الباحث القرآني

﴿إذْ قالُوا لَيُوسُفُ وأخُوهُ﴾ بِنْيامِينُ وتَخْصِيصُهُ بِالإضافَةِ لِاخْتِصاصِهِ بِالأُخُوَّةِ مِن جانِبَيِ الأُمِّ والأبِ وهي أقْوى مِنَ الأُخُوَّةِ مِن أحَدِهِما، ولَمْ يَذْكُرُوهُ بِاسْمِهِ إشْعارًا بِأنَّ مَحَبَّةَ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلامُ لَهُ لِأجْلِ شَقِيقِهِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ، ولِذا لَمْ يَتَعَرَّضُوهُ بِشَيْءٍ مِمّا أُوقِعَ بِيُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ، واللّامُ لِلِابْتِداءِ، ويُوسُفُ مُبْتَدَأٌ (وأخُوهُ) عُطِفَ عَلَيْهِ، وقَوْلُهُ سُبْحانَهُ: ﴿أحَبُّ إلى أبِينا مِنّا﴾ خَبَرٌ مُتَعَلِّقٌ بِهِ وهو أفْعَلُ تَفْضِيلٍ مِنَ المَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ شُذُوذًا، ولِذا عُدِّيَ بِإلى حَسْبَما ذَكَرُوا مِن أنَّ أفْعَلَ مِنَ الحُبِّ والبُغْضِ يُعَدّى إلى الفاعِلِ مَعْنًى بِإلى وإلى المَفْعُولِ بِاللّامِ وفِي، تَقُولُ: زَيْدٌ أحَبُّ إلَيَّ مِن بَكْرٍ إذا كُنْتَ تُكْثِرُ مَحَبَّتَهُ؛ ولِي وفِيَّ إذا كانَ يُحِبُّكَ أكْثَرَ مِن غَيْرِهِ، ولَمْ يُثَنَّ مَعَ أنَّ المُخْبَرَ عَنْهُ بِهِ اثْنانِ لِأنَّ أفْعَلَ مِن كَذا لا يُفَرَّقُ فِيهِ بَيْنَ الواحِدِ وما فَوْقَهُ ولا بَيْنَ المُذَكَّرِ وما يُقابِلُهُ بِخِلافِ أخَوَيْهِ، فَإنَّ الفَرْقَ واجِبٌ في المَحَلِّيِّ جائِزٌ في المُضافِ إذا أُرِيدَ تَفْضِيلُهُ عَلى المُضافِ إلَيْهِ، وإذا أُرِيدَ تَفْضِيلُهُ مُطْلَقًا فالفَرْقُ لازِمٌ، وجِيءَ بِلامِ الِابْتِداءِ لِتَحْقِيقِ مَضْمُونِ الجُمْلَةِ وتَأْكِيدِهِ أيْ كَثْرَةُ حُبِّهِ لَهُما أمْرٌ ثابِتٌ لا شُبْهَةَ فِيهِ ﴿ونَحْنُ عُصْبَةٌ﴾ أيْ والحالُ أنّا جَماعَةٌ قادِرُونَ عَلى خِدْمَتِهِ والجَدِّ في مَنفَعَتِهِ دُونِهِما، والعُصْبَةُ والعِصابَةُ عَلى ما نُقِلَ عَنِ الفَرّاءِ: العَشْرَةُ فَما زادَ سُمُّوا بِذَلِكَ لِأنَّ الأُمُورَ تُعْصَبُ بِهِمْ أيْ تُشَدُّ فَتَقْوى. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ العُصْبَةَ ما زادَ عَلى العَشَرَةِ، وفي رِوايَةٍ عَنْهُ أنَّها ما بَيْنَ العَشَرَةِ والأرْبَعِينَ، وعَنْ مُجاهِدٍ أنَّها مِن عَشَرَةٍ إلى خَمْسَةَ عَشْرَةَ. وعَنْ مُقاتِلٍ هي عَشَرَةٌ، وعَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ سِتَّةٌ أوْ سَبْعَةٌ، وقِيلَ: ما بَيْنَ الواحِدِ إلى العَشَرَةِ، وقِيلَ: إلى خَمْسَةَ عَشَرَ، وعَنِ ابْنِ زَيْدٍ، والزَّجّاجِ وابْنِ قُتَيْبَةَ هي الجَماعَةُ مُطْلَقًا ولا واحِدَ لَها مِن لَفْظِها كالنَّفَرِ والرَّهْطِ، وقِيلَ: الثَّلاثَةُ نَفَرٌ وإذا زادُوا فَهم رَهْطٌ إلى التِّسْعَةِ فَإذا زادُوا فَهم عُصْبَةٌ، ولا يُقالُ لِأقَلَّ مِن عَشَرَةٍ: عُصْبَةٌ، ورَوى النِّزالُ بْنُ سَبْرَةَ عَنْ عَلِيٍّ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ أنَّهُ قَرَأ بِنَصْبِ (عُصْبَةً) فَيَكُونُ الخَبَرُ مَحْذُوفًا، وعُصْبَةٌ حالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِيهِ أيْ نَجْتَمِعُ عُصْبَةً، وقُدِّرَ ذَلِكَ لِيَكُونَ في الحالِ دَلالَةٌ عَلى الخَبَرِ المَحْذُوفِ لِما فِيها مِن مَعْنى الِاجْتِماعِ. (p-190)وزَعَمَ ابْنُ المُنِيرِ أنَّ الكَلامَ عَلى طَرِيقَةِ: أنا أبُو النَّجْمِ وشِعْرِي شِعْرِي، والتَّقْدِيرُ ونَحْنُ نَحْنُ عُصْبَةً، وحُذِفَ الخَبَرُ لِمُساواتِهِ المُبْتَدَأ وعَدَمِ زِيادَتِهِ عَلَيْهِ لَفْظًا فَفي حَذْفِهِ خَلاصٌ مِن تَكْرارِ اللَّفْظِ بِعَيْنِهِ مَعَ دَلالَةِ السِّياقِ عَلى المَحْذُوفِ، ولا غَرْوَ في وُقُوعِ الحالِ بَعْدَ نَحْنُ لِأنَّهُ بِالتَّقْدِيرِ المَذْكُورِ كَلامٌ تامٌّ فِيهِ مِنَ الفَخامَةِ ما فِيهِ وقُدِّرَ في ﴿هُنَّ أطْهَرُ لَكُمْ﴾ عَلى قِراءَةِ النَّصْبِ مِثْلُ ذَلِكَ، وفِيهِ أنَّ الفَخامَةَ إنَّما تَجِيءُ مِنَ التَّكْرارِ فَلا يَجُوزُ الحَذْفُ عَلى أنَّ الدَّلالَةَ عَلى المَحْذُوفِ غَيْرُ بَيِّنَةٍ. وعَنِ ابْنِ الأنْبارِيِّ أنَّ ذَلِكَ كَما تَقُولُ العَرَبُ: إنَّما العامِرِيُّ عَمَّتُهُ أيْ يَتَعَهَّدُ ذَلِكَ، والدّالُّ عَلى المَحْذُوفِ فِيهِ عَمَّتُهُ فَإنَّ الفِعْلَةَ لِلْحالَةِ الَّتِي يَسْتَمِرُّ عَلَيْها الشَّخْصُ فَيَلْزَمُ لا مَحالَةَ تَعَهُّدُهُ لَها، والأوْلى أنْ يُعْتَبَرَ نَظِيرُ قَوْلِ الفَرَزْدَقِ: يا لَهْذَمُ حُكْمُكَ مُسْمَطًا، فَإنَّهُ أرادَ كَما قالَ المُبَرَّدُ: حُكْمُكَ لَكَ مُسْمَطًا، أيْ مُثْبَتٌ نافِذٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ، وقَدْ شاعَ هَذا فِيما بَيْنَهم لَكِنْ ذَكَرُوا أنَّ فِيهِ شُذُوذًا مِن وجْهَيْنِ، والآيَةُ عَلى قِراءَةِ الأمِيرِ كَرَّمَ اللَّهُ تَعالى وجْهَهُ أكْثَرُ شُذُوذًا مِنهُ كَما لا يَخْفى عَلى المُتَدَرِّبِ في عِلْمِ العَرَبِيَّةِ ﴿إنَّ أبانا﴾ أيْ في تَرْجِيحِهِما عَلَيْنا في المَحَبَّةِ مَعَ فَضْلِنا عَلَيْهِما وكَوْنِهِما بِمَعْزِلٍ عَنْ كِفايَةِ الأُمُورِ ﴿لَفِي ضَلالٍ﴾ أيْ خَطَأٍ في الرَّأْيِ وذَهابٍ عَنْ طَرِيقِ التَّعْدِيلِ اللّائِقِ مِن تَنْزِيلِ كُلٍّ مِنّا مَنزِلَتَهُ ﴿مُبِينٍ﴾ ظاهِرُ الحالِ، وجُعِلَ الضَّلالُ ظَرْفًا لِتَمَكُّنِهِ فِيهِ، ووَصْفُهُ بِالمُبِينِ إشارَةٌ إلى أنَّ ذَلِكَ غَيْرُ مُناسِبٍ بِزَعْمِهِمْ والتَّأْكِيدُ لِمَزِيدِ الِاعْتِناءِ، يُرْوى أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ أحَبَّ إلَيْهِ لِما يَرى فِيهِ مِن أنَّ المَخايِلَ وكانَتْ إخْوَتُهُ يَحْسُدُونَهُ فَلَمّا رَأى الرُّؤْيا تَضاعَفَتْ لَهُ المَحَبَّةُ فَكانَ لا يَصْبِرُ عَنْهُ ويَضُمُّهُ كُلَّ ساعَةٍ إلى صَدْرِهِ، ولَعَلَّهُ أحْسَّ قَلْبُهُ بِالفِراقِ فَتَضاعَفَ لِذَلِكَ حَسَدُهم حَتّى حَمَلَهم عَلى ما قَصَّ اللَّهُ تَعالى عَنْهُمْ، وقالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ سَبَبَ زِيادَةِ حُبِّهِ عَلَيْهِ السَّلامُ لِيُوسُفَ وأخِيهِ صِغَرُهُما ومَوْتُ أُمِّهِما، وحُبُّ الصَّغِيرِ أمْرٌ مَرْكُوزٌ في فِطْرَةِ البَشَرِ فَقَدْ قِيلَ لِابْنَةِ الحَسَنِ: أيُّ بَنِيكِ أحَبُّ إلَيْكِ؟ قالَتِ: الصَّغِيرُ حَتّى يَكْبُرَ، والغائِبُ حَتّى يَقْدُمَ، والمَرِيضُ حَتّى يُشْفى، وقَدْ نَظَمَ بَعْضُ الشُّعَراءِ في مَحَبَّةِ الوَلَدِ الصَّغِيرِ قَدِيمًا وحَدِيثًا، ومِن ذَلِكَ ما قالَهُ الوَزِيرُ أبُو مَرْوانَ عَبْدُ المَلِكِ بْنُ إدْرِيسَ الجَزِيرِيُّ مِن قَصِيدَةٍ بَعَثَ بِها إلى أوْلادِهِ وهو في السِّجْنِ. ؎وصَغِيرُهم عَبْدُ العَزِيزِ فَإنَّنِي أطْوِي لِفُرْقَتِهِ جَوًى لَمْ يَصْغُرْ ؎ذاكَ المُقَدَّمُ في الفُؤادِ وإنْ غَدا ∗∗∗ كَفَأ لَكم في المُنْتَمى والعُنْصُرْ ؎إنَّ البَنانَ الخَمْسَ أكْفاءٌ مَعًا ∗∗∗ والحُلِيُّ دُونَ جَمِيعِها لِلْخِنْصَرْ ؎وإذا الفَتى فَقَدَ الشَّبابَ سَما لَهُ ∗∗∗ حُبُّ البَنِينَ ولا كَحُبِّ الأصْغَرْ وفِيهِ أنَّ مَنشَأ زِيادَةِ الحُبِّ لَوْ كانَتْ ما ذُكِرَ لَكانَ بِنْيامِينُ أوْفَرَ حَظًّا في ذَلِكَ لِأنَّهُ أصْغَرُ مِن يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلامُ كَما يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُمْ: إنَّ أُمَّهُما ماتَتْ في نِفاسِهِ، والآيَةُ كَما أشَرْنا إلَيْهِ مُشِيرَةٌ إلى أنَّ مَحَبَّتَهُ لِأجْلِ شَقِيقِهِ يُوسُفَ، فالَّذِي يَنْبَغِي أنْ يُعَوَّلَ عَلَيْهِ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلامُ إنَّما أحَبَّهُ أكْثَرَ مِنهم لِما رَأى فِيهِ مِن مَخايِلِ الخَيْرِ ما لَمْ يَرَ فِيهِمْ وزادَ ذَلِكَ الحُبُّ بَعْدَ الرُّؤْيا لِتَأْكِيدِها تِلْكَ الأماراتِ عِنْدَهُ ولا لَوْمَ عَلى الوالِدِ في تَفْضِيلِهِ بَعْضَ ولَدِهِ عَلى بَعْضٍ في المَحَبَّةِ لِمِثْلِ ذَلِكَ، وقَدْ صَرَّحَ غَيْرُ واحِدٍ أنَّ المَحَبَّةَ لَيْسَتْ مِمّا تَدْخُلُ تَحْتَ وُسْعِ البَشَرِ، والمَرْءُ مَعْذُورٌ فِيما لَمْ يَدْخُلْ تَحْتَهُ، نَعَمْ ظَنَّ أبْناؤُهُ أنَّ ما كانَ مِنهُ عَلَيْهِ السَّلامُ إنَّما كانَ عَنِ اجْتِهادٍ، وأنَّهُ قَدْ أخْطَأ في ذَلِكَ والمُجْتَهِدُ يُخْطِئُ ويُصِيبُ وإنْ كانَ نَبِيًّا، وبِهَذا يَنْحَلُّ ما قِيلَ: إنَّهم إنْ كانُوا قَدْ آمَنُوا بِكَوْنِ أبِيهِمْ رَسُولًا حَقًّا مِن عِنْدِ اللَّهِ تَعالى فَكَيْفَ اعْتَرَضُوا (p-191)وكَيْفَ زَيَّفُوا طَرِيقَتَهُ وطَعَنُوا فِيما هو عَلَيْهِ، وإنْ كانُوا مُكَذِّبِينَ بِذَلِكَ فَهو يُوجِبُ كُفْرَهم والعِياذُ بِاللَّهِ تَعالى وهو مِمّا لَمَّ يَقُلْ بِهِ أحَدٌ ووَجْهُ الِانْحِلالِ ظاهِرٌ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب