﴿ويَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ أيْ أهْلُ مَكَّةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أبِي أُمَيَّةَ وأصْحابُهُ وإيثارُ هَذِهِ الطَّرِيقَةِ عَلى الإضْمارِ مَعَ ظُهُورِ إرادَتِهِمْ عَقِيبَ ذِكْرِ فَرَحِهِمْ بِناءً عَلى أنَّ ضَمِيرَ ( فَرِحُوا ) لَهم لِذَمِّهِمْ والتَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ بِالكُفْرِ فِيما حُكِيَ عَنْهم مِن قَوْلِهِمْ: ﴿لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِن رَبِّهِ﴾ فَإنَّ ذَلِكَ في أقْصى مَراتِبِ المُكابَرَةِ والعِنادِ كَأنَّ ما أُنْزِلَ عَلَيْهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مِنَ الآياتِ العِظامِ الباهِرَةِ لَيْسَتْ عِنْدَهم بِآيَةٍ حَتّى اقْتَرَحُوا ما لا تَقْتَضِيهِ الحِكْمَةُ مِنَ الآياتِ كَسُقُوطِ السَّماءِ عَلَيْهِمْ كِسْفًا وسَيْرِ الأخْشَبَيْنِ وجَعْلِ البِطاحِ مَحارِثَ ومُفْتَرَسًا كالأُرْدُنِ وإحْياءِ قُصَيٍّ لَهم إلى غَيْرِ ذَلِكَ ﴿قُلْ إنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشاءُ﴾ إضْلالُهُ مَشِيئَةٌ تابِعَةٌ لِلْحِكْمَةِ الدّاعِيَةِ إلَيْها وهو كَلامُ جارٍ مَجْرى التَّعَجُّبِ مِن قَوْلِهِمْ وذَلِكَ أنَّ الآياتِ الباهِرَةَ المُتَكاثِرَةَ الَّتِي أُوتِيَها صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ لَمْ يُؤْتَها نَبِيٌّ قَبْلَهُ وكَفى بِالقُرْآنِ وحْدَهُ آيَةً فَإذا جَحَدُوها ولَمْ يَعْتَدُّوا بِها كانَ ذَلِكَ مَوْضِعًا لِلتَّعَجُّبِ والإنْكارِ وكانَ الظّاهِرُ أنْ يُقالَ في الجَوابِ: ما أعْظَمَ عِنادَكم وما أشَدَّ تَصْمِيمَكم عَلى الكُفْرِ ونَحْوِهِ إلّا أنَّهُ وضَعَ هَذا مَوْضِعَهُ لِلْإشارَةِ إلى أنَّ المُتَعَجِّبَ مِنهُ يَقُولُ: ﴿إنَّ اللَّهَ يُضِلُّ﴾ .. إلَخْ أيْ أنَّهُ تَعالى يَخْلُقُ فِيمَن يَشاءُ الضَّلالَ بِصَرْفِ اخْتِيارِهِ إلى تَحْصِيلِهِ ويَدَعُهُ مُنْهَمِكًا فِيهِ لِعِلْمِهِ بِأنَّهُ لا يَنْجَحُ فِيهِ اللُّطْفُ ولا يَنْفَعُهُ الإرْشادُ لِسُوءِ اسْتِعْدادِهِ كَمَن كانَ عَلى صِفَتِكم في المُكابَرَةِ والعِنادِ وشَدَّةِ الشَّكِيمَةِ والغُلُوِّ في الفَسادِ فَلا سَبِيلَ لَهُ إلى الِاهْتِداءِ ولَوْ جاءَتْهُ كُلُّ آيَةٍ.
﴿ويَهْدِي إلَيْهِ﴾ أيْ إلى جانِبِهِ العَلِيِّ الكَبِيرِ.
وقالَ أبُو حَيّانَ: أيْ إلى دِينِهِ وشَرْعِهِ سُبْحانَهُ هِدايَةً مُوَصِّلَةً إلَيْهِ لا دَلالَةَ مُطْلَقَةً إلى ما يُوصِلُ فَإنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُخْتَصٍّ بِالمُهْتَدِينَ وفِيهِ مِن تَشْرِيفِهِمْ ما لا يُوصَفُ وقِيلَ: الضَّمِيرُ لِلْقُرْآنِ أوْ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وهو خِلافُ الظّاهِرِ جِدًّا ﴿مَن أنابَ﴾ . (27) . أيْ أقْبَلَ إلى الحَقِّ وتَأمَّلَ في تَضاعِيفِ ما نَزَلَ مِن دَلائِلِهِ الواضِحَةِ وحَقِيقَةُ الإنابَةِ الرُّجُوعُ إلى نَوْبَةِ الخَيْرِ وإيثارُها في الصِّلَةِ عَلى إيرادِ المَشِيئَةِ كَما في الصِّلَةِ الأُولى عَلى ما قالَ مَوْلانا شَيْخُ الإسْلامِ لِلتَّنْبِيهِ عَلى الدّاعِي إلى الهِدايَةِ بَلْ إلى مَشِيئَتِها والإشْعارِ بِما دَعا إلى المَشِيئَةِ الأُولى مِنَ المُكابَرَةِ وفِيهِ حَثٌّ لِلْكَفَرَةِ عَلى الإقْلاعِ عَمّا هم عَلَيْهِ مِنَ العُتُوِّ والعِنادِ وإيثارُ صِيغَةِ الماضِي لِلْإيماءِ إلى اسْتِدْعاءِ الهِدايَةِ السّابِقَةِ كَما أنَّ إيثارَ صِيغَةِ المُضارِعِ في الصِّلَةِ الأُولى لِلدَّلالَةِ عَلى اسْتِمْرارِ المَشِيئَةِ حَسَبَ اسْتِمْرارِ مُكابَرَتِهِمْ والآيَةُ صَرِيحَةٌ في مَذْهَبِ أهْلِ السُّنَّةِ في نِسْبَةِ الخَيْرِ والشَّرِّ إلَيْهِ عَزَّ وجَلَّ وأوَّلَها المُعْتَزِلَةُ فَقالَ (p-149)أبُو عَلِيٍّ الجُبّائِيُّ: المَعْنى يُضِلُّ مَن يَشاءُ عَنْ ثَوابِهِ ورَحْمَتِهِ عُقُوبَةً لَهُ عَلى كُفْرِهِ فَلَسْتُمْ مِمَّنْ يُجِيبُهُ اللَّهُ تَعالى إلى ما يَسْألُ لِاسْتِحْقاقِكُمُ العَذابَ والضَّلالَ عَنِ الثَّوابِ ويَهْدِي إلى جَنَّتِهِ مَن تابَ وآمَنَ ثُمَّ قالَ: وبِهَذا تَبَيَّنَ أنَّ الهُدى هو الثَّوابُ مِن حَيْثُ عُلِّقَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿مَن أنابَ﴾ والهُدى الَّذِي يَفْعَلُهُ سُبْحانَهُ بِالمُؤْمِنِ هو الثَّوابُ لِأنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ عَلى إيمانِهِ وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَعالى يُضِلُّ عَنِ الثَّوابِ لا عَنِ الدِّينِ بِالكُفْرِ عَلى ما ذَهَبَ إلَيْهِ مَن خالَفَنا. اهَـ. ولا يَخْفى ما فِيهِ.
{"ayah":"وَیَقُولُ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ لَوۡلَاۤ أُنزِلَ عَلَیۡهِ ءَایَةࣱ مِّن رَّبِّهِۦۚ قُلۡ إِنَّ ٱللَّهَ یُضِلُّ مَن یَشَاۤءُ وَیَهۡدِیۤ إِلَیۡهِ مَنۡ أَنَابَ"}