجُلُ الكَرِيمُ وقَوْلُ بَعْضِهِمْ: طَرَفُ كُلِّ شَيْءٍ خِيارُهُ وجَعَلُوا مِن هَذا قَوْلَ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ: العُلُومُ أوْدِيَةٌ في أيِّ وادٍ أخَذْتَ مِنها خَسِرْتَ فَخُذُوا مِن كُلِّ شَيْءٍ طَرَفًا قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أرادَ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ خِيارًا وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ الأظْهَرَ جانِبًا وادَّعى الواحِدِيُّ أنَّ تَفْسِيرَ الآيَةِ بِما تَقَدَّمَ هو اللّائِقُ وتَعَقَّبَهُ الإمامُ بِأنَّهُ يُمْكِنُ القَوْلُ بِلِياقَةِ الثّانِي وتَقْرِيرُ الآيَةِ عَلَيْهِ أوَلَمْ يَرَوْا أنّا نُحْدِثُ في الدُّنْيا مِنَ الِاخْتِلافاتِ خَرابًا بَعْدَ عِمارَةٍ ومَوْتًا بَعْدَ حَياةٍ وذُلًّا بَعْدَ عِزٍّ ونَقْصًا بَعْدَ كَمالٍ وهَذِهِ تَغْيِيراتٌ مُدْرَكَةٌ بِالحِسِّ فَما الَّذِي يُؤَمِّنُهم أنْ يُقَلِّبَ اللَّهُ تَعالى الأمْرَ عَنْهم فَيَجْعَلَهم أذِلَّةً بَعْدَ أنْ كانُوا أعِزَّةً ومَقْهُورِينَ بَعْدَ أنْ كانُوا قاهِرِينَ وهو كَما تَرى وقِيلَ: نَقْصُها هَلاكُ مَن هَلَكَ مِنَ الأُمَمِ قَبْلَ قُرَيْشٍ وخَرابُ أرْضِهِمْ أيْ ألَمْ يَرَوْا هَلاكَ مَن قَبْلَهم وخَرابَ دِيارِهِمْ فَكَيْفَ يَأْمَنُونَ مِن حُلُولِ ذَلِكَ بِهِمْ والأوَّلُ أيْضًا أوْفَقُ بِالمَقامِ مِنهُ ولا يَخْفى ما في التَّعْبِيرِ بِالإتْيانِ المُؤْذِنِ بِعَظِيمِ الِاسْتِيلاءِ مِنَ الفَخامَةِ كَما في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وقَدِمْنا إلى ما عَمِلُوا مِن عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنثُورًا﴾ وفي الحَواشِي الشِّهابِيَّةِ أنَّ المَعْنى يَأْتِيها أمْرُنا وعَذابُنا وجُمْلَةُ ﴿نَنْقُصُها﴾ في مَوْضِعِ الحالِ مِن فاعِلِ ( يَأْتِي ) أوْ مِن مَفْعُولِهِ وقَرَأ الضَّحّاكُ ( نُنَقِّصُها ) مُثَقَّلًا مِن نَقَصَ (p-174)عَدّاهُ بِالتَّضْعِيفِ مِن نَقَصَ اللّازِمِ عَلى ما في البَحْرِ ﴿واللَّهُ يَحْكُمُ﴾ ما يَشاءُ كَما يَشاءُ وقَدْ حَكَمَ لَكَ ولِأتْباعِكَ بِالعِزِّ والإقْبالِ وعَلى أعْدائِكَ ومُخالِفِيكَ بِالقَهْرِ والإذْلالِ حَسْبَما يُشاهِدُهُ ذَوُو الأبْصارِ مَنِ المَخائِلِ والآثارِ وفي الِالتِفاتِ مِنَ التَّكَلُّمِ إلى الغَيْبَةِ وبِناءِ الحُكْمِ عَلى الِاسْمِ الجَلِيلِ مِنَ الدَّلالَةِ عَلى الفَخامَةِ وتَرْبِيَةِ المَهابَةِ وتَحْقِيقُ مَضْمُونِ الخَبَرِ بِالإشارَةِ إلى العِلَّةِ ما لا يَخْفى وهي جُمْلَةٌ اعْتِراضِيَّةٌ جِيءَ بِها لِتَأْكِيدِ فَحْوى ما تَقَدَّمَها وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ﴾ اعْتِراضٌ أيْضًا لِبَيانِ عُلُوِّ شَأْنِ حُكْمِهِ جَلَّ وعَلا وقِيلَ: هو نَصْبٌ عَلى الحالِ كَأنَّهُ قِيلَ: واللَّهُ تَعالى يَحْكُمُ نافِذًا حُكْمُهُ كَما تَقُولُ: جاءَ زَيْدٌ لا عِمامَةَ عَلى رَأْسِهِ ولا قَلَنْسُوَةٌ أيْ حاسِرًا وإلَيْهِ ذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ قِيلَ: وإنَّما أوَّلَ الجُمْلَةَ الِاسْمِيَّةَ بِالمُفْرَدِ لِأنَّ تَجَرُّدَها مِنَ الواوِ إذا وقَعَتْ حالًا غَيْرُ فَصِيحٍ عِنْدَهُ ولا يَخْفى عَلَيْكَ أنَّ جَعْلَها مُعْتَرِضَةً أوْلى وأعْلى والمُعَقِّبُ مَن يَكُرُّ عَلى الشَّيْءِ فَيُبْطِلُهُ وحَقِيقَتُهُ الَّذِي يُعَقِّبُ الشَّيْءَ بِالإبْطالِ ومِنهُ يُسَمّى الَّذِي يَطْلُبُ حَقًّا مِن آخَرَ مُعَقِّبًا لِأنْ يَعْقُبَ غَرِيمَهُ ويَتَّبِعَهُ لِلتَّقاضِي قالَ لَبِيدٌ: . ؎حَتّى تَهْجُرَ بِالرَّواحِ وهاجَها ∗∗∗ طَلَبُ المُعَقِّبِ حَقَّهُ المَظْلُومَ وقَدْ يُسَمّى الماطِلُ مُعَقِّبًا لِأنَّهُ يُعَقِّبُ كُلَّ طَلَبٍ بِرَدٍّ وعَنْ أبِي عَلِيٍّ عَقَبَنِي حَقِّي أيْ مَطَلَنِي ويُقالُ لِلْبَحْثِ عَنِ الشَّيْءِ تُعُقِّبَ وجَوَّزَ الرّاغِبُ أنْ يُرادَ هَذا المَعْنى هُنا عَلى أنْ يَكُونَ الكَلامُ نَهْيًا لِلنّاسِ أنْ يَخُوضُوا في البَحْثِ عَنْ حُكْمِهِ وحِكْمَتِهِ إذا خَفِيَتْ عَلَيْهِمْ ويَكُونُ ذَلِكَ مِن نَحْوِ النَّهْيِ عَنِ الخَوْضِ في سِرِّ القَدَرِ ﴿وهُوَ سَرِيعُ الحِسابِ﴾ . (41) . فَعَمّا قَلِيلٍ يُحاسِبُهم ويُجازِيهِمْ في الآخِرَةِ بَعْدَ ما عَذَّبَهم بِالقَتْلِ والأسْرِ والإجْلاءِ في الدُّنْيا حَسْبَما يَرى وكَأنَّهُ قِيلَ: لا تَسْتَبْطِئْ عِقابَهم فَإنَّهُ آتٍ لا مَحالَةَ وكُلُّ آتٍ قَرِيبٌ وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: المَعْنى سَرِيعُ الِانْتِقامِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب